تعليق على تفسير سورة المائدة من أضواء البيان (23)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طالب: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، قد يتوهَّم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدمَ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتدِ. وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام".
ما أدري لماذا قدم المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- الألوسي على ابن جرير؟
طالب: .......
"كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير".
طالب: .......
نحن لا ننكر أن الألوسي فيه فوائد، وفيه استطرادات، وفيه نقول غريبة، وفيه أشياء كثيرة، لكن الصواب في مثل هذا أن يُقدم ابن جرير إمام الأئمة في التفسير، والألوسي عنده ما عنده كما تعلم.
طالب: .......
لكن يبين، ابن جرير فيما نقله الألوسي لو كان كذا. نعم.
طالب: "ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر، وابن مسعود. فمن العلماء من قال: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، أي: أمرتم فلم يُسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جدًّا، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمرَ ضلال من ضل، وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، والأحاديث، على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، عمَّهم الله بعذاب من عنده. فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش -رضي الله عنها-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعًا مرعوبًا يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه، وحلَّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث»".
هذا الحديث هو أنزل حديث في صحيح البخاري، فهو حديث تُساعي، ولا يوجد غيره في صحيح البخاري، فهو أنزل حديث رواه البخاري في صحيحه من طريق تسعة رجال حتى وصل إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، بينما عنده اثنان وعشرون حديثًا كلها ثلاثية بينه وبين النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ثلاثة رواة.
وعلى كل حال، الكلام ما هو بنزوله وبعلوه، الحديث ثابت صحيح وخطير: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث»؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا نخاف والخير كثير جدًّا، وهو غالب، كثير وغالب ويزداد ولا ينقص، ولله الحمد، لكن إذا كثر الخبث حلت العقوبة -نسأل الله العافية-. «أنهلك وفينا الصالحون؟»، الصالحون كثر، وهم على مر السنين في ازدياد ولله الحمد، وأدركنا من قبل ثلاثين وأربعين سنة كانت الدروس نادرة، والمصلون من الشباب ومن غيرهم قلة إلا من كبار السن أو نحوهم، والخير موجودًا في ذلك الوقت، وهو الأصل والغالب. لكن مع ذلك نقول: الخير في ازدياد وإقبال، ومع ذلك لا نأمن. ألوف مؤلفة تتخرج من مدارس التحفيظ وحلق التحفيظ، ولله الحمد، ما لا يوجد نظيره من قبل، لكن الخشية مما إذا كثر الخبث، تحل العقوبة، ولو وُجد الصالحون، ولو كثر الصالحون، ولو كثر الصلاح في الناس. لكن إذا كثر الخبث وقل المنكِر فحينئذٍ تحل العقوبة، نسأل الله -جَلَّ وعَلا- أن يدفع عن المسلمين شر الأشرار وكيد الفجار. نعم.
طالب: "وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»، أخرجه البخاري والترمذي. وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بأسانيد صحيحة".
نسأل الله العافية، نسأل الله العافية. نعم.
طالب: "وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض»، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81]، ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم». رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود.
ولفظ الترمذي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون»، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان متكئًا، فقال: «لا والذي نفسي بيده، حتى يأطروهم على الحق أطرًا». ومعنى تأطروهم أي: تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه. والأحاديث في الباب كثيرة جدًّا".
الأصل في الأطر القصر والإلزام بالحق.
طالب: "وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره، هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب، صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جماعة من أهل العلم، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك، كما قدمنا طرفًا منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المسألة الأولى: اعلم أن كلاًّ من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله؛ أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها. وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرِض عن التذكرة حمار أيضًا. أما السنة المذكورة فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار»".
ماذا؟
طالب: .......
"دل القرآن العظيم على أن المأمور"، نعم، سيأتي.
طالب: .......
نعم.
طالب: "أما السنة المذكورة فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»، أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-".
