شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (01)

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح: ألفية الحافظ العراقي (1)

تمهيد عن أهمية علوم الحديث، وشرح أبيات المقدمة، أقسام الحديث

الشيخ/عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلسنا بحاجة إلى الحديث عن أهمية الحديث وما يتعلق بالحديث، وما يخدم علم الحديث، وموضوع الدرس يخدم هذا المصدر المهم من مصادر التشريع الإسلامي، وهو علوم الحديث الذي به يعرف الصحيح والضعيف، وبه يعرف المقبول من المردود، وما تثبت نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وما لا يثبت، هذا موضوع علم الحديث وعلوم الحديث، وأصول الحديث ومصطلح الحديث، فعلوم الحديث عرفوه بأنه القواعد المعرفة بحال الراوي والمروي، والعبرة بالمروي ومعرفة حال الراوي يتوسل بها إلى معرفة حال المروي فمعرفة المروي غاية، ومعرفة الراوي وسيلة، ولا شك أن ما لا تتم الغايات إلا به فيأخذ حكم الغايات؛ ولذا يقول أهل العلم: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا كنا لا نعرف علم الحديث الذي معرفته فرض كفاية على الأمة إلا بواسطة ما يتوسل به في معرفة ثبوت هذا الحديث من معرفة الأسانيد، وما يتعلق بصحة الحديث وضعفه هو واجب تبعًا لوجوب الغاية؛ لأن المقرر عند أهل العلم أن ما لا يتم الواجب به فهو واجب، وإذا كان الكلام في الرجال في أصله لا يجوز؛ لأنه ضرب من الغيبة، الكلام في الرجال لا سيما بالجرح كلام فيهم فيما لا يحبون، بل بما يكرهون، وذكر لهم وهم من المسلمين بما يكرهون الأصل فيه أنه غيبة، لكن هذه الغيبة اغتفرت في جانب المصلحة العظمى، وهي إثبات ما نسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو نفيه، بل أوجب أهل العلم الكلام في الرجال، وذلك حينما رجحت المصلحة أما إذا عدمت المصلحة أو كانت المصلحة مرجوحة فإنه يعود إلى الأصل، فلا يجوز الكلام في الرجال حينئذٍ؛ لأنه غيبة.

 قد يقول قائل: تكلم في رجال قد لا يحتاج إليهم، في كتب الرجال تكلم في رجال قد لا يحتاج إليهم، الحديث صح وثبت من طريق غيرهم، فلماذا نتكلم في رجال ثبت الحديث من غير طريقهم، إذا افترضنا أن الحديث يروى من طرق يثبت الحديث ببعضها، فلماذا نتكلم في الطرق الأخرى التي لسنا بحاجة إلى الكلام فيهم من أجل إثبات الحديث؟ نقول: الكلام فيهم لا بد منه؛ لأنه قد يرد من طريقهم أحاديث أخرى لا تروى إلا من طريقهم، فمادام صنفوا في الرواة فلا بد من النظر في أحوالهم جرحًا وتعديلًا؛ لأننا في هذا الحديث لسنا بحاجة إليهم لكن قد نضطر إليهم في حديث آخر، والعلماء حينما تصدوا لنقد الرواة لا شك أنهم استحضروا هذا الأمر، هو لا يكفي أن يقال: إن الجرح والتعديل يجوز، لا، بل يجب، جرح وتعديل الرواة، أما الجرح والتعديل الذي هو مجرد تفكه بأعراض المسلمين هذا لا يجوز بحال؛ لأنه غيبة، ولا يترتب عليهم مصلحة راجحة، وقد يترتب عليه مصلحة لكنها مرجوحة، والعبرة بالغالب.

