شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (103)

 

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

 

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: "عن عمر -رضي الله عنه- حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وقد تقدم في أول الكتاب، وزاد هنا بعد قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وسرد باقي الحديث".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما ذُكر هنا في المختصَر قطعة من حديث عمر الحديث المشهور: «إنما الأعمال بالنيات» وتقدم شرحه مستوفًى في أول الكتاب، حيث ساقه المؤلف هناك، وساق المختصِر هنا ما يحتاج إليه، وهو الجملة التي حُذفَت في الموضع الأول، وتقدم شرحه مفصلاً، وهذه الجملة التي ذكرت هنا «فمن كانت هجرت إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» هي محذوفة في جميع الأصول والروايات في صحيح البخاري من الموضع الأول، وهي ثابتة من رواية الحُميدي شيخ البخاري، فالمتجه عند الشراح أن الحذف والإسقاط إنما حصل من الإمام البخاري نفسه، وتقدم بيان ذلك، وذكرنا هناك أن سبب الحذف مجانبة التزكية التي لا يناسب ذكرها في هذا المقام، وذلك أن الجملة المحذوفة تُشعِر بالقربة المحضة التي هي «فمن كانت هجرت إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» والجملة المبقاة هناك وهي قوله: «فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يُحصِّل القربة أو لا، وأشرنا هناك إلى أن مذهب الإمام البخاري -رحمه الله- جواز اختصار الحديث، وهو قول كثير من أهل العلم شريطة ألا يتعلق المذكور بالمحذوف، وأن يكون الراوي في منزلة بحيث لا يتهم بالتقصير، وعدم الضبط إذا حذف، أو الزيادة في الخبر إذا رواه تامًّا، حذف الجملة التي تدل على التزكية في الموضع الأول، وذكرها هنا فألا يحتمل في هذا الموضع التزكية أيضًا التي من أجلها حذفت هذه الجملة في الموضع الأول؟ ما جاء إن الأعمال بالنية، ثم ذكر هذا الجملة التي حذفها هناك من أجل التزكية ألا يحتمل التزكية هنا؟

المقدم: بلى، هو حذف جملة: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله»؟

نعم، هناك وذكرها هنا، وقالوا: إنها حذفت في الموضع الأول لأنها تشير إلى شيء من التزكية.

المقدم: تزكية؟

تزكية النفس.

المقدم: بالنسبة للإمام البخاري.

نعم، بالنسبة للإمام البخاري؛ لماذا ذكرها هنا ألا تحتمل التزكية؟

الأخ الحاضر:......

أولاً: لماذا ذكر البخاري الحديث في أول الصحيح؟

المقدم: ذكره في أول الصحيح للدلالة على أن الأعمال إنما تقبل بالنية، مجاهدة النية في العمل الصالح أمر مهم.

نعم طيِّب، وعمله تأليفه؟

الأخ الحاضر:......

يمكن، مثل الخطبة بالنسبة للكتاب، فكأنه قال: أنا وضعت هذا الكتاب وتحريت فيه والأعمال بالنيات، ولم يرد أن يشير إلى أنه مخلص في عمله، ويزكي نفسه بذلك، فحذف الجملة التي تدل على التزكية، وأبقى الجملة المحتملة، بينما هنا الموضوع لا يتعلق به نفسه، في الموضع الأول الموضوع يتعلق بالبخاري المؤلف نفسه فيحتمل التزكية، هنا لا يتعلق به؛ ولذا قلت: فإن قيل: ذكره هنا، ذكر الجملة المحذوفة، ألا يحتمل التزكية التي أشير إليها هناك؟ قلت: لا، لأن السياق هناك من أجل بيان الباعث على التصنيف، وفيها يدخل قصد التزكية، وفي هذا الموضع سيق لبيان أحكام عامة للناس كلهم تؤخذ من الحديث لا تخص المؤلف أظنه ظاهرًا هذا.

المقدم: جدًّا، نعم.