وليس في هذا رخصة لمن تلبَّس بشيء من المعاصي ألا يأمر ولا ينهى، بل هو زيادة إثم وعذاب إن لم يأمر ولم ينه مع ارتكابه لذلك الإثم. ونظيره: «من أكل الثوم والبصل» ومنعه من إتيان المسجد وإخراجه منه، ليس هذا رخصة له أو تخفيفًا عليه؛ إنما هو زيادة في عقوبته ألا يرتكب ما يمنعه مما أوجب الله عليه. فهذا ارتكب المعصية، فإن نهى وأمر من يرتكبها فقد أدى ما عليه من جهة الأمر والنهي، مع ارتكابه ما حرم الله عليه واستحقاقه الإثم بذلك ومخالفة ما يأمر به وينهى عنه. وليس المطلوب من الآمر والناهي أن يكون معصومًا لا يذنب، لا، ما قال أحد بهذا الكلام، ما من معصوم إلا محمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- والأنبياء من قبل، أما آحاد الناس فكلهم خطاء، ومع ذلك يجب عليه الأمر والنهي. وبعض الناس يأمر وينهى في حال تركه للمأمور وارتكابه للمحظور، كأنه يستهزئ، في بعض الصور نوع استهزاء.
تسمع بعض الناس يقول في أناس عليهم آثار الفسق ظاهرة والاستهتار، ثم يلتفت إلى جاره يقول: اتق الله لا تحلق لحيتك أو لا تجر رداءك، ليس قصده من هذا الأمر والنهي، وإنما هو السخرية، وهذا واضح في كثير من مجالس السفهاء، يتداولون مثل هذا، وليس قصده إبراء ذمته من عهدة الأمر والنهي، ومع أنه ارتكب المحظور فيتحمل الإثم من جهة دون جهة، فليس هذا مراده، وإن كان العلماء ينصّون على أنه عليه أن يأمر وينهى؛ لأنه مأمور بالأمر والنهي، عليه ألا يرتكب ما نهى عنه، أو يترك ما أمر به، هذه جهات كأنها منفكة في الجملة، لكن يبقى أن بعض الناس من باب الاستخفاف والاستهتار فتكون جهته حينئذٍ غير منفكة، لا يأمر ولا ينهى في مثل هذه الصورة التي فيها شيء من الاستخفاف والاستهزاء، فيكون إثمه أشد وأعظم، نسأل الله العافية.
يستهزئ بالسنة، ويستهزئ بما أوجب الله عليه أو بشيء من الدين، هذا خطر عظيم، من النفاق. وما حصل للركب الذين قالوا: ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء أرغب بطونًا وأجبن عند اللقاء وأكذب ألسنة، إلى آخره، ونزل فيهم من القرآن ما نزل.
طالب: "ومعنى «تندلق أقتابه»: تتدلى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء، وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قُرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون»، أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبدُ بن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أوبلغت ذلك؟ فقال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تُفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الآية، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] الآية، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه، وابن عساكر، كما نقله عنهم أيضًا الشوكاني وغيره.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالمًا بذلك، ينصح الناس عنه".
هذا يدل على أنه يرتكبه، ويعصي على بصيرة، يعرف أنه محرم، ويعرف أن المتروك واجب، بدليل أنه أمر غيره بهذا الواجب، ونهى غيره عن ذلك المنكر، فالحجة قائمة عليه. نعم.
طالب: "فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الآخر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض".
سقيم؛ لأنه تابع للبيت السابق، وهو سقيم.
طالب: .......
ما هو؟
طالب: .......
عندي أنا "مريض"، لكن المحفوظ: سقيم؛ لأنه من القصيدة السابقة.
طالب: .......
يقول: "وقال الآخر"، نعم.
طالب: "وقال الآخر:
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تُلْفَ مَن إياه تأمر آتيا
وأما الآية الدالة على أن المعرِض عن التذكير كالحمار أيضًا، فهي قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكِّر بالكسر، والمذكَّر بالفتح، أن يعملا بمقتضى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم".
والذي أنا أحفظه منه، كأنه منسوب للشافعي.
طالب: .......
هذا يمكن فيه اختلاف في الوزن، ولفظه فيما نحفظ غير هذا، يمكن فيه تعديل.
طالب: .......
نعم، موجود هذا في المحفوظ. نعم.
طالب: "المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكرًا، والمنكر معروفًا، والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] الآية، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبسَ في الحق معه.
وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق؛ لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] الآية، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يُسند الأمر بالمعروف إسنادًا مطلقًا إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده، فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] الآية، ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لورقة بن نوفل: «أومخرجيَّ هم؟»، يعني قريشًا، أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «ما ترك الحق لعمر صديقًا».
واعلم أنه لا يُحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أو إجماع المسلمين. وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرًا، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله".