الكلام في علوم الحديث بجميع أبوابه وأنواعه في غاية الأهمية لطالب العلم، وكيف يدرس علوم الحديث ومصطلح الحديث وأصول الحديث؟ يدرس كغيره من العلوم بالتدريج، يدرس بالتدريج، وقد ألف العلماء كتبًا تناسب جميع المستويات فألفوا للمبتدئين ما يناسبهم، وألفوا للمتوسطين ما يناسبهم، وألفوا للمنتهين ما يناسبهم، فألف للمبتدئين متون مختصرة جدًّا مثل البيقونية مثلًا، في أربعة وثلاثين بيتًا هي ذكر للأنواع مع تعريف كل نوع فقط، هذه لا مانع أن يستفتح بها الطالب المبتدئ، وهذه قد لا تأخذ من وقته شيئًا؛ لأنها تشرح بأسلوب يناسب مستواه، ثم بعد ذلك تكون هذه المنظومة المختصرة توطئة لدراسة النخبة؛ لأنها متينة على الطالب المبتدئ، فلو قرأ قبلها شيئًا يكون أيسر لتحصيلها، فيحفظ النخبة ويقرأ ما كتب عليها من شروح، ويسمع ما سجل عليها من دروس، ويحضر أيضًا دروس أهل العلم، ثم بعد ذلك يرتقي الطالب ويتأهل للنظر في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- مع ما كتب عليه من حواش، ومع ما سجل عليه من دروس يسمع ويفرغ علي نسخته ويحضر الدروس، وبذلك يتأهل لدراسة ما فوقه من الكتب كالألفية مثلًا، الألفية التي هي موضوع درسنا، إذا قرأ النخبة وفهم النخبة وهضم النخبة، ثم ارتقى بعد ذلك إلى اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير مع كاتب عليه، وحضر الدروس وسمع الأشرطة يتأهل للنظر في الألفية؛ لأن موضوع اختصار علوم الحديث وموضوع الألفية واحد إلا أن الألفية تعسر على الطالب تحتاج إلى شيء يكون كالتمهيد لها والتوطئة لدراستها، بعد ذلك يتأهل الطالب لدارسة الألفية فيقرأها ويحفظها ويتقنها ويقرأ شروحها بدأ بشرح المصنف وهو في غاية النفاسة على رغم اختصاره في غاية الأهمية، وشرح الشيخ زكريا الأنصاري شرح فيه تنبيهات ولطائف وتوجيه لبعض أعاريب بعض الكلمات التي قد يخفى إعرابها مما لا يوجد في غيره، ومن ذلكم شرح الحافظ السخاوي فتح المغيث الذي يعد بحق موسوعة هذا العلم، ومن أخصر ما كتب على الألفية شرح السيوطي، الذي هو بقدر الألفية كلمة بكلمة لا يزيد ولا ينقص، نظير تفسير الجلالين كلمة بكلمة، هذا يحل بعض الكلمات الغامضة لكنه لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، بل لا بد من مطالعة شرح المصنف، وشرح الشيخ زكريا، وشرح السخاوي، هذا التدرج ينفع طالب العلم جدًّا، وييسر له النظر في هذا العلم بعمق، ويتأهل لفهم مقاصد الأئمة في أحكامهم على الأحاديث، وهو في ذلك كله لا يستغني عن التطبيق من بداية الأمر، يعني مع قراءته للنخبة وشروحها يشتغل بتخريج الأحاديث تخريجًا مبدئيًا من الكتب المعروفة المشتهرة، كالكتب الستة مثلًا، وينظر في أسانيدها من خلال التقريب مثلًا، ويعرض ما يكتبه على هذه الأحاديث وهو يخرج وينظر في الأسانيد على اختصار شديد للتمرين، وإذا كتب شيئًا لا يقصد به نفع الآخرين، إنما يقصد به نفع نفسه أولًا؛ لأنه لم يتأهل للتصنيف بعد، ولو حدثته نفسه بذلك كان قد استعجل النتيجة، وفي الغالب يحرم الوصول مثل هذا، فإذا عانى التخريج على هذا الوجه ثم أخذ في المرحلة الثانية التي أشرنا إليها آنفًا وزاد في التخريج يزيد في التطبيق والتخريج، والنظر في الأسانيد ويحكم على الأحاديث مقارنًا حكمه بأحكام الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، ويعرض ما يكتبه على هذه الأحاديث، وهو في هذه المرحلة أيضًا بنية الانتفاع لا بنية النفع، إنما هو بنية تطبيق القواعد النظرية التي درسها في هذه الكتب، فإذا قرأ الألفية وحفظ الألفية ونظر في شروحها تأهل للتخريج ودراسة الأسانيد العملي، وحينئذٍ يتوسع في تخريج الأحاديث، ويحرص على عزو الأحاديث إلى ما أمكنه الوصول إليه من المصادر، ويتوسع أيضًا في دراسة الأسانيد، وينظر في أقوال الأئمة مستعملًا في ذلك قواعد الجرح والتعديل، والتعارض والترجيح، ولا يغفل مع دراسته هذه، هذه الكتب يعتني بها، ويجعلها محاور للبحث، ومع ذلك يقرأ في الكتب الأخرى، وهو في دراسته للنخبة يقرأ في هذا كتب أخرى ألفت في هذا الفن من قبل المتقدمين ومن قبل المتأخرين أيضًا، فالمتأخرون لهم مساهمات جيدة وقوية في الباب، وإذا بلغ المرتبة الثانية ووصل إلى الطبقة الثانية أيضًا يستفيد من الكتب المتوسطة في هذا الباب للمتقدمين والمتأخرين، وهو يحفظ الألفية، ويقرأ في شروح الألفية، ويحضر دروس الألفية يقرأ مع شروحها الكتب المطولة في علوم الحديث، فإذا قرأ في فتح المغيث يقرن به أيضًا بما في تدريب الراوي وبما في توضيح الأفكار للصنعاني، ثم بعد ذلك إذا أنهى هذا العلم على هذه الكيفية وطبق ما درسه نظريًّا على التخريج ودراسة الأسانيد العملية، وعرض ما يكتبه على أهل الاختصاص، ويصوبون له في ذلك كله، يتأهل حينئذٍ للنظر في أحكام الأئمة، وتتكون لديه الملكة التي يتعامل بها مع أقوال الأئمة، وهذا العلم بحر، لا يمكن إدراكه في أيام أو في أشهر أو في سنوات، إذا قرأ الألفية مع شروحها، وقارن بها مطولات هذا الفن، تأهل للنظر في أقوال الأئمة، وقبل ذلك ينظر في كتب العلماء الذين عنوا بأقوال الأئمة المتقدمين كابن عبد البر وابن رجب وغيرهما من العلماء الذين لهم عناية فائقة بأقوال المتقدمين، وهذا لا يعني أن غير هذين الإمامين لا يعنون بكلام المتقدمين لا، حاشا وكلا، لا نعني بذلك أن الذهبي وابن حجر أو غيرهما من أهل العلم لا عناية لهم، لا، لهم عناية، ومعولهم على أقوال الأئمة، وعمدتهم أحكام الأئمة، وإشارات الأئمة في أحكامهم، لكن هم صنفوا في هذا العلم على الكيفية والترتيب الذي ذكروه، وكل ارتضى منهج له في كيفية تقرير هذه القواعد المنضبطة إلى حد ما نظريًّا، وإن كانت الأحكام العملية قد تختلف إذا تأهل الطالب، الآن الطالب في مرحلة التلقي والطلب حكمه حكم العامي يقلد هؤلاء في قواعدهم النظرية، وفي تطبيقاته أيضًا، لكن إذا تأهل فحكمه في ذلك حكم من تأهل للنظر في النصوص والموازنة بين الأدلة والاجتهاد في الأحكام، إذ لا يقلد في دينه الرجال إذا تأهل لذلك، أما قبل التأهل فلا مفر له ولا محيد من تقليد العلماء، وفرضه كالعامي سؤال أهل العلم، سواء سؤالهم المباشر أو التخرج على كتبهم، الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في مقدمة النخبة ذكر أن الكتب المصنفة في هذا العلم قد كثرت، وصارت مثار تردد وحيرة بالنسبة للطالب المبتدئ بما يبدأ، وبسطت واختصرت، نعم أهل العلم أحيانًا يؤلفون المطولات لتفهم، ويزداد علمها، وتزداد الثورة العلمية عند طالب العلم، وأحيانًا يختصرون، لتحفظ وتقرر وتدرس وتدرس، وهل من العبث مثلًا أن يؤلف كتاب في فن ثم يأتي عالم لهذا الكتاب فيختصره بربع الحجم مثلًا، ثم يأتي ثالث فيشرح هذا المختصر، يعني هذا عبث عند أهل العلم، هل هذا عبث؟ ليس بعبث، يؤلفون المطولات والمبسوطات ليفاد منها، وتبسط فيها المسائل، وتحرر وتقرر بجميع ما تطلبه هذه المسائل من وسائل للبسط والإيضاح، ثم تختصر، وقد يؤلف المختصر ابتداءً لكي يحفظ ويدرس ويعتني به ثم يأتي من يشرح هذا المختصر ليستفيد منه من يريد حفظ هذا المختصر، ومن يريد تدريس أو دراسة هذا المختصر؛ لأنه قد يقول قائل: وقد رمي الحافظ ابن حجر في مختصراته بأنه يسطو على كتب أهل العلم ويمسخ كتب أهل العلم، كتب هذا، مع الأسف أن من علق على النخبة قال مثل هذا الكلام، بعض من علق على النخبة قال مثل هذا الكلام، إذا قال ابن حجر: ولي مؤلف في كذا، مؤلف في الصحابة قال: نعم، سطا على كتب العلماء ومسخها واختصرها، لي مؤلف في...، وقد ألف الحافظ المزي مثلًا تهذيب الكمال واختصره، وقال كعادته: يسطو على كتب الأئمة ويمسخ كتب الأئمة، هذا لا شك أنه سوء أدب، الحافظ ابن حجر يعني مختصراته ما جاءت من فراغ، والاختصار باب من أبواب التحصيل، اختصار الكتب باب من أبواب التحصيل؛ ولذا نوصي الطلاب بأن يختصروا، كيف تختصر؟ أنت الآن تحفظ من الألفية المقرر يعني تقديرًا أن يحفظ في هذه الدورة في كل درس عشرة أبيات، تأتي مثلًا إلى شرح المؤلف، شرح المؤلف مختصر، شرح زكريا الأنصاري مختصر، تأتي للسخاوي تقرأ كلام السخاوي مع قراءة شرح المؤلف وزكريا، تختصر شرح السخاوي، لماذا؟ لكي يرسخ المختصر في ذهنك، تشارك مشاركة عن ثقة، إذا عملت بهذه الطريقة، قد يقول قائل مثلًا: والله أنا أتمنى أن أحصل في علم الأصول، وقرأت الورقات وشروح الورقات، وسمعت ما سجل عليها، لكن أنا أحتاج إلى كتب أرفع من هذا الكتاب، نقول: عليك بكتاب مختصر الروضة مثلًا، أو مختصر التحرير، يقول: هذه كتب صعبة، والآن ما يوجد من يدرسها، أنت الآن عندك أرضية لفهم الأصول بحفظ الورقات، وقراءة شروح الورقات، وسماع الأشرطة على الورقات، وقد تكن حضرت دروسًا في الورقات، ماذا تفعل؟ شرح مختصر التحرير أربعة مجلدات بإمكانك أن تختصره بربع حجمه، مجلد واحد، وشرح مختصر الروضة ثلاث مجلدات كبار بإمكانك أن تختصره في مجلد واحد، تقرأ كلام الشارح، والشارح هو المصنف نفسه، مصنف المختصر، وهو أعرف الناس بشرحه، وأدراهم بما يحتويه هذا المصنف، تأتي إلى هذا الكتاب وتقرأ المتن، تحاول تفهم المتن وتشرح المتن من تلقاء نفسك، ثم تقرأ ما كتبه المؤلف في شرحه عليه بعد أن أمعنت النظر في كلام المتن، تقرأ هذا الشرح وهو مطول، وفيه عسر، يعني لا ننكر أن فيه عسر؛ لأن الأصول فيه شيء من العسر، لكن الطالب إذا فهم قواعد هذا العلم وطبق عليه من خلال ما يمر به من مسائل تفصيلية وتفريعية وتوجد في الكتب وفي الدروس يطبق، وإذا انفتح له هذا الباب، ارتاح له راحة تامة، إذا قرأت المتن، هذا السطر من كلام المؤلف ثم راجعت عليه الشرح كررته مرة مرتين، صغته بأسلوبك يعني بدل ما شرح هذا السطر ثلاثة صفحات أربع صفحات تجعله في صفحة واحدة بأسلوبك أنت، إذا أشكل عليك تسأل، العلماء متوافرون، فيه كلام مرتبط بعلم الكلام والمنطق، ودخيل على العلم الشرعي هذا استبعده، الكلام الذي لا تفهمه استبعده، دعه مرحلة ثانية تسأل عنه أو تقرأه على عالم، لكن إذا انتهيت يكون لديك قابلية لفهم هذا العلم، وقل مثل هذا في جميع العلوم، عندك تفسير ابن كثير مثلًا، تفسير ابن كثير في أربعة مجلدات أسفار كبار، يعني لو فردت وقد فردت في بعض الطبعات في خمسة عشر مجلدًا، بإمكانك أن تقرأ الآية تقرأ كلام الحافظ ابن كثير، تختصر كلام الحافظ -رحمه الله-، الروايات المكررة تحذفها، الأسانيد التي يكررها الحافظ ابن كثير تختصرها، وتختصر الكتاب في ربع حجمه، وقد حصل، لا أقول: تصنع هذا لنفع الناس، والنشر والتأليف، وأنا أصدرت عشرين كتابًا ثلاثين كتابًا، وبعض الشباب صدر للمؤلف يذكر أربعين كتابًا، والآن تحت الطبع مثلها، وقيد التحقيق، وقيد التأليف مثلها، لا، هذا تعجل للثمرة، هذا يندم في الغالب، أنا أقول: طريقة الاختصار وسيلة من وسائل التحصيل، وما المانع أنك في سفر مثلًا مسافر ومعك شرح لكتاب وليكن مثلما ذكرنا تفسير ابن كثير، أو تفسير القرطبي أو أي تفسير من التفاسير الذي تفهمه من كلام المؤلف تعلقه على الآية، وإذا انتهيت يكون عندك تصور تام لهذا الكتاب، فالاختصار وسيلة من وسائل التحصيل، وأتصور أن الحافظ ابن حجر فعل ذلك في مبدأ الطلب بعد أن صارت لديه أهلية لنوع من أنوع التأليف الذي هو الاختصار، الاختصار أمره سهل، ما هو مثل الابتكار والتجديد والتحرير، لا، الاختصار أمر سهل يعني كلام عندك تحذف منه ما تشاء وتبقي ما تشاء، ما هو بمثل الابتكار من عندك تنشئ كلامًا، هذا ما تستطيع إلا إذا تأهلت، ابن حجر حينما ألف الإصابة مثلًا أو ألف تهذيب التهذيب أو ألف كذا هذه لا شك أنه هو المستفيد الأول، من أين تكونت له المادة التي من أجلها أطبق أهل العلم على تسميته بالحافظ إلا بهذه الطريقة، من وسائل التحصيل عندهم جمع وتفريق، كيف جمع؟ أنت بإمكانك وأنت طالب علم تعديت مرحلة المبتدئين والمتوسطين وقرأت ما يؤهلك لفهم ما يُحتاج إليه في خدمة السنة مثلًا أنت عندك مرحلة الجمع، عندك البخاري، مسلم، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، الكتب الستة تريد أن تجعلها في كتاب واحد، بدلًا من أن تكون في ستة كتب، والباب الواحد الموجود في حديث في البخاري تجد آخر عند مسلم بنفس المعنى، ثالث عند أبي داود، خامس كذا.. إلى آخره، تريد أن تجعل هذه الأحاديث تقول: والله أنا عندي جامع الأصول يريحني يكفي أن تقول: جامع الأصول؟ ما يكفي، ما يكفي لو أنت صنعت مثل جامع الأصول ما انتهيت من الكتب الستة إلا وأنت في مصاف أهل العلم، والمسألة ما تكلفك شيئًا، كل شيء مخدوم بالأرقام والحالات والحمد لله الأمر يسير، يعني يأخذ منك وقت الكتب الستة تأخذ منك خمس سنوات ست سنوات وليكن، ثم ماذا؟ العمر إذا أنفق على مثل هذا الأعمال هذه هو العمر الحقيقي للإنسان، فمثل ما نقول في الاختصار أيضًا مسألة الجمع وضم الكتب بعضها إلى بعض، فرد الكتب تأتي مثلًا إلى تحفة الأشراف؛ لأن كثير من الناس ما يدري كيف يلج إلى هذا العلم، غرضه يحفظ الدنيا كلها، لكن ما يتيسر، تأتي مثلًا إلى تحفة الأشراف تنظر في الحديث الأول حديث أبيض بن حمّال مثلًا مخرج عند فلان وفلان وفلان، تأتي إلى إسناده عند فلان، ومتنه عند فلان، وتقارن بين هذا الإسناد وذاك الإسناد، وصيغ الأداء، وما قيل في رجاله ومتونه، كيف روي بهذا المعنى؟ وكيف روي بهذا اللفظ؟ تكون لديك ملكة وحصيلة علمية، المقصود أنك تمسك الطريق، ليس المقصود أن هذا الطريق طويل، خله طويلاً وليكن، لكن هذه وسيلة من وسائل تحصيل العلم؛ لأن كثير من الناس يضيع وقته ما يدري ماذا يفعل؟ وقد لا تسعفه الحافظة أن يحفظ ألوف مؤلفة من الحديث، لكن إذا فعل بالكتب الستة أو بغيره من الكتب بهذه الطريقة، وهذا الطريقة شرحناها في مناسبات كثيرة، وبإمكانكم الإطلاع عليها، يعني إذا انتهى منها وإن كان ضعيف الحافظة لا شك أنه سوف يخرج بنتيجة وحصيلة مرضية تؤهله لأن يشارك في بحث المسائل العلمية، وفي التأهل لدارستها والاجتهاد فيها.

