شرح اختصار علوم الحديث (02)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المستخرجات التي بدأنا بالكلام عليها عرفنا الاستخراج: أن يعمد حافظ إلى كتاب من كتب الحديث فيخرج أحاديث الكتاب بأسانيده هو من غير طريق صاحب الكتاب، والمستخرجات كثيرة ذكر منها صحيح أبي عوانة، وهو مستخرج عن صحيح مسلم، أبو بكر الإسماعيلي، البرقاني، أبو نعيم الأصبهاني على البخاري وعليهما.
واستخرجوا على الصحيحِ |
| كأبي عوانةٍ ونحوه فاجتنب |
فائدة المستخرجات: الزيادة في قدر الصحيح؛ لأن فيها ألفاظ زائدة على ما في الصحيح فتؤخذ من هذه المستخرجات، لذا قال:
وما تزيد فاحكمن بصحته |
| فهو مع العلو من فائدته |
وليس القول بصحة ما زاده صاحب المستخرج على إطلاقه، بل فيها ما هو غير صحيح من الحسن والضعيف، فهو مع العلو من فوائد المستخرجات العلو؛ لأن الصحيح قد يخرج من طريق النازل فيخرجه المستخرج من طريق أعلى، ومن فوائده -وهو من أهم الفوائد- تصريح المدلسين بالسماع والتحديث، وأخبارهم في الصحيحين بالعنعنة مثلاً، ومن فوائدها: تمييز المهمل من الرواة، قد يقول البخاري: حدثنا محمد فينسب في المستخرج، وهكذا، إلى فوائد أوصلها السخاوي في نكته على الألفية وشرحها إلى عشرين، عشرين فائدة، لكن هذه النكت مفقودة، وكتب أخر التزم أصحابها صحتها كابن خزيمة وابن حبان البستي وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيد ومتون بلا شك.
وخذ زيادة الصحيح إذ تُنصُ |
| صحته أو من مصنف يخصُ |
أيضاً يوجد في السنن في مسند أحمد يصفو من ذلك الأحاديث الصحيحة الشيء الكثير، أيضاً في معجم الطبراني الكبير والأوسط، وأيضاً مسند أبي يعلى والبزار وغيرها من كتب الحديث من المعاجم والمشيخات والفوائد وغيرها يصفو منها حديث صحيح كثير؛ لكن على طالب العلم أن يعتني بالأهم؛ لأننا نرى بعض الطلاب مثلاً يعتني بالفوائد مثلاً، وهو لم يختم الصحيحين بعد، أو ختم الصحيحين لكنه لم يرقَ بعد ذلك إلى السنن مثلاً، بعضهم يهتم بالأجزاء ويترك الكتب المهمة مثل البيهقي، البيهقي يكاد يحيط بأحاديث الأحكام فعلينا أن نبدأ بالأهم فالأهم. بالمهم المهم ابدأ لتدركه، الشيخ الحافظ الحكمي -رحمه الله-:
وبالمهم الهم ابدأ لتدركهُ |
| وقدمّ النص والآراء فاتهمِ |
العمر قصير والعلم طويل، العلم ما ينتهي، فلنبدأ بالأهم، مقدمين في ذلك كلام الله -سبحانه وتعالى-.
يقول: "ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه، بعد النظر في حال رجاله، وسلامته من التعليل المفسد".
يعني ينظر في رجاله من حيث العدالة والضبط، وأيضاً من حيث الاتصال والانقطاع، ويجوز له الإقدام على ذلك، يجوز للمتأهل أن يقدم على التصحيح والتضعيف، له أن يقدم على التصحيح والتضعيف، وباب الاجتهاد مفتوح في كل العلوم، مفتوح ولله الحمد، والأجر مرتب على العلم إنما ينال بالاجتهاد؛ لأن المقلد فيما قرره ابن عبد البر وغيره ليس من أهل العلم، فباب الاجتهاد في الاستنباط مفتوح للمتأهل، ونؤكد على هذا، وباب التصحيح والتضعيف مفتوح للمتأهل أيضاً؛ لئلا يتطاول صغار الطلبة، فيصححوا ويضعفوا وينتقدوا كبار الأئمة، وهم ليسوا بشيء، وإن لم ينص على صحته حافظ قبله موافقةً لأبي زكريا النووي، وخلافاً للشيخ أبي عمر الذي يرى انقطاع التصحيح والتضعيف في العصور المتأخرة.
وعنده التصحيح ليس يمكنُ |
| في عصرنا وقال يحيى ممكنُ |
يحيى النووي، على كل حال هذا للمتأهل دون غيره، ولا يعني هذا أن غير المتأهل لا يزاول التصحيح والتضعيف للتمرين، بل عليه أن يخرج وعليه أن يدرس الأسانيد ويحكم ويعرض، ولا يبادر ولا يسرع في النشر للناس، لا، عليه أن يتأنى، يعني مرحلة التمرين شيء لا يمنع منه أحد، بل لا يمكن أن يتخرج طالب الحديث حتى يتمرن على التخريج ودراسة الأسانيد ويعرض على من يثق بعلمه فيسدده، هناك كتاب اسمه (المختار) للضياء المقدسي، وهو كتاب نفيس، وهو كتاب ناقص، طبع منه أكثر من عشرة مجلدات، حق عشرة أو اثني عشر.
يقول: "كان بعض الحفاظ من مشايخنا -وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بلا شك- يرجحه على مستدرك الحاكم" وهو أنظف أسانيد من مستدرك الحاكم، وقد تكلم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على مستدرك الحاكم، فقال: "وواسع الخطو في شرح الصحيح -أو في شرط الصحيح في بعض النسخ- متساهل بالقضاء به فالأولى أن يتوسط في أمره، فما لم يرد فيه تصحيحاً لغيره من الأئمة فإن لم يكن صحيحاً فهو حسن" هذا رأي ابن الصلاح في جميع الكتب ما عدا الصحيحين، الكتب المعتمدة عند أهل العلم، السنن مثلاً يتوسط في أمرها، ما الداعي إلى هذا التوسط؟ الداعي قفل باب الاجتهاد، سد باب الاجتهاد، نقول: ما دام الاجتهاد ما هو ممكن نترك الأحاديث، هذه الأحاديث التي لم ينص على صحتها نتركها، وإلا نتوسط في أمرها ونقول: هي أحاديث حسنة؟ هذا الكلام فيه ما فيه، فكم من حديث لم ينص الأئمة على تصحيحه يبلغ مرتبة الصحيح، وكم من حديث لم ينص الأئمة على ضعفه وهو ضعيف، بل ما سكت عنه أبو داوود مما قرر أهل العلم أنه صالح وحسن، كم من حديث مسكوت عنه وهو صحيح، وكم من حديث مسكوت عنه وهو ضعيف، بل شديد الضعف.
"قلت: في هذا الكتاب أنواع من الحديث كثيرة؛ فيه الصحيح المستدرك" يعني ما هو على شرط الشيخين، "وهو قليل، وفيه صحيح قد خرجه البخاري ومسلم أو أحدهما" وهذه غفلة من الحاكم؛ لأن الحاكم أراد أن يستدرك ما لم يخرج الشيخان، فذكر بعض الأحاديث التي أخرجها الشيخان، لم يعلم به الحاكم، وفيه الحسن والضعيف والموضوع أيضاً، وفيه فضائل علي -رضي الله عنه- من الموضوعات شيء، يقول: أن الموضوعات تقارب المائة –مائة حديث- ولو قيل بأنها أكثر من مائة لما بعد، فالحاكم واسع الخطو في شرح الصحيح أو شرطه، نعم.