ولا عبرة بالأقوال الشاذة أو ما ينسب إلى أناس ليسوا من أهل العلم، وليسوا من أهل النظر والاجتهاد، وليسوا من أهل الاعتبار في الفتوى، ويقول الناظم:
وليس في فتواه مفتٍ متبع ما لم يضف للعلم والدين الورع
فبعض الناس يتكلم بأشياء لا يهمه أن يصيب أو يخطئ، أن يؤجر أو يؤزر، يهمه أن يقول: أنا حاضر! وهذا موجود -نسأل الله العافية- فيمن اشتهر بالفتوى في وسائل الإعلام والتواصل والقنوات وغيرها، نسأل الله العافية.
طالب: "واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لِين، وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريقة فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يُعبد الله وحده، وتقام حدوده، وتُمتثل أوامره، وتُجتنب نواهيه".
لكن لا يكون هذا إلا لمن يملك، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء على مراتب، بحسب أوضاع الناس وقدراتهم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»، له القدرة على ذلك بحيث لا يترتب عليه مفسدة، وهذا في ولي الأمر في ولايته، والوالد في بيته، يغير بيده، «فإن لم يستطع فبلسانه» وهذا لعامة الناس بحيث لا يخشى على نفسه، ولا يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فإن خشي على نفسه أو ترتب على ذلك مفسدة أكبر فالمرتبة الثالثة، «فإن لم يستطع فبقلبه» وهذا هو أضعف الإيمان كما جاء في الحديث.
طالب: .......
سقيم، هذا الذي أحفظه.
طالب: .......
لا من نفس القصيدة.
طالب: .......
نعم، قد يغيَّر بحرف أو بشيء، وإلا فالأصل القصيدة.
طالب: .......
لا موجود.
طالب: .......
نعم، لكن من دلهم على هذا القول إمام مقتدى به تبرأ الذمة بتقليده أو هوى؟
طالب: .......
أحيانًا يكون الترجيح عند أمثال هؤلاء وبعض من يقودهم من غلاة أو من علماء مدعين للعلم، يرى هذا من باب الهوى أو اجتهاد خاطئ أن هذا أنسب للناس وأصلح لهم وإن كان مرجوحًا وهو في الحقيقة العكس، فيُنظر فيمن يقتدى به، كان من أهل العلم والدين والورع، ومن أهل الاجتهاد والنظر التي توافرت فيه شروط الاجتهاد.
على كل حال المسألة معروفة، وأقطار المسلمين كل قطر يقتدي بإمام، ولا أحد ينكر على أحد، ففي المغرب يقتدون بمالك ولا يأتي أحد من المشرق ينكر عليهم، أو العكس: يقتدون بأبي حنيفة ولا يأت أحد من أهل المغرب ينكر عليهم، وكذلك سائر البلدان الذين يقتدون بأحمد أو الشافعي أو غيره من أهل العلم.
طالب: .......
لا لا، «الأعمال بالنيات».
طالب: .......
اجتمعوا عليه، ما أظن أنهم يجتمعون على قول إلا بإلزام، قول ليس له حظ من النظر إلى بإلزام، يلزمهم صاحب هوى.
طالب: .......
نرد عليه نعم.
طالب: .......
لأن بعض الأقوال التي يترتب عليها آثار سيئة تفتح أبوابًا، فسد الذرائع معروف عند أهل العلم، والاحتياط للدين معروف، والاحتياط للناس وأديانهم وأعراضهم أمر مطلوب ينبغي أن يتبناه ولي الأمر. أما من يريد الانحلال والانفلات، وأن يشغب على الناس ويريد أقوالاً مهجورة من أجل ذلك أن يُشدَّد عليه.
طالب: .......
مشوا على شيء.
طالب: .......
يُحزم هذا الأمر بلا شك.
طالب: "وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] الآية. ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعيَّنت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
هذه إشارة من المؤلف إلى أن هذه المرتبة للسلطان وليست لآحاد الناس، أو ما أنابه السلطان عنه في هذا المجال، وليست لآحاد الناس.
طالب: "والمسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر؛ لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين، قال في مراقي السعود: وارتكب الأخف من ضرَّين وخيرين لدى استواء هذين. ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جَزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9].