والحديث في هذا الموضع ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، وقال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [سورة الإسراء 84] على نيته، نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة، وقال: «ولكن جهاد ونية» يقول ابن حجر: باب بيان ما ورد دالاًّ على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة، والمراد بالحسبة طلب الثواب، ولم يأتِ بحديث لفظه الأعمال بالنية والحسبة، وإنما استدل بحديث عمر على أن الأعمال بالنية، وبحديث أبي مسعود على أن الأعمال بالحسبة.

وقوله: «ولكل امرئ ما نوى» هو بعض حديث الأعمال بالنية، وإنما دخل قوله: والحسبة بين الجملتين للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا تفيده الأولى، الآن قال في الترجمة: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، النية دليلها حديث عمر، والحسبة دليلها الحديث الثاني حديث ابن مسعود، يحتسبها، وتعقبه العيني بقوله: لم يقل أحد من أهل اللغة أن الحسبة طلب الثواب، بل معناها ما ذكرناه من أصحاب اللغات وليس في اللفظ أيضًا ما يشعر بمعنى الطلب، وإنما الحسبة الثواب، يعني ليست طلب الثواب، الحافظ ماذا يقول؟ المراد بالحسبة طلب الثواب، يقول: لم يقل أحد من أهل اللغة أن الحسبة طلب الثواب، بل معناها الثواب نفسه على ما فسره الجوهري، والثواب هو الأجر على أنه لا يفسر به في كل موضع.

باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، هنا قال: الحسبة طلب الثواب، ابتغاء الثواب، رجاء الثواب، بمعنى واحد، والعيني يقول: لم يقل أحد من أهل اللغة أن الحسبة طلب الثواب، وإنما الحسبة هي الثواب، نأتي إلى الترجمة نطبِّق عليها كلام العيني، إن الأعمال بالنية والثواب تأتي؟ أو طلب الثواب ورجاء الثواب؟

المقدم: طلب الثواب أولى.

نعم، يعني طلب الثواب بالنية، الاحتساب، وقلت: الحسبة كما في النهاية لابن الأثير اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب طلب وجه الله وثوابه، إذًا الحسبة طلب الثواب، فالاحتساب في الأعمال الصالحة عند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبًا للثواب المرجو منها، كلها تدور حول الطلب، وفي تهذيب اللغة للأزهري: الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله -عز وجل-، تقول: فعلته حسبة وأحتسب فيه احتسابًا، العيني في موضع سبق في معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا» أي إرادة وجه الله تعالى لا رياء ولا نحوه، هذا كلام العيني، إرادة وجه الله، ما معنى إرادة وجه الله؟ طلب الثواب، ولا شك أن أصل الاحتساب هنا..، نعود إلى كلام العيني، العيني ينتقد ابن حجر في تفسيره الحسبة بالطلب، مع أنه فسر الحسبة في قوله: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا» أي إرادة وجه الله تعالى لا لرياء ولا نحوه، الإرادة والطلب واحد، الإرادة والقصد والطلب واحد، وفسر العيني قوله: «يحتسبها» أي يريد بها وجه الله، قلت: والإرادة والاحتساب والابتغاء متقاربة المعاني، ولا شك أن أصل الاحتساب هو الإخلاص لله -عز وجل- دون ما سواه، كما قال -جل وعلا-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف 110] فقد يقول قائل وقد قيل: إن النظر إلى الثواب، وما أعد للمطيع من جنات، والنظر إلى العقاب وما أعد للعصاة من النار نظر إلى ما سوى الله -عز وجل-، قد يقول قائل، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف 110] فلا ينظر إلى غير الله -عز وجل- لا إلى ثواب ولا إلى عقاب، فيعبد الله جل وعلا لذاته لا خوفًا منه ولا رجاء لثوابه، هذا قد قيل، لكنه ليس بشيء؛ لماذا تُذكَر الجنة ويعظم من شأنها وتذكر النار وأهوالها؟ لماذا؟

المقدم: لأجل العمل.