الكتاب الذي بين أيدينا الذي هو ألفية العراقي في الدرس الأول من هذه الدورة التي نرجو أن تكون نافعة لطلاب العلم، وأن تكون خالصة لوجه -جل وعلا-، ألفية العراقي وتسمى أيضًا ألفية الحديث، ألفية العراقي جاء بعض الشروح مثل: (فتح الباقي شرح ألفية العراقي) فهذا اسم من أسمائها إضافة إلى ناظمها، و(فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) فهي ألفية الحديث إضافة إلى موضوعها، وهي أيضًا التبصرة والتذكرة؛ لقول الناظم في مقدمتها:

نظمتها تبصرة للمبتدئ

 

تذكرة للمنتهي والمسندِ

هذه أسماؤها، ولا شك أنها متن متين، يعتمد عليه طالب العلم، يعنى المؤلف بالتعريف والحد في بداية الباب، في بداية كل باب، وذكر الخلاف فيه، والمثال الذي يطبق عليه، وقد يذكر في الباب الواحد الخلاف كاملاً بذكر الأقوال كلها، وقد يذكر أكثر من مثال، ويأتي لهذا أمثلة -إن شاء الله تعالى- فهي ألفية نافعة جدًّا لطالب العلم، في صفها أيضًا تقف ألفية السيوطي، وهي ألفية أيضًا جيدة اشتملت على زوائد، يقول ناظمها:

فائقة ألفية العراقي

 

في الجمع والإيجاز واتساقِ

هناك مقارنة بين الألفيتين أدت نتيجتها إلى تفضيل ألفية العراقي، ولو لم يكن من ذلك إلا إمامة الحافظ العراقي في مقابل أهلية السيوطي، السيوطي جمّاع، وعنده مخالفات في هذا العلم وفي غيره، وعنده تساهل، وهو أيضًا عليه ملاحظات كبيرة في باب الاعتقاد، وهذا العلم دين فانظر عمن تأخذ دينك؟ ولو لم يكن من وجوه المفاضلة والموازنة إلا إمامة الحافظ العراقي.

السيوطي يقول:

فائقة ألفية العراقي

 

في الجمع..........................

يعني جمع "والإيجاز" في الجمع يعني زاد عن الحافظ العراقي أنواع والإيجاز اختصار، والاتساق الترتيب، كونه زاد أنواع أولًا: هذه الأنواع جاءت على حساب أشياء تركها مما أشار إليها الحافظ العراقي، والإيجاز مع هذا الجمع الزائد لا شك أنه في مقابل متروك، وأما بالنسبة للترتيب ففي ترتيب الحافظ العراقي تبع للأصل الذي هو علوم الحديث لابن الصلاح ما في شك أن فيه ما يلاحظ عليه، وأمر الترتيب سهل، ليس بمعضل يعني تقدم باب على باب أو تأخر أمره سهل، وعلى كل حال كون السيوطي زاد أنواع، عشرة أنواع مثلًا، لا شك أنها على حساب شيء متروك في ألفية العراقي، وهو استيعاب الأقوال -أقوال العلماء- والأمثلة ووضوح الحد والتعريف، قد يقتصر السيوطي على تعريف واحد بينما يذكر الحافظ العراقي الخلاف في التعريف الذي يترتب عليه فائدة عملية، وقد يذكر الحافظ العراقي من وجوه الخلاف يستوعب الخلاف ويقتصر السيوطي على قول أو قولين، في الأمثلة كذلك وإلا فعدد الأبيات واحد، هذه ألفية وهذه ألفية سواء زادت ألفين أو نقصت بيتين ما له أثر، إذا كان عدد الأبيات واحدًا وزادت إحداهما على الأخرى ألا يكون هذا على حساب وضوح في النظم؟ ألا يكون على حساب سرد لأقوال حذفها الذي زاد بعض الأنواع؟ وأيضًا على حساب بعض الأمثلة، وأيضًا هذه الألفية -ألفية العراقي- أصل لألفية السيوطي، يقول:

واقرأ كتابًا تدري منه الاصطلاح

 

كهذه................................

