التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحج (07)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج:41]

قَالَ الزَّجَّاجُ: {الَّذِينَ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ رَدًّا عَلَى {مَنْ}، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج: 40]. وَقَالَ غَيْرُهُ: {الَّذِينَ} فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ}، وَيَكُونُ {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ".

هذا الوصف الذي ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن مُكِّن يحتمل أن يعود على المنصوب، في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} من ينصره، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} هم الذين إن مكناهم، {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}. وهؤلاء يستحقون النصر، وهذه مقومات النصر.

 ويحتمل أن يكون مجرورًا صفةً أو بدلاً من: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُون} [سورة الحج:39]، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ}. والاحتمال قائم باعتبار أن اللفظ لا يتغيَّر من حالة النصب أو الجر، سواءً كان منصوبًا أو مجرورًا، فاتفاق علامة الإعراب وهي الياء، في حالتي النصب والجر جعل الاحتمال قائمًا. مع أن المعنى يحتمل ذلك، مع أن الأقرب أن يكون وصفًا لمن ينصره الله- جلَّ وعلا-؛ لأن هذه مقومات النصر: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء على كل حال يستحقون النصر.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: يَعْنِي الْوُلَاةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَنْ آتَاهُ الْمُلْكَ، وَهَذَا حَسَنٌ".

حسن؛ لأن التمكين في الأرض إنما هو للولاة المُتصفين بهذه الصفات.

"قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ".

واجبٌ عليه، على السلطان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وواجبٌ على العلماء الذين يأتونه أن يأمروه وينهوه. وإن لم يكن أمره كأمر غيره، هو مجرد تذكير وتخويف ونُصح لله ورسوله.

"وَلَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَأْمُرُوا السُّلْطَانَ".

بمعنى الأمر، إذا أخذنا المعنى اللغوي للأمر: هو الطلب، طلب الأعلى من الأدنى، هذه حقيقة الأمر، وهنا العكس، السلطان في ميزان الشرع هو الأعلى، وكلمته نافذةٌ فيهم، وطاعته واجبةٌ عليهم. وعلى هذا، فهم يبينون له الحق، وبيانه نصحٌ له، وبيان الحق للسلطان ولولي الأمر، لا معارضة بينه وبين الطاعة، أبدًا وليس فيه معنىً من معاني الخروج على الإمام أو ما أشبه ذلك، على أن يكون بالطريقة المناسبة التي تؤتي ثمارها. ولذا قرن النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الطاعة وبين الأمر والنهي والنُصح في حديث: «الدينُ النصيحة، الدينُ النصيحة، الدينُ النصيحة» ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

فالنصيحة لا تعني عدم الطاعة لولي الأمر، أبدًا. وفي حديث عبادة: بايعنا رسول -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، على أن نقول أو نقوم بالحق، لا نخاف في الله لومة لائم.

فعلى العلماء أن يبينوا للولاة وينصحوهم ويوجهوهم. ومع ذلك، طاعتهم واجبة وفرض بكتاب الله وسُنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ولا تقوم الأمور إلا بهذا، بالجمع بين هذين الأمرين. لا تقوم الأمور وتكتمل ويتم التمكين بالخروج على الولاة وشهر السلاح بوجوههم، ولا على تركهم أيضًا، يصنعون ما يريدون ويفعلون ما شاؤوا من غير توجيهٍ ولا نُصح؛ لأنهم في الجملة ليسوا من أهل العلم الذي يدركون دقائق الأمور وخفاياها في أمر الحلال والحرام، بل قد يخفى عليهم بعض الأمور، فيوجهون إليها ويُنصحون بها.

"وَلَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَأْمُرُوا السُّلْطَانَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ".

نعم، من واجبات ولي الأمر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة العدل بين الناس والحفظ على الأمن بكل ما يستطيع.

"وَلَا يَأْمُرُوا الْعُلَمَاءَ؛ فَإِنَّ الْحُجَّةَ قَدْ وَجَبَتْ عليهم".

لكن لا يعني هذا إذا بُيِّن للعالم الذي وقع في ذلةٍ أو هفوةٍ أو رؤي منه تقصير، بُيِّن له، ليس هذا أمر ولا نهي، إنما هو مجرد بيان ونُصح، والعلماء يدخلون في الأئمة، على خلافٍ بين أهل العلم في المراد بالأئمة، هل هم الأمراء والحكام؟ أو هم العلماء؟

"قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} [سورة الحج:42-44].

هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَتَعْزِيَةٌ، أَيْ: كَانَ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ كُذِّبُوا فَصَبَرُوا إِلَى أَنْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ، فَاقْتَدِ بِهِمْ وَاصْبِرْ. {وَكُذِّبَ مُوسى} أَيْ: كَذَّبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ".

يعني فرعون وقومه، يعني قوم فرعون لا قوم موسى؛ لأنه لو نظرنا إلى السياق: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ} هؤلاء كلهم كذبوا أنبيائهم، لكن موسى ما كذبه قومه، إنما كذبه فرعون وقومه؛ ولذا قال: {وَكُذِّبَ مُوسى}.

"فَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَا كَذَّبُوهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَيَكُونَ وَقَوْمُ مُوسَى. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ} أَيْ: أَخَّرْتُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَةَ. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فَعَاقَبْتُهُمْ. {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ، أَيْ: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ تَغْيِيرِي مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ، فَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ، وَالْمُنْكَرُ واحد المناكير.

قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [سورة الحج:45]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} أَيْ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا. وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ"  الْكَلَامُ فِي كَأَيِّنْ. {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أَيْ: بِالْكُفْرِ. {فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} تَقَدَّمَ فِي الْكَهْفِ. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قَالَ الزَّجَّاجُ: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} مَعْطُوفٌ عَلَى {مِنْ قَرْيَةٍ} أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَمِنْ أَهْلِ بِئْرٍ. وَالْفَرَّاءُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ {وَبِئْرٍ} مَعْطُوفٌ عَلَى {عُرُوشِها}. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ نَافِعَ بْنَ أَبِي نُعَيْمٍ: أَيُهْمَزُ الْبِئْرُ وَالذِّئْبُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَهْمِزُهُمَا فَاهْمِزْهُمَا. وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ نَافِعٍ بِهَمْزِهِمَا، إِلَّا وَرْشًا فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ الْهَمْزُ".

