شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (269)

 

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى لقاء جديد في برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: في الحديث رقم مائة واثني عشر في المختصر، مائة وسبعة وثلاثين حديث عبد الله بن زيد الأنصاري، تبقى معنا أطراف هذا الحديث -أحسن الله إليكم-، نبدأ هذه الحلقة بذكر الأطراف.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد،

المُقَدِّم: اللهم صلِّ عليه وسلم.

هذا الحديث خرجه الإمام البخاري في ثلاثة مواضع، الأول هنا في كتاب الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، يقول الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-: حدثنا علي قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عباد بن تميم عن عمه أنَّه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي يخيل إليه أنَّه يجد الشيء في الصلاة، فذكره، سبق ذكر المناسبة.

 والموضع الثاني: في كتاب الوضوء أيضًا، باب: من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين، من القُبل والدبر، من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين من القُبل والدبر، قال- رحمه الله- حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: « لا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، والمناسبة ظاهرة؛ لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين، لكن دلت الأدلة على إلحاق بقية النواقض، «لا يَنْصَرِفْ حتى يجد صوتًا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، والمناسبة في الحصر ظاهرة، من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، والصوت والريح إنَّما هما من..

المُقَدِّم: المخرجين.

المخرجين، لكن الحصر هذا حقيقي، أو إضافي؟

المُقَدِّم: لا، ليس حقيقيًّا.

إضافي؛ لأنَّ هذين الحدثين أكثر ما يوجد في الصلاة.

المُقَدِّم: نعم.

لأنَّه سئُل..

المُقَدِّم: يجد الشيء في الصلاة.

عما يجده الرجل في الصلاة، وهذه أكثر ما يحدث من النواقض في الصلاة، لكن دلت الأدلة على إلحاق بقية النواقض، من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين، ومنهم من يرى أنَّ الوضوء أيضًا حصر آخر مما خرج لا مما دخل، إنَّ الحصر هنا من المخرجين مفاده مما خرج، لا مما دخل عكس الصيام، فالذي يُفطِّر ما دخل لا ما خرج، وعلى كلا الحصرين استدراك؛ لأنَّه دلت الأدلة على أنَّ مما خرج في الصيام ينقض كالحجامة عند من يقول بها، وإخراج المني قصدًا، كذلك، وأيضًا دلت الأدلة على أنَّ ما دخل في الوضوء قد ينقض الطهارة من ذلك مثلًا: أكل لحم الجزور، الوضوء مما دخل لا مما خرج، فالحصر في الجهتين عليه ما يُستدرك.

الموضع الثالث: في كتاب البيوع، باب من لم يرَ الوساوس ونحوها من الشُّبُهات، قال- رحمه الله- حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه قال: شُكِيَ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الرجل يجد في الصلاة شيئًا، أيقطع الصلاة، قال: «لا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، من لم يرَ الوساوس ونحوها من الشُّبُهات، في كتاب البيوع، والحديث في الوضوء، يعني الانتزاع فيه شيء من الخفاء، الكتاب كتاب البيوع، ومن لم ير الوساوس ونحوها من الشُّبُهات يعني في البيوع، والحديث..

المُقَدِّم: عن الوضوء.

قال: شُكِيَ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الرجل يجد في الصلاة شيئًا، أيقطع الصلاة، قال: «لا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، يقول ابن حجر: هذه الترجمة معقودة لبيان ما يُكره من التنطع في الورع، والورع كما يكون في البيوع يكون أيضًا في الطهارة، والتنطع موجود في البابين كما أنَّ التساهل موجود في البابين.

المُقَدِّم: في البابين.

فهناك...

المُقَدِّم: خفاء.

هناك خفاء في أصل الاستنباط، لكن إذا نظرنا إلى كلام ابن حجر في قوله: هذه الترجمة معقودة لبيان ما يُكره من التنطع في الورع، يعني في البابين، يعني في أصل الترجمة التي هي البيوع، وفي الوضوء؛ لأنَّ التنطع يدخل في البيوع، ويدخل في الوضوء، كما أنَّ التساهل يدخل في البابين عكس التنطع.

ويقول: غرض المصنف هنا بيان ورع الموسوسين، والوسواس كما يدخل في البيوع يدخل أيضًا في الطهارة، وهذا كثير جدًّا، كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسانٍ ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، وليست هناك علامة تدل على الثاني، وكمن يترك تناول الشيء؛ لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به، ويكون دليل إباحته قويًّا، وتأويله ممتنعًا، أو مستبعدًا.

