شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (070)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

إخوتنا وأخواتنا المستمعين الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية حلقتنا هذه يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: قال المصنِّف -رحمه الله تعالى-:

"وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفِّر الله عنه كل سيئة كان زَلَفَها، وكان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه...» الحديث.

الراوي أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الأنصاري تقدم التعريف به، والحديث ترجم عليه الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: باب حسن إسلام المرء.

قال العيني: وجه المناسبة بين البابين، يعني هذا الباب والباب السابق، بابٌ الصلاة من الإيمان من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الصلاة من الإيمان، وهذا الباب فيه حسن إسلام المرء، ولا يحسن إسلام المرء إلا بإقامة الصلاة.

المناسبة بين البابَين يقول العيني: وجه المناسبة بين البابَين، يعني هذا الباب والباب السابق من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الصلاة من الإيمان، وهذا الباب فيه حسن إسلام المرء، ولا يحسن إسلام المرء إلا بإقامة الصلاة، وقال بعضهم -ويكنِّي بذلك عن ابن حجر-: في فوائد حديث الباب السابق، حديث تحويل القبلة، وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم، والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لَمَّا نزل تحريم الخمر كما صح من حديث البراء أيضًا، فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [سورة المائدة 93] إلى قوله: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة 93] وقوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [سورة الكهف 30] ولملاحظة هذا المعنى، يعني الإحسان في الموضعَين: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} لملاحظة هذا المعنى عقَّب المصنِّف هذا الباب بقوله: باب حسن إسلام المرء، هذا ممن؟ من كلام ابن حجر، يقول العيني، وقد أُولِع بتتبع وتعقب الحافظ ابن حجر: فانظر إلى هذا هل ترى له تناسبًا لوجه المناسبة بين البابَين؟

قلت: المناسبة في ذكر الإحسان في الموضعين ظاهرة، ويسلك العيني أحيانًا للتوفيق ما هو أبعد من هذا.

«إذا أسلم العبد» قال ابن حجر: هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبًا، انتهى كلامه.

أقول: ودخول النساء في خطاب الرجال مستفيض في نصوص الكتاب والسنة، يقول -جل وعلا- عن مريم -عليها السلام-: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [سورة التحريم 12].

«فحسن إسلامه» أي صار إسلامه حسنًا لاعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه باطنًا وظاهرًا، مستحضِرًا اطلاع ربه عليه، وقربه منه، كما جاء تفسير الإحسان في حديث جبريل -عليه السلام- «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: إحسان الإسلام يفسَّر بمعنيين، أحدهما: بإكمال واجباته، واجتناب محرماته، ومنه الحديث المشهور المروي في السنن: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فكمال حسن إسلام المرء حينئذٍ بترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه، ومنه حديث ابن مسعود الذي خرَّجاه في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخَذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأول والآخِر».

فإن المراد بإحسانه في الإسلام فعل واجباته، والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية.

والمعنى الثاني: مما يفسر به إحسان الإسلام: أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها، بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه وقلبه.

«يُكَفِّرُ الله» قال ابن حجر: هو بضم الراء؛ لأن (إذا) وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم، واستُعمِل الجواب مضارعًا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل، وفي رواية البزار: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كَفَّرَ الله» فواخى بينهما، يعني بين الشرط والجزاء.

قال العيني: قلت متعقبًا لابن حجر: هذا كلام من لم يشم من العربية شيئًا، قال الشاعر:

استغنِ ما أغناك ربك بالغنى

 

وإذا تصبك خصاصة فتجملِ .

فقد جزم قوله: تصبك بـ(إذا) وقد قال الفراء: تستعمل (إذا) للشرط، ثم أنشد الشعر المذكور، ثم قال: ولهذا جزمه.

ابن حجر لا ينكِر أنها شرطية، لكنه قال: بضم الراء، يعني لا تجزم، في تعليق الطابع على عمدة القاري محمد منير الدمشقي، يقول: لعل الشارح -رحمه الله تعالى- يعني العيني، ذهل عن كون محل جزمها إنما هو في الشعر خاصة؛ لأنه أورد بيت الشعر، وهذا البيت يورَد في كتب النحو كلها.