والكسائي أيضًا، الكسائي لا يهمز. وقيل له: لِمَ لا تهمز "الذئب"؟ قال: أخاف أن يأكلني.

"وَمَعْنَى {مُعَطَّلَةٍ} مَتْرُوكَةٌ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا لِهَلَاكِهِمْ. وَقِيلَ: غَائِرَةُ الْمَاءِ. وَقِيلَ: مُعَطَّلَةٌ مِنْ دِلَائِهَا وَأَرْشِيَتِهَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: رفيعٌ طويل. قال عدى بْنُ زَيْدٍ:

شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ ... سًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ

أَيْ: رَفَعَهُ".

شَادَهُ، أي: رَفَعَهُ.

"وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُجَصَّصٌ، من الشِّيد وهو الجِص. قال الراجز:

لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرًا ... كحينة الْمَاءِ بَيْنَ الطِّينِ وَالشِّيدِ

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَلَا أُطُمًا إِلَّا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ"

يقول: قال الراجز، والبيت ليس من الرجز، والشاعر ما عُرف بالإكثار من الرجز، يعني لو كان البيت لرؤبة، قيل: قال الراجز، ولو لم يكن من الرجز؛ لأنه عُرِف بكثرة الرجز. ولأبي العتاهية راجز أيضًا. أما صاحب البيت: الشمَّاخ فهذا ليس بمُكثرٍ من الرجز، فلا يوصف به، والبيت ليس من الرجز.

"وَقَالَ ابْنُ عباس: {مَشِيدٍ} أي: حصين، وقاله الْكَلْبِيُّ. وَهُوَ مَفْعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَمَبِيعٍ بِمَعْنَى مَبْيُوعٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَشِيدُ الْمَعْمُولُ بِالشِّيدِ. وَالشِّيدُ (بالكسر): كل شيءٍ طَلَيْتَ بِهِ الْحَائِطَ مِنْ جِصٍّ أَوْ بَلَاطٍ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، تَقُولُ: شَادَهُ يَشِيدُهُ شَيْدًا جَصَّصَهُ. وَالْمُشَيَّدُ (بِالتَّشْدِيدِ) الْمُطَوَّلُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "الْمَشِيدُ" لِلْوَاحِدِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}، وَالْمُشَيَّدُ لِلْجَمْعِ، من قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [سورة النساء: 78]. وفى الكلام مضمر مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ مِثْلِهَا مُعَطَّلٍ".

نعم، هل السياق، سياق يدلُّ على ذمِّ تشييد القصور؟ أو أن هذا وصفٌ للواقع، الذي حصل لهؤلاء أصحاب القصور المُشيدة، أنهم ما منعتهم هذه القصور من عذاب الله وعقابه؟ وجاءت نصوص تدلُّ على تحريم الإسراف، ومنع التبذير، لا سيما فيما يتعلَّق بالطين، وأن الدنيا ممر وليست بمقر، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» مقتضى هذا: أن لا تُشيَّد البيوت ولا تُعمر القصور ولا تُرفع؛ لأن المسألة مسألة ممر، والذي يضع نفسه في هذا، يتصور نفسه في حال المسافر، لا يمكن أن يُشيد بيوتًا أو قصورًا.

 وعلى كل حال، المسألة مسألة توسط في الأمور كلها، فما زاد على الحاجة، يؤاخذ عليه الإنسان، كما أنه لا ينبغي أن ينقص عن حاجته فيضر بنفسه وبمن تحت يده. ليس معنى هذا أن الإنسان القادر على سكن البيت، أن يُنزل نفسه وأولاده في طرقات الناس، أو في أماكنهم العامة، أو الحدائق، منهم من يسكن المقابر، لكن هذا من عجز، مثل هذا لا يُلام إذا لم يجد غير هذا المكان. لكن المسألة في الزيادة على قدر الحاجة.

 هنا: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} التنصيص عليه يدلُّ على أن وضعه يختلف عن القصر العادي، مثل هذا الذي لا يمنع من عذاب الله ولا من عقوبته، وفيه من بذل الأموال التي لا حاجة إليها ولا داعي لها، فمثل هذا ما يمنع أن يكون مذمومًا، بل جاء ما يدلُّ على ذمه، وفي سورة النساء: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [سورة النساء: 78].

وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قصة من المتقدمين من بني إسرائيل أو من قبلهم، أن شخصًا كان مملوكًا لأسرة، فحصل ولادة لربة المنزل، التي هي سيدته، فقالت له: ائتني بالسكين، وكان قبل ذلك قد رأى رؤية، فقيل له: أن ربة البيت سوف تلد بنتًا، وسوف تزني هذه البنت مئة زنية وسوف تتزوجها أنت، فلما طُلِب منه أن يأتي بالسكين لقطع السرة، بقر بطنها بالسكين، وهرب عن البلد، واشتغل بالتجارة، ومكث مدة عشرين سنة، ثمَّ عاد إلى بلده، ظنًّا منه أن المسألة قد نُسيت، بأموالٍ طائلة. فلما حضر إلى بلده، قال لامرأةٍ، سمسار، خطِّيبة، على ما يقول الناس، تبحث للرجال عن النساء، فقال لها: أريد أجمل بنت في البلد، فدلته على واحدة، فلما أطلع على أسرارها، وجد أثر خياطة في بطنها، فغلب على ظنه أنها هي، قال: ما هذه؟، قالت: وقت الولادة، تذكر الوالدة أن مملوكًا لنا فعل كذا وكذا وهرب، ثمَّ بعد ذلك أخذ يستذكر الرؤية، هل حصل لكِ كذا؟ هل سبق أن قارفتي الفاحشة؟ قالت: قد كان شيءٌ من ذلك، قال: وهل كان العدد مئة؟ قالت: الله أعلم، لكن ما يبعُد أن يكون العدد مئة، فتزوجها؛ لأن عنده ما يدعوه إلى نكاحها، وعنده ما يصده عن نكاحها، فغلب ما يدعوه على ما يصده.

