التعليق على تفسير القرطبي - سورة الصافات (02)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- "قوْلُهُ تَعَالَى :{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى :{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}؛ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: احْشُرُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَزْوَاجَهُمْ أَيْ: أَشْيَاعَهُمْ فِي الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ: الظُّلْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فَيُحْشَرُ الْكَافِرُ مَعَ الْكَافِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ .وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- :{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} قَالَ: الزَّانِي مَعَ الزَّانِي، وَشَارِبُ الْخَمْرِ مَعَ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَصَاحِبُ السَّرِقَةِ مَعَ صَاحِبِ السَّرِقَةِ .وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :{وَأَزْوَاجَهُمْ} أَيْ: أَشْبَاهَهُمْ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ عُمَرَ".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في قوله -جل وعلا-: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الظلم الأصل فيه وضع الشيء في غير موضعه، وهو درجات ومراتب، منها ما يصل إلى حد الشرك المخرج عن الملة، ومنها ما هو دون ذلك من البدع المغلظة، والمخففة، ومنها المعاصي الكبيرة، والصغيرة، ومنها ما يقع بين العبد وربه، وبين العبد ونفسه، وبين العبد وغيره من المخلوقين، والآية لفظها لفظ العموم؛ لأن {الَّذِينَ} من صيغ العموم، الموصول من صيغ العموم، وتفسير الظلم في قوله -جل وعلا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام:82]، بالشرك كما في الحديث الصحيح لا شك أنه تفسير ببعض الأفراد، تفسير ببعض الأفراد، والتنصيص على بعض الأفراد لا يقتضي التخصيص، كما هو معلوم عند أهل العلم، إنما مفاده الاهتمام بشأن هذا الفرد والعناية به، واللفظ عام، لكن من الظلم ما يدخل تحت هذه الآية، والمتوعَّد عليه بدخول النار، وما دون ذلك مما يتجاوز عنه، أو يُمحى؛ لصغره بأسباب، أو بالمكفرات، فمثل هذا قد لا يدخل في الآية، وإن دخل في الجملة، لكن أفراده قد لا تدخل في الآية، ويقول بعد أن فسَّره بالشرك ذكر عن عمر -رضي الله عنه- قال: الزاني مع الزاني؛ لأنه شبيهه ونظيره، والأزواج: الأشباه، والنظائر ويُطلق ويُراد به أيضًا كما هو الأصل الزوج يطلق على الشريك، يسمونه الشريك في الحياة سواء كان الذكر أو الأنثى، الرجل زوج فلانة، وفلانة زوج فلان هذا الأصل، {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}[النساء:12] فبدونها بدون التاء، العلماء في الفرائض يفرقون بين الزوج والزوجة؛ لئلا يقع اللبس، لئلا يقع اللبس؛ لأنه إذا تجرد الاسم عن النصيب وقع اللبس، أما إذا ذكر مع نصيبه كما في الآية ينتفي اللبس، والضمائر أيضًا تحدد المراد {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}[النساء: 12] {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}[النساء:12] فالضمائر تحدد المراد، لكن في المسائل: تُوفي شخص، هلك هالك عن زوج أتدري من هو المتوفى؟ ذكر أم أنثى؟ إذا كان قلت الزوج يشمل الذكر والأنثى؟ ما تدري، ما تدري، ولا تستطيع القسمة إلا بالتعيين، فليس هذا مخالفة لما جاء بالنصوص بقدر ما هو تحديد للمراد بدقة؛ لئلا يوقع في لبس، قد تتناول الآية {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني الزوجات تُحشر معهم إذا اتفقوا في الوصف، إذا اشتركوا في الوصف، كما أن {الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور:21]، فلا شك أن الإنسان يستفيد من قرينه إذا كان محلاً قابلاً للإفادة، {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} ذريتهم بالإفراد، أو الجمع على القراءتين بالوصف الذي يدخل الجملة، لكن اختلاف المراتب هذا يستفيد منه الأدنى من الأعلى.

طالب: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ}[الرعد:23].

نعم {وَمَنْ صَلَحَ} من الصلاح لا بد من الصلاح {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} لا بد من الشرط، لكن لو قُدِّر أن الذرية لا ينطبق عليهم الشرط فإنهم لا يستفيدون بحال.

"وَقِيلَ: "وَأَزْوَاجَهُمْ": نِسَاؤُهُمُ".

الآن قوله هذا يرجع إلى قول عمر: يرجع إلى قول عمر: عمر يقول: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة، وقال ابن عباس: وأزواجهم أي أشباههم، هذا يرجع إلى قول عمر، أو قول عمر يرجع إلى هذا؟ أيهما الذي يرجع الأخص، أو الأعم؟

طالب: الأخص.

الأخص يرجع إلى الأعم، فقول عمر يرجع إلى هذا.

"وَقِيلَ: "وَأَزْوَاجَهُمْ": نِسَاؤُهُمُ الْمُوَافِقَاتُ عَلَى الْكُفْرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَن، وَرَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَأَزْوَاجَهُمْ قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ أَيْضًا: يُحْشَرُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالشَّيَاطِينِ وَإِبْلِيسَ. {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أَيْ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: {فَاهْدُوهُمْ} أَيْ: دُلُّوهُمْ. يُقَالُ: هَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَهَدَيْتُهُ للطَّرِيقَ، أَيْ: دَلَلْتُهُ عَلَيْهِ. وَأَهْدَيْتُ الْهَدِيَّةَ، وَهَدَيْتُ الْعَرُوسَ، وَيُقَالُ: أَهْدَيْتُهَا، أَيْ: جَعَلْتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ ."