يقول: متى يتأهل طالب الحديث للحكم على الأحاديث، هل يكفي أن يكون متخرجاً في قسم السنة وعلومها؟ في أي جامعة من الجامعات؟
لا، قد يتخرج الطالب وهو شبه عامي، نعم الدراسة النظامية تؤهل الطالب لأن يكون باحث يحسن التعامل مع الكتب ويرجع إلى المسائل التي يريدها؛ لكن قد يتخرج وهو لا يحسن شيء، لاعتماده مثلاً على مذكرات أو لضعف حافظته قرأ ليلة الامتحان ووفق ومشى، لكن ليس معنى هذا أنه تأهل، لا، إذا زاول المهنة، إذا صحح وضعف عدد كبير من الأحاديث وعرضها على أهل العلم، أهل الشأن وأجازوه، نعم إذا أجازوه فإنه حينئذٍ يكون متأهل للحكم على الأحاديث، ونصيحتي لكل طالب علم أن لا يجرؤ على التصحيح والتضعيف، ولا يبادر ولا يسارع به ولا بإخراج إنتاجه وعمله، لا مانع أن يصحح ويضعف ويدرس ويخرج، إلى أن يتخرج ويشهد له بالمعرفة ويطمئن إلى عمله، والله المستعان، كم من عمل في السوق وهو سبة في وجه صاحبه.
واحد من الإخوان يذكر أنه رأى تعليق على كتاب الأحاديث لابن عمر حينما طلق امرأته وهي حائض: ((مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر)) يقول: وهذا لما كانت العدة قبل الطلاق، ولا كلام إيش نقول؟ العوام ما يمكن يقولون مثل هذا الكلام، ما يمكن يقول العامي مثل هذا الكلام، العامي يعرف قدر نفسه، والله المستعان، ومثل هذا كثير في السوق، كل هذا سببه الجرأة، طالب العلم يحتاج إلى أن يدرس الأدب كيف يتأدب مع أهل العلم؟ وكيف يعرف قدر نفسه؟ وإن أسعف الوقت ووصلنا آداب طالب الحديث بسطنا الكلام في ذلك، والله المستعان. نعم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأتم التسليم، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمنا الله وإياه والمسلمين أجمعين-:
موطأ مالك "تنبيه": قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله-: "لا أعلم كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك"، إنما قاله قبل البخاري ومسلم، وقد كانت كتب كثيرة مصنفة في ذلك الوقت في السنن، لابن جريح، وابن إسحق -غير السيرة- ولأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي، ومصنف عبد الرزاق بن همام، وغير ذلك، وكان كتاب مالك، وهو الموطأ، أجلها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضها أكبر حجماً منه وأكثر أحاديث، وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال: "إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها".
وقد اعتنى الناس بكتابه الموطأ، وعلقوا عليه كتباً جمة، ومن أجود ذلك كتابا: (التمهيد – والاستذكار) للشيخ أبي عمر بن عبد البر النَّمَري القرطبي -رحمه الله-، هذا مع ما فيه من الأحاديث المتصلة الصحيحة والمرسلة والمنقطعة والبلاغات اللاتي لا تكاد توجد مسندة إلا على ندور.
لما تقدم الكلام على الصحيحين وأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله ذكر المؤلف الحافظ -رحمه الله- قول الشافعي وأنه لا يعلم كتاباً في العلم أكثر صواباً من موطأ مالك، قد يقول قائل: كيف تقولون: أن الصحيحين أصح الكتب والشافعي يقول كذا؟ مقالة الشافعي كانت قبل وجود الكتابين، هناك كتب مصنفة وهناك موطئآت، وهناك سنن، وهناك مصنفات لمن قبل الإمام مالك وعاصر من معاصريه، لكن لم يكتب لها من الشهرة ما كتب لموطأ الإمام مالك، كما أن من شيوخ الإمام مالك من لم يكتب له من الشهرة ما كتب للإمام مالك نجم السنن، فهذا العلم إنما يكتب له البقاء بالإخلاص، وكل ما كان الإخلاص فيه أكثر كان أبقى وأنفع؛ لأن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، فكم استفاد من موطأ الإمام مالك من شخص من المالكية وغيرهم، وللإمام مالك مثل أجورهم، وهكذا بقية المصنفين.
كتاب الإمام مالك هو أجلّ هذه الكتب المتقدمة وأعظمها نفعاً بلا شك، فيه الأحاديث الصحيحة المسندة، وإن كان الكتاب ليس بالكبير، فيه البلاغات والمنقطعات والمراسيل، ولا يستدرك على الإمام مالك في ذلك؛ لأنه يرى حجية المرسل، وهذه البلاغات وصلها ابن عبد البر -رحمه الله- في التمهيد سوى أربعة أحاديث، كما هو معروف، اعتنى أهل العلم بالموطأ عناية فائقة لإمامة مؤلفه، ولعظم نفعه، ولاختصاره أيضاً يعني شرحه متيسر، فابن عبد البر -رحمه الله- النمَري بفتح الميم نسبة إلى النمر بكسرها، والقاعدة أن ما كسر ثانيه يفتح في النسبة، النمِر نمَري، سلِمة سلَمي، ملِك ملَكي، وهكذا.
كتابا (التمهيد والاستذكار) لابن عبد البر من أنفس ما كتب في شروح الأحاديث، والإمام ابن عبد البر -رحمه الله- مكث ثلاثين سنة في تأليف التمهيد، ولذا جاء على هذا الوضع المتقن المحرر، وهو يعتني في هذا الكتاب بالمعاني، معاني الأحاديث وأسانيدها والروايات، وكتابه الآخر (الاستذكار) وهو أيضاً من أجود ما كتب في فقه السنة، وعناية المؤلف فيه بالفقه، وأقوال فقهاء الأمصار، هناك شروح أخرى للموطأ جيدة ونفيسة، (المنتقى) للباجي، (أوجز المسالك) للكندهلوي، كتاب طيب مطبوع متداول، (تنوير الحوالك) كتاب مختصر للسيوطي، شرح الزرقاني شرح متوسط، وهناك شرح لولي الله الدهلوي اسمه (المسوى شرح الموطأ) وله شرح آخر اسمه (المصفى) لكنه بالفارسية، أما (المسوى) هو بالعربية كتاب نافع على اختصاره الشديد.
فالمسألة مفترضة في موطأ الإمام مالك وهو مالكي، ففيه أقوال الإمام مالك وفقه الإمام مالك، أضاف إليه قول الحنفية والشافعية، وأهمل المذهب الرابع وهو مذهب الإمام أحمد، فلا شك أنه يستفاد منه في أقوال الشافعية والحنفية، إضافةً إلى قول مالك، وأما مذهب الإمام أحمد فيعلق على الكتاب من كتب الحنابلة، وهي موجودة ومتداولة، وفيه لفتات وتنبيهات لطيفة.