يقول: ذهل عن كون محل جزها إنما هو في الشعر خاصة لا في النثر، وإلا فذلك أمر ضروري، ولم يخْلُ عنه أصغر كتاب في علم النحو.

قال ابن آجرُّوم: وإذا في الشعر خاصة، يعني من الجوازم، ولكن شَغَف الشارح في الرد على بعض الشارحين أوقعه في ذلك.

وفي المبتكرات بعد أن ذكر كلام العيني وابن حجر، يقول: فتحصَّل أن الشيخين متفقان على أن إذا في الحديث شرطية، إلا أن النزاع بينهما «يكفِّر» بالرفع والجزم، أو الرفع لا غير، فالأول للعيني، والثاني لابن حجر، والحاكم بينهما كتب الفن، والموجود في كتب الفن أن (إذا) لا تجزم إلا في ضرورة الشعر.

المقدم: يعني الحق مع ابن حجر.

نعم، وأشهر كتب الفن تداولاً ألفية ابن مالك، ونصها:

وشاع جزم بـ(إذا) حملاً على    

 

(متى) وذا في النثر لم يستعملا   .

وظاهره الإطلاق، إلا أن الأشموني نقل عن التسهيل جواز ذلك في النثر على قلة، يعني مقتضى قول ابن مالك، وقبله كلام ابن آجروم أنها لا ترد إلا في الشعر خاصة.

نقل الأشموني عن التسهيل جواز ذلك في النثر على قلة، ونقل عنه أيضًا أنه في النثر نادرًا، وفي الشعر كثير، وأنشد بيت العيني الذي رد به على ابن حجر، وعبارة ابن هشام في المغني هكذا: ولا تعمل (إذا) الجزم إلا في الضرورة كقوله: "استغنِ" يعني البيت الذي أورده العيني.

يقول صاحب المبتكرات -مَن هو؟ من صاحب المبتكرات؟ البوصيري، وهو متأخِّر ما هو صاحب البردة، متأخِّر في القرن الماضي- يقول: فابن حجر ما مشى إلا على الجادَّة البيضاء، والعربية السمحاء، فقد أكل العربية أكلاً، ذاك يقول: ما شم، العيني يقول: ما شم العربية، وذا يقول: فقد أكل العربية أكلاً، وشم عطر عرائس فنون الأدب شمًّا، ولا عطر بعد عروس، فوصف كلامه بأنه صادر عمَّن لم يشم من العربية شيئًا يقال فيه: يا سبحان الله! يا للعلماء!

وفي شرح الكرماني: «يكفِّر الله» الكفْر التغطية، وهي في المعاصي كالإحباط في الطاعات، يقول الزمخشري: التكفير إماطة المستحَق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة.

«كل سيئة كان زَلَّفَها» زَلَّفَها ماذا عندك بالتشديد أو بالتخفيف؟

المقدم: لا، عندنا زَلَفَها.

طيِّب، «كل سيئة كان زَلَّفَها» يقول الكرماني: زَلَّفَها بتشديد اللام، وبالفاء أي أسلفها وقدَّمَها، يقال: زَلَّفْتُه تزْلِيْفًا وأَزْلَفْتُه إزْلافًا بمعنى التقديم، وأصل الزُّلْفَة القُرْبَة، وفي بعض نسخ المغاربة: زَلَفَها بتخفيف اللام.

ويؤيد هذا المعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله» أي يهدمه ويمحوه، وفي فتح الباري: أزْلَفَها، كذا لأبي ذر، ولغيره: زَلَفَها، وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق، وقال النووي بالتشديد، الكرماني تبع النووي، وهنا يقول ابن حجر: وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق. ولعله هو بعض المغاربة الذي أشار إليه الكرماني.

ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن مالك بلفظ: «ما من عبد يُسْلِم فيَحْسُن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زَلَفَها، ومحا عنه كل خطيئة زَلَفَها» بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه، لكن قال: أزْلَفَها، وفي الأعلام للخطابي أعلام السنن أو أعلام الحديث للخطابي، وهو شرح لصحيح البخاري، شرح مختصَر جدًّا، قوله: زَلَفَها معناه أسلفها وقدَّمها، يقال: زَلَف وأزْلَف بمعنى واحد؛ لقوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [سورة الشعراء 64] والأصل فيه القُرْب، ومن ذلك قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [سورة ق 31] وفي المحكَم لابن سيده: أزْلَف الشيء قرَّبه، وزَلَفَه مخففًا ومثقلاً قدَّمه، وفي الجامع الزُّلْفَة تكون في الخير والشر، الجامع في اللغة للقَزَّاز، وقال في المشارق: زَلَف بالتخفيف أجمعَ وكسبَ، وقال القاضي عياض في المشارق: زلَف بالتخفيف جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين، يعني الخير والشر، وأما القربة فلا تكون إلا في الخير، فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر، لكن منقول الخطابي يساعدها، قاله الحافظ.

وأسقط البخاري كتابة الحسنات، ما معنى هذا؟ وما تقدم لنا الدارقطني روى الحديث بلفظ: «ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلَفها، ومحا عنه كل خطيئة زلَفها» أسقط البخاري كتابة الحسنات عمدًا، كما قال بعضهم؛ لماذا؟ قيل: لأنه مُشْكِل على القواعد، كتابة الحسنات، الحسنات متى تكون مقبولة؟ إذا كان صاحبها مؤمنًا، فهي مُشْكِلَة على القواعد.

قال المازري: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شِرْكِه؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفًا لمن يتقرب إليه، والكافر ليس كذلك.

وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال، واستضعف ذلك النووي، فقال: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلَّم؛ لأنه قد يُعتدُّ ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزم إعادتها إذا أسلم وتجزئه، يعني إذا أدَّاها وأخرجها وفعلها حال كفره.

قال ابن حجر: والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلاً من الله وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولاً، يقول: والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم لأن الكلام بصدد مسلم أو كافر؟

المقدم: بصدد الكافر الأول.

القضية الإشكال كله في صدد مسلم أو كافر؟ الشرط عندنا، الكافر في حال كفره أو أسلم وانتهى؟ أسلم، فهو مسلم.

المقدم: إذا أسلم نعم.

يقول: والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلاً من الله وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولاً، والحديث إنما تضمَّن كتابة الثواب، ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا.

قال ابن المنيِّر: المخالف للقواعد دعوى أن يُكتَب له ذلك في حال كفره، متى يُكتَب له؟ إذا أسلم، المخالف للقواعد أن يُكتَب له ذلك في حال كفره.

المقدم: وهذا لم يأتِ في الحديث؟

لم يأتِ في الحديث.

وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا، فلا مانع منه كما لو تفضَّل عليه ابتداءً من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل ألبتة جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفَّى الشروط.

قال ابن بطال: لله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه؛ لماذا؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الأنبياء 23] لله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله -عليه الصلاة والسلام- لحكيم بن حزام: «أسلمت على ما أسلفت من خير» خرَّجه مسلم.

وقال الحافظ ابن رجب: كلاهما، يعني حديث الباب بالرواية التي تركها البخاري، وحديث حكيم بن حزام يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها، ويكون إسلامه المتأخر كافيًا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه.

يقول: كلاهما يعني حديث الباب وحديث حكيم يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها، ويكون إسلامه المتأخر كافيًا له في حصول الثواب على حسناته السابقة قبل إسلامه.

ويدل عليه أيضًا: أن عائشة لما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن جدعان، وما كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك؟ فقال: «إنه لم يقل يومًا قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا يدل على أنه لو قال ذلك يومًا من الدهر ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.