قوله: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} نظير {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}[الأنبياء:98] التي فرح بها بعض المشركين حينما سمعوها قالوا: نحن نعبد الملائكة، واليهود يعبدون مع الله غيره يعبدون عزيرًا، والنصارى يعبدون عيسى، إذًا هؤلاء الأخيار معنا، فإذا كانوا معنا فأمرنا إلى خير ما دمنا مع الأخيار، وهم معنا، ونحن معهم فقوله -جل وعلا-: {وَمَا كَانُوا} {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} هذه لغير العقلاء، ولا تخرج العاقل الذي رضي بأن يُعبد من دون الله؛ لأنه في الحقيقة داخل ب (ما) التي ليست للعقلاء، "ما" ليست للعقلاء، وهو في الحقيقة غير عاقل يُعامَل معاملة من لا يعقل، مادام رضي أن يُعبد من دون الله فهو ليس بعاقل، فهو داخل في الآية، يعني لا يقال: إنه يدخل فيها العموم، عموم من عُبد من دون الله بمن فيهم الأخيار من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ لأنهم لم يرضوا بذلك، بعضهم لم يعلم بذلك أيضًا، ولا يقال: إنه يُخرج منها من اتصف بالعقل ممن رضي بذلك وهو في الحقيقة غير عاقل، فهو داخل في "ما" التي ليست للعقلاء.

طالب:......

هذا الغالب.

طالب:......

لكن غالبًا، هذا الغالب، هذا هو الغالب، {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}[النساء:3] النساء عقلاء، لكن على غير الغالب.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} وَحَكَى عِيسَى بْنُ عُمَر" أَنْهُمْ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ".

أنَّهم نعم بدل إنِّهم بالكسر أنهم.

"وَحَكَى عِيسَى بْنُ عُمَر" أَنَّهُمْ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ: لِأَنَّهُمْ وَبِأَنَّهُمْ، يُقَالُ: وَقَفْتُ الدَّابَّةَ أَقِفُهَا وَقْفًا فَوَقَفَتْ هِيَ وُقُوفًا، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، أَيِ: احْبِسُوهُمْ. وَهَذَا يَكونُ قَبْلَ السَّوْقِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّار. وَقِيلَ: يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُحْشَرُونَ لِلسُّؤَالِ إِذَا قَرُبُوا مِنَ النَّارِ. إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ أَعمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ .وقال الضَّحَّاكُ: عَنْ خَطَاياهُمْ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: عَنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَ الْكَافِرَ يُحَاسَبُ. وَقَدْ مَضَى فِي [الْحِجْرِ] الْكَلَامُ فِيهِ وَقِيلَ: سُؤَالُهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ: {نَحْنُ جَمِيْعٌ مُنْتَصِرٌ} وَأَصْلُهُ تَتَنَاصَرُونَ، فَطُرِحَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَشَدَّدَ الْبَزِّيُّ التَّاءَ فِي الوَصْلِ" .

محاسبة الكافر، والمعلوم المقطوع به المجزوم به أن مآله إلى النار، ما الذي يترتب عليها؟ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} لكن هل يُسألون، ويُناقشون الحساب بدقة، وما فعلوه قررنا به ثم يعذبون به، أو أنهم يُسألون سؤالًا إجماليًّا؟ يسألون سؤالًا إجماليًّا، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}[الأنعام:130] إذا قالوا: بلى، فلماذا كذبتم؟ ثم بعد ذلك يتم، أما محاسبتهم على كل جميع أعمالهم الدقيقة، والجليلة لا شك أن هذا لا يُظن به أنه يأخذ وقتًا، أو يكلف، ويحتاج إلى جهد، أبدًا، لكن مع ذلك بعض المسلمين يُناقَش الحساب بدقة، وبعضهم يُعرَض عرضًا، ماذا عن الكافر؟!

هنا يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات:24] {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}، يعني هل يُسألَون عن كل شيء؟ أو أنهم يسألون سؤالًا إجماليًّا، ومآلهم إلى النار، ولا يحتاجون إلى تفاصيل؟ لأنه ليس هناك مجازاة، ومقاصة بين حسنات وسيئات، أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، وجوزوا على حسناتهم.

 يعني حاتم الطائي يحب مكارم الأخلاق، ويبذل المعروف، ويقري الضيف، مكارم، عظائم، يعني فعل أشياء يمكن ما فعلها أحد غيره في التاريخ يعني من جنسه، ولذا لما جاءه ابنه عدي، وابنته سفيانة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وذكروا عن أبيهم ما ذكروا قال: «إن أباكم أراد شيئًا فحصَّله» يريد الذكر، يريد أن يقال: جواد، وذلك إلى قيام الساعة، والناس يقولون: حاتم جواد، حصَّله وانتهى، هذا نصيبه مما صنع، هذا جزاؤه، فهل مثله يُحاسب؟

الشرك يقضي على كل شيء، يقضي على كل شيء، ومع ذلك هم مخاطبون بالفروع، ويزاد بها في عذابهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:42-43-44] إلى آخره،  وعلى كل حال مثل هذا الخلاف سواء كان جوابه بنعم، أو لا، لا يترتب عليه كبير فائدة عملية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}، قَالَ قَتَادَةُ :مُسْتَسْلِمُونَ فِي عَذَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وقال ابْنُ عَبَّاسٍ :خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ، وقال الْحَسَنُ :مُنْقَادُونَ الْأَخْفَشُ :مُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ".

نعم الاستسلام هو الانقياد، هو الانقياد، ومنه الإسلام الانقياد، والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، فالاستسلام هو الانقياد والإذعان، والطاعة، والقبول.

"{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ وَالْأَتْبَاع {يَتَسَاءَلُونَ} يَتَخَاصَمُونَ. وَيُقَالُ: لَا يَتَسَاءَلُونَ فَسَقَطَتْ لَا .قال النَّحَّاسُ :وَإِنَّمَا غَلِطَ الْجَاهِلُ بِاللُّغَةِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ :{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}".

نعم توهَّم أن الآية معارضة، هنا أثبت التساؤل، ونفاه أيضًا {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}. في آية المؤمنون، فظن أنها تتعارض فقال: لا ساقطة؛ وهذا من السهولة والجرأة على مثل هذا أن يقال: لا ساقطة، أو زائدة. لا، وإنما هي مواقف، كما قال ابن عباس في موقف يتساءلون، في موقف لا يتساءلون، في موقف لا يُسألون، في موقف يُسألون، ليست موقفًا واحدًا بحيث تكون الجهة متحدة، بل الجهة منفكة، يعني كما جاء يوم الخندق النبي -عليه الصلاة والسلام- أخَّر الصلوات، وجاء فيها أيضًا أنه صلى الصلوات في وقتها، أحيانًا يكون صلى العصر بعد المغرب، وبعضها كادت لتغرب الشمس، هي مواقف، يمكن في يوم حصل له كذا، وفي يوم حصل له كذا؛ لأن الخندق ليست بيوم واحد، ومثله ما عندنا.