المقصود: أنه فُتِنَ بها، فبنى لها قصرًا مُشيدًا، طويلًا، ضاربًا في الجو، ومُحكَّمًا. وكان من تمام الرؤية: أنك تتزوج هذه البنت بعد أن تزني مئة زنية، وتموت هذه المرأة بالخنفساء، الحشرة المعروفة. فبنى لها هذا القصر المُشيَّد، ورفعه؛ من أجل أن لا تدخل هذه الخنفساء. يقول في القصة: أنه دخل في يومٍ من الأيام، فإذا بالخنفساء عنده في البيت، فقامت هذه المرأة، فوطئتها برجلها وفركتها، فأصيبت بالآكلة من رجلها إلى أن ماتت.

هذه قصة على كل حال، لكن الذي يُعلم أن هذه القصور ما منعت من خنفساء، فكيف تمنع بما هو أعظم من ذلك من عذاب الله وعقوبته؟ نسأل الله السلامة والعافية.

"وَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ وَالْقَصْرَ بِحَضْرَمَوْتَ مَعْرُوفَانِ، فَالْقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهِ إِلَّا أَخْرَجَتْهُ. وَأَصْحَابُ الْقُصُورِ مُلُوكُ الْحَضَرِ، وَأَصْحَابُ الْآبَارِ مُلُوكُ الْبَوَادِي، أَيْ: فَأَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَذَكَرَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْبِئْرَ الرَّسُّ، وَكَانَتْ بِعَدَنَ باليمن بحضرموت، في بلدٍ يُقال له: حضوراء نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ، وَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ فَسُمِّيَ الْمَكَانُ حَضْرَمَوْتَ؛ لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مات. فبنوا حضوراء وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْعَلَسُ بْنُ جُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ، فِيمَا ذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ. قال الثَّعْلَبِيُّ: جُلْيسُ بْنُ جُلَاسٍ، وكان حسن السيرة فيهم عادلاً عَلَيْهِمْ".

طالب: عندنا: "جَلْهَس بن جُلاس".

نعم، كأن الهاء أقرب؛ لأن صورة الهاء كالياء، الهاء قريبة جدًّا من الياء.

ماذا عندكم؟

طالب: ..........

جلاس؟

الصورة صورة الهاء قريبة جدا من الياء.

طالب: جلاس.

نعم.

"قال الثَّعْلَبِيُّ: جَلْهَسُ بْنُ جُلَاسٍ، وكان حسن السيرة فيهم عادلاً عَلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سِنْحَارِيبَ بْنَ سَوَادَةَ، فَأَقَامُوا دَهْرًا وَتَنَاسَلُوا حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَتِ الْبِئْرُ تَسْقِي الْمَدِينَةَ كُلَّهَا وَبَادِيَتَهَا وَجَمِيعَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا بَكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَيْهَا، وَرِجَالٌ كَثِيرُونَ مُوَكَّلُونَ بِهَا، وَأَبَازِنُ (بِالنُّونِ) مِنْ رُخَامٍ وَهِيَ شِبْهُ الْحِيَاضِ كَثِيرَةٌ تُمْلَأُ لِلنَّاسِ، وَأخَرُ لِلدَّوَابِّ، وَأخَرُ لِلْبَقَرِ، وَأخَرُ لِلْغَنَمِ. وَالْقُوَّامُ يَسْقُونَ عَلَيْهَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَتَدَاوَلُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَاءٌ غَيْرَهَا.

وَطَالَ عُمْرُ الْمَلِكِ الَّذِي أَمَّرُوهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْمَوْتُ طُلِيَ بِدُهْنٍ؛ لِتَبْقَى صُورَتُهُ لَا تَتَغَيَّرُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الْمَيِّتُ وَكَانَ مِمَّنْ يُكَرَّمُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا مَاتَ شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم فَسَدَ، وَضَجُّوا جَمِيعًا بِالْبُكَاءِ، وَاغْتَنَمَهَا الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ فَدَخَلَ فِي جُثَّةِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، فَكَلَّمَهُمْ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَمُتْ وَلَكِنْ تَغَيَّبْتُ عَنْكُمْ حَتَّى أَرَى صَنِيعَكُمْ، فَفَرِحُوا أَشَدَّ الْفَرَحِ، وَأَمَروا خَاصَّتَهُ أَنْ يَضْرِبُوا لَهُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَيُكَلِّمُهُمْ مِنْ وَرَائِهِ؛ لِئَلَّا يُعْرَفَ الْمَوْتُ فِي صُورَتِهِ. فَنَصَبُوا صَنَمًا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ. وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَبَدًا، وَأَنَّهُ إِلَهُهُمْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، فَصَدَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَارْتَابَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ الْمُكَذِّبُ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنَ الْمُصَدِّقِ لَهُ، وَكُلَّمَا تَكَلَّمَ نَاصِحٌ لَهُمْ زُجِرَ وَقُهِرَ. فَأَصْفَقُوا عَلَى عِبَادَتِهِ.

 فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ في النوم دون اليقظة، كان اسمه: حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الصُّورَةَ صَنَمٌ لَا رُوحَ لَهُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَضَلَّهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَمَثَّلُ بِالْخَلْقِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِلَّهِ، وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ سَطْوَةَ رَبِّهِمْ وَنِقْمَتَهُ، فَآذَوْهُ وَعَادَوْهُ وَهُوَ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَلَا يُغِبُّهُمْ بِالنَّصِيحَةِ، حَتَّى قَتَلُوهُ فِي السُّوقِ وَطَرَحُوهُ فِي بِئْرٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَصَابَتْهُمُ النِّقْمَةُ، فَبَاتُوا شِبَاعًا رِوَاءً مِنَ الْمَاءِ، وَأَصْبَحُوا وَالْبِئْرُ قَدْ غَارَ مَاؤُهَا، وَتَعَطَّلَ رِشَاؤُهَا، فَصَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَضَجَّ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، وَضَجَّتِ الْبَهَائِمُ عَطَشًا، حَتَّى عَمَّهُمُ الْمَوْتُ وَشَمَلَهُمُ الْهَلَاكُ، وَخَلَفَتْهُمْ فِي أَرْضِهِمُ السِّبَاعُ، وَفِي مَنَازِلِهِمُ الثَّعَالِبُ وَالضِّبَاعُ، وَتَبَدَّلَتْ جَنَّاتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِالسِّدْرِ وَشَوْكِ الْعِضَاهِ وَالْقَتَادِ، فَلَا يُسْمَعُ فِيهَا إِلَّا عَزِيفُ الْجِنِّ وَزَئِيرُ الْأَسَدِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَطَوَاتِهِ، وَمِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى مَا يُوجِبُ نِقْمَاتِهِ".