يقول: ومما يستدل به أيضًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مؤمني أهل الكتاب إذا أسلم: «إنه يؤتى أجره مرتين» مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطًا، يعني إيمانه بنبيه ودينه المنسوخ يُكتَب له منه شيء لو مات على كفره؟ لا يُكتَب منه شيء، لكن إن أسلم أُعطِي الأجر مرتين.

يقول: ومما يستدل به أيضًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مؤمني أهل الكتاب إذا أسلم: «إنه يؤتى أجره مرتين» مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطًا، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله، وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم، وقالوا: الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة، ولذلك من كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته، أحبطت هذا العمل الصالح ثم تاب فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات، بل عَوْد العمل هاهنا بالتوبة أولى.

سائل: قياس الأولى؟

قياس الأولى بلا شك.

بل عَوْد العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان مقبولاً، يعني إذا طرأ على هذا العمل الصالح من مسلم ما يحبطه ثم تاب، لو افترضنا أن شخصًا عمل عملاً صالحًا، ثم بعد ذلك...

المقدم: عمل ما يبطله.

ما يبطله، مثلاً تصدَّق ومنَّ بالصدقة، وتحدَّث بها، أو صلى وراءى بعد ذلك، وأخبر بها، وأشاعها بين الناس ثم تاب.

المقدم: الأولى أن...

أن يعود، نعم.

بل عَوْد العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان مقبولاً، وإنما طرأ عليه ما يحبطه، بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه، ومن كان مسلمًا وعمل صالحًا في إسلامه، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور، ولا يبعد أن يقال: إنه يعود إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه، والله أعلم. هذا كلام ابن رجب.

أقول: يؤيد رجوعه وعودة العمل إليه بعد الردة قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [سورة البقرة 217] بهذا القيد، أما إذا مات مسلمًا فإنه يحتسب له ما عمله {فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [سورة البقرة 217] فاشترط لحبوط العمل الموت على الردة، وهذه متصورة في رجل حج، هذه حجة الإسلام، ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام هل يؤمر بإعادة الحج أو لا يؤمر؟

المقدم: على هذا القول لا يؤمر.

لا يؤمر، وإن كانت المسألة خلافية. القرطبي في تفسيره في تفسير هذه الآية، وعادة القرطبي أن يذكر في كل آية مسائل، يصنِّف تفسير الآية ويقسِّمها إلى مسائل.

المقدم: آية: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [سورة البقرة 217]؟

نعم، وهذه المسائل عند القرطبي تتفاوت من مسألة ومسألتين وثلاث إلى ستين مسألة في الآية الواحد.

يقول هنا: المسألة العاشرة: قال الشافعي: إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذٍ تحبط أعماله، وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج؛ لأن الأول قد حبط بالردة، وقال الشافعي: لا إعادة عليه؛ لأن عمله باقٍ، واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر 65]. ما فيه قيد كونه يموت على {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [سورة البقرة 217] بدون قيد، قالوا: وهو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمراد أمته؛ لأنه -عليه السلام- يستحيل منه الردة شرعًا.

وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق التغليظ على الأمة، يعني إذا ووجه النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الخطاب، فمن باب أولى أن يُغلَّظ عليها الخطاب، وبيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم؟! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [سورة الأحزاب 30] وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يُتصوَّر إتيانٌ منهن صيانة لزوجهن المكرَّم المعظَّم.

قال ابن العربي: وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطًا هاهنا، لأنه علَّق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلَّده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين، وما خوطب به -عليه السلام- فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبيَّن أنه لو تُصوِّر لكان هتكين أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكل هتك حرمة عقاب، ويُنزَّل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام، أو في البلد الحرام، أو في المسجد الحرام، يضاعَف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات، والله أعلم، هذا كلام القرطبي.

المقدم: مستمعيَّ الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من هذا البرنامج، سوف نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى من الحديث حول حديث أبي سعيد الخدري هذا في حلقة قادمة -بإذن الله-، فابقوا معنا إلى تلكم الحلقة، نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.