"إِنَّمَا هُوَ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَرْحَامِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ لَمَا نَفَعْتَنِي، أَوْ أَسْقَطْتَ لِي حَقًّا لَكَ عَلَيَّ، أَوْ وَهَبْتَ لِي حَسَنَةً. وَهَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِالْأَنْسَابِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسَرُّ بِأَنْ يُصْحَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَى ابْنِهِ حَقٌّ فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ»".

نعم المشاحة هنا، المشاحة ما فيه مسامحة، كل إنسان يحرص على أن يكون له حق عند غيره، وإذا كان في الأقربين أقرب الناس إليك الأم، والأب، والابن، والبنت، وما أشبه ذلك لا تتنازل عن حسنة؛ لأنك بأمس الحاجة إلى هذه الحسنة، فكيف بالبعيد؟ على الإنسان على المسلم أن يحرص على براءة ذمته من حقوق العباد قبل أن لا يكون هناك درهم ولا دينار، إنما الحسنات والسيئات.

"وَفِي حَدِيثٍ آخَر: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَأَتَاهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ فَيَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ زِيدَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمُطَالِبِ»".

ويكفيه أن يبيحه ويحلله بطيب نفس منه لا بإكراه، ولا بإحراج، ولا، إذا حل له أبرأه مما له عليه بطيب نفسٍ منه برأت ذمته، خلافًا لما يذكر عن الزهري أنه إذا كان هناك حق فلا بد من إيفائه، لا بد من إيصاله إلى مستحقه، ولا يكفي أن يستحله.

طالب: يستحله ولا يحلله، بعض الناس يرفض، بعضهم يرفض.

بعضهم يرفض، ويرفض أخذ الحق أيضًا، بعضهم يرفض، تقول: والله لك عندي مبلغ كذا، يقول: أبدًا أنت بحل، ولا آخذ منك شيئًا إلا، لعله في مقابل المدة التي مضت؛ لأنه  لو أعطاه المال في وقته لاستفاد منه، وقد يأتي بالمال وهو بغير حاجة، يمكن أخذ ماله وهو بأمس الحاجة إليه، ثم جاء ليستحله ويرده إليه، الآن لا يساوي شيئًا، يعني الألف ريال قبل خمسين سنة مثلاً، ثم أراد أن يرجع إليه ألف ريال، ولا ألف ريال، ولا مليون ريال، بالنسبة للألف في ذلك الزمان، فلا يقبل، على كل حال لا بد أن يسعى إلى أن يحلِّله ولو في مقدار المدة التي منعه من الإفادة من ماله، يبذل له الوسط حتى يحلِّله، وإذا عجز عن ذلك تبرأ ذمته إن شاء الله.

"وَ{يَتَسَاءَلُونَ} هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُوَبِّخَهُ فِي أَنَّهُ أَضَلَّهُ، أَوْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْدَهُ {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلشَّيَاطِينِ".

لكن هناك أمور تصحيحها، والخروج من تبعتها في غاية الصعوبة، شخص علَّم أو ألَّف على غير الصراط المستقيم، وضلَّ بسببه أناس، هذا عليه أن يتوب، وعليه أن يصلح، وعليه أن يبيِّن، لكن من لم يصله البيان؟ ليس كل الناس يصلهم البيان، من مات قبل توبته، فعلى الإنسان أن يحرص أن يكون على الجادة؛ لئلا يضل بسببه أحد وهو لا يشعر.

" قال قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْأَتْبَاعِ لِلْمَتْبُوعِينَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} الْآيَةَ. قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَيْ: تَأْتُونَنَا عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَتَصُدُّونَنَا عَنْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ الَّتِي نُحِبُّهَا وَنَتَفَاءَلُ بِهَا؛ لِتَغُرُّونَا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النُّصْحِ. وَالْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِمَا جَاءَ عَنِ الْيَمِينِ وَتُسَمِّيهِ السَّانِحَ. وَقِيلَ".

كما أنها تتشاءم مما يجيئها من جهة الشمال، ويسمونه البارح، على كل حال هذا من عقائد الجاهلية التي جاء الإسلام بهدمها.

"{تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} تَأْتُونَنَا مَجِيءَ مَنْ إِذَا حَلَفَ لَنَا صَدَّقْنَاهُ".

يعني عن طريق اليمين، عن جهته، بواسطة اليمين الذي هو الحلف.

" وَقِيلَ: تَأْتُونَنَا مِنْ قِبَلِ الدِّينِ فَتُهَوِّنُونَ عَلَيْنَا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ وَتُنَفِّرُونَنَا عَنْهَا.

 قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ جِدًّا".

وهذا يحصل كثيرًا عند بعض من يكتب الآن، ويتكلم في وسائل الإعلام، ويتهم أهل العلم الراسخين بأنهم شددوا على الناس، وضيَّقوا عليهم، وحصروهم في قول واحد، والمسألة أوسع من ذلك، ويلبسون عليهم، حتى يخرجوهم من حيز الاعتدال والوسطية التي جاء بها الإسلام، والتي هي سمة أهل السنة والجماعة، يخرجونهم إما إلى الإرجاء، والتنصُّل عن التكاليف، بحجة أن هؤلاء العلماء حجروا الناس، وضيَّقوا عليهم، وشدَّدوا عليهم، لكن يبوئون بإثمهم، وبإثم من أضلوهم –نسأل الله العافية-.

 وتجد الآن الطرق كله على مسألة التشديد، وتجد الإنسان يكون همه التسهيل والتيسير على الناس، لا من واقع الأدلة ومن خلال الأدلة، وإنما هو بالنظر في أقوال أهل العلم، لا ينظر في الأدلة، الأدلة فيها يسر، وفيها سهولة، لكن أيضًا فيها تكليف، والجنة حُفت بالمكاره، يعني فرقٌ بين من يقول: طواف الوداع مثلاً قال بعضهم: واجب، وقال بعضهم: سنة، ولماذا نضيق على الناس نقول: واجب تأثمون به؟ هذا تضييع، هذا ليس بتسهيل، ولا تيسير، وليس من سمة الدين هذا؛ لأن من يسلك هذا المسلك يخرج الناس من الدين، وهو لا يشعر؛ لأنه ما من مسألة إلا وقد اختُلِف فيها، لكن التيسير هو واجب خفّف عن الحائض، هذا تيسير الشرع، واجب لكنه خفّف عن الحائض والنفساء، هذا تيسير شرعي، أما كوننا نقول: الإمام مالك لا يرى طواف الوداع إذًا ليس بواجب، والجمهور يرونه، وهذا تشديد، وهذا تيسير، لا هذا ليس بتيسير، هذا تضييع، هذا تضييع وليس بتيسير.