يعني ألفيته "أو أصلها" يعني ألفية العراقي "وابن الصلاح" فألفية العراقي أصل لألفية السيوطي؛ ولذا تجدون التشابه كبير بين الألفيتين، فقد يأخذ السيوطي شطر بيت ويكمله من عنده، يأخذ شطر بيت من ألفية العراقي ثم يكمله، ولا يعني هذا التقليل من شأن ألفية السيوطي أو التقليل من وجهة نظر من يفضل ألفية السيوطي، لا، كل له اجتهاد، لكن أنا أقول: يعنى طالب العلم بألفية العراقي، وما زاده السيوطي في ألفيته يمكن أخذه منها على أن الأبواب التي يهتم بها طالب العلم ويحتاج إليها حاجة ماسة ما ترك منها شيئًا الحافظ العراقي، يوجد بعض الأبيات في ألفية العراقي تحتاج إلى شيء من التقويم، فيها شيء من التكسر، ولا شك أن هذا نظم عالم، يعني ليس النظم مهنته، يعني ما هو معدود في عداد الشعراء، لا، هو في عداد العلماء الذين ينظمون العلوم، وقد يقع في بعض الأبيات شيء من الخلل في الوزن، وقد يحتاج إلى أداء معين بطريقة معينة؛ ليتسق البيت، مما سيِأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-؛ ولذا إذا نظروا في شعر مثلًا هو في الأصل لشاعر أو انتقدوا عليه شيء من عدم الاتساق قولوا: هذا نظم فقهاء، وإن كان في الفقهاء من يجيد النظم، كالإمام الشافعي، ولا يعني أن الفقهاء لا يعرفون النظم، هم ينظمون، والعلماء نظموا العلوم، وأحسنوا في هذا، وأجادوا، وانتفع الناس بهذا النظم، ضبط العلوم، يعني ما رأيك لو أن طالب العلم أتقن مثل هذه الألفية، ومثل نونية ابن القيم، ومثل نظم ابن عبد القوي في الفقه، ومثل منظومة الآداب، ومنظومات كثيرة جدًّا، يعني لو أن طالب العلم تسعفه الحافظة لحفظ نونية ابن القيم كم يكون عنده من سائر العلوم والفنون بسبب هذا النظم، خمسة ألاف وثمانمائة وستين بيت، يعني لو استخرج ما فيها من جرح وتعديل للرواة وحكم على الأحاديث لجاء في مصنف مستقل، دعونا من مسائل الاعتقاد الذي هو أصل النظم، أقول: العلماء أحسنوا في نظم العلوم، وهم في نظمهم لهذه العلوم ساهموا مساهمة قوية في ضبطها وإتقانها وحفظها؛ لأن النظم يثبت أكثر من النثر، والشعر على كل حال كلام، مباحه مباح، ومحظوره محظور، وإن كان بعض أهل العلم كالشعبي يقول: لا ينبغي أن تكتب البسملة في الشعر؛ لأنه ليس بذي بال، وليس بذي شأن يهتم به، لكن أين الشعبي من هذه المؤلفات التي حفظت لنا العلوم؟ والقول المحقق أن الشعر كلام مباحه مباح ومحظوره محظور، ومستحبه مستحب وهكذا، جاء في الحديث الصحيح: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا)) إذا حفظ الطالب ألفية العراقي وحفظ ألفية ابن مالك ونونية ابن القيم ونظم ابن عبد القوي يكون امتلأ جوفه شعر وإلا ما امتلأ؟ حفظ مثلًا عشرين أو ثلاثين ألف بيت امتلأ وإلا ما امتلأ؟ حتى يريه، ما معنى حتى يريه؟ حتى لا يبقى لأي شيء من أصناف العلوم والكلام شيء في جوفه، وإلا الحديث واضح حتى يمتلئ الآن هذه ممتلئ، هل نستطيع أن نزيده من هذا؟ نعم، لكن هذا ما امتلأ نستطيع أن نزيده من هذا، أنت افترض أنك حفظت العلوم كلها وامتلأ جوفك مثل هذا كلها نظم ينطبق عليك الحديث، فأين تضع الكتاب والسنة؟ قال الله وقال رسوله أين تضعه بعد أن امتلأ جوفك؟ لكن إذا حفظت من النظم بقدر هذا وحفظت الكتاب والسنة وملأت الجوف من الكتاب والسنة بعد هذا لا ينطبق عليك الحديث، فالحديث محمول على من ملأ جوفه من الشعر بحيث لا يستوعب غيره، لا قرآن ولا سنة ولا أقوال سلف ولا شيء، ما عنده إلا شعر، يعني لو جئنا إلى الأصمعي مثلًا يحفظ عشرين ألف قصيدة، لكن هل الأصمعي ما يحفظ القرآن؟ ما يحفظ شيئًا من السنة؟ ما يحفظ شيئًا من أقاويل؟ يحفظ، إمام من أئمة المسلمين، وإن كان رسوخ قدمه في اللغة أكثر من غيره، لا يعني هذا أنه امتلأ جوفه شعر وهو لا يحفظ القرآن، نعم إذا أهمل القرآن وما حفظ القرآن ولا حفظ من السنة شيئًا واعتنى بالشعر ينطبق عليه الحديث، أما إذا استوعب الشعر ما يحتاج إليه من الشعر بعد حفظ القرآن والسنة وحفظ أقاويل السلف لا يتجه إليه الذم الوارد في هذا الحديث، والحديث في الصحيحين؛ لأنه قد يستشكل بعض الناس هذا الحديث، كيف نعنى بالشعر والنبي -عليه الصلاة والسلام- ذم الشعر؟ الشعر أنشد بين يديه -عليه الصلاة والسلام-، وقال: ((اهجهم وروح القدس يؤيدك)) إذًا الشعر ليس بمذموم، لكن نعم العناية بالشعر بحيث لا يبقى في الجوف ولا في القلب مكان لأي كلام غير الشعر، هنا يتجه الذم، فلا يشكل علينا مثل هذا الحديث.