وقولِه -صلى الله عليه وسلم-: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثَرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيامًا، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم»، وفي لفظ: «قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم»، أخرجه الترمذي، والحاكم، وصححاه، وأبو داود، وابن ماجه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخُشَني- رضي الله عنه-.
وقال الراوي هذا الحديث عنه، أبو أمية الشعباني، وقد سأله عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]: واللهِ لقد سألتَ عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمر...» إلى آخر الحديث. وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع. إلى آخره، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف؛ فدل الحديث على أنه إن عُدمت فائدته سقط وجوبه.
تنبيه: الأمر بالمعروف له ثلاث حِكم؛ الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] الآية، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملومًا.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]. ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف، كزوجته وأولاده ونحوهم، وينهاهم عن المنكر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، الحديث.
المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. وعن طارق بن شهاب -رضي الله عنه-: «أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وضع رِجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر»، رواه النسائي بإسناد صحيح، كما قاله النووي -رحمه الله-.
واعلم أن الحديث الصحيح قد بيَّن أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث؛ الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن ذلك هو مظنة الفائدة.
الثانية: ألا يقدر على نصحه؛ لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكَره، والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضيًا بالمنكر الذي يعلمه"..
يعمله.
أن يكون راضيًا بالمنكر الذي يعمله السلطان، متابعًا له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية- رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكِرون»".
يعني تعرفون بعض أعمالهم وموافقتها للحق، وتنكِرون عليهم بعض أفعالهم المخالفة للحق، نعم.
طالب: "«فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»".
هذا الشرط للخروج على هؤلاء الظلمة والجبارين، هم ما أقاموا الصلاة لا يجوز الخروج عليهم بحال، و«ما لم تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» فلا يجوز الخروج حينئذٍ، فلا يجوز الخروج إلا في حالتين: ترك الصلاة، يعني بالكلية، بمعنى أنه لا يصلي أبدًا. أو الكفر البواح الذي مثل الشمس، عندكم فيه برهان، ولا يحتمل غير ذلك. ويضاف إلى ذلك القدرة على التغيير أو الخروج تغييره بغير مفسدة من إراقة دماء وغيرها، وإلا لا يجوز الخروج حينئذٍ.
طالب: .......
أين؟
طالب: .......
طيب.
طالب: .......
نعم، لكن تأدية كلمة الحق عند السلطان الجائر، ويؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم، تصير أفضل الجهاد؟
طالب: .......
لكن يؤدي إلى مفسدة أعظم تضر بالناس، بعموم الناس، وليست خاصة به. فرق بين أن تكون هذه المفسدة خاصة به ونقول: يرتكب العزيمة، فيكون أفضل الجهاد، لكن يبقى أنه إذا كانت المفسدة تتعداه إلى غيره أو تضر بالدين وأهله. فهذا غيره.
طالب: "وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمن كره» يعني بقلبه، ولم يستطع إنكارًا بيد ولا لسان، «فقد برئ» من الإثم، وأدّى وظيفته، «ومن أنكر» بحسب طاقته «فقد سلم» من هذه المعصية، «ومن رضي» بها «وتابع» عليها، فهو عاصٍ كفاعلها. ونظيره حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عند مسلم، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»".
والرؤية أعم من أن تكون بصرية، الرؤية: «من رأى منكم» أعم من أن تكون هذه الرؤية بالبصر، فإذا بلغت من طريق يثبت به الخبر فيما صح من الأخبار ترتب عليه الأحكام. وجاء التعبير بالرؤية في مقام الأخبار الصحيحة الثابتة؛ لأن الخبر القطعي يُنزل منزلة الرؤية البصرية، وجاء التعبير في مثل قوله -جَلَّ وعَلا-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]؟ وهو ما رأى -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6]؟ وهو ما رأى -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وقال -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- فيمن سأله عن المرأة: هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: «نعم. إذا رأت الماء»، ما يشترط رؤية، إن كان ظلام وهي لن ترى، هذه رؤية، أو كان أعمى أو عمياء لن يرى.
فثبوت الخبر بأحد الأدلة التي تثبته من قطعية وما دونها إذا صح، ما يشترط أن يكون الخبر أيضًا متواترًا، أن يكون قطعيًّا.
