التعليق على تفسير سورة البقرة من تفسير الجلالين (11)

 

طالب: ....................

 

وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عُقِّب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها طبع على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وترك إياهم في الظلمات.

هم وُصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}  لما ذكر ذلك عنهم عُقّب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها طبع على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وترك إياهم في الظلمات.

وسابعها: يجوز للمستوقد أن يكون هاهنا مستوقد نارٍ أن يكون المستوقد وها هنا مستوقدَ نارٍ لا يرضاها الله تعالى. يعني لتتم المطابقة بين الممثل والممثل به يجوز أن يكون المستوقد ها هنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ألا ترى إلى قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [سورة المائدة:64] قد يقول قائل: إن إظهار المنافق لكلمة التوحيد هذا ليس منقبة لهم مع إصرارهم على نعم التكذيب بها والكفر بها وإيقاد النار استفاد منه فهي ممدوحة هذه النار، يقال حتى هذه النار التي أوقدها المستوقد لا يرضاها الله سبحانه وتعالى نتصور أن هذه النار غير مرضية عند الله سبحانه وتعالى نفترض انها من حطب مغصوب مثلاً، أو المادة التي أشعلت منها النار نجسة مثلاً كونها مغصوبة أظهر، فهذه النار التي أوقدت من الأساس وإن استفاد منها في الدنيا فإن حقيقتها وبال عليه، فهذه النار من هذا الحطب المغصوب وهذه المادة المشعلة المغصوبة لا يرضاها الله سبحانه وتعالى كما أنه لا يرضى كلمة التوحيد التي يبطن خلافها، يعني الذي يطوف على قبر مثلاً مالذي يستفيد من قوله لا إله إلا الله؟ هل نقول الجهة منفكة هذه لها أجرها وذاك عليه وزره؟ نعم؟ لا، الجهة غير منفكة، فكون المنافق يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو في حقيقة أمره مكذب لهذه الكلمة نظير النار التي لا يرضاها الله سبحانه وتعالى فهذه الكلمة لا يرضاها الله سبحانه وتعالى وإن ترتبت عليها أثارها في الدنيا كما أن النار وإن كان حطبها مغصوب ومادة الإشعال محرمة ترتبت عليها أثارها أبصر وأمن وستدفأ وحينئذ يكون المثل مطابق.

وثامنها قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج الرسول –صلى الله عليه وسلم- واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد صلى الله عليه وسلم كإيقاد النار وكفرهم به بعد ظهورهم به كزوال ذلك النور.