أما القصة فهي مما يُنقل عن الأمم السابقة، التي تحتاج إلى إسنادٍ تثبُت به، مع أن الاحتمال قائم في ثبوتها وعدمه، فمثل هذه لا تُصدَّق ولا تُكذَّب. لكن معناها ومحتواها ومفادها: أن من عصى الله -جلَّ وعلا- وخرج عن طاعته وعبد غيره، مثل هذا يحتاج إلى عقوبة كسائر الأمم، نسأل الله السلامة والعافية.

طالب: هذا النبي يثبُت له نبوته ويُصدَّق؟

مثل هذا الخبر لا يثبُت حتى يكون بإسنادٍ صحيح، لا بد أن يكون إسناده صحيح. مع أنه إن كان حقًّا، فهو داخلٌ في الإيمان المُجمل بالأنبياء والرسل. وإن ثبت، وجب الإيمان به بعينه.

"قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَمَّا الْقَصْرُ الْمَشِيدُ فَقَصْرٌ بَنَاهُ شَدَّادُ بْنُ عاد بْنِ إِرَمَ، لَمْ يُبْنَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ- فِيمَا ذَكَرُوا وَزَعَمُوا-، وَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذِهِ الْبِئْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِيحَاشِهِ بَعْدَ الْأَنِيسِ، وَإِقْفَارِهِ بَعْدَ الْعُمْرَانِ، وَإِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالٍ؛ لِمَا يُسْمَعُ فِيهِ مِنْ عَزِيفِ الْجِنِّ وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْعَيْشِ الرَّغْدِ وَبَهَاءِ الْمُلْكِ وَانْتِظَامِ الْأَهْلِ كَالسِّلْكِ، فبادوا وَمَا عَادُوا، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً وَتَذْكِرَةً، وَذِكْرًا وَتَحْذِيرًا مِنْ مَغَبَّةِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَنَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْ سُوءِ الْمَآلِ. وقيل: إن الذي أهلكهم بُخت نصَّر عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْأَنْبِيَاءِ" فِي قوله: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ} [سورة الأنبياء: 11]، فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة الحج:46] يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، فَيُشَاهِدُوا هَذِهِ الْقُرَى فَيَتَّعِظُوا، وَيَحْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} أَضَافَ الْعَقْلَ إِلَى الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، كَمَا أَنَّ السَّمْعَ مَحَلُّهُ الْأُذُنُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا أَرَاهَا عَنْهُ صَحِيحَةً".

الخلاف في محل العقل، هل هو القلب أو الدماغ؟ خلافٌ قديم بين العلماء والأطباء وغيرهم. فأهل العلم رأوا النصوص الشرعية، خطاب الشرع، كله يتجه إلى القلب، جميع النصوص تتجه إلى القلب، والعقل مناط التكليف، فدلَّ على أن هناك ارتباطًا وثيقًا بينهما.

وهنا: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} فدلَّ أن العقل في القلب، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهذه حجة من يقول: إن العقل محله القلب. والأطباء يقولون: لا، محله الدماغ. الأطباء من المتقدمين والمتأخرين يرون أن محل العقل الدماغ؛ لأنه يتأثر العقل بتأثر الدماغ، ولا يتأثر بتأثر القلب؛ لأن القلب قد يُصاب بمرض والعقل ثابت.

فهما قولان، والثالث للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: العقل محله القلب، وله اتصالٌ بالدماغ، فيتأثر بهذا وهذا، فإذا تأثر الدماغ، تأثر العقل. تأثر القلب، تأثر العقل. والأطباء الآن يذكرون أن العقل يبقى ثابتًا مع أن القلب سقيم جدًّا، وقد يكون العقل مفقودًا والقلب سليمٌ جدًّا، فهم يرون أنه لا ارتباط بين هذا وهذا، لكن إذا نظرنا إلى النصوص وجدنا أن النصوص الشرعية مُتجهة إلى القلب، «إن في الجسد مُضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله»، والنصوص كثيرة تدلُّ على هذا، وهم يشترطون للتكاليف، بل جاء في النص أن التكاليف مُعلقة بالعقل، وأن المجنون مرفوعٌ عنه القلم، لا يُكلَّف بشيء.

طالب: قول الإمام أحمد: الإرادة في القلب، والدماغ للتفكير والتأثير.

لكن إذا قلنا بهذا، ألغينا مثل هذه الآية، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها}، {آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها}.

طالب: والإرادة من العقل؟

نعم، ليست شيء بالنسبة لبقية ما يتعلق به.

طالب: كيف ... الدلالة السمعية والدلالة الحسية؟

لا، كلام الأطباء مبني على الحس، لكن هناك أمور غيبية تخفى عليهم كثيرًا، ويُكتشف في القلب أسرار وعجائب باستمرار. مثل هذا، إذا جاءنا من الشرع مثل هذه الأمور الصريحة في الموضوع، ما لنا إلا أن نرضى ونُسلِّم.

طالب: لو قيل: إن عقل الرشد القلب، وعقل الإدراك الدماغ.

يرد عليه ما يرد، عقل الرشد في القلب، وماذا عن المجنون؟ ما الذي يصير منه هذا أو هذا؟ قد يُفحص قلب مجنون، فيوجد سليمًا من كل وجه، لكن هل المراد السلامة والسقم الحسي أو المعنوي؟ يعني المؤثر في العقل، هل هو السلامة؟ {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء:89] هل المراد السلامة الحسية أو المعنوية؟

طالب: المعنوية.

لا شك أنها المعنوية.

"{فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ} قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ عِمَادٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، التَّذْكِيرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَوِ الْقِصَّةِ".

لو قلنا: إن الهاء هذه ضمير الشأن أو ضمير القصة، ضمير الشأن والقصة؛ لأن الشأن والقصة سواء، إلا أنه أن أعيد مؤنثًا، كما في قوله: {فَإِنَّها} صار المراد به: القصة. وإن أعيد مذكرًا، كما في قراءة ابن مسعود، صار الشأن.

"أَيْ: فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَعْمَى، أَوْ فَإِنَّ الْقِصَّةَ".