طالب:.......

العمرة ليس لها وداع، هذا الحج.

"قلت: وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ يَكُونُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَالْيَمِينُ بِمَعْنَى الدِّينِ، أَيْ: كُنْتُمْ تُزَيِّنُونَ لَنَا الضَّلَالَةَ. وَقِيلَ: الْيَمِينُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَيْ: تَمْنَعُونَنَا بِقُوَّةٍ وَغَلَبَةٍ وَقَهْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}".

لأن بعض الناس يروِّج بعض المسائل بنسبتها إلى الجمهور، هذا رأي الجمهور، كشف الوجه، يقول: هذا رأي الجمهور، من أين تم لك الاستقراء لتقول: هذا قول الجمهور؟ يعني في فتح الباري ذكر مراحل الحجاب، وذكر منها المرحلة الأولى: وجوب تغطية الوجه، العيني قال: المرحلة الأولى: وجوب تغطية الوجه، وهذا من فقهاء  الشافعية، وهذا من فقهاء الحنفية، الحنفية، والشافعية، عند القاضي عياض كذلك، وهو مالكي، ومذهب الحنابلة معروف، من أين جاء أن الجمهور على كشف الوجه، أن كشف الوجه هو قول الجمهور، لكن هنا تلقطوا، يبحثون عمن خالف، ومن تأوّل، يبحثون، ثم بعد ذلك يبقى قولهم صحيحًا، هذا الكلام ليس بصحيح، النصوص الصحيحة الصريحة دالة على وجوب تغطية الوجه، «وكان يعرفني قبل الحجاب»، ماذا يعرف منها؟ بمَ يعرفها؟

يعرفها بوجهها، وبعد ذلك ينظرون في أدلة إما صحيحة لكنها غير صريحة، من النوع المتشابه، أو صريحة لكنها غير صحيحة.

طالب:......

نعم، ماذا فيه؟

طالب:.....

هو عنه رواية بوجوب تغطيته.

 طالب:....

المسألة في {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]، يعني هذا الذي يختلفون فيه، وعلى كل حال عندنا لو لم تدل عليه هذه الآية، دلت عليه أدلة أخرى.

 "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}، أَيْ: بِالْقُوَّةِ وَقُوَّةِ الرَّجُلِ فِي يَمِينِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

       إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ             .............

أَيْ: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أَيْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَعَكُمْ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى. {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا قَوْلُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ الرُّؤَسَاءِ، أَيْ: لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قَطُّ حَتَّى نَنْقُلَكُمْ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ، بَلْ كُنْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ لِلْإِلْفِ وَالْعَادَةِ".

أقاموا عليه للإلف والعادة، ولتأثير المتبوعين، والرؤساء.

 "{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ مِنْ حُجَّةٍ فِي تَرْكِ الْحَقِّ {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أَيْ ضَالِّينَ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ. {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} هُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْمَتْبُوعِينَ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ قَوْلُ رَبِّنَا، فَكُلُّنَا ذَائِقُونَ الْعَذَابَ، كَمَا كَتَبَ اللَّهُ وَأَخْبَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ- كَتَبَ لِلنَّارِ أَهْلًا، وَلِلْجَنَّةِ أَهْلًا، لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ»".

مخرَّج؟

طالب: قال: أخرجه الطبراني في الصغير من حديث.... ومحمد غير قوي، وورد من حديث البراء .....

نعم، لكن كونهم لا يزيدون ولا ينقصون، والنار لا تزال يلقى فيها، وهي تقول: قطٍ قطٍ، حتى يضع فيها، وأما الجنة، فيُنشأ لها خلق.

 "{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أَيْ زَيَّنَّا لَكُمْ".

{تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30]، نعم، وهي {تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتى يضع فيها رب العزة قدمه، فتقول: قط، قط.

  "{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أَيْ زَيَّنَّا لَكُمْ، مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ بِالْوَسْوَسَةِ وَالِاسْتِدْعَاءِ، {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} الضَّالُّ وَالْمُضِلُّ. إِنَّا كَذَلِكَ أَيْ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيِ الْمُشْرِكِينَ. {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ قُولُوا، فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ".

وإضمار القول كثير، إضمار القول كثير في القرآن في كلام العرب أيضًا، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}[آل عمران:106]، يعني يقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ}.

 "وَيَسْتَكْبِرُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى خَبَرِ كَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَكَانَ مُلْغَاةٌ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ وَاجْتِمَاعِ قُرَيْشٍ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ» أَبَوْا وَأَنِفُوا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ".

يعني عند وفاء أبي طالب قال له النبي –عليه الصلاة والسلام-: «يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أحاج لك بها عند الله».

"«أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَذَكَرَ قَوْمًا اسْتَكْبَرُوا فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وَهِيَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) اسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَوْمَ كَاتَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ، ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالَّذِي قَبْلَهُ الْقُشَيْرِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أَيْ: لِقَوْلِ شَاعِرٍ مَجْنُونٍ، فَرَدَّ اللَّهُ -جَلَّ وَعَزَّ- عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالتَّوْحِيدَ "وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ" فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ. {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} الْأَصْلُ لَذَائِقُونَ، فَحُذِفَتِ النُّونُ اسْتِخْفَافًا وَخُفِضَتْ لِلْإِضَافَةِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعتِبٍ"

حُذفت للإضافة، حذفت للإضافة.

نُونَاً تَلِي ٱلإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا
 

مِمَّا تُضِيفْ احْذِفْ كَطُورِ سِينَا
  

فهي محذوفة للإضافة.