ونشرع بالمقصود نحتاج إلى الإشارة إلى أن الألفية طبعت مرارًا، طبعت بالهند سنة ألف وثلاثمائة، وطبعت بعد ذلك مرارًا في مصر والمغرب وباكستان، طبعت طباعات كثيرة، فممن طبعها الشيخ أحمد شاكر طبعته جيدة في الجملة، فيها بعض الأخطاء وهي تتفق كثيرًا مع طبعة الشيخ حامد الفقيه، الشيخ أحمد شاكر طبعها ضمن مجموعة سماه: "من الروائع" بالاشتراك مع أخيه علي، والشيخ حامد الفقيه طبعها ضمن مجموع نفائس، والطبعتان متقاربتان جدًّا، وطبعت أيضًا مع الشروح، وطبعت بمصر مع شرح المصنف، وطبعت أيضًا بفأس بالمغرب مع شرح المصنف وشرح زكريا الأنصاري، المقصود أنها طبعت مرارًا، وما زال الطبع جاريًا إلى أن ظهرت هذه الطبعة التي هي آخر الطبعات طبعة دار المنهاج، وهي محررة ومتقنة ومضبوطة ومتعوب عليها، ولما خرجت قرأها بعض طلاب العلم، واستدركوا عليها بعض الأشياء، ولا بد من الوقوع بمثل هذا، والعمل بتضافر الجهود يكمل -إن شاء الله تعالى-، زودنا ببعض الملاحظات من بعض الإخوة التي عندهم شيء من الدقة والتحري والضبط، ولا بد أن يقع أيضًا في الطباعات الأخرى التي اعتني بها بعد هذا الملاحظات، لا بد أن يقع، وهذه طبيعة عمل البشر، والمحفوظ المحصون هو كتاب الله -جل وعلا- الذي تكفل بحفظه، واليوم تكتب كتابة وغدًا تقول: ليتني غيرت، ليتني بدلت، وهذا له وجه يلوح لك وجه في إعراب كلمة ثم من الغد يلوح لك غيره، فأنت ما عندك تردد في ضبطها في هذا اليوم، ثم إذا ثبتت وانتشرت بين الناس قلت: ليت والله أن الضبط هذا تبين أنه أرجح، ولا بد من هذا، وكتب البشر كلها على هذه الطريقة، ولو ظهر كتاب مصون مضبوط محرر متقن ما عليه أدنى ملاحظة ما صار لكتاب الله أي ميزة، ولحفظه أهمية، والله المستعان.

نعم.

الحمد لله حمد كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا وارفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا، واغفر لنا ولشيخنا والسامعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال الإمام الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- في منظومته البديعة الشهيرة المسماة بـ(ألفية العراقي)، غفر الله له ولجميع علماء المسلمين وجازاهم خير ما جازى عالمًا عمن دعوهم إلى السنة.

قال -رحمه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول راجي ربه المقتدرِ
من بعد حمد الله ذي الآلاء
ثم صلاة وسلام دائمِ
فهذه المقاصد المهمهْ
نظمتها تبصرة للمبتدي
لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه
فحيث جاء الفعل والضميرُ
كـ(قال) أو أطلقت لفظ الشيخ ا
وإن يكن لاثنين نحو (التزما)
والله أرجو في أموري كلها

 

عبد الرحيم بن الحسين الأثري
على امتنان جل عن إحصاء
على نبي الخير ذي المراحمِ
توضح من علم الحديث رسمه
تذكرة للمنتهي والمسندِ
وزدتها علمًا تراه موضعه
لواحد ومن له مستورُ
أريد إلا ابن الصلاح مبهما
فمسلم مع البخاري هما
معتصمًا في صعبها وسهلها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتدأ -رحمه الله تعالى- بالبسملة اتباعًا للقرآن الكريم، وعملًا بحديث: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع)) والحديث مضعف عند أهل العلم، وله طرق، وله ألفاظ مختلفة محكوم على جميعها بالضعف، بجميع طرقه وألفاظه عند جمع من الأئمة، وأثبت بعضهم رواية: الحمد، وجعلها من قبيل الحسن، وعلى كل حال فيما جاء في كتاب الله -جل وعلا- من افتتاح بالبسملة والحمدلة ما يجعل الأمر مشروعًا، وبعض الناس إذا اطلع على أمر من الأمور وقد ورد فيه حديث قد ضعف حكم على الأمر بأنه مبتدع؛ لأن عمدته حديث ضعيف، وقد خفي عليه من الأصول التي يعول عليها في إثبات مثل هذا ما يخفى، فالعلماء قاطبة عولوا على الاقتداء بالقرآن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يكتب البسملة في رسائله، ويفتتح الخطب بالحمدلة، وهذا معروف في الشرائع السابقة، ففي رسالة سليمان -عليه السلام- لبلقيس، جاءت الرسالة: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [(30) سورة النمل]، فافتتح بالبسملة.

قد يقول قائل: إنه افتتح باسم سليمان من سليمان، بسم الله الرحمن الرحيم، اتباعًا لما جاء في القرآن: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [(30) سورة النمل]، هو خبر عن مصدر الكتاب: وهو سليمان، لكن الكتاب افتتح بالبسملة، الافتتاح بالبسملة والحمدلة أمر نسبي، وإذا عرفنا أن المعول عليه هو ما جاء في الكتاب والسنة، وإن لم يكن قولًا وإنما عملًا، القرآن افتتح بالبسملة والحمدلة، والرسائل النبوية افتتحت بالبسملة، والخطب النبوية افتتحت بالحمدلة؛ فهل لقائل أن يقول: إن الافتتاح بالبسملة والحمدلة بدعة؟ وهل يتصور هذا من مسلم؛ فضلًا عمّن عانى العلم، وقرأ في كتب أهل العلم؟ وهل تتوقعون أن شخصًا يكتب في العقيدة يقول: "كانت الكتب التقليدية تستفتح بالبسملة، والحمدلة"؛ ما أدري بما يستفتح مثل هذا؟! بناءً على ماذا؟ بناءً على أن الحديث الوارد في الافتتاح بالبسملة والحمدلة ضعيف، ضعف الحديث دعونا من الحديث، لكن أليس في كتاب الله قدوة وأسوة، أليس في صنيع النبي العملي -عليه الصلاة والسلام- ما صحت به السنة؛ أسوة وقدوة؟ يكفي هذا لإثبات المشروعية، "يقول راجي.."، لسنا بصدد الكلام على البسملة، وإعراب البسملة، هذا كلام تكرر في مناسبات كثيرة، وفي كتب كثيرة.

"يقول" الآن الحافظ العراقي افتتح بالبسملة؛ فهل ثنى بالحمدلة؟

يقول راجي ربه المقتدر

من بعد حمد لله ذي الآلاء

 

عبد الرحيم بن الحسين الأثري

...................................

ذكر اسمه قبل الحمدلة، لكنه وإن ذكره لفظًا إلا أنه قدم الحمدلة حكمًا؛ لماذا؟ لأنه قال:

يقول راجي ربه المقتدر

من بعد.......................

 

عبد الرحيم بن الحسين الأثري

...................................