البخاري لمَّا ترجم بهذه الترجمة من لم يرَ الوساوس ونحوها من الشُّبُهات، الترجمة أعم من أن تكون في البيوع، لكن الترجمة الكبرى وهي في كتاب البيوع، قد يُفهم منها أنَّ الوساوس هذه من الشُّبُهات يعني في البيوع، لكن إيراده لحديث الوضوء يدل على أنَّه يريد ما هو أشمل من ذلك وأعم. ويريد بذلك بيان ورع الموسوسين، والموسوسون لهم العجائب في الوضوء، فمنهم من يقول إنَّ الوضوء يحتاج إلى نية لكل عقدة من عُقد الأصابع.

المُقَدِّم: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ومنهم من يأتي بعد ساعات طويلة يقول إنَّه منذ سبع، ثماني ساعات يحاول أن يتوضأ فلا يستطيع، ومنهم من يغمس في الماء مرارًا، ومنهم من إذا توضأ ومست يده الباب مثلًا انتقض وضوؤه، والوساوس في هذا الباب أكثر من أن تُحصر، والأسئلة عنها شيء لا يخطر على البال، ولا شك أنَّ هذا مرض وداء أصاب كثيرًا من الناس مع الأسف بمن فيهم من طلبة العلم، وأمَّا بالنسبة للعامة إذا كان عنده شيء من التحري مع الجهل فهذا كثير فيهم جدًّا، حتى إنَّه أدى ببعضهم إلى ترك الصلاة.

 المُقَدِّم: لا حول ولا قوة إلا بالله.

إلى ترك الصلاة؛ لأنَّ الوقت لا يستوعب.

المُقَدِّم: الله المستعان.

أربع وعشرون ساعة ما يستوعب الصلوات الخمسة، إذا كانت كل صلاة تحتاج إلى هذه المدة، ويخيل إليهم أشياء من الموسوسين في هذا الباب، وفي باب الطلاق أيضًا يرد أسئلة كثيرة جدًّا، يعني تصور أنَّ شخصًا- نسأل الله العافية- يقول في آخر الفصل الدراسي، مُدرس قال لي: أحد زملائي الطلاب عددهم قليل، الطلاب عددهم قليل فإمَّا أن تأتي بطلابك عندي في الفصل وتخرج، أو العكس، قلت له: نعم، ثم لما خرجت من المدرسة بعد أن أدخلت طلابي على طلابه قال لي.. ومعلوم الذي يسول له ويوسوس له..، الشيطان، قال: احتمال أن يكون لي قد طلقت زوجتك، قلت: نعم، فما حكم مثل هذا الطلاق؟ هذا مرض، ومرض قد يستعصي في كثير من الحالات، والأسئلة عن هذا الأمر....

المُقَدِّم: كثيرة، صحيح.

كثيرة جدًّا، ومقلقة للمسؤول؛ لأنَّ السائل لا ينتهي، لا ينتهي مهما بيّن له ووضّحت له، لا ينتهي؛ لأنَّه لو أراد لو كان ينتهي في السؤال لانتهى في العمل، وكون هذا يوجد من عامي أو عامية كبير السن، أو كبيرة السن، يعني عندهم حرص مع جهل هذا كثير فيهم، لكنَّه في بعض صوره يقرُب من الجنون، في بعض صوره أحيانًا يُخيل للإنسان أشياء لا حقيقة لها في مثل هذه الصورة يتعب كثيرًا، ويُتعب غيره، وكم من شخص ترك الصلاة؛ بسبب هذا، ومنهم من ترك العمل، ومنهم من ترك الخروج من البيت؛ بسبب هذا، وقد يوجد، لكنه قليل في طلاب العلم. ويُذكر عن بعض العلماء أنَّهم يزيدون على المشروع من باب الاحتياط، وأنَّ هذا لا يُدخلهم في الوسوسة، وذكروا هذا في ترجمة ابن دقيق العيد، والحافظ العراقي أنَّهم يزيدون على القدر المشروع، لكن هذا مردود على من جاء به، هذا الفعل مردود مهما تأوَّل.

المُقَدِّم: الله المستعان.