(إطلاق اسم الصحيح على الترمذي والنسائي)
وكان الحاكم أبو عبد الله والخطيب البغدادي يسميان كتاب الترمذي: الجامع الصحيح، وهذا تساهل منهما فإن فيه أحاديث كثيرة منكرة، وقول الحافظ أبي علي بن السكن، وكذا الخطيب البغدادي في كتاب السنن للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر، وأن له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلم غير مسلَّم، فإن فيه رجالاً مجهولين: إما عيناً أو حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، كما نبهنا عليه في (الأحكام الكبير).
السنن الأربعة لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة تأتي في المرتبة الثانية بعد الصحيحين، ويأتي بعد ذلك المسانيد، وكونها في المرتبة الثانية لاشتمالها على الصحيح وهو كثير، والحسن وهو أكثر، وفيها الضعيف، وإن كان من أهل العلم من أطلق عليها الصحاح، كالحافظ السلفي وغيره، الحاكم والخطيب يسميان كتاب الترمذي: الجامع الصحيح، وسمي كتاب النسائي صحيح النسائي.
ومن عليها أطلق الصحيحا |
| فقد أتى تساهلاً صريحا |
كيف يقال: الصحيح وفيه أحاديث ضعيفة كثيرة، هذا تساهل بلا شك، ففيها الأنواع الثلاثة، من الصحيح والحسن والضعيف، يأتي بعد ذلك المسانيد كمسند الإمام أحمد، والطيالسي، وغيرها، وهي في الرتبة دون السنن، ولذا يقول الحافظ العراقي:
ودونها في رتبةٍ ما جعل |
| على المسانيد فيدعى الجفلا |
والسبب أن المصنف في السنن يترجم بأحكام، جواز كذا، تحريم كذا، ثم يذكر تحت الترجمة أقوى ما يجد من الأحاديث، أما صاحب المسند فإنه يترجم بأسماء الصحابة فيذكر من أحاديثهم ما وقع له كيفما اتفق، ولذا صارت رتبتها دون السنن، ولذا يقول:
ودونها في رتبةٍ ما جعل |
| على المسانيد فيدعى الجفلا |
والكلام في مسند الإمام أحمد، وكلام شيخ الإسلام عليه كثير، وأنه أجود من شرط أبي داود، أو هو المساوي لشرط أبي داوود.
(مسند الإمام أحمد)
وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن مسند الإمام أحمد: إنه صحيح: فقول ضعيف، فإن فيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة، كأحاديث فضائل مرو، وشهداء وعسقلان، والبِرث الأحمر عند حمص، وغير ذلك، كما قد نبه عليه طائفة من الحفاظ، ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه هذا -مع أنه لا يوازيه كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته- أحاديث كثيرة جداً، بل قد قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريباً من مائتين.
مسند الإمام أحمد من أعظم دواوين الإسلام، ومن أكبر كتاب السنة وأجلها، وفيه من الأحاديث ما يقرب من ثلاثين ألف، وإن قيل كما نبهنا أمس أنه فيه أربعين ألف، هذا المسند إطلاق الصحيح عليه لا شك أنه قول ضعيف، فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وفي هذا لا تتجاوز النسبة فيه النسبة التي في السنن، ففيه أحاديث ضعيفة بل فيه موضوعة، يقول: كحديث فضائل مرو، وعسقلان، والبرث الأحمر عند حمص، الأرض اللينة السهلة هذا البرث، وغير ذلك وقد نبه عليه طائفة من الحفاظ.
الحافظ العراقي صنف في موضوعات المسند، وذكر فيه تسعة أحاديث، والحافظ ابن حجر أيضاً ذكر هذه الأحاديث وذيل عليها، والسيوطي كذلك، والمدراسي أيضاً له زيادات، قد تصل الأحاديث إلى أربعين حديثاً كلها موضوعة، ودافع الحافظ ابن حجر عن المسند دفاعاً طيباً من مثله، وهو حافظ من حفاظ السنة، وذكر هذه الأحاديث وأجاب عنها واحداً واحداً، في كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) وذكر أن دفاعه عن المسند إنما هو دفاع عن السنة، لا لشخص الإمام أحمد؛ لأن الدفاع عن مثل هذا الكتاب الكبير قربة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وهو دفاع عن السنة، فما بالكم بالدفاع عن الصحيحين الذين هما أصح الكتب المصنفة، إذا تطاول عليهم أحد فما دونهما من باب أولى، وقد امتدت بعض الأيدي إلى الصحيحين بالتصحيح والتضعيف، والبخاري ومسلم ليسا بمعصومين، وجد عندهم بعض الأحاديث التي تكلم عليها بعض الحفاظ وهي نادرة، يسيرة، بالنسبة لما اشتمل عليه الصحيحان من الأحاديث الصحيحة، والغالب أن الصواب مع الشيخين، مما يدرك من مظانه.
المقصود أن الدفاع عن المسند للحافظ بن حجر كتاب نفيس، ينبغي الإطلاع عليه، اسمه (القول المسدد في الذب عن المسند) له ذيل للسيوطي، وله ذيل آخر لصبغة الله المدراسي، ذكروا فيه الأحاديث المنتقدة في المسند، وأجابوا عن بعضها حسب الإمكان.
يقول: "ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه هذا مع أنه لا يوازيه مسند –نعم اللهم إلا أن كان مسند بقي بن مخلد- في كثرته وحسن سياقاته" نعم، الإمام أحمد ممن يعتني بالألفاظ سواء كانت في المتون والأسانيد، وممن يفرق بين صيغ الأداء، فهو نظير الإمام مسلم في هذا، فيه أحاديث كثيرة جداً، أو فاته أحاديث كثيرة جداً، "بل قد قيل: أنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريباً من مائتين" هذا الكلام ليس بصحيح، فاته من الصحابة نزر يسير، قليل.
(الكتب الخمسة وغيرها)
وهكذا قول الحافظ أبي طاهر السِّلَفي في الأصول الخمسة، يعني البخاري ومسلماً وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب، تساهل منه، وقد أنكره ابن الصلاح وغيره، قال ابن الصلاح: وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب المسانيد، كمسند عبد بن حُميد، والدارمي، وأحمد بن حنبل، وأبي يعلى، والبزار، وأبي داود الطيالسي، والحسن بن سفيان، وإسحاق بن راهويه، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم، فإنهم يذكرون عن كل صحابي ما يقع لهم من حديثه.
نعم هي مع ذلك أعلى رتبة، يعني كتب الخمسة في السنن، الكتب الخمسة يعني الصحيحين مع السنن، والخلاف في السادس عند أهل العلم معروف والأكثر على أنه ابن ماجة لكثرة زوائده، وأما ابن الأثير فجعل الثلاثة الموطأ، ومنهم من جعل الدارمي بدل الموطأ، "وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب المسانيد كمسند عبد بن حميد والدارمي" الدارمي سنن مرتبة على الأبواب وليس على المسانيد، نعم له مسند، لكن هذا المسند مفقود من قبل ابن الصلاح، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله-:
ودونها في رتبةٍ ما جعل |
| على المسانيد فيدعى الجفلا |
انتقد عليه، عده للدارمي مع المسانيد لأنه سنن.