يعني متى ذكر اسمه؟ بعد حمد الله ذي الآلاء، فحكمًا الحمد متقدم على ذكر اسمه، حكمًا؛ لأنه جعل ذكر اسمه من بعد حمد الله ذي الآلاء، فلعله تلفظ بالحمد، فقدم الحمد حقيقةً لفظًا، ثم في التسطير، والكتابة ذكر الاسم، وهو متأخر حكمًا، وإن تقدم لفظًا، يعني كما سيأتينا في قوله: "فمسلم مع البخاري" هل نقول: إن الحافظ العراقي قدم مسلم على البخاري؟ نعم، قدمه ذكرًا، لكن حقيقةً؟ هو يقدم البخاري في هذا البيت لماذا؟ لأن المعية معية مسلم تشعر بالتبعية للبخاري؛ ولذا إذا قلت: جئت مع فلان، أيكم التابع وأيكم المتبوع؟ يصير المتكلم هو التابع، إذا قال: جئت مع فلان، لكن إذا قال: جاء معي فلان، يصير المتكلم متبوع، فهو وإن قدم مسلمًا في الذكر إلا أنه قدم الإمام البخاري في الحكم، وهذا نظير ما يفتتح به هنا، يعني ابن الجوزي يقول: تعرف نباهة الطفل، وهو يلعب مع أقرانه، إذا قال: من يلعب معي، هل يختلف الحكم فيما إذا قال: من ألعب معه؟ نعم، يقول ابن الجوزي: يختلف هذا، الذي يقول: من يلعب معي، دل على أنه رأس من الصغر، بخلاف من يقول: من ألعب معه، دل على أنه تابع.

يقول راجي ربه المقتدر

 

عبد الرحيم بن الحسين الأثري

لكن لو أراد أن يستفتح بالحمد ماذا يقول؟ لأنه ذكر اسمه في البداية بعد أن ذكر البسملة، وذكره لاسمه كما صرح به هو من بعد حمد الله ذي الآلاء، فهو حكمًا قدم الحمد، سواءٌ كان حقيقة بأن تلفظ به قبل أن يذكر اسمه، أو حكمًا؛ لأن ذكر اسمه واقع وكائن بعد حمد الله.

"يقول راجي" يقول، معروف أنه فعل مضارع يقول، والأصل أن يقول: قال، قال راجي ربه المقتدر؛ لأن القول انتهى، أو مازال يقول؟ نعم، يعني المضارع يستفاد منه الاستمرار، يراد منه الاستمرار، فهو ما زال يقول، وكتابته لهذه المقدمة لا تخلو إما أن تكون قبل تمام النظم أو بعده، والذي يغلب على النظم أنها بعد تمامه للنظم؛ لأنه ذكر الاصطلاحات فيها، ذكر الاصطلاحات التي مشى عليها في جميع الألفية، فهو لا يذكر هذه الاصطلاحات إلا بعد أن أوجدها في الواقع "يقول" الأصل أن يقول: قال؛ لأنه ذكر هذه المقدمة فيما يغلب على الظن بعد تمام النظم، لما نظم أقسام الحديث وما يليه تبعًا لابن الصلاح، وإلى آخر الألفية ذكر هذه المقدمة بعد أن تصورها، وتصور الاصطلاحات التي أودعها في هذه الألفية، وهذا غالب المؤلفين على هذا، جرى عليه غالب المؤلفين يضعون الكتاب يؤلفون الكتاب يضبطون الكتاب بجميع ما يحتاجه الكتاب، ثم بعد ذلك يكتبون المقدمة؛ لأنهم يحتاجون إلى اصطلاحات يبينونها، والاصطلاحات لا تبين كاملة، والتصور لا يكون شامل للكتاب إلا بعد تمامه.

يقول راجي ربه المقتدر

 

...................................

راجي: اسم فاعل من الرجاء، وهو مضاف، وربه: مضاف إليه، المقتدر: وصف للرب -جل وعلا-،

...................................

 

عبد الرحيم ابن الحسين الأثري

أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي الأثري، المولود سنة خمس وعشرين وسبعمائة، المتوفى سنة ست وثمانمائة.

والحمد: هو الإخبار عن الله -جل وعلا- بصفات كماله، ونعوت جلاله مع حبه وتعظيمه، وكثير من أهل العلم يعرفون الحمد بالثناء على المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله، لكن الحمد غير الثناء، مجرد الإخبار عن الله -جل وعلا- بصفات كماله هذا حمد، لكن تكرار المحامد تكرار هذا الإخبار مرة بعد أخرى، يسمى ثناء.

انـقـطـاع....

علوم الحديث لابن الصلاح، لكن لما جاء ابن الصلاح، ولخص ما في هذه الكتب، وذكر أمثلة من مواقع استعمال الأئمة لهذه الاصطلاحات، ورتب الكتاب ترتيبًا، وأملاه على طلابه شيئًا فشيئًا حتى اكتمل، لما خرج كتاب ابن الصلاح، واستوعب جميع ما تقدمه مما يحتاج طالب العلم في الكتب المنثور عكف الناس عليه، حتى قال الحافظ: لا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومعارض له ومنتصر، ومستدرك عليه ومقتصر، يعني داروا في فلكه، واقتصروا عليه، وعكفوا عليه، وممن نظمه الحافظ العراقي.

هناك منظومات لابن الصلاح ذكرت في مقدمات الشروح، ومقدمة هذه الطبعة –أيضًا- فيها بعض المنظومات، لكن لا شيء يعادل هذه الألفية من منظومات علوم الحديث لابن الصلاح.

لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه

 

...................................

"أجمعه" تأكيد، تأكيد يعني لم يفرط بشيء مما يحتاج إليه طالب العلم، قد يترك بعض الاستطراد الذي يستغنى عنه بغيره، لكنه لم يترك من مهمات هذا العلم شيئًا "أجمعه" والتأكيد بأجمع دون كل مستعمل، الأصل أن تأتي أجمع بعد كل: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [(73) سورة ص]، لكن تأتي أجمع بدون كل: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [(93) سورة يوسف]، بدون كل، فيستعمل هذا وهذا.

"وزدتها" زدت هذه المنظومة "علمًا" على ما في كتاب ابن الصلاح "تراه موضعه" في كل باب من أبواب زاد الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-.

وزدتها علمًا تراه موضعه

 

...................................

تراه في موضعه، تجده في موضعه، وبعضه متميز بنفسه؛ كالنقل عن متأخر عن ابن الصلاح، إذا نقل الحافظ العراقي عن النووي مثلًا:

............لكن قال يحيى البر

 

لم يفت الخمسة إلا النزر

هذا ما نعرف أنه مزيد على ابن الصلاح؟ كيف ينقل ابن الصلاح على النووي؟ ما يمكن.