لكن الكلام كله في سياق المنافقين "{صُمٌّ} يقدر هم قبلها هم صم عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول {بُكْمٌّ} خرسٌ عن الخير فلا يقولونه {عُمْيٌ} عن طريق الهدى فلا يرونه فهم لا يرجعون عن الضلالة" يقول {صُمٌ} أي هم صم يعني كما قدره المؤلف فهو خبر ابتداء مضمر في قراءة ابن مسعود وحفصة {صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا} بالنصب وحينئذٍ يكون النصب على ماذا؟ على الذم {صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا} منصوب على الذم كما قال تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [سورة الأحزاب:61] كما قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد:4] كل هذا منصوب على الذدم كما أن النصب يكون للمدح، والصمم في كلام العرب الانسداد يقال قناة صماء إذا لم تكن مجوفة صممت القارورة إذا سددتها فالأصم من اسدت خروق مسامعه، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم فإذا فهم فهو الأخرس وقيل الأخرس والأبكم واحد، والعمى ذهاب البصر فقد عمي فهو أعمى وقومٌ عميٌ وأعماه الله تعالى وتعامى الرجل أرى ذلك من نفسه يعني أظهر أنه أعمى وهو في الحقيقة ليس بأعمى، قد يدعي شخص أنه أعمى ليستفيد نعم نصف تذكرة ولهم مخصصات ولهم إكراميات وهذا ما فيه شك أن هذا كرم ممن يعاملهم هذه المعاملة لكن بعضهم يتعامى وهو ليس في الحقيقة أعمى ولذا يقول وتعامى الرجل أرى ذلك من نفسه، كما يقال تماوت يعني إذا مشى مشية المتخشع المتضرع وهي في الحقيقة جبار، وعمي عليه الأمر إذا التبس ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذْ} [سورة القصص:66] وليس الغرض مما ذكر نفي الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها من جهة ما، يعني إذا دعوت المنافق يا فلان يلتفت وإلا ما يلتفت؟ إذا ليس بأصم نعم، إذا قلت له ما اسمك؟ قال فلان بن فلان؟ هو أبكم؟ لا، إذا أشرت له إشارة أو طلبت منه كم؟ قال ما اشوف لا يبصر ويسمع ويتكلم لكن هذه الأدوات وهذه الألات وهذه النعم التي ركبها الله سبحانه وتعالى في الإنسان ليستفيد منها فإذا عطلها ولم يستفد منها ولم يستعملها فيما خلقت له صار وجودها مثل عدمها، بل عدمها خيرٌ من وجودها لأنه يثاب على عدمها لكن إذا لم يستعملها فيما يرضي الله وفيما خلقت من أجله فإنه في حكم المعدوم ولذا نفاه الله سبحانه وتعالى نفى عنهم السمع فقال: {صُمٌّ} نفى عنهم النطق فقال: {بُكْمٌّ} ونفى عنهم الإبصار: {عُمْيٌ} والمراد بذلك نفي ما ينفع، فهم صم عن سماع الحق عميٌ عن إبصاره والنظر إليه بكم عن النطق به، تقول فلان أصم عن الخنا قال الشاعر:

أصم عما ساءه سميع.

قال سميع، وقال آخر:

وَعَــــوْرَاءُ الْكَــلَامِ صَـــمَـــــمْــــــــــــــتُ عَـــنْهـَـــــا     وَلَـــوْ أَنِّــــــي أَشَــاءُ بِــــهَـــا سَـمِـــيـــــعُ

وقال آخر موصيًا رجل يكثر الدخول على الملوك ماذا قال له:

ادْخُــــلْ إِذَا مَـــا دَخَــــلْـــــتَ أَعْـــــــــــمَــــــى    وَاخْــــــــــرُجْ إِذَا مَـا خَـــرَجـْـــــتَ أَخْـــــــرَس

ادْخُـــــلْ إِذَا مَـــا دَخَـــــلْــــتَ أَعْـــــــــــمَــــــى    ..............................................

هل المعنى أنك تغمض عيونك وتقول دلوني؟ لا كأنك ما رأيت شيء

..........................................    وَاخْــــــــــرُجْ إِذَا مَــا خَــــرَجـْــتَ أَخْـــــــــــــــرَس

يعني لا تبح بشيء من أسرارهم لأنك إذا فتحت عيونك وبديت تناظر وشو هذا هذا خطر عليك منهم وإذا خرجت وأنت مفتوح الأذان تسمع ما يقال فيهم وتنقل ما قالوه لك وما سمعته في مجالسهم فإنك على خطر عظيم ولذا يقول:

ادْخُــــلْ إِذَا مَــــــــا دَخَـــــلْـــــتَ أَعْــــــمَـــــى    وَاخْــــــــــرُجْ إِذَا مَــــا خَـــــرَجـْــــتَ أَخْـــــرَس

قال قتادة: {صُمٌّ} عن سماع الحق {بُكْمٌّ} عن التكلم به {عُمْيٌ} عن الإبصار له {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي إلى الحق لسابق علم الله فيهم.

وذكر ابن جرير رحمه الله تعلى: أن هذا من المؤخَّر الذي حقه التقديم. {صُمٌّ بُكْمٌّ عُمْيٌ} يقول هذا مؤخر في الحقيقة وحقه التقديم، ماذا يكون سياق الكلام يقول معنى الكلام "{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} {صُمٌّ بُكْمٌّ عُمْيٌ فهم لا يرجعون} {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرونَ} أو كمثل صيب إلى آخره. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.