من أجل أنها تبعث على العمل، فالنظر إلى ثواب الله وعقابه نظر إليه في الحقيقة، على سبيل المثال، ولله المثل الأعلى، لو شخص جلاد، بيده عصا، الناس يخافون من العصا أو من صاحب العصا؟ يخافون من صاحب العصا، الجلد يكون بالعصا، والتعذيب يكون بالنار، لكن النظر إلى من يعذِّب بهذه الآلة، فهو نظر إليه في الحقيقة.

والكلام في النية والإخلاص ودخول جميع أبواب الدين في هذا الحديث تقدم ذكره في شرح الحديث أول الكتاب مفصَّلاً، وقول البخاري هنا: "فدخل فيه الإيمان" وذلك لأنه عمل كما تقدم، فيدخل في عموم قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ومثله الوضوء واشتراط النية في الوضوء قول جمهور العلماء خلافًا للأوزاعي وأبي حنيفة، واشتراط النية للصلاة إجماع بين العلماء، وأما الزكاة فإنما تسقط بأخذ السلطان ولو لم ينوِ صاحب المال؛ لأن السلطان قائم مقامه، والنية فيها شرط لثبوت الثواب لا للإجزاء وعدم المطالبة، الآن قلنا: إن النية شرط في الزكاة، البخاري قال ذلك، ماذا قال البخاري؟ فدخل فيه الإيمان، باعتباره عمل، والوضوء لعموم حديث: «إنما الأعمال بالنيات» خلافًا لمَن؟ للأوزاعي وأبي حنيفة، تدخل فيه الصلاة وهذا إجماع، الزكاة إذا امتنع من دفعها، وأخذت منه قهرًا هل يكون نوى ذلك وقصد بذلك وجه الله، أو نقول: ليست بصحيحة لتخلف شرطها؟ نقول: ليست بصحيحة لتخلف شرطها وهو النية؟! لا، هي صحيحة من وجه باعتبار الإجزاء وإسقاط طلب، هي مجزئة ومسقطة للطلب، بمعنى أنه لا يطالب بها مرة أخرى، لكنها من حيث ترتب الثواب على هذا العمل لا ثواب له إلا بالنية، ولذا يقول: دخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة، وأما الحج فالنية فيه، نية الدخول في النسك، ركن من أركان الحج، لكن تفاصيل هذا الركن يختلف عنه أو في هذا الركن عن غيره من الأركان، الصلاة مثلاً إذا نوى نفلا ثم قلبها إلى فرض تنفع أو ما تنفع؟ ما تنفع، عندهم مَن إذا كبر ناويًا النفل وهو منفرد إن قلب منفردًا نفله فرضًا في وقته المتسع جاز، أنواع الحج إذا أحرم عن فلان من الناس وهو لم يحج، ينصرف إلى فرض نفسه، ومعروف هذا لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة.

المقدم: «حج عن نفسك».

نعم «ثم حج عن شبرمة».

وأما الصوم فأشار به إلى خلاف من زعم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية؛ لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زُفَر، لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه، كيف لا يحتاج إلى نية؟ هل معنى هذا أن من أمسك عن الطعام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يحصل له الأجر ولو لم ينوِ حتى عن زُفَر؟ هل المعنى هذا مقصود؟ ما تيسر له أكل ولا أكل، يكون صائم حتى عند زُفَر؟ أو أن الواضح من كلام زُفَر أن رمضان عبادة واحدة لا يحتاج إلى تجدد نية، نعم تنوي أن تصوم رمضان، تقصد أن تصوم ما افترضه الله عليك في هذا الشهر، ولأنه لا يختلط بغيره لا يحتاج إلى نية، يعني الوقت ضيق لا يتسع لغيره، فلا يحتاج إلى نية كل يوم، أما كون الصيام لا يحتاج إلى نية بمعنى أنه لو أمسك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هل يقول زُفَر بصحة الصيام؟ لا يقول بذلك.