على كل حال التعبير بالرؤية؛ لأنها هي الأصل، والأكثر، الناس يرون بأبصارهم، ولكن إذا تناقل الناس الخبر، وصح لديهم، ولم يكن إشاعة؛ لأن الإشاعات، ولو كثر ناقلوها، فإنها لا تفيد العلم، ما لم تستند إلى الحس، وقد سمعت أو رأيت أو مسست أو شيء من هذا.
طالب: .......
على المنبر.
طالب: .......
مروان نعم، على المنبر، في مجتمع ما فيه مفسدة، والمجتمع كله على هذا، ويعرف من الخليفة أنه يقبل، ولا يتضرر به، تختلف الأمور.
الآن عامة الناس فضلاً عن الحكام والولاة، عامة الناس ما تقدر أن تواجههم إلا بحذر شديد وبأسلوب مناسب، وعسى. تقول للخليفة على المنبر كذا وكذا، هذا اجتهاده، ويجزم أنه ما يترتب عليه مفسدة، والمجتمع كله على هذا المستوى. يعني في بلد الناس مع ولاتهم على قلب رجل واحد، ما فيه إشكال أن يُذكر شيء من هذا النوع الذي ذكره أبو سعيد، كان الناس يتداولون في دروسهم وفي مؤلفاتهم مقالة ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك؟! لأن هذه الكلمة لا تؤثر في الناس شيئًا، هل إذا سمعوا هذا الكلام يخرجون على الإمام؟ في وقت من الأوقات، لكن في وقت اضطراب وفتن وما أشبه ذلك والناس يتشوفون لمثل هذه الكلمات، لا يجوز بحال أن تقال مثل هذه الكلمة، فالأحوال والظروف والمجتمعات والقائل والمقول له يختلفون فيما هم فيه.
طالب: .......
نعم، يترتب عليه مفسدة، يعني لو تُرك المجال أن كل واحد يقيم الحد على من رآه؟
طالب: .......
باليد، التغيير باليد مثله.
طالب: .......
نعم، هذا يقولون: المنكر الذي يفوت، فلا بد من الحيلولة بينه وبين فاعله، رجل خلا بامرأة ليفجر بها، أو خلا برجل ليقتله، هذا لا بد من الحيلولة بينه وبينه.
طالب: "قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وقوله في هذه الآية الكريمة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] صيغة إغراء، يعني: الزموا حفظها، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والفعل من أسمائه عليك وهكذا دونك مع إليك
قوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106]، ذكر في هذه الآية أن كاتم الشهادة آثم، وبيَّن في موضع آخر أن هذا..".
لأنه فعل من أسمائه، يعني من أسماء الأفعال: عليك، عليك بكذا، يعني الزمه. ومثله: دونك، خُذ، دونك هذا الأمر يعني خذه. مع إليك، إليك عني، يعني تنحَّ عني. وهكذا مما جاء على وزنها من أسماء الأفعال.
طالب: "وبيَّن في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية، وهو قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعًا من القلب؛ لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد الجسد كله.
قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله وقدرته، كما أوضحه بقوله: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 110] الآية، لم يذكر هنا كيفية كفِّه إياهم عنه، ولكنه بيَّنه في مواضع أخر، كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158] الآية، وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] الآية، قال بعض أهل العلم: المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام، كقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] الآية، يعني: ألهمها، قال بعض العلماء: ومنه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وقال بعض العلماء معناه: أوحيت إلى الحواريين إيحاءً حقيقيًّا بواسطة عيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-".
اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله.
في آخر السورة آيات وكلمات تحتاج إلى تفسير، لكن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- اقتصر على ما فيه أحكام؛ اقتصر على ما فيه أحكام؛ لأن الكتاب مؤلَّف لبيان أحكام القرآن من جهة وبيانها بالقرآن.
القرطبي -رَحِمَهُ اللهُ- في المجلد السادس تكلم على الآيات كلها بألفاظها بجميع ما تحتمله من فهوم، ويؤكد ويركز على أحكام القرآن، لكنه ما يترك شيئًا. كتب أحكام القرآن خاصة بآيات الأحكام.
عندك من صفحة ثلاثمائة وستين: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، إلى ثلاثمائة وواحد وثمانين في تفسير بقية السورة. فليرجع إليه ففيه فوائد كثيرة، وحتى آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما جاء في الأمر بالمعروف والأحكام المترتبة عليه، في القرطبي فيها نوع تفصيل.
والله أعلم.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"