(التعليقات التي في الصحيحين)
وتكلم الشيخ أبو عمرو على التعليقات الواقعة في صحيح البخاري، وفي مسلم أيضاً، لكنها قليلة، قيل: إنها أربعة عشر موضعاً، وحاصل الأمر: أن ما علقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علقه عنه، ثم النظر فيما بعد ذلك، وما كان منها بصيغة التمريض فلا يستفاد منها صحة ولا تنافيها أيضاً؛ لأنه وقع من ذلك كذلك وهو صحيح، وربما رواه مسلم، وما كان من التعليقات صحيحاً فليس من نمط الصحيح المسند فيه؛ لأنه قد وسم كتابه بـ(الجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه).
فأما إذا قال البخاري: "قال لنا" أو "قال لي فلان كذا"، أو "زادني" ونحو ذلك، فهو متصل عند الأكثر، وحكي ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه تعليق أيضاً، يذكره للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة، وقد رده ابن الصلاح بأن الحافظ أبا جعفر بن حمدان قال: إذا قال البخاري: "وقال لي فلان" فهو مما سمعه عَرْضاً ومناولة، وأنكر ابن الصلاح على ابن حزم رَدَّه حديث الملاهي حيث قال فيه البخاري: "وقال هشام بن عمار"، وقال: أخطأ ابن حزم من وجوه، فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار.
قلت: وقد رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وخرجه البرقاني في صحيحه، وغير واحد مسنداً متصلاً إلى هشام بن عمار وشيخه أيضاً، كما بيناه في كتاب (الأحكام) ولله الحمد.
التعليقات أو المعلقات وحقيقة المعلق: ما حذف من مباديء إسناده من قبل المصنف راوٍ أو أكثر، إن حذف الشيخ فقط هذا معلق، إن حذف الشيخ وشيخه أيضاً معلق، حذف جميع الإسناد معلق، اختصر على الصحابي فقط معلق، وهكذا، يقولون: إنه مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق، رجح ابن حجر أخذه من تعليق الطلاق، وشيخه البلقيني على خلافه، يعني رجح أنه من تعليق الجدار، إيش معنى تعليق الجدار؟ هل المقصود تعليق الجدار أو التعليق على الجدار؟ مأخوذ من تعليق الجدار؟
طالب: التعليق على الجدار.
لكن هو رجح أن يكون مأخوذ من تعليق الجدار، ابن حجر رجح أن يكون مأخوذ من تعليق الطلاق، وأقول: لا هذا ولا ذاك، بل هو مأخوذ من تعليق المرأة، إيش معنى تعليق الطلاق؟ إن فعلت كذا فأنتِ طالق وهكذا، لكن تعليق المرأة التي قال الله -سبحانه وتعالى- عنها: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[(129) سورة النساء] معلقة ليس ذات زوج، وليست مطلقة، نعم، أنه أخذ من هذا صحيح، مثل الشيء المعلق الذي لا يعتمد على الأرض، بل بينه وبين الأرض فراغ، وهو أيضاً يمكن أخذه من التعليق على الجدار، ليس من تعليق الجدار، {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[(129) سورة النساء] يعني ليست بذات زوج ولا مطلقة، لعل المراد بتعليق الطلاق هذا، كما أنه لعل المراد من قوله: تعليق الجدار التعليق على الجدار.
يقول: "تكلم الشيخ أبو عمرو على التعليقات الواقعة في صحيح البخاري ومسلم أيضاً، لكنها قليلاً، قيل: أنها أربعة عشر موضعاً" معلقات مسلم لا داعي لبحثها، لماذا؟ لأنها كلها موصولة بالصحيح نفسه، في صحيح مسلم كلها موصولة، أولاً: هي قليلة أربعة عشر حديث، وكلها موصولة في الصحيح نفسه إلا واحد، وهذا الواحد موصول في صحيح البخاري، إذاً نحتاج إلى بحث معلقات صحيح مسلم، ما نحتاج إلى بحث؟ الكلام في معلقات صحيح البخاري، وعدتها ألف وثلاثمائة وأربعين أو واحد وأربعين حديث، وكلها موصولة في الصحيح نفسه عدا مائة وستين، أو مائة وتسعة وخمسين، والكلام في هذا القدر بمائة وتسعة وخمسين أو مائة وستين، لأن ما وصل في الصحيح لا داعي للكلام فيه، الكلام فيما لم يوصل من معلقات البخاري، وهي قليلة بالنسبة لحجم الكتاب، وهذه تنقسم إلى قسمين، منها: ما صدر بصيغة الجزم، قال فلان، ذكر فلان، حكى فلان، قالوا: هذه صحيحة إلى من علقت عنه، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر، هذا معلق عن مالك، في واسطة بين البخاري ومالك، لكن إذا جزم نقول: هذا صحيح إلى مالك، يبقى النظر فيمن أبرز، النظر في مالك لا يحتاج، كذلك نافع وابن عمر، لكن لو قال البخاري يروى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، هذه يسمونها صيغة التمريض، وهذه لا يستفاد منها لا صحة ولا ضعف، بل وجد منها ما هو صحيح، ووجد منها ما هو ضعيف ضعف منجبر، وأما الضعيف الضعف الذي لا ينجبر، فإن الإمام البخاري يبينه، مثل قول البخاري: "ويذكر عن أبي هريرة رفعه: ((لا يتطوع الإمام في مكانه)) ولم يصح"، الضعيف الذي ضعفه لا ينجبر يتعقّبه البخاري -رحمه الله تعالى-، يقول: "حاصل الأمر أن ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه ثم النظر فيما بعد ذلك، ومنها ما كان بصيغة التمريض فلا يستفاد منه صحة ولا تنافيها؛ لأنه قد وجد ما صدر بصيغة التمريض وهو صحيح" نعم وجد ما علق بصيغة التمريض وهو مخرج في صحيح مسلم، يقول: "وما كان من التعليقات صحيح فليس من نمط الصحيح المسند فيه -يعني مما لم يوصل في الصحيح- لأنه قد وسم كتابه بالجامع المسند -يعني الذي ذكرت فيه الأسانيد- المختصر في أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه. أما إذا قال البخاري: قال لنا" أو قال، إذا عزا لشيخه بقال، قال محمد بن بشار، وهو شيخه، قال هشام بن عمار، وهو شيخه، روى عنه أحاديث بصيغة التحديث، قال: حدثنا هشام بن عمار في خمسة مواضع، الأكثر على أنه موصول متصل، وإن (قال) مثل (عن) محمولة على الاتصال بالشروط المعروفة عند أهل العلم، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله-:
.................................................. عنعنةٍ كخبر المعازفِ |
| أما الذي عزا لشيخه بقال فكذي |
فغاية هذه الصيغة أنها مثل عن، وإن قال بعضهم أنه معلق؛ لأنه لو كان رواه عن شيخه مباشرة لقال: حدثنا كالجادة، ولذا علّم الحافظ المزي على حديث المعازف بعلامة التعليق (خ ت)، وعلى كل حال لو قلنا: أنه معلق وقد جزم به إلى هشام بن عمار، قال هشام بن عمار فهو صحيح أيضاً، وهو مخرج في سنن أبي داود وغيره من كتب السنة، بأسانيد صحيحة.