لماذا لا نقول: إن الضمير يعود على ما ذُكِر هنا؟ لو تصورنا عوده إلى مذكور، يكون عائدًا إلى {الْأَبْصارُ}، وحينئذٍ يعود على متأخر، يكون عائدًا على متأخر في اللفظ وفي الرتبة أيضًا. هذا الذي جعلهم يقولون: إن الضمير (الهاء) عماد، أو ضمير الشأن والقصة، ولا يقولون: يعود على {الْأَبْصارُ} وإلا فالأصل أن المكني عنه هنا: {الْأَبْصارُ}. فلو تقدَّم الحديث عن الأبصار ومرَّ ذكرها، فقيل: فإنها لا تعمى، يعود على ماذا؟ الأبصار بلا شك؛ لأنه يعود على مُتقدم. لكن كونه عاد على متأخر، عدلوا عن عوده على متأخر، إلى كونه ضمير شأن أو قصة.

"{لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ} أَيْ: أَبْصَارُ الْعُيُونِ ثَابِتَةٌ لَهُمْ. {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ: عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَصَرُ النَّاظِرُ جُعِلَ بُلْغَةً وَمَنْفَعَةً، وَالْبَصَرُ النَّافِعُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلِّ عَيْنٍ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ، يَعْنِي لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ: عَيْنَانِ فِي رَأْسِهِ لِدُنْيَاهُ، وَعَيْنَانِ فِي قَلْبِهِ لِآخِرَتِهِ، فَإِنْ عَمِيَتْ عَيْنَا رَأْسِهِ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَا قَلْبِهِ فَلَمْ يَضُرَّهُ عَمَاهُ شَيْئًا، وَإِنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَا رَأْسِهِ وَعَمِيَتْ عَيْنَا قَلْبِهِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ نَظَرُهُ شَيْئًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى".

على كلام مجاهد، هو أن في القلب عينين تُبصران أمور الآخرة، يكون العمى المذكور في الآية حقيقي لهاتين العينين. يكون العمى حقيقيًّا، تعمى القلوب، بمعنى أنه تذهب العينان المدركتان لما ينفعه في آخرته. وإذا قلنا: إن عمى القلب ليس المراد به ما يُراد بعمى البصر، فعمى كل شيءٍ بحسبه. يعني لو أن رجلاً وهو يمشي، يضرب برجليه الحجارة، وهو يمشي، باستمرار ولا ينتبه، قيل: إن رجليه عمياوان. فعماه باعتبار أنه يقع فيما يقع فيه الأعمى، ولو كان مُبصرًا، ويكون هذا استعمالًا حقيقيًّا. وإن كان الأصل والأكثر العمى في العيون، لكن عمى القلب من هذا النوع، يعني ليس بمعنى حسي مثل عمى العيون، لكنه عمى حقيقي في مقابل المجاز، وهو استعمالٌ شرعي، حقيقة شرعية، لا يُقال: إنه مجاز، إنما هو حقيقة شرعية. وعمى العين تتضافر فيه الحقائق الثلاث: اللغوية والشرعية والعرفية.

طالب: قول مجاهد –رحمه الله- هذا اجتهادٌ منه؟

اجتهاد، باعتبار أنه يريد أن يوجه الآية: {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} كيف تعمى وهي ما لها عيون؟

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أعمى} [سورة الاسراء: 72] قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَنَا فِي الدُّنْيَا أَعْمَى أَفَأَكُونُ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى؟ فَنَزَلَتْ: {فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. أَيْ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى بِقَلْبِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فهو في الآخرة في النار.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} [سورة الحج:47] نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة الأعراف: 70]. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [سورة الأنفال: 32].

{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيْ: فِي إِنْزَالِ الْعَذَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أنه لا يفوته شيء، وَقَدْ نَزَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ بَدْرٍ".

استعجلوا العذاب؛ لأنهم كذبوا به.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [سورة الحج:47] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السموات وَالْأَرْضَ. قال عِكْرِمَةُ: يَعْنِي مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ إِذِ اسْتَعْجَلُوهُ بِالْعَذَابِ فِي أَيَّامٍ قَصِيرَةٍ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بِهِ فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِامْتِدَادِ عَذَابِهِمْ فِي الآخرة، أي: يومٌ من الأيام عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَلْفُ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَإِنَّ يَوْمًا فِي الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا فِيهَا خَوْفٌ وَشِدَّةٌ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ النَّعِيمِ قِيَاسًا".

وإن كان يوم النعيم لا يُدرك طوله، كإدراك يوم البؤس والشدة. فيوم البؤس والشدة طويل، وإن كان قصيرًا. ويوم النعيم قصير وإن كان طويلاً.

أيام إقباله كاليوم في قصرٍ .... ويوم إدباره في الطول كالحُججِ

يعني مثل السنين.

"وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "مِمَّا يَعُدُّونَ" بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}. وَالْبَاقُونَ بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها} [سورة الحج:48] أَيْ: أَمْهَلْتُهَا مَعَ عُتُوِّهَا. {ثُمَّ أَخَذْتُها} أَيْ: بِالْعَذَابِ. {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}".

المصير: المرجِع.

"قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} [سورة الحج:49-51].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. {إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ} أَيْ: مُنْذِرٌ مُخَوِّفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْإِنْذَارُ فِي أَوَّلِهَا".

في أولها عند قوله -جلَّ وعلا-: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [سورة البقرة:6].

"{مُبِينٌ} أَيْ: أُبَيِّنُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يَعْنِي الْجَنَّةَ. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا} أَيْ: فِي إِبْطَالِ آيَاتِنَا. {مُعاجِزِينَ} أي: مغالبين مشاقين، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ. قال الْفَرَّاءُ: مُعَانِدِينَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن الزبير: مثبطين عن الإسلام. وقال الْأَخْفَشُ: مُعَانِدِينَ مُسَابِقِينَ. الزَّجَّاجُ: أَيْ: ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنْ لَا بَعْثَ، وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو "مُعَجِّزِينَ" بِلَا أَلِفٍ مُشَدَّدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعَجِّزُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِالْآيَاتِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ".

يعني: يثبطونهم، أو أنهم ينسبونهم إلى العجز.

"وَقِيلَ: أَيْ: يَنْسُبُونَ مَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْعَجْزِ، كَقَوْلِهِمْ: جَهَّلْتُهُ وَفَسَّقْتُهُ. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}".