والعبرة بفعل النبي- عليه الصلاة والسلام- فإذا زاد عن الثلاث دخل في حيز البدعة، وأشرنا مرارًا أنَّ من تردد في شيء كمن شك في صلاته، هل صلى اثنتين أو ثلاثًا؟ يبني على الأقل؛ لأنَّه متيقن، لماذا؟ لأنَّ البناء على الأكثر قد يُعرض الصلاة للبُطلان، وأمَّا البناء على الأقل فالصلاة صحيحة؛ لأنَّ مثل هذا يُنزِّل القدر الزائد منزلة المعدوم، بينما في الوضوء إذا شكَّ هل غسل العضو مرتين أو ثلاثًا كثير من أهل العلم يطردون يقولون: يبني على الأقل؛ لأنَّه متيقن، والذي قررناه في دروس سابقة أنَّه في مثل هذه الصورة يبني على الأكثر، ويجعلها ثلاثًا، لماذا؟

في الصلاة البناء على الأقل يُعرِّض الصلاة للبُطلان؛ لأنَّه قد يكون ترك ركعة، بينما البناء على الأكثر لا أثر له في الصلاة؛ لأنَّه غير مقصود، فالركعة الزائدة حكمها حكم المعدوم، في الوضوء هو متردد بين أمرين، الأقل والأكثر، فإن كان على الأقل حقيقة فالنبي- عليه الصلاة والسلام- توضأ مرتين مرتين، وهذه سُنَّة، وإن كان حقيقة الأمر أنَّه غسل العضو ثلاثًا وقلنا: لو تبني على الأقل وزاد رابعة خرج من حيز السُّنَّة إلى حيز...

المُقَدِّم: البدعة.

ولو لم يكن مقصودًا، ولم يكن هذا مقصودًا لكن مع ذلك قطعًا لدابر الوسواس، وباعتبار أنَّ البناء على الأقل مازال في حيز السُّنَّة، والبناء على الأكثر احتمال أن يكون سُنَّة، واحتمال أن يكون...

المُقَدِّم: بدعة.

بدعة، ومادام هذا الاحتمال قائمًا، فالتردد بين سُنَّة مع سُنَّة أولى من التردد بين سُنَّة وبدعة، ورع الموسوسين، بعض الناس يمتنع من أكل الصيد؛ خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، يعني هذا في البراري والقفار هذا الورع لا قيمة له، لا قيمة له، لكن في البلدان وبين المنازل يغلب على الظن أنَّه لأحد، فالقرائن تنزل منزلة الأدلة في مثل هذا، فلا يجوز له أن يصطاد صيدًا على جدار جاره مثلًا؛ لاحتمال أن يكون له، وهذا الورع في محله بل هو المتعين، أمَّا إذا كان في البراري والقفار فالورع عن مثل هذا وسوسة، خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه.

 وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لم تظهر عليه علامات الفسق والانتهاك للمحرمات، مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، لا يغلب على ظنه أنَّه حرام، وليست هناك علامة تدل على أنَّه حرام، فيترك حلالًا، يترك الشراء منه؛ لاحتمال .. لا شك أنَّ هذا يوسوس؛ لأنَّ الأصل أنَّ من بيده شيء فهو له، هذا الأصل ولا يُسأل عن سبب تملكه إلا إذا غلب على الظن، أو دلت قرينة على أنَّه اغتصبه أو سرقه.

كمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه، الشيء فيه خبر، فيه حديث لكنه متفقٌ على ضعفه، وعدم الاحتجاج به، ويكون دليل إباحته قويًّا، وتأويله ممتنع أو مستبعد، لكن إذا كان دليله خبرًا ضعيفًا ولا يُعارضه خبر، لا صحيح ولا ضعيف؛ لأنَّه يقول: كمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به، ويكون دليل إباحته قويًا، وتأويله ممتنع أو مستبعد. إذا خلت المسألة عن دليل صحيح، وليس فيها إلا هذا الدليل الذي يقتضي المنع الضعيف، فهل يمتنع؟

قالوا: إذا كان الضعف ليس بشديد فإنَّ هذا يؤثر الانكفاف كما قال ذلك السبكي في جمع الجوامع، يعني ينكف عنه صاحب الورع، ويكون الورع في محله؛ لاحتمال أن يكون هذا الخبر ثابتًا؛ لأنَّ الحكم على الحديث بأنَّه ضعيف، يعني هذا في ظاهر الأمر قد يكون الضعيف سيئ الحفظ، حفظ في هذه المرة، لكنَّ العلماء يحكمون على الظاهر، وليس لهم وراء ذلك شيء، فمثل هذا الانكفاف مقبول، لكن إذا وجد ما يدل عليه صراحة بحيث لا يحتمل التأويل مع أنَّه صحيح وقوي، هذا الورع لا قيمة له.