طالب:...... يصبح موصول؟
هو موصول بلا شك، سواء عند البخاري أو غيره، فعلى القول بأنه معلق هو معلق بصيغة الجزم.
طالب:........
صحيح، على كل حال الحديث صحيح، ولذا قال:
............................................. |
| لا تصغ لابن حزم المخالفِ |
ابن حزم حكم على جميع الأحاديث الواردة في الغنا بأنها موضوعة، وهذا تأييداً لرأيه وقوله في إباحة الغناء، المقصود أن بعضهم قال: إذا قال البخاري: قال لنا، أو قال لي فلان أو زادني في ذلك فهو متصل، وبعضهم يزعم أن البخاري لا يقول ذلك إلا فيما سمعه في حال المذاكرة، لا على جهة التحديث، إذا سمع من شيخه خبراً مذاكرة، لا على سبيل التحديث فإنه يقول: قال لنا، لكن الحافظ ابن حجر وغيره يقولون: لا يوجد ما يدل على هذا، أبو جعفر بن حمدان يرى أن البخاري إذا قال: قال لي فلان فإنما هو مما سمع عرضاً ومناولة، العرض القراءة على الشيخ، وهي من طرق التحمل المعتبرة المجمع عليها، عرضاً ومناولة إيش معنى عرضاً ومناولة؟
طالب: كونه يقرأ الطالب على الشيخ ثم يعطيه الكتاب.
من الذي يعطي الكتاب؟
طالب: الطالب يعطي الشيخ الكتاب.
فيه العرض وفيه المناولة، الشيخ يعطي الطالب الكتاب هذه مناولة، العرض أن يقرأ على الشيخ، الطالب يقرأ على الشيخ، يعرض عليه ما عنده.
طالب: الشيخ يعطي للطالب كتابه ليصوب أيضاً بعد القراءة يصوب كتاب الشيخ؟
لكن هناك نوع اسمه عرض المناولة، يعني الطالب يأتي بالكتاب ويعرضه على الشيخ ويقول -يناوله الشيخ- فيقول: هذا من مرويك فيقول: نعم، فيرده عليه، هذا عرض المناولة، على كل حال ستأتي -إن شاء الله- في طرق التحمل.
يقول: "وأنكر ابن الصلاح على ابن حزم رده حديث الملاهي حيث قال فيه البخاري: وقال هشام بن عمار وقال: أخطأ ابن حزم فيه من وجوه، فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار" ابن القيم -رحمه الله- في إغاثة اللهفان أطال في تصحيح الحديث وذكر شواهده، وقال في ذلك أن (قال) مثل (عن) يشترط فيها براءة الراوي من وسمة التدليس، وقال أن البخاري أبعد خلق الله عن التدليس، مع أنه لو قال: من أبعد خلق الله عن التدليس لكان أولى، أبعد خلق الله عن التدليس مبالغة، مع أنه قيل في ترجمته من الخلاصة في ترجمة الذهلي قالوا: روى له البخاري ويدلسه، ويأتي في مبحث التدليس -إن شاء الله تعالى-.
ثم حكى أن الأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول، سوى أحرف يسيرة، انتقدها بعض الحفاظ كالدار قطني وغيره، ثم استنبط من ذلك القطع بصحة ما فيها من الأحاديث؛ لأن الأمة معصومة عن الخطأ، فما ظنت صحته ووجب عليها العمل به، لا بد وأن يكون صحيحاً في نفس الأمر، وهذا جيد، وقد خالف في هذه المسألة الشيخ محيي الدين النووي وقال: لا يستفاد القطع بالصحة من ذلك.
قلت: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوَّل عليه وأَرْشَد إليه، والله أعلم.
حاشية: "ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية، مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة: منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الاسفراييني والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحق الشيرازي من الشافعية. ابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاغوني، وأمثالهم من الحنابلة. وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية قال: "وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم: كأبي إسحاق الاسفراييني، وابن فورك قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"، وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً، فوافق فيه هؤلاء الأئمة.
الصحيحان البخاري ومسلم تقدمت الإشارة إلى أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، والأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول، حتى قال جمع من أهل العلم: أنه لو حلف شخص بالطلاق أن جميع ما في البخاري ومسلم صحيح لما حنث، فالأمة تلقت الكتابين بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى من كثرة الطرق، قال: سوى أحرفٍ يسيرة، سوى أحاديث يسيرة في الكتابين، ما يقرب من مائتي حديث انتقدها الحافظ الدارقطني وغيره، والغالب أن الصواب مع الشيخين، وقد دافع عن الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري، الحافظ ابن حجر في المقدمة في الباري، والنووي دافع أيضاً باختصار في شرحه على صحيح مسلم عما انتقده الدارقطني في صحيح مسلم، وأكثر الأحاديث المنتقدة في لا سيما في مسلم في بعض الطرق التي أخرج الإمام مسلم من الطرق ما يشهد بصحتها، فعلى هذا هذه الأحاديث اليسيرة المنتقدة وهي مجال للبحث عند أهل العلم الصواب فيها مع الشيخين، هذه خارجة عن إفادة القطع؛ لأن ابن الصلاح يريد أن يقرر أن ما رواه البخاري ومسلم مفيد للقطع، للعلم؛ لأن الأخبار تنقسم إلى أقسام، منها: ما يفيد العلم، ومنها: ما يفيد الظن، ومنها: ما يفيد الشك، ومنها: ما يفيد الوهم.
على كل حال هذه تقسيمات معروفة عند أهل العلم فالذي يفيد القطع العلم اليقيني الضروري هو المتواتر عند أهل العلم، وفي السنة المتواتر، هذا مفيد للقطع ولا كلام فيه، يبقى الآحاد بأقسامه الثلاثة: المشهور والعزيز والغريب، في الأصل تفيد الظن، هذا في الأصل لماذا؟ لأن الراوي مهما بلغ من الحفظ والضبط والإتقان إلا أن نسبة الخطأ والنسيان موجودة وإن قلت، إيش معنى القطع؟ معناه أن الخبر لا يحتمل النقيض، صواب مائة بالمائة، الظن يحتمل النقيض على ضعف، لو افترضنا أن الخبر صحيح بنسبة 99% أو 95% أو 90% قلنا: أفادنا الظن ما أفادنا القطع؛ لأنه يحتمل النقيض، ننتبه لهذه المسألة؛ لأنها هولت من الطرفين، الذي ينفي والذي يثبت، وتشبث بذيولها بعض المبتدعة، فخبر الواحد إذا صح هل يفيد القطع أو الظن؟ الأصل فيه أنه لا يفيد إلا الظن، لماذا؟ لأن الراوي مهما بلغ، مالك نجم السنن، ضبطت عليه أوهام، الراوي مهما بلغ من الحفظ والضبط والإتقان إلا أن خبره يحتمل النقيض ولو بنسبة واحد بالمائة، ما دام الخبر ما صل إلى نسبة مائة بالمائة فهو ظن، احتمال راجح، هذا قول، وهو قول الأكثر، أنه في الأصل لا يفيد إلا الظن.