وزدتها علمًا تراه موضعه، إذا تميز بنفسه لا يحتاج أن ينبه عليه، قد يحتاج إلى التنبيه؛ لكون النقل عن متقدم على ابن الصلاح:

قلت: ولابن خير امتناع

 

جزم سوى مرويه إجماع

هذا ميزه بقوله: "قلت" وقد يتميز بنفسه، وقد لا يتميز، وذكر الناظم -رحمه الله تعالى- أمثلة في مقدمة شرحه لنقول لا يمكن تمييزها إلا من خلال قراءة الشروح، ومقابلة الألفية بأصلها، مثل هذه المواضع يعتنى بها "تراه موضعه"

فحيث جاء الفعل والضمير

 

...................................

الفاء هذه الفصيحة:

فحيث جاء الفعل والضمير

 

لواحد ومن له مستور

يعني ما جاء الشيخ، ما جاء ذكر فاعل الفعل، لم يأت ذكر الفاعل، يعني ضمير مستتر:

فحيث جاء الفعل والضمير

 

لواحد ومن له مستور

يعني الفاعل مستتر كقال:

وقال: بان لي بإمعان النظر

 

...................................

من القائل؟ يعني بدون ذكر الفاعل، الفاعل ضمير مستتر يعود على من؟ "كقال أو أطلقت لفظ الشيخ"؛ "الشيخ فيما بعد قد حققه"، "كقال" بدون ذكر فاعل هذا ابن الصلاح، الشيخ ابن الصلاح:

كقال أو أطلقت لفظ الشيخ ما

 

أريد إلا ابن الصلاح مبهِما

أو مبهَما حال من الناظم إذا قلنا مبهِمًا، يعني كان حال كوني مبهمًا إياه، أو ما أريد إلا ابن الصلاح مبهَمًا يعني حال كونه مبهَمًا، فيجوز هذا وهذا.

انتهينا من إذا قال: قال، أو أطلق لفظ الشيخ يريد به ابن الصلاح.

"وإن يكن" يعني الضمير "وإن يكن لاثنين" ضمير تثنية "نحو التزما" ضمير تثنية، هل يمكن أن يقول: ليقال لواحد الذي هو ابن الصلاح التزما؟ لا يمكن:

وإن يكن لاثنين نحو التزما

 

فمسلم مع البخاري هما

يعني إذا أتى بضمير اثنين "ولم يعماه" هل يمكن أن نقول: ابن الصلاح؟ "ولم يعماه" لا، يريد بذلك البخاري ومسلم "فمسلم" يعني مرادي مسلم "مع البخاري" منضافًا ومضمومًا إلى البخاري، وعرفنا أن تقديمه لمسلم لا يعني أنه يفضل مسلم على البخاري، ولا يعني أنه يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، لما يشعر به لفظ مع، وقدمنا الكلام عليه في أول الكلام؛ لأن المعية تشعر بالتبعية، فمسلم تابع للبخاري:

...................................

 

فمسلم مع البخاري هما

ضمير التثنية، ولم يعماه، يعني البخاري ومسلم، لكن أحيانًا تأتي الألف لا للتثنية، إنما تأتي ألف إطلاق مثلًا:

وقيل: ما لم يتصل وقالا:

 

بأنه الأكثر لا استعمالا

الألف هذه تثنية، أم إطلاق؟ هذه إطلاق، وليست تثنية، وإلا فالأصل "وقال"، فهذه تعود إلى الضمير يعود إلى ابن الصلاح، قد تأتي التثنية لغير البخاري ومسلم، قد تأتي التثنية لغير البخاري ومسلم كما لو استدرك ذكر قول لشخص، أقول: ثم ذكر بعده قولًا آخرًا لشخص آخر، وأراد أن يرد على الاثنين، هذا واضح أنه لا يريد بذلك البخاري ومسلم، وإنما يريد الاثنين الذين تقدما، ويأتي لكل هذا أمثلة -إن شاء الله تعالى-.

...................................

 

فمسلم مع البخاري هما

"والله أرجو" اللهَ أرجو: مفعول به مقدم، والله أرجو، أرجو: فعل، وفاعله مستتر تقديره أنا "في أمور كلها معتصِمًا" أو معتصَمًا يرجو من الله -جل وعلا- في أموره كلها معتصَمًا يعتصم به، أو يرجو الله -جل وعلا- تيسيرًا لأموره كلها حال كونه معتصمًا به، واثقًا به "معتصمًا في صعبها وسهلها" فهذه حال، فحال كونه معتصمًا بالله -جل وعلا-؛ يرجوه التيسير والتسهيل للأمور كلها، ولولا تيسير الله -جل وعلا-، ولولا توفيق الله -جل وعلا-، ولولا إعانة الله -جل وعلا-؛ لما تم أمر من الأمور، فالأمور كلها بيد الله -جل وعلا-، فنرجوه -جل وعلا- أن يسهل لنا أمور ديننا، ودنيانا "في سهلها وصعبها" الصعب والحزن الشديد، وكلٌ منهما يقابل السهل، الصعب يقابل السهل، الحزن يقابل السهل، وسعيد بن المسيب بن حزن، أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- تغييره إلى سهل؛ لأن السهل أفضل من الصعب، وأفضل من الحزن، فما رضي وقال: إن السهل يوطأ؛ ولذا يقول سعيد: ما زالت الحزونة فينا، واختار الناظم الصعب دون الحزن لأمرين:

الأمر الأول: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بتغييره، فهو لفظ، وإن كان مطروقًا، ومعناه صحيح في اللغة، إلا أنه مفضول، واختار الصعب –أيضًا-؛ لأن تصحيفه صعب، تصحيف حزن أسهل، التصحيف إلى الحزن أسرع من التصحيف إلى الصعب، فاختار الصعب، وإن كان الحزن يأتي، ولا يختل الوزن، وهو المقابل لسهل بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بتغيير حزن إلى سهل لكن لما ذكرنا، التصحيف أسرع إلى كلمة حزن؛ لأن الحاء يسهل تصحيفها، والزاي كذلك، والنون أسهل من الصاد والعين، وإن قال بعضهم أنه ما المانع أن الصاد يوضع عليها نقطة فتصحف أو العين كذلك؟ لا؛ لأن المسألة مسألة نطق وارتباط بكلام، نعم وارتباط كلام بأوله وآخره، وسياق فيصعب في موضعها تصحيفها.

الأمر الثاني: أنه لفظ مفضول أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بتغييره، وننتهي بهذا المقدار.

والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

"