في كتاب المجموع شرح المهذب للنووي- رحمه الله- يقول: فرعٌ، اعلم أنَّ للشيخ أبي محمد الجويني- رحمه الله- كتاب التبصرة في الوسوسة، وهو كتاب نافع كثير النفائس، وسأنقل منه مقاصده إن شاء الله تعالى في مواضعها من هذا الكتاب، واشتد إنكار الشيخ أبي محمد في كتابه هذا على من لا يلبس ثوبًا جديدًا حتى يغسله؛ لما يقع ممن يُعاني قصر الثياب وتجفيفها وطيها من التساهل، وإلقائها وهي رطبة على الأرض النجسة، ومباشرتها لها يغلب على القلب نجاسته، ولا يُغسل بعد ذلك، ولا يغسل بعد ذلك، يعني الذي يُعانيها، الذي يغسلها بعد خياطتها، هذا قد يكون من المتساهلين فنغسله بعد غسله، والأصل الطهارة.

قال: وهذه طريقة الحرورية الخوارج، ابتلوا بالغلو في غير موضعه، وبالتساهل في موضع الاحتياط، قال: ومن سلك ذلك فكأنَّه يعترض على أفعال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-....   

المُقَدِّم: اللهم صلِّ عليه.

والصحابة والتابعين وسائر المسلمين، فإنَّهم كانوا يلبسون الثياب الجديدة قبل غسلها، وحال الثياب في ذلك في أعصارهم كحالها في عصرنا بلا شك، ثم قال: أرأيت لو أمرت بغسلها أكنت تأمن في غسلها أن يصيبها مثل هذه النجاسة المتوهمة، فإن قلت: أنا أغسلها بنفسي، فهل سمعت بذلك خبرًا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أو عن أحد من أصحابه أنَّهم أوجبوا على الإنسان على سبيل الإيجاب أو الندب والاحتياط غسل ثوبه بنفسه؛ احترازًا من أوهام النجاسة؟

يقول: فرعٌ، قال أبو محمد في التبصرة: نبغ قوم يغسلون أفواههم إذا أكلوا خبزًا، ويقولون: الحنطة تُداس بالبقر وهي تبول وتروث في المداسة أيامًا طويلة، ولا يخلو طحين ذلك عن نجاسته قال: وهذا مذهب أهل الغلو والخروج عن عادة السلف، فإنَّا نعلم أنَّ الناس في الأعصار السالفة مازالوا يدوسون بالبقر كما يفعل أهل هذا العصر، وما نقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين وسائر ذوي التقوى والورع أنَّهم رأوا غسل الفم من ذلك، هذا كلام الشيخ أبي محمد.

قال الشيخ أبو عمرو: والفقه في ذلك أنَّ ما في أيدي الناس من القمح المتنجس بذلك قليل جدًّا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة، فقد اشتبه إذًا واختلط قمح قليل نجس بقمح طاهر لا ينحصر، ولا منع من ذلك، بل يجوز التناول من أي موضع أراد كما لو اشتبهت أخته بنساء لا ينحصرون فله نكاح من شاء منهن، وهذا أولى بالجواز، وفي كلام الأستاذ أبي منصور البغدادي في شرحه للمفتاح إشارة إلى أنَّه وإن تعين ما سقط الروث عليه في حال الدواس فمعفو عنه؛ لتعذر الاحتراز، وهذا مبني على مذهب الشافعية أنَّ أرواث وأبوال مأكول اللحم نجس، وإلا فعند من يقول بطهارته لا إشكال في ذلك. ثم ذكر مسائل كثيرة تتعلق بهذا الباب، فليراجعه من شاء، ففيه طرف وفوائد وتحف ونفائس.  

المُقَدِّم: لكن يا شيخ نحن نوقن الآن وأنتم أشرتم إلى شيء من هذا، أنَّ هذه القضية أصبحت مع الأسف الشديد ترد عليكم وعلى عدد من المفتين في هذا الموضوع، وأمور وقصص محزنة جدًّا، هل.. ألا ترون أن نبني منهجًا مهمًّا، طريقة للعلاج لأمثال هؤلاء لا يكفي فقط أن نقول: هي موجودة، أو أن نذكر كلام أهل العلم في مسألة وجودها، وشك هؤلاء، دعونا نرسم منهجًا إذا كان ممكنًا يا شيخ، أحسن الله إليكم.