منهم من قال: أن الخبر الواحد بمجرده يفيد القطع، حسين الكراديسي وداود الظاهري وجمع، يقولون: يفيد القطع، يعني مجرد ما تسمع خبر ممن تثق به، زيد من الناس تثق به، ثقة عندك، يقول: حضر فلان، تحلف على هذا أنه حضر فلان، يفيد القطع عندك مائة في المائة، ألا يحتمل أن يأتي زيد بعد ساعة أو ساعتين قال: أخطأت، رأيت شخصاً ظننته فلاناً، ما حصل هذا كثير؟ يحصل هذا، المقصود أن الأكثر على أنه لا يفيد بمجرده بمفرده إلا الظن، منهم من يرى أنه يفيد القطع.
والقول الوسط أنه يفيد القطع إذا احتفت به قرينة، لماذا نحتاج إلى هذه القرينة؟ لكي تكون في مقابل الاحتمال المرجوح، فإذا وجدت هذه القرينة أفادنا القطع، وهذا ما قرره شيخ الإسلام -رحمه الله- في مواضع من كتبه، وقرره ابن القيم في الصواعق، والحافظ ابن حجر في شرح النخبة، وجمع من أهل العلم من أهل التحقيق يرون أن خبر الواحد إذا احتفت به قرينة أفاد القطع؛ وإلا فالأصل أنه لا يفيد إلا الظن، والعلة في ذلك ما سمعتم، الذين قالوا: أنه يفيد القطع من غير نظرٍ إلى القرائن يريدون أن يقطعوا الطريق على المبتدعة الذين يقولون: ما دام خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فإنه لا تثبت به العقائد، فخبر واحد لا تثبت به العقائد؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، نقول: لا يفيد إلا الظن وتثبت به العقائد كما تثبت به الأحكام، ولا نلتزم بما إلتزمه المبتدعة، من القرائن التي ذكروها مما يحتف بها الخبر، أن يكون الحديث مخرجا ً في الصحيحين أو في أحدهما؛ لأن تلقي الأمة بالقبول لهذين الكتابين قرينة، كون الحديث مروي بطرق متعددة، متباينة، سالمة من القوادح أيضاً قرينة على أن الحديث ضبط، كون الحديث تداوله الأئمة فرواه إمام عن إمام عن إمام، قرينة أيضاً؛ لأنه لو قدر أن الإمام مالك أخطأ يتابعه الشافعي على خطئه؟ لا، لو أخطأ الشافعي يتابعه أحمد على خطئه؟ لا، فهذه قرائن تدل على أن الخبر ضبط وأتقن، فالخبر إذا احتفت به قرينة أفاد القطع.
هنا يقول: "وقد خالف في هذه المسألة محي الدين النووي وقال لا يستفاد القطع بصحةٍ من ذلك" نحكم له بالصحة فإن احتفت به قرينة أفادنا القطع، وإلا فالأصل أنه لا يفيد إلا الظن، وهذا ما رجحه النووي.
واقطع بصحة لما قد أسندا |
| كذا له وقيل ظناً ولدى |
المقصود أن النووي خالف ابن الصلاح فيما ذهب إليه، وأظن الخلاف لفظي؛ لأن ابن الصلاح نظر إلى خبر الواحد المحتف بالقرينة كما قرره شيخ الإسلام، ولا يمكن أن يقول ابن الصلاح: أن أي خبر يأتي به ثقة يقطع به من غير نظر إلى قرينة، النووي نظر إلى الخبر مجرد، والنظر إلى الخبر مجرد لا يفيد إلا الظن، ومن نظر إليه مع القرائن التي احتفت به قال: أنه يفيد القطع.
أما ما ذهب إليه داود الظاهري وحسين الكرابيسي من أنه يفيد القطع مطلقاً فلا وجه له لما عرفنا، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول الحافظ ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه، وأرشد إليه -يعني تابع ابن الصلاح في ذلك- ثم وقفت بعد هذا على كلام شيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول" هذه قرينة عن جماعات من الأئمة منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، شيخ الإسلام صرح في مواطن كثيرة من منهاج السنة أن الخبر الذي تحتف به قرينة يفيد القطع "مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعاتٍ من الأئمة منهم القاضي عبد الوهاب المالكي والشيخ أبو حامد الاسفراييني، القاضي أبو الطيب الطبري، ابن اسحق الشيرازي، -هؤلاء من أئمة الشافعية- وابن حامد وأبو يعلى، وابن الخطاب وابن الزاغوني من الحنابلة، السَّرَخسي -أو السَّرْخسي يجوز هذا وذاك- من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم...".
يقول: "وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامةً" ومراد شيخ الإسلام -رحمه الله- بالخبر الذي احتفت به قرينة، "وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة" ابن الصلاح أطلق لكنه أطلقه فيما رواه الشيخان، وتخريج الشيخين قرينة على أن الخبر ضبط وأتقن، وهو أيضاً مستمد من تلقي الأمة بالقبول، هذه قرينة، وهو الذي نص عليه شيخ الإسلام هنا أنه نقل وقطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، فلا نقول: أن خبر الواحد يفيد القطع مطلقاً، ولو صح، لو جاءنا مالك عن نافع عن ابن عمر، يعني في غير الصحيحين، مالك يهم حصلت له أخطاء وإن كان نجم السنن، ولا يحتاج إلى تزكية، من مشاهير أهل العلم في الضبط والإتقان والحفظ، ومن أهل الانتقاء والتحري والتثبت، لكن ضبطت عليه أوهام -رحمه الله-، فهذه المسألة يطول البحث فيها، وخلاصة القول أن فيها ثلاثة أقوال: أنه يفيد القطع مطلقاً، أنه يفيد الظن مطلقاً، أنه لا يفيد القطع إلا بقرينة، وهذا هو أعدل الأقوال.
وأما قول من يقول: أنه يفيد القطع مطلقاً خشيةً من تشبث أهل البدع بمثل هذا القول، وأنه إذا كان لا يفيد إلا الظن لا تثبت به عقائد، كلامهم طويل في هذا، نقول: لا، لا نلتزم باللازم وننتهي من الإشكال، نقول: نثبت الإحكام بخبر الواحد إذا صح ولو احتمل النقيض؛ لأن الأحكام مبنية على غلبة الظن، نثبت العقائد بخبر الواحد إذا صح؛ لأن الشرع واحد، فما تثبت به الأحكام تثبت به العقائد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"لا شك أن الكتاب أطول من الوقت، أطول من الوقت، ولذا قد يلاحظ البعض أني في درس الأمس أريد أن أبسط وأسترسل ثم أحجم خشية من نهاية الوقت قبل أن ينتهي الكتاب، ولدينا قناعة أن الكتاب لا يكفيه أسبوع ولا أسبوعان ولا ثلاثة ولا أربعة أيضاً، لكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه، ونذكر البعض، ننبه بعض المسائل التي ينبغي التنبيه عليها.