كما يُكتب في الصحف في هذه الأيام عن الزهد والعرض عن الدنيا أنه ضعف وأنه خمول وتعطيل للحياة، يُكتب هذا في الصحف.

"قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحج:52]

فِيهِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَمَنَّى} أَيْ: قَرَأَ وَتَلَا. وَ{أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ: قِرَاءَتِهِ وَتِلَاوَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ" ذَكَرَهُ مَسْلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَسْلَمَةُ: فَوَجَدْنَا الْمُحَدَّثِينَ مُعْتَصِمِينَ بِالنُّبُوَّةِ- عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ-؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِأُمُورٍ عَالِيَةٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ خَطِرَاتٍ، وَنَطَقُوا بِالْحِكْمَةِ الْبَاطِنَةِ، فَأَصَابُوا فِيمَا تَكَلَّمُوا وَعُصِمُوا فِيمَا نَطَقُوا، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ، وَمَا تكلم به من البراهين العالية".

يعني حينما قال وهو يخطب: يا سارية، الجبل، وهم في غزو، وكُشِف لعُمَر –رضي الله عنه- أنهم أشرفوا على الهزيمة، فأمره –رضي الله عنه- أن يلجأ إلى الجبل ويُقاتل من وراءه، وسمعه سارية وامتثل، فحصل لهم النصر. وهذا من الكرامات، التي يعترف بها ويُقر بها أهل السُّنَّة، إذا صدرت من مُتبع.

"قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ لَهُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي -رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَرَأَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يُؤْخَذُ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ. وَالْمُحَدَّثُ هُوَ الَّذِي يُوحَى إِلَيْهِ فِي نَوْمِهِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فِيهِمْ مُرْسَلُونَ وَفِيهِمْ غَيْرُ مُرْسَلِينَ. وَغَيْرُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ نَبِيٌّ حَتَّى يَكُونَ مُرْسَلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فَأَوْجَبَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الرِّسَالَةَ".

مقتضى قول الجمهور: أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، أن يكون غير مُرسل. وأما الرسول من أوحي إليه بشرع وأُمِر بتبليغه. فمقتضى قولهم: أنه نبي لكن غير رسول، فكل رسولٍ نبي ولا عكس.

"وَأَنَّ مَعْنَى {نَبِيٍّ} أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَعْنَى أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْإِرْسَالُ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهِ عِيَانًا، وَالنَّبِيُّ الَّذِي تَكُونُ نُبُوَّتُهُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا. قَالَ المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن كل رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا. وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ (الشِّفَاء) قَالَ: وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-.

وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِيهَا الْإِشْكَالُ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي نزول هذه الآية، وليس منها شيءٌ يَصِحُّ. وَكَانَ مِمَّا تَمَوَّهَ بِهِ الْكُفَّارُ عَلَى عَوَامِّهِمْ قَوْلُهُمْ: حَقُّ الْأَنْبِيَاءِ أَلَّا يَعْجَزُوا عَنْ شيء، فَلِمَ لَا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِالْعَذَابِ وَقَدْ بَالَغْنَا فِي عَدَاوَتِهِ؟ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَيْضًا: يَنْبَغِي أَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ سَهْوٌ وَغَلَطٌ، فَبَيَّنَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ، وَالْآتِي بِالْعَذَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا يُرِيدُ، وَيَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ إِلَى أَنْ يُحْكِمَ اللَّهُ آيَاتِهِ وَيَنْسَخَ حِيَلَ الشَّيْطَانِ.

رَوَى اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} [سورة النجم: 1] فَلَمَّا بَلَغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} [سورة النجم:19-20] سَهَا فَقَالَ: (إِنَّ شَفَاعَتَهُمْ تُرْتَجَى) فَلَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَفَرِحُوا، فَقَالَ: «إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الْآيَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ. وَكَذَا حَدِيثُ قَتَادَةَ وَزَادَ فِيهِ: (وَإِنَّهُنَّ لَهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا)".

قصة الغرانيق قصةٌ مشهورة، تُذكر في تفسير هذه السورة، يتداولها المفسرون، وجزم جمعٌ من أهل التحقيق بأنها باطلة، وأنها لم ترد من وجهٍ يثبت، فالمعول عليه أن هذه القصة لا تصح. وابن حجر ذكر لها أسانيد، وقال: إن هذه الأسانيد تدلُّ على أن لها أصلاً، وأنه ثبت شيءٌ منها، وإن لم تكن بالصورة التي عليها ... المقصود: أنه ثبت شيءٌ من ذلك؛ لكثرة أسانيدها. والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ذكرها في (مختصر السيرة).

المقصود أن العلماء منهم من يُثبتها؛ لكثرة طرقها، ومنهم من يحكم ببطلانها، وهذا هو الأنسب، هو اللائق بعصمة النبي -عليه الصلاة والسلام- لا سيما فيما يتعلق بالتبليغ؛ لأن هذا الكلام على هذه الرواية جرى على لسانه -عليه الصلاة والسلام- بين آيتين من القرآن. منهم من يقول: إن الشيطان تكلم بهذا الكلام تحيَّن سكوت النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الآيتين، فتكلم به، والقرآن محفوظ، حفظه الله -جلَّ وعلا-، تكفل بحفظه من الزيادة والنقصان.

المقصود أن مثل هذه القصة لا تثبت، وانبرى لها أهل العلم، وفندوها وصنفوا فيها، ممن صنف فيها: الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في رسالةٍ أسماها: (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق).

"وأفظع مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَجَدَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو أُحَيْحَةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: (مَا جِئْتُكَ بِهِ)! وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} [سورة الاسراء: 74]. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مُنْقَطِعٌ وَلَا سِيَّمَا مِنْ حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الَّذِي أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ وَرَفَعَهَا إِلَى جَبْهَتِهِ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَسَيَأْتِي تَمَامُ كَلَامِ النَّحَّاسِ عَلَى الْحَدِيثِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- آخِرَ الْبَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ هِيَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا مُسْلِمٌ، وَلَا ذَكَرَهُ فِي عِلْمِي مُصَنِّفٌ مَشْهُورٌ، بَلْ يَقْتَضِي مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى، وَلَا يُعَيِّنُونَ هَذَا السَّبَبَ وَلَا غَيْرَهُ".