 

فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعتِبٍ
 

وَلَا ذَاكِرِ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلَا
  

 

 

     

والأصل أنه إذا قطع عن الإضافة نون المضاف، المضاف ينون، ثم يقطع عن الإضافة، ذاكرٍ الله، مثل هذا في الشعر تجاوز؛ لأن ضرورة الشعر قد تدعو إلى مثل هذا، أما إذا أضيف فيحذف التنوين، والمعلوم أنه متى تترجح الإضافة، وما يترجح القطع عن الإضافة، إذا كانت الدلالة على ماضٍ في الجملة فيقطع عن الإضافة، وإذا كان لأمرٍ مستقبل فإنه إذا كان للدلالة على ماضٍ أضيف، وإذا كانت الدلالة على مستقبل فإنه يقطع أيضًا، يعني مثل المثال إلي يمثلون به كثيرًا في قول القائل: أنا قاتل زيدٍ إذا قطع عن الإضافة إذا أضاف قال: أنا قاتلُ زيدٍ هذا يكون اعترافًا، يعني قتله فيما مضى وانتهى، لكن إذا قال: أنا قاتلٌ زيدًا فإنه يهدد، يكون في المستقبل لا يكون في الماضي.

"وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ "وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةَ" عَلَى هَذَا".

والقرطبي تكلم على هذه المسألة في آخر سورة النازعات: {مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}[النازعات:45]، نعم.

 "{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ إِلَّا بِمَا عَمِلْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} اسْتِثْنَاءٌ مِمَّنْ يَذُوقُ الْعَذَابَ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ الْمُخْلَصِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ، يَعْنِي الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَدِينِهِ وَوِلَايَتِهِ. والْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ذَائِقُو الْعَذَابِ، لَكِنْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَا يَذُوقُونَ الْعَذَابَ".

يعني إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه، فهو استثناء متصل، وإذا كان من غير جنسه فهو منقطع، فالمخلصون هل هم من جنس ما استثنوا منه؟ {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} هذا الاستثناء منقطع، الأظهر فيه أنه منقطع؛ لأن المخلصين ليسوا من جنس من يذوق العذاب الأليم.

طالب:....

جاء في أسلوبهم قام القوم إلا حمارًا، كثير هذا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} يَعْنِي الْمُخْلَصِينَ، أَيْ: لَهُمْ عَطِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ لَا تَنْقَطِعُ. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي رِزْقَ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْفَوَاكِهُ الَّتِي ذَكَرَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حِينَ يَشْتَهُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: إِنَّهُ بِمِقْدَارِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَوَاكِهُ} جَمْعُ فَاكِهَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أَيْ وَلَهُمْ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَزَّ- بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ".

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} {فَوَاكِهُ} يعني "رزق" "فواكه" هذه نكرات في سياق الإثبات، ذكر ابن كثير –رحمه الله- في تفسير سورة الرحمن، أنها ما دامت في سياق الإثبات فإنها لا تعم، فإنها لا تعم ما دام في سياق الإثبات، والأصوليون يمثلون بمثل هذا للعموم، بأنها نكرة في سياق الامتنان، في سياق الامتنان فتعم، ذكرت هذا لننبه يقول ابن كثير في سورة الرحمن عند أي آية؟ {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68]، قالوا: لا تعم، وقالوا: إن هذا من وجوه تفضيل الجنتين الأوليين، على الأخريين، {وَمِنْ دُونِهِمَا}[الرحمن:62]، يعني أقل شأن، ومن أهل العلم من يرجح الأخريين على الأوليين وذكروا وجوهًا كثيرًا على الترجيح، على كل حال ذكروا مثال للنكرة في سياق الامتنان، وأنها من صيغ العموم، آية الرحمن وابن كثير قال: إنها ليرجح الجنتين الأوليين على الأخريين، قال: إنها نكرة في سياق الإثبات فلا تعم، لكن أهل العلم قالوا: إنها في سياق الامتنان، فهي من صيغ العموم، ومثلها ما عندنا.

"{وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أَيْ وَلَهُمْ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَزَّ- بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَلِقَائِهِ. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ فِي بَسَاتِينَ يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِنَانَ سَبْعٌ فِي سُورَةِ [يُونُسَ] مِنْهَا النَّعِيمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ تَوَاصُلًا وَتَحَابُبًا. وَقِيلَ: الْأَسِرَّةُ تَدُورُ كَيْفَ شَاءُوا، فَلَا يَرَى أَحَدٌ قَفَا أَحَدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى سُرُرٍ مُكَلَّلَةٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، السَّرِيرُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْجَابِيَةِ، وَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى أَيْلَةَ. وَقِيلَ: تَدُورُ بِأَهْلِ الْمَنْزِلِ الْوَاحِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} لَمَّا ذَكَرَ مَطَاعِمَهُمْ ذَكَرَ شَرَابَهُمْ. وَالْكَأْسُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ شَامِلٌ لِكُلِّ إِنَاءٍ مَعَ شَرَابِهِ، فَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَلَيْسَ بِكَأْسٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ الْخَمْرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْإِنَاءِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ: كَأْسٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْرٌ قَالُوا: إِنَاءٌ وَقَدَحٌ. قال النَّحَّاسُ: وَحَكَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْقَدَحِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ: كَأْسٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْرٌ فَهُوَ قَدَحٌ، كَمَا يُقَالُ لِلْخِوَانِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ: مَائِدَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَامٌ لَمْ تَقُلْ لَهُ مَائِدَةٌ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: وَمِنْهُ ظَعِينَةٌ لِلْهَوْدَجِ إِذَا كَانَ فِيهِ الْمَرْأَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أَيْ: مِنْ خَمْرٍ تَجْرِي كَمَا تَجْرِي الْعُيُونُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الْجَارِي الظَّاهِرُ".

يعني مثله السرير إذا كان عليه ميت، النعش إذا كان عليه الميت قيل له: جنازة.

"وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الْجَارِي الظَّاهِرُ بَيْضَاءَ صِفَةٌ لِلْكَأْسِ. وَقِيلَ: لِلْخَمْرِ. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ قَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ. {لَذَّةٍ} قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: ذَاتِ لَذَّةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ جُعِلَ اسْمًا أَيْ: بَيْضَاءُ لَذِيذَةٌ، يُقَالُ: شَرَابٌ لَذٌّ وَلَذِيذٌ، مِثْلَ نَبَاتٍ غَضٍّ وَغَضِيضٍ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ [الشَّاعِرُ الرَّاعِي]:

وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُهُ بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَةِ الْحَدَثَانِ

فَإِنَّهُ يُرِيدُ النَّوْمَ. وَقِيلَ: بَيْضَاءُ أَيْ: لَمْ يَعْتَصِرْهَا الرِّجَالُ بِأَقْدَامِهِمْ. {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أَيْ لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ، وَلَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا مَرَضٌ وَلَا صُدَاعٌ. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أَيْ لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ بِشُرْبِهَا، يُقَالُ: الْخَمْرُ غَوْلٌ لِلْحِلْمِ، وَالْحَرْبُ غَوْلٌ لِلنُّفُوسِ، أَيْ: تَذْهَبُ بِهَا. وَيُقَالُ: نُزِفَ الرَّجُلُ يُنْزَفُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ إِذَا سَكِرَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِي
 

فِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبَهَرْ
  

وَقَالَ أَيْضًا".

البهر، هو ثوران النفس من استعجال المشي من شدته.

طالب:.....

ابن كثير.

طالب: بالثاء.

نعم بالثاء.

"وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِي
 

فِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبَهَرْ
  

وَقَالَ أَيْضًا:

نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ
 

تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرُّخْصَ أَلَّا تَخَتَّرَا"
  

 

 

     

نعم الكثيب، كثيب الرمل في الغالب أن عموم الناس يحصل لهم شيءٌ من البهر، إذا مشى على كثيب من الرمل، وصعد فوقه، يبهر ويرتفع نفسه، ويخفق بقوة.

"وَقَالَ أَيْضًا:

نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ
 

تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرُّخْصَ أَلَّا تَخَتَّرَا
  

وَقَالَ آخَرُ:

فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا
 

شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
 

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الزَّايِ، مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمُ النَّزْفُ وَهُوَ السُّكْرُ. يُقَالُ: أَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا حَانَ حَصَادُهُ، وَأَقْطَفَ الْكَرْمُ إِذَا حَانَ قِطَافُهُ، وَأَرْكَبَ الْمُهْرُ إِذَا حَانَ رُكُوبُهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يُنْفِدُونَ".

من النفادة، لا ينتهي شرابهم.

"وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يُنْفِدُونَ شَرَابَهُمْ؛ لِأَنَّهُ دَأْبُهُمْ، يُقَالُ: أَنْزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:

لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمُ
 

لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا
  

قال النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَبْيَنُ وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى {يُنْزَفُونَ} عِنْدَ جِلَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، فَنَفَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ الْآفَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَمْرِهَا مِنَ الصُّدَاعِ وَالسُّكْرِ. وَمَعْنَى {يُنْزَفُونَ} الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَنْزَفَ الرَّجُلُ إِذَا نَفِدَ شَرَابُهُ، وَهُوَ يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ شَرَابُ الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّ مَجَازَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: لَا يَنْفَدُ أَبَدًا. وَقِيلَ: لَا يُنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ لَا يَسْكَرُونَ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. الْمَهْدَوِيُّ: وَلَا يَكُونُ مَعْنَاهُ يَسْكَرُونَ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ {لَا فِيهَا غَوْلٌ}. أَيْ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَيَكُونُ تَكْرَارًا، وَيَسُوغُ ذَلِكَ فِي [الْوَاقِعَةِ]".

لأنه لا يلزم عليه التكرار، في الواقع ما فيه تكرار.

 "وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى {لَا فِيهَا غَوْلٌ} لَا يَمْرَضُونَ، فَيَكُونُ مَعْنَى {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} لَا يَسْكَرُونَ أَوْ لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: الْغَوْلُ وَجَعُ الْبَطْنِ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {لَا فِيهَا غَوْلٌ} قَالَ: لَا فِيهَا وَجَعُ بَطْنٍ. وقال الْحَسَنُ: صُدَاعٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ}: لَا فِيهَا صُدَاعٌ. وَحَكَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ وَالصُّدَاعُ وَالْقَيْءُ وَالْبَوْلُ، فَذَكَرَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ فَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. وقال مُجَاهِدٌ: دَاءٌ. وقال ابْنُ كَيْسَانَ: مَغَصٌ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ".

المقصود: أنه لا تضرر شاربها بوجه من الوجوه، لا يتضرر شاربها بوجه من الوجوه بخلاف خمر الدنيا، التي هي ضرر على شاربها، وعلى من يقاربه، أو يجالسه، أو يجاوره.

" وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أَيْ: إِثْمٌ، نَظِيرُهُ: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطُّورُ:23]. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَتَذْهَبُ بِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا
 

وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ
  

أَيْ: تَصْرَعُ وَاحِدًا وَاحِدًا. وَإِنَّمَا صَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ لِئَلَّا يَنْقَطِعُ الِالْتِذَاذُ عَنْهُمْ بِنَعِيمِهِمْ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي:

نعم؛ لأنه لو كان من خمر الدنيا تغتال العقول، غفلوا عما أعد لهم من النعيم، إلي من أعظمه النظر إلى وجه الرب الكريم.

طالب: سؤال.

نعم.

طالب: خمر الدنيا ...

المنافع كلها موجودة، والمضار مفقودة، والمضار مفقودة، والمنافع موجودة، هم يشربونها للسكر ولما يصاحبه من تصور غير الواقع؛ لأنه يشربها لحظة الشرب يتوقع أنه صار ملكًا، وإذا صحا ذهب عنه ما كان، قد يشربها لئلا ينسى واقعه الذي يعيش فيه، من أجل أن ينسى واقعه الذي يعيش فيه، من شدة وبؤس، يشربونها لأمور والله المستعان.

"وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْغَوْلُ فَسَادٌ يَلْحَقُ فِي خَفَاءٍ. يُقَالُ: اغْتَالَهُ اغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي خُفْيَةٍ. وَمِنْهُ الْغَوْلُ وَالْغِيلَةُ: وَهُوَ الْقَتْلُ خُفْيَةً.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ نِسَاءٌ قَدْ قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمْ. وقال عِكْرِمَةُ: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ: مَحْبُوسَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَقْصُورَاتٌ، وَلَكِنْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {مَقْصُورَاتٌ} يَأْتِي بَيَانُهُ".