وأما الاقتصار على قول في كل مسألة مما يذكره الحافظ بن كثير، الكتاب كما نعلم إنما هو للمتوسطين وليس للمبتدئين، مثل هذا القول يعني لو كان الكتاب النخبة مثلاً، يقتصر على القول الراجح كما اقترحه بعضهم، لكن الكتاب إنما وضع للمتوسطين وهم بحاجة إلى ذكر بعض الأقوال في كل مسألة، ولكن نحاول أن نسدد ونقارب، وننهي ما نتمكن من إنهائه، ولعل إن بقي في العمر بقية يكون باقية في دورةٍ أخرى -إن شاء الله تعالى-.
أولاً: رواية أبي ذر الهروي كما قرره الحافظ ابن حجر هي أتقن الروايات وأجودها لصحيح البخاري، وليست لفتح الباري، رواية أبي ذر إحدى روايات الصحيح، والصحيح له روايات كثيرة، منها: رواية أبي ذر، وهي التي اعتمدها الحافظ وشرحها في فتح الباري، والأصل أن فتح الباري ليس فيه متن، هذا الأصل؛ لأن الحافظ ترك المتن قصداً لئلا يطول الكتاب، الذين طبعوا الكتاب –أعني فتح الباري- في طبعته الأولى في بولاق ما أدخلوا المتن في الشرح، إنما وضعوه في الحاشية، ثم جاءت الطبعة الهندية فصار المتن فوق مفصول بينه وبين الشرح بخط ثم طبع في المطبعة الخيرية بعد ذلك، ووضع المتن في الحاشية، ثم طبع أيضاً في البهية بعد ذلك ثم طبعه الحلبي ثم السلفية الأولى التي أشرف عليها شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، لكن الطابع تصرف فأدخل المتن، وقد قصد الحافظ عدم ذكره لئلا يطول الكتاب، وليت الطابع الذي تصرف بحث عن النسخة الموافقة للشرح، بحث عن الرواية الموافقة للشرح؛ لأن الحافظ اعتمد رواية أبي ذر، وأشار إلى ما عداها من الروايات عند الحاجة، لذا نجد الحافظ لا يشير إلى جمعٍ من الروايات، خلافاً للقسطلاني الذي يشير إلى جميع ما جاء من الروايات في أي كلمة، ولو كان الخلاف في حرف، ولو كان الخلاف لا يترتب عليه أي فائدة، لكنه يشير إلى كل شيء، سواء كان في المتن أو في الإسناد أو في صيغ الأداء أو غيرها، وهذه الميزة يتميز بها؛ لأن الإنسان يقدر أن هذه الرواية لا تختلف عن تلك، وأنه لا يترتب على هذا الاختلاف فائدة، وهو في الحقيقة له فائدة، ويأتي من يظهر له بعض الفوائد. المقصود أن الحافظ لم يقصد إدخال المتن في الكتاب لئلا يطول الكتاب، والطابع تصرف فأدخل المتن، لكن المتن الذي أدخله ملفق، ليس على رواية واحدة، ولذا تجدون الاختلاف الكبير بين الشرح والمشروح، تجد في المتن كلمات بحاجة إلى شرح لم يتعرض لها الحافظ، وتجدون في الشرح قوله كذا، ويشرح كلمة ليست موجودة في المتن.
وكان البحث عن رواية أبي ذر أمنية قديمة إلى أن تيسرت، بحث عنها الشيخ عبد القادر -حفظه الله- ووفق إلى وجود نسخة في مكتبة الحرم المدني، لكنها ناقصة وأكملت من نسخةٍ في الأزهر.
وعلى كل حال فتح الباري لا علاقة للشيخ به، بل فتح الباري الذي طبع مع صحيح البخاري رواية أبي ذر هو صورة فوتوغرافية للطبعة السلفية الثانية، التي هي أسوأ من الأولى بكثير، فليت الشيخ أراد أن يصور الكتاب صوره من السلفية الأولى، فيها أسقاط كثيرة، فيها أخطاء فصورها الشيخ وأدخل معها متن البخاري، هذه الطبعة السلفية الثانية والتي صورت فسموها ثالثة وانتشرت باسم الريان وغير الريان، موجودة في الأسواق الآن، صور عنها الشيخ، فالشيخ لا علاقة له بفتح الباري مع أن الشيخ -حفظه الله- أغفل تعليقات للشيخ عبد العزيز -رحمه الله- فلم يذكر منها شيئاً ، تعليقات الشيخ -رحمه الله- محررة ومتقنة وفي مواضعها مختصرة ما تثقل الكتاب، وعذر الشيخ أنه طلب الإذن من أبناء الشيخ فما جاءه الجواب فطبع الكتاب، صور الكتاب.
على كل حال هذا اجتهاده، وأولى من تصوير السلفية الأولى لو صور بولاق، ووضع المتن في الحاشية، وهذا أمره سهل؛ لأن المتن مطبوع بحاشية الطبعة الأولى التي هي بولاق، يلصق ملصقات على المتن وينتهي الإشكال، كما فعل في تصويره لفتح الباري السلفية الثانية، على كل حال هذا كنز الذي عثر عليه الشيخ، ويؤجر -إن شاء الله- على ذلك، لكن لو طبع البخاري مفرد بهذه الرواية بتمامها مفرد من غير شرح كان أولى وأخف في الحمل؛ لأن اقتناء الكتاب مرة ثانية من أجل المتن هذا أيضاً يثقل الكاهل، بقي أن نشير إلى أن أجود طبعات الصحيح هي طبعة بولاق سنة 1313هـ، وهي التي اعتنى بها الحافظ البوليني -رحمه الله-، قرأ البخاري مراراً على ابن مالك، الإمام النحوي المشهور، قرأ عليه اختلاف الروايات واختار له ما يجعله في صلب الكتاب، وما يشير إليه في الحاشية، ورمز إلى ذلك برموز، تعب على الكتاب تعب، الله يكافئه عليه.
طبعة جيدة، طبع المرة الأولى في مطبعة العاصمة، وطبعة طيبة، طيبة في الجملة، لكن حجمها كبر شوي وإلا هي طبعة طيبة.
على كل حال الكتب مثل ما أشار السائل كثيرة جداً، والإحاطة بها متعذرة، وأشد من ذلك الإحاطة بالطبعات، لمن أراد أن يقتني أكثر من طبعة ليصحح الأخطاء مثلاً، فالإحاطة سواء في الجمع –جمع الكتب- أو الطبعات كل هذا شبه متعذر؛ لأن السبل تيسرت -ولله الحمد- الآن لإخراج هذه الكتب، والمطابع أقول: تدفع إلى الأسواق بكمياتٍ هائلة حتى لا يتمكن الطالب من المفاضلة بينها فضلاً عن أن يقتنيها، وكل علم له أهله، يمكن أن يستشير أهل الاختصاص في كل علم، أما بالنسبة للمصطلح الذي أشار إليه، الطالب غير المتخصص الذي أشار إليه السائل، يقتصر مثلاً على النخبة وتوضيحها مع الأشرطة التي توجد عليها في الأسواق، وإن اعتنى بكتاب الحافظ ابن كثير فهو أيضاً طيب.
أما ما يشير به كثير من الإخوان، البيقونية فالبيقونية مجرد فهرس، ليس فيها شيء يذكر من علم الحديث، أربعة وثلاثين بيت، ما يختص في علم الحديث، خمسة وستين نوع من أنواع علوم الحديث، نظم النخبة في مائتي بيت وبيت أو بضعة أبيات على اختلاف النسخ لا بأس به، وهو مشروح، وعليه أشرطة، ولله الحمد، ومتيسر، فليعتنى به.