يعني لا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي نطق بذلك.

"وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ لِأَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ، بِهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صُورَةِ هَذَا الْإِلْقَاءِ، فَالَّذِي فِي التَّفَاسِيرِ وَهُوَ مَشْهُورُ الْقَوْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ عَلَى لِسَانِهِ. وَحَدَّثَنِي أَبِي –رضي الله عنه- أَنَّهُ لَقِيَ بِالمشَّرْقِ مِنْ شُيُوخِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ قَالَ: هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الْمَعْصُومُ فِي التَّبْلِيغِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ نَطَقَ بِلَفْظٍ أَسْمَعَهُ الْكُفَّارَ عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (*) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} [سورة النجم: 19-20] وَقَرَّبَ صَوْتَهُ مِنْ صَوْتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى الْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ قَرَأَهَا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا التَّأْوِيلِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْمَعَالِي. وَقِيلَ: الَّذِي أَلْقَى شَيْطَانُ الْإِنْسِ، كَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْغَوْا فِيهِ} [سورة فصلت: 26]. وقال قتادة: هو ما تلاه ناعسًا.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ (الشِّفَاء) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عن شيءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا قَصْدًا وَلَا عمدًا ولا سهوًا أو غلطًا: اعْلَمْ، أَكْرَمَكَ اللَّهُ، أَنَّ لَنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَأْخَذَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَوْهِينِ أَصْلِهِ"

أحدُهُما أفصح، {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} [سورة النحل:76].

"وَالثَّانِي: عَلَى تَسْلِيمِهِ. أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فَيَكْفِيكَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ، وَلَا رَوَاهُ بِسَنَدٍ صحيح سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ ثِقَةٌ، وَإِنَّمَا أُولِعَ بِهِ وَبِمِثْلِهِ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ الْمُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ، الْمُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ، إِلَّا مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب، والشك فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ بِمَكَّةَ ... وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ شُعْبَةَ إِلَّا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ أَبُو بَكْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سِوَى هَذَا، وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ وَلَا حَقِيقَةَ معه. وأما حديث الكلبي فمما لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ وَلَا ذِكْرُهُ لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وَكَذِبِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَزَّارُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.

وَالَّذِي مِنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ: {وَالنَّجْمِ} بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، هَذَا تَوْهِينُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ.

وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ، وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ صِحَّتِهِ. وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَجَابَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَيَتَرَجَّحُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وَيُفَصِّلُ الْآيَ تَفْصِيلًا فِي قِرَاءَتِهِ، كَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْهُ، فَيُمْكِنُ ترصد الشيطان لتلك السكتات وَدَسُّهُ فِيهَا مَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، مُحَاكِيًا نَغَمَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ دَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَظَنُّوهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأشاعوها.

وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لِحِفْظِ السُّورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَتَحَقُّقِهِمْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذَمِّ الْأَوْثَانِ وَعَيْبِهَا مَا عُرِفَ مِنْهُ، فَيَكُونُ مَا رُوِيَ مِنْ حُزْنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَالشُّبْهَةِ وَسَبَبِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الْآيَةَ.

قُلْتُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا".

يعني هذا على فرض وتسليم صحتها، وإلا على القول بضعفها وبطلانها، لا نحتاج إلى مثل هذا الكلام.

يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: إذا لم يثبت الحديث، فلا تتكلف اعتباره. يعني لا تتكلف توجيهه ولا الإجابة عنه، مادام ضعيفًا.

"وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: إِنَّ {فِي} بِمَعْنَى عِنْدَهُ، أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ عِنْدَ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَبِثْتَ فِينا} [سورة الشعراء: 18] أَيْ: عِنْدَنَا. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُلَمَاءِ الشَّرْقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ قَبْلَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ إِذَا قَالُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْمَعَاصِي. تَقُولُ: أَلْقَيْتُ في الدار كَذَا، وَأَلْقَيْتُ فِي الْكِيسِ كَذَا، فَهَذَا نَصٌّ في الشيطان أنه زاد في الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، لَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ بِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى كَلَامِ عِيَاضٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إِلَّا الطَّبَرِيُّ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَصَفَاءِ فِكْرِهِ وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ فِي النَّظَرِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى، وَقَرْطَسَ بعد ما ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً كُلُّهَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَّرَهَا، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يريد".

يعني كونها تُّذكر وتروى وتُصدَّر وفيها ما فيها، كغيرها مما يُلصق ويُختلق ويُنسب إلى النبي- عليه الصلاة والسلام- ما لم يقله من الأحاديث الباطلة والموضوعة، وبقاؤها وتصديرها وكتابتها وتدوينها؛ لتعظُم أجور أهل العلم في نقدها وتفنيدها وردها، وتعظُم فتنة من أراد الله فتنته، من أهل الزيغ، من التمسك بها والعمل بها، كغيرها من الأحاديث الباطلة.

"وأما غيره من التأويلات مما حَكَاهُ قَوْمٌ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَكْرَهَهُ حَتَّى قَالَ كَذَا".

يعني أن الشيطان أكره النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قال هذا، نقول: هذا أبطل من الباطل.

"فَهُوَ مُحَالٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةٌ عَلَى سَلْبِ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [سورة إبراهيم: 22]، وَلَوْ كَانَ لِلشَّيْطَانِ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، لَمَا بَقِيَ لأحدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ قُوَّةٌ فِي طَاعَةٍ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ هَذِهِ الْقُوَّةَ فَهُوَ قَوْلُ الثَّنْوِيَّةِ وَالْمَجُوسِ فِي أَنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَمَنْ قَالَ: جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا، قَالَ: لَا يُبْعِدُ أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ الْكَلِمَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَتَا عَلَى حِفْظِهِ، فَجَرَى عِنْدَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَا كَانَ فِي حِفْظِهِ سَهْوًا، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ الْآيَةَ؛ تَمْهِيدًا لِعُذْرِهِ وَتَسْلِيَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يُقَالَ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ بَعْضِ قِرَاءَتِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَرَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَهْوًا، وَالسَّهْوُ إِنَّمَا يَنْتَفِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى".