وتقديم الحج على الصوم بناء على اختياره في رواية حديث ابن عمر المتفق عليها، وعليها بنى ترتيب كتابه، فقدم المناسك على الصيام كما هو معروف، والأحكام، الصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، يقول الحافظ ابن حجر: أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات، فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وتعقبه العيني بأن رد الودايع فيما تقع فيه المحاكمة مع أن النية ليست شرطًا فيه إجماعًا، وكذلك أداء الدَّين، هم يفرقون بين مسألة التروك والأفعال التي هي الأعمال، التروك لا تحتاج إلى نية؛ ولذا الوضوء يحتاج إلى نية، إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية، فأداء الدَّين هل هو من باب التروك ومثله أداء الودائع أو هو من باب الأفعال؟ بمعنى أنه شيء يُتخلص منه، مثل إزالة النجاسة يتخلص منها، فلا تحتاج إلى نية، أو أنها عمل شرعي لا بد فيه من نية؟

الحافظ يقول: إن المعاملات المراد بالأحكام التي تدخل في حديث الأعمال بالنيات المعاملات التي ُيحتاج فيها إلى المحكمات، تحتاج إلى نية فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، العيني يقول: تعقَّب ابن حجر بأن رد الودائع فيما تقع فيه المحاكمة مع أن النية ليست شرطًا فيه إجماع، وكذلك أداء الدَّين، يقول: فإن قلت: مؤدي الدين أو راد الودائع يقصد براءة الذمة وذلك عبادة، إذًا عبادة يحتاج إلى نية، ونعود إلى الأصل الأصيل، وأن مثل هذه الأمور تصح دون نية، بمعنى أنها تُسقط الطلب لا يطالب بها مرة ثانية، كما قلنا في الزكاة، كما قلنا في الزكاة إذا أُخذت من الممتنع، لكن ترتب الثواب عليها يحتاج إلى نية كسائر العادات، يقول العيني: فإن قلت: مؤدي الدَّين أو راد الودائع يقصد براءة الذمة وذلك عبادة، قلت: نحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، فمؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة برئت ذمته، وحصل به الثواب، وليس لنا فيه نزاع، وإذا أدى من غير نية براءة الذمة هل يقول أحد: إن ذمته لا تبرأ؟

الظاهر أنهم يتفقون، ولا بينهم خلاف في هذا، وأنهم يُجمِعون على أن من دفع الدَّين لصاحبه، المبلغ المحدد لزيد من الناس في ذمة عمرو دفعه عمرو إلى زيد أن ذمته تبرأ ولو لم يقصد، ولو أخذ بواسطة الحاكم قهرًا عنه، ذمته تبرأ، لكن هل يثاب على حسن القضاء إذا لم يقصد حسن القضاء؟ بينما إذا قصد حسن القضاء هل يختلف ابن حجر والعيني أنه يثاب على ذلك؟ هل يختلفون في أن الذمة تبرأ إذا أخذت قهرًا، إذا أخذ الدين قهرًا من المدين وأعطي الدائن؟ ما يختلفون، وهل يختلفون في أنه يثاب إذا نوى وقصد حسن القضاء ورد جميل من أحسن إليه؟

المقدم: لا.

يعني هذا مجرد يعني نقاش في غير محل الخلاف.

قد ذكر ابن المنيِّر ضابطًا لما تشترط فيه النية مما لا يشترط، وهو ضابط مهم، ابن المنير ذكر ضابطًا لما تشترط فيه النية مما لا يشترط، فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترَطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة؛ لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه، إلا لمن قصد بفعله معنًى آخر يترتب عليه الثواب، ظاهر أو ليس بظاهر كلامه؟ يقول: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنًى آخر يترتب عليه الثواب، الزراعة الصناعة، الناس بحاجته، وفائدته عاجلة، فمثل هذا يصح بدون نية، لكن إذا نوى بذلك النفع والانتفاع، النفع العام والانتفاع، لا شك أنه يؤجر عليه، إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب، قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة، من جهة مناط التفرقة، يعني هل هذا مطلب شرعي؟ هل هذا مطلب شرعي أو مطلب عادي؟ يختلفون في بعض الأمور، يعني هل هذا مما تطلبه الشرعية فتشترط له النية، أو مما يطلبه العادة والطبيعة فلا تشترط له النية؟ فإذا اختلفوا في شيء فإن مرده إلى ذلك.

قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال فيه باشتراط النية؛ لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويًّا، ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال فيه اشتراط النية فيه؛ لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويًّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استَحالتْ حقيقته فالنية فيه شرط عقلي؛ ولذلك لا تشترط النية للنية فرارًا من التسلسل، وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن:

أحدها: التقرب إلى الله -جل وعلا- فرارًا من الرياء.

الثاني: التمييز بين الألفاظ المتحملة لغير المقصود.

أما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن:

أحدها: التقرب إلى الله فرارًا من الرياء، ويقصد بقوله ذلك وجه الله -عز وجل- لا مُراءةً لفلان، ولا ملاحظة لعلان.

والثاني: التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود؛ ولذا يقولون: الكنايات مثلاً تحتاج إلى نية؛ لماذا؟ لأنها محتملة، والنية تحدد.

والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان، قصد الإنشاء فمن قال لزوجته: طالق مثلاً، وهو يريد أن يقول لها: طاهر، هذه سبق لسان، فلا بد من قصد الإنشاء ليقع الطلاق، هذا فيما بينه وبين ربه، أما إذا وقع هناك مقاضاة، فإنما يؤخذ بما ظهر منه.

تعقبه العيني فقال: فيه نظر من وجوه:

الأول: في قوله كل عمل لا يظهر له فائدة فإنه منقوض بتلاوة القرآن والأذان وسائر الأذكار فإنها أعمال لا تظهر لها فائدة عاجلاً، بل المقصود منها طلب الثواب مع أن النية ليست بشرط فيها بلا خلاف، عجَب!

الأول في قوله: كل عمل لا يظهر له فائدة فإنه منقوض بتلاوة القرآن والأذان وسائر الأذكار فإنها أعمال لا تظهر لها فائدة عاجلاً، بل المقصود منها طلب الثواب، مع أن النية ليست بشرط فيها بلا خلاف.

ألا يدخلها قصد رياء؟

المقدم: بلى.

ألا يدخلها شوب دنيا؟ تحتاج إلى نية تميز، أما قوله: بلا خلاف فكلام يحتاج إلى إثبات.

الثاني في قوله: وكل عمل ظهرت... إلى آخره، فإنه منقوض أيضًا بالبيع والرهن والطلاق والنكاح بسبق اللسان من غير قصد، فإنه منقوض لم يصح شيء منها على أصلهم لعدم النية.

في قوله: وكل عمل ظهرت... إلى آخره، الذي هو النوع الثاني عنده، عند ابن المنيِّر، الشق الثاني: كل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة فلا تشترط فيه النية، إذا قال: بعت واشتريت، وتزوجت وطلقت، فإنه منقوض أيضًا بالبيع والرهن والطلاق والنكاح بسبق اللسان من غير قصد، فإنه منقوض لم يصح شيء منه على أصلهم لعدم النية.

يعني هو حمل كلام ابن المنيِّر على أنه لا يقع شيء من ذلك أصلاً إذا لم يقصد، وهو كلام العيني منصب على أنه يؤاخذ بما نطق به، من غير إكراه، وعندنا توجيه كلام ابن المنير وكلام العيني، كلام ابن المنير محمول على فيما يُدَيَّن فيه بينه وبين ربه، فلا يؤاخذ به، ولا يقع طلاقه إذا لم يقصد، ولا يقع بيعه إذا لم يقصد، لا يقع نكاحه إذا لم يقصد، هذا محمل ما لم يحصل هنا مقاضاة ومشاحة، فإذا حصل المقاضاة والمشاحة فإنه ينطبق عليه كلام العيني.

المقدم: شيخنا نستأذنك في أن يكون الحديث في تقرير كلام العيني وابن المنير -بإذن الله- في الحلقة القادمة لانتهاء وقت هذه الحلقة.

مستمعي الكرام، انتهت هذه الحلقة، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.