لا شك أنَّ المنهج الشرعي في مثل هذا أن يُحمل من ابتلي بهذا على التخفيف، على القدر المجزئ من هذه العبادات، على القدر المجزئ منها؛ لأنَّه وجد وجهًا إلى الكمال زاد عليه، والشيطان حريص في مثل هذا الباب، فالشيطان طريقته إن استطاع أن يجر المتدين عن دينه، ويوقعه بمثل ما وقع فيه من الشرك والكفر، لم يألُ جهدًا، لكنه إن لم يستطع دفعه إلى..

المُقَدِّم: الغلو.

الغلو، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فالغلو لا يقل خطورة عن التساهل، وكلاهما مذموم، والدين وسط بين الغالي والجافي، فمثل هؤلاء يوجهون إلى الأخف، حتى قال بعض المفتين لمَّا سُئل عن الطهارة، وأنَّها توقع في حرج عظيم، وأنَّ النية في ذلك، وأنَّ النية في هذه الطهارة تحتاج إلى وقت طويل، كلما توضأ قال: إنَّه ما نوى، قال: يا أخي صلِّ بلا نية، توضأ بلا نية، طيب النية شرط لصحة الوضوء، يا أخي أنت يعني ما قصدت مكان الوضوء إلا ناويًا الوضوء، ثم يأخذ معه ويترك، ثم بعد ذلك يفتيه بأن يصلي بلا وضوء، والمشقة الحاصلة عليه لا شك أنَّها لا تقل عن المشقة الحاصلة على من بُعد عنه الماء، أو صعُب عليه استعمال الماء، وأحيانًا إذا رفض أن يستجيب للتخفيف في الصلاة، وأن يصلي على أي حال كأن ويقول ويستدل بذلك ويقول: أنا مكلف ولست بمجنون، يقال: يا أخي صنيعك هذا قريب من صنيع المجانين، وما بقي إلا خيط رفيع حتى تدخل في زمرة المجانين، فمثل هذه الأمور يُعالج بها من ابتلي بالتشدد، كما أنَّ أحاديث الوعد نصوص الوعد عمومًا من الكتاب والسُّنَّة يُعالج بها من غلا، ونصوص الوعيد يُعالج بها من جفا، يعني يُعالج صاحب الإفراط بنصوص الوعد، وصاحب التفريط يُعالج بنصوص...

المُقَدِّم: الوعيد.

الوعيد، وهكذا ينبغي أن يكون هناك توازن بين حال السائل وبين الجواب، فمن عرف عنه، أو عرف من خلال سؤاله أنَّه يتساهل، يوصى بالأكمل، ويحث عليه، وتورد له النصوص الواردة في فضله، لكن من عُرف عنه أنَّه يتشدد في أي باب من أبواب الدين فإنَّه يوصى بما ورد فيه مما هو أخف ولا شك أنَّ النصوص علاج لهذه الأمراض علاج لأمراض القلوب، كما أنَّها علاج لأمراض الأبدان، والله المستعان.

أيضًا الأطباء لهم دور، واكتشفوا علاجات ناجعة في الوسواس القهري، ويذكرون أنَّ الوسواس القهري تراجع كثيرًا أمام العلاج المزدوج الحديث، وقالوا: إنَّ ثمانين بالمائة من المرضى تحسنوا كثيرًا من العلاج.

 وعلى كل حال إذا تضافر التوجيه الشرعي من أهل العلم مع وجود مثل هذه العلاجات، لا سيما وأنَّ كثيرًا ممن يعمل في هذا المجال من الأطباء فيهم خير، وعليهم علامات الاستقامة والصلاح، ولهم أيضًا معرفة ببعض النصوص الواردة في هذا، فينفع الله بهم كثيرًا، وأهل العلم لا شك أنَّهم يؤدون واجبًا عظيمًا تجاه هؤلاء المساكين الذين ابتلوا بهذا المرض العضال.

المُقَدِّم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم.

 أيُّها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإيَّاكم إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

 لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى. في الحلقة القادمة، نبدأ في باب التخفيف في الوضوء الحديث مائة وثلاثة عشر، مائة وثمانية وثلاثين بحسب الأصل؛ ليتابعنا الإخوة والأخوات من خلال كتاب التجريد، شكرًا لطيب المتابعة، لقاؤنا بكم في حلقة قادمة بإذن الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.