يعني لو صح هذا من غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد يُردد كلامًا في نفسه، أو يُرتب شيئًا على شيء، ثمَّ يتلوه متتابعًا، ويقرأه ويُحدث به، ويُخبر متتابعًا، وإن كان بعضه لا يرتبط ببعض.

يعني على سبيل المثال: لو أن شخصًا في ورده آيات من القرآن، غير منتظمة، يعني آية من البقرة، وأخرى من آل عمران، وثالثة من كذا، إلى آخره، وهو يقرأ في سورة البقرة، من أن لسانه أخذ على هذا، إذا انتهت آية البقرة، جاء بما في آل عمران؛ لأنه يُردد هذا في كل يوم. فإذا تصور هذا من غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يمكن أن يتصور منه، وهو المُبلِّغ عن الله -جلَّ وعلا-.

"وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ كَانَ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي صُورَةِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَلْقَى فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ مِمَّا قَبْلَهُ، فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ لِاخْتِيَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ إِيَّاهُ".

هذا على القول بتسليمه، يكون القائل: الشيطان، وليس النبي -صلى الله عليه وسلم-، على فرض التسليم، لكن كما قال المؤلف: ضعف الحديث مُغنٍ عن كل تأويل.

"وَضَعْفُ الْحَدِيثِ مُغْنٍ عَنْ كُلِّ تَأْوِيلٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَيْضًا وَتَوْهِينِهِ مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [سورة الاسراء: 73] الْآيَتَيْنِ".

{كادُوا} يعني أنهم لم يفعلوا هذه الفتنة، لكنهم قربوا منها.

"فَإِنَّهُمَا تَرُدَّانِ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ حَتَّى يَفْتَرِيَ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنْ ثَبَّتَهُ لَكَانَ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ. فَمَضْمُونُ هَذَا وَمَفْهُومُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ، وَثَبَّتَهُ حَتَّى لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، فَكَيْفَ كَثِيرًا؟ وَهُمْ يَرْوُونَ فِي أَخْبَارِهِمُ الْوَاهِيَةِ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الرُّكُونِ وَالِافْتِرَاءِ بِمَدْحِ آلِهَتِهِمْ، وَأَنَّهُ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ. وَهَذَا ضِدُّ مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَهِيَ تُضَعِّفُ الْحَدِيثَ لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ وَلَا صِحَّةَ لَهُ".

يعني تُضعِّف متنه، ولو صحَّ إسناده؛ لأن النظر في التصحيح والتضعيف إلى السند والمتن، فقد يصحُّ السند ويكون في ظاهره الصحة، لكن الحديث معلول، فيه شذوذ، فيه مخالفة.

"وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النساء: 113]. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَقَدْ طَالَبَتْهُ قُرَيْشٌ وَثَقِيفٌ إِذْ مَرَّ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهَا، وَوَعَدُوهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَمَا فَعَلَ! وَلَا كَانَ لِيَفْعَلَ! قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا قَارَبَ الرَّسُولُ وَلَا رَكَنَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ كَادُوا، وَدَخَلَتْ إِنْ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى {تَمَنَّى} حَدَّثَ، لَا "تَلَا".

رُوِيَ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِلَّا إِذا تَمَنَّى} قَالَ: إِلَّا إِذَا حَدَّثَ، {أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قال: في حديثه {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ} قَالَ: فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَأَعْلَاهُ وَأَجَلُّهُ.

وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ: بِمِصْرَ صَحِيفَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، رَوَاهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَوْ رَحَلَ رَجُلٌ فِيهَا إِلَى مِصْرَ قَاصِدًا مَا كَانَ كَثِيرًا. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حديثه على جهة الحيلة، فَيَقُولُ: لَوْ سَأَلْتَ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُغْنِمَكَ لِيَتَّسِعَ الْمُسْلِمُونَ، وَيَعْلَمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ الصَّلَاحَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَيُبْطِلُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ جَمِيعًا: {تَمَنَّى} إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ. وَحكيَا أَيْضًا {تَمَنَّى} إِذَا تَلَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مَهْدِيٍّ: لَيْسَ هَذَا التَّمَنِّي مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ في شيء، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَفِرَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَالِ، وَرَأَى مَا بِأَصْحَابِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ، تَمَنَّى الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ.

قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً} الْآيَةَ، يَرُدُّ حَدِيثَ النَّفْسِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ لِأَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ، بِهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَاتَّصَلَ إِسْنَادُهُ لَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحًا، وَيَكُونُ مَعْنَى سَهَا أَسْقَطَ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ أَسْقَطَ (وَالْغَرَانِيقُ الْعُلَا) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ (فَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ) يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا مَنْ رَوَى: فَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، فَفِي رِوَايَتِهِ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَحْذُوفًا كَمَا تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَذْفٍ، وَيَكُونُ تَوْبِيخًا؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ {أَفَرَأَيْتُمْ} وَيَكُونُ هَذَا احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَقْرَأُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. وَالْغَرَانِقَةَ الْعُلَا. وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. رَوَى مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِالْغَرَانِيقِ الْعُلَا الْمَلَائِكَةَ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْكَلْبِيُّ الْغَرَانِقَةَ أَنَّهَا الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الْأَوْثَانَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَات اللَّهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} [سورة النجم:21] فَأَنْكَرَ اللَّهُ كُلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ. وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَحِيحٌ، فَلَمَّا تَأَوَّلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ آلِهَتَهُمْ وَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ بِذَلِكَ، نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَرَفَعَ تِلَاوَةَ تِلْكَ اللَّفْظَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَجَدَ الشَّيْطَانُ بِهِمَا سَبِيلًا لِلتَّلْبِيسِ، كَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُفِعَتْ تِلَاوَتُهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ} أَيْ: يُبْطِلُهُ، وَشَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ بَاطِلَةٍ.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عَلِيمٌ بِمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، حَكِيمٌ في خلقه".

لو أضاف هذا التفسير الأخير وأن المراد بالغرانيق: الملائكة، والملائكة ممن تُرجى شفاعتهم، إلى التوجيه السابق، وأن هذا على فرض التسليم. ويبقى أن هذه القصة ليست بصحيحة، وأن هذه الإجابات عنها إنما هي مجرد التماسات من أهل العلم على فرض صحتها، ولم تصح ولم تثبت.

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد.

"