بالنسبة للزيادات على الصحيحين بدأنا بها بالأمس، عرفنا قول ابن الأخرم وهو قوله: "قلما يفوت البخاري ومسلم من الأحاديث الصحيحة" لكنه قول مردود على ما تقدم، يقول: "وقد ناقشه ابن الصلاح في ذلك فإن الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة، وإن كان في بعضها مقال، إلا أنه يصفو له شيء كثير، قلت: في هذا نظر" يعني في هذا الاستدراك نظر، في هذا الاستدراك من الحاكم نظر، والسبب؟ يقول: "فإنه يلزمهما بإخراج أحاديث لا تلزمهما لضعف رواته عندهما" لأن الحاكم في خطبة الكتاب قال: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقاة احتج بمثلها الشيخان" نقول: هذه المثلية غير متحققة لوجود الضعيف وهو كثير في المستدرك، والموضوع أيضاً موجود، المقصود أن الاستدراك من الحاكم لا يلزم الشيخان، وإن كان كتاب الحاكم نافع، وفيه أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة، لكن هو يريد أن يصف الكتاب في مصاف الصحيحين، لا، لا نسبة بينهما، ابن حبان أمثل منه بكثير، أمثل منه بكثير، ابن خزيمة أمثل من ابن حبان أيضاً، ومع ذلك فيه الضعيف.
وإنما هم مثلهم؛ لأن مثل الشيء ليس الشيء نفسه، أو أن المراد بالمثلية على ما يقول الحافظ ابن حجر وغيره: استعمال المثلية في أعم من الحقيقة والمجاز فتكون المثلية على حقيقتها حينما يخرج الحديث عن غير رواة الصحيحين، بل عن مثلهم، أو تكون من غير حقيقة إذا خرج عنهم أنفسهم؟
على كل حال الكلام في هذا يطول، ومستدرك الحاكم عليه استدراك كبير، وللحافظ الذهبي عليه أيضاً تعليقات نفيسة، وكلام الحافظ الذهبي عليه استدراك، ابن الملقن، وكلام ابن الملقن عليه استدراك، وما يسلم أحد، والله المستعان.
لو قلنا: أن كل هذه التقسيمات ما وجدت عند السلف، ابحث عن كلام الصحابة في الصحيح والضعيف والحسن تجد شيء؟ تجد؟ تجد عن ابن عمر قال: هذا الحديث حسن أو عن عمر؟ لا ما في كلام السلف شيء من هذا، هذه التقسيمات اصطلاحية، المتواتر وإفادته القطع، لا أحصي ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله-، ومثّل للمتواتر بأحاديث، وقسم المتواتر إلى لفظي ومعنوي، كل هذا موجود من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الذي تصدى لأهل البدع، إذا وجد هذا الكلام، نعم لو لم يلفظ به إلا مبتدع اجتنبناه، لكنه موجود في كلام أهل السنة، وسواء سميناه متواتر أو آحاد أو لم نسمه، الحقيقة حقيقة، الأخبار متفاوتة، هل الأخبار على حدٍ سواء؟ الخبر الذي يأتيك من طريق عشرة مثل الخبر الذي يأتيك عن طريق واحد؟ لا، في تفاوت، فالأخبار متفاوتة، والخلاف لفظي، والتسمية اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإذا عرفنا أن شيخ الإسلام -رحمه الله- نطق بالمتواتر، وأن في السنة المتواتر، وأنه يفيد القطع، وأن منها المتواتر اللفظي، وأن منها المتواتر المعنوي، وش بقي؟
لا نلتزم باللازم، نقول: العقائد تثبت بالآحاد كالأحكام وينتهي الإشكال، المبتدعة يريدون شيء حينما يقسمون إلى متواتر وآحاد يريدون أن يثبتوا أن المتواتر هو المفيد للقطع، والآحاد لا يفيد إلا الظن، يريدون أن ينفوا كثير مما يثبته أهل السنة في أمور الاعتقاد بهذه الطريقة، لا نلتزم بلازمهم، أما كونهم يقولون بشيء وهو صحيح وحق، الحق يقبل ممن جاء به، لكن باطلهم يرد عليهم، لا يحملنا الحماس والدفاع إلى أن ننفي الحقائق، أو نثبت ما لم يثبت عن الله ولا عن رسوله، يصير مثل واحد يقول: اليهود نفوا صلب المسيح وقتل المسيح، فقام واحد من جهال المسلمين، قال: لا، اليهود قتلوه، هو يزعم أن اليهود يتقربون إلى النصارى في كلامه هذا من أجل كسب القضية، وهو يريد أن يكسب القضية من طرفٍ آخر، لا قتلوه، يفرق بين... ما سويت شيء، كذبت القرآن، ماذا فعلت؟ فأحياناً الحماس من بعض طلاب العلم يوقع في حرج، ينفي ما هو موجود، مثبت، الأخبار متفاوتة، منها: ما يفيد العلم، يعني بمجرد سماعه تجزم بأنه صحيح، ومنها: ما يفيد إلا الظن، يعني لو جاءك شخص وقال: هناك مدينة اسمها بغداد، وأنت ما شفت بغداد، تقول: لا اصبر خليني أشوف معجم البلدان؟ ما يحتاج، لكن لو قال لك: هناك قرية اسمها: طهب الطيب، إيش تقول؟ انظر في معجم البلدان، عرف بها.... الأخبار متفاوتة، منها: ما يلزم بتصديقه من سماعه، ومنها: ما يحتاج إلى نظر واستدلال، يحتاج إلى مقدمات، على كل حال الكلام في هذا الموضوع يطول، والله المستعان.
أولاً: العقل الصريح السليم لا يمكن أن يخالف النص الصحيح، لكن العقل الملوث بالشبهات والشهوات لا بد أن يخالف ما يعارض شهواته وشبهاته، العقل لا ينكر أنه يميز ويدرك الحسن ويدرك القبيح؛ لكنه لا يستقل بذلك، وشيخ الإسلام -رحمه الله- قرر هذه المسألة في إفاضة في كتبه لا سيما كتاب (درء تعارض العقل والنقل) وقرر -رحمه الله- أنه لا يمكن أن يوجد نص صحيح يعارض العقل الصريح، يعارض العقل السليم، القلب السليم الخالي من الشبهات والشهوات، لكن قلب تراكمت عليه الشهوات والشبهات، وران عليه ما كسب مثل هذا القلب، مثل هذا العقل لا بد أن يعارض ويخالف، لكن مثل هذا لا عبرة به، يعني حينما يرد حديث: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) يقال: الواقع يشهد بخلاف ذلك، شوف إندي رغاندي، وشوف تاتشر، وشوف كلدمائير التي هزمت العرب، ذا عقل هذا؟ بالله هذا عقل سليم؟ الذي يرد النصوص بمثل هذه السذاجة؟ لا، العقل الذي يسير مع الكتاب والسنة حيثما سار لا يمكن أن يجد أدنى أشكال في النصوص الصحيحة، والله المستعان.