يعني في الجنتين الأخريين، {مَقْصُورَاتٌ} في الأخريين، وَ{قَاصِرَاتُ} في الأوليين، وقال: {قَاصِرَاتُ}، يعني بطوعهن، واختيارهن أفضل من المقصورات، وهذا من وجوه تفضيل الجنتين  الأوليين على الأخريين في سورة الرحمن.

 " وَ{قَاصِرَاتُ} مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى كَذَا إِذَا اقْتَنَعَ بِهِ وَعَدَلَ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ
 

مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْأتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا
 

وَيُرْوَى: فَوْقَ الْخَدِّ. وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ. وَالْإِتْبُ الْقَمِيصُ، وَالْمُحْوِلُ الصَّغِيرُ مِنَ الذَّرِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَعْنَاهُ لَا يَغَرْنَ. عِينٌ عِظَامُ الْعُيُونِ، الْوَاحِدَةُ عَيْنَاءُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. قال مُجَاهِدٌ: عِينٌ حِسَانُ الْعُيُونِ. قال الْحَسَنُ: الشَّدِيدَاتُ بَيَاضِ الْعَيْنِ، الشَّدِيدَاتُ سَوَادُهَا. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ. يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْيَنْ وَاسِعُ الْعَيْنِ بَيِّنُ الْعَيْنِ، وَالْجَمْعُ عِينٌ. وَأَصْلُهُ فُعْلٌ بِالضَّمِّ، فَكُسِرَتِ الْعَيْنُ؛ لِئَلَّا تَنْقَلِبَ الْوَاوُ يَاءً. وَمِنْهُ قِيلَ لِبَقَرِ الْوَحْشِ عِينٌ، وَالثَّوْرُ أَعْيَنُ، وَالْبَقَرَةُ عَيْنَاءُ. {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} أَيْ مَصُونٌ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: شُبِّهْنَ بِبَيْضِ النَّعَامِ، تُكِنُّهَا النَّعَامَةُ بِالرِّيشِ مِنَ الرِّيحِ وَالْغُبَارِ، فَلَوْنُهَا أَبْيَضُ فِي صُفْرَةٍ وَهُوَ أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ: شُبِّهْنَ بِبَطْنِ الْبَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُقَشَّرَ وَتَمَسَّهُ الْأَيْدِي. وَقَالَ عَطَاءٌ: شُبِّهْنَ بِالسِّحَاءِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا وَلِبَابِ الْبَيْضِ. وَسَحَاةُ كُلِّ شَيْءٍ: قِشْرُهُ، وَالْجَمْعُ سَحًا، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: هُوَ الْقِشْرُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى الْبَيْضَةِ بَيْنَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْضَةِ لِصَفَائِهَا وَبَيَاضِهَا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا
 

تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ"
 

نعم البيضة مصونة ومكنونة في قشرها، وكذلك المرأة في خدرها مصونة.

 "وَتَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا وَصَفَتِ الشَّيْءَ بِالْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ: كَأَنَّهُ بَيْضُ النَّعَامِ الْمُغَطَّى بِالرِّيشِ. وَقِيلَ: الْمَكْنُونُ الْمَصُونُ عَنِ الْكَسْرِ، أَيْ: إِنَّهُنَّ عَذَارَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَيضِ اللُّؤْلُؤُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أَيْ: فِي أَصْدَافِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَهِيَ بَيْضَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَةٍ الْغَ
 

وَّاصِ مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ
  

وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَكْنُونَ، وَالْبَيْضُ جَمْعٌ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ النَّعْتَ إِلَى اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أَيْ يَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَحَادِيثَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْأُنْسِ فِي الْجَنَّةِ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} الْمَعْنَى يَشْرَبُونَ فَيَتَحَادَثُونَ عَلَى الشَّرَابِ كَعَادَةِ الشُّرَّابِ. قَالَ بَعْضُهُمْ:

وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ

{فَيُقْبِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} عَمَّا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّهُ جِيءَ بِهِ مَاضِيًا عَلَى عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِخْبَارِهِ".

يعني يخبر عن المستقبل بالماضي؛ لتحقق الوقوع، لتحقق الوقوع، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}[النحل:1]، يعبر بالماضي لتحقق الوقوع.

 "قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} أَيْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أَيْ صَدِيقٌ مُلَازِمٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَرِينِ قَرِينَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَانَ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ. {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أَيْ بِالْمَبْعَثِ وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَرِينُهُ شَرِيكُهُ. وَقَدْ مَضَى فِي [الْكَهْفِ] ذِكْرُهُمَا وَقِصَّتُهُمَا وَالِاخْتِلَافُ فِي اسْمَيْهِمَا مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} وَفِيهِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَزَّ-: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} إِلَى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ}. وقيل: أراد بالقرين: قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وَقُرِئَ: "أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ" بِتَشْدِيدِ الصَّادِ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ كَيْسَةَ عَنْ سُلَيْمٍ عَنْ حَمْزَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ "أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ"؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّدَقَةِ هَاهُنَا".

الْمُصَّدِّقِينَ أصلاً المتصدقين.

 "وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي قِرَاءَةٍ عَنْ حَمْزَةَ "أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ" بِتَشْدِيدِ الصَّادِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّصْدِيقِ لَا مِنَ التَّصَدُّقِ. وَالِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إِذَا ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا مَجَالَ لِلطَّعْنِ فِيهَا".

ولا شك أن الصدقة من لوازم التصديق، الذي يتصدق ويتقرب بصدقته إلى الله –جل وعلا- من لوازم تصديقه به.

"فَالْمَعْنَى "أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ" بِالْمَالِ طَلَبًا فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ. {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنُ لِإِخْوَانِهِ فِي الْجَنَّةِ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ حَالُ ذَلِكَ الْقَرِينُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَيْسَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بِاسْتِفْهَامٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اطَّلِعُوا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْخَمْرِ، قَامَ عُمَرُ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ بَيَانًا أَشْفَى مِنْ هَذَا فِي الْخَمْرِ. فَنَزَلَتْ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبَّنَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ".

لأن مفاده انتهوا، مفاده انتهوا؛ لأن تحريم الخمر نزل على مراحل، بالأخف، ثم الأشد، إلى أن جاء الجمع منه بالكلية.

 "وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ} بِإِسْكَانِ الطَّاءِ خَفِيفَةً "فَأُطْلِعَ" بِقَطْعِ الْأَلِفِ مُخَفَّفَةٌ عَلَى مَعْنَى هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ، فَأَقْبَلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: "فَأُطْلِعَ فَرَآهُ" فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا مَعْنَاهُ: فَأُطْلَعَ أَنَا، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا وَيَكُونُ اطَّلَعَ وَأُطْلِعَ وَاحِدًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ طَلَعَ وَأَطْلَعَ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ حُكِيَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونِ بِكَسْرِ النُّونِ وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. قال النَّحَّاسُ: وَهُوَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَوْ كَانَ مُضَافًا لَكَانَ هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعِيَّ".

لأن النون تحذف مع الإضافة، والأصل في مطلعوني، أن الكسر وصلها مطلعونني، فحذفت النون للإضافة فصارت مُطلعي، مثل مُصرخي.

" وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ قَدْ حَكَيَا مِثْلَهُ، وَأَنْشَدَا:

هُمُ الْقَائِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ
 

إِذَا مَا خَشَوْا مِنْ مُحْدَثِ الْأَمْرِ مُعْظَمَا
 

وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: وَالْفَاعِلُونَهُ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ:

وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ

وَهَذَا شَاذٌّ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".

نعم؛ لأن الشاذ لا يقاس عليه، سماعي ولا يقاس عليه، ويبقى ما عداه على الأصل على القاعدة.

 "وَلَا يَدْخُلُ فِي الْفَصِيحِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُ أَجْرَى اسْمَ الْفَاعِلِ مَجْرَى الْمُضَارِعِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَجَرَى مُطَّلِعُونَ مَجْرَى يَطْلُعُونَ. ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي وَأَنْشَدَ:

أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ بِهِ أُمْلُودَا
 

مُرَجَّلًا وَيَلْبَسُ الْبُرُودَا
  

أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودَا
  

فَأَجْرَى أَقَائِلُنَّ مَجْرَى أَتَقُولُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوًى يَنْظُرُ أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّارِ وَأَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ كَعْبٌ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: إِنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ".

كوى، يعني فرج النوافذ يطلع منها إلى النار –نسأل الله العافية-، نعم.

" كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أَيْ فِي وَسَطِ النَّارِ وَالْحَسَكُ حَوَالَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَيُقَالُ: تَعِبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي: أَيْ: وَسَطِي. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: قَالَ لِي عِيسَى بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ أَكْتُبُ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ حَتَّى يَنْقَطِعَ سَوَائِي. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ- عَرَّفَهُ إِيَّاهُ لَمَا عَرَفَهُ، لَقَدْ تَغَيَّرَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ دَخَلَتْ عَلَى كَادَ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى كَانَ. وَنَحْوَهُ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ. {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}[الصافات:57]".

اللام، الفارق بين إن المخففة، وبين إن النافية؛ لأن إن النافية يقع بعدها الاستثناء، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ}[النساء:159]، وإن المخففة من الثقيلة يقع بعدها اللام، لام التأكيد.

"{وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في النار، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: {لَتُرْدِينِ} أَيْ: لَتُهْلِكُنِي، وَالرَّدَى الْهَلَاكُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ قِيلَ: {لَتُرْدِينِ} لَتُوقِعُنِي فِي النَّارِ لَكَانَ جَائِزًا {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي}. أَيْ عِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقُهُ".

يعني كان جائزًا من حيث المعنى، وأما من حيث التلاوة، فمبناه على صحة الثبوت.

 "أَيْ عِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقُهُ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْقَرِينِ السُّوءِ. وَمَا بَعْدَ لَوْلَا مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ".

نعم؛ لأن لولا حرف امتناع للوجود، لولا نعمة ربي موجودة.

 "{لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: لَكُنْتُ مَعَكَ فِي النَّارِ مُحْضَرًا".

وأُحضِر؟

نعم.

 "وَأَحْضِرَ لَا يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا إِلَّا فِي الشَّرِّ".

لأنه في سياق الخير يحضر، يحضر نفسه ما يحتاج إلى أن يحضر.

 "قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ}".

لكن قد يستعمل أحضر في الخير، كونه لا يستطيع الحضور بنفسه، فيحضره غيره، ولو كان خيرًا".

" وَقُرِئَ "بِمَائِتِينَ" وَالْهَمْزَةُ فِي "أَفَمَا" لِلِاسْتِفْهَامِ، دَخَلَتْ عَلَى فَاءِ الْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ. {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} يَكُونُ اسْتِثْنَاءً لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا؛ لِأَنَّهُ مَنْعُوتٌ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْمَلَائِكَةِ حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ عَلَى جِهَةِ الْحَدِيثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ، أَيْ: هَذِهِ حَالُنَا وَصِفَتُنَا. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِ لِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ مُشِيرًا إِلَى مَا هُوَ فِيهِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يَكُونُ "هُوَ" مُبْتَدَأ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "هُوَ" فَاصِلًا".

فاصلاً يعني لا محل له ضمير فضل لا محل له من الإعراب، لكن اقترانه باللام، لام التأكيد يدل على أن هو الخبر.

 "{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ لَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَمَا أَعْطَاهُ قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ نَظِيرُ مَا قَالَ لَهُ الْكَافِرُ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَهْلِ الدُّنْيَا، أَيْ: قَدْ سَمِعْتُمْ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْجَزَاءِ، وَ{لِمِثْلِ هَذَا} الْجَزَاءِ {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}. قال النَّحَّاسُ: وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ لِمِثْلِ هَذَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَاءُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ، فَكَيْفَ صَارَ مَا بَعْدَهَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّقْدِيمَ كَمِثْلِ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ حُرُوفِ الْخَفْضِ وَمَا بَعْدَهَا أَنْ تَكُونَ مُتَأَخِّرَةً".

نعم، ويكون متعلقها هو المتقدم.

اللهم صلِّ على محمد.