التعليق على تفسير سورة الطور من تفسير الجلالين (01)

 

السلام عليكم ورحمة وبركاته

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين،

 

أما بعد:

 

فاستكمالاً لما مضى من درس في العام الماضي في تفسير سورة الحجرات، وما تلاه بعد ذلك من تفسير سورة: (ق، والذاريات) نتابع في تفسير سورتي الطور والنجم، وبدون مقدمة للتفسير حيث مضى التقدمة في أكثر من مناسبة لا سيما في هذا المسجد سورة الحجرات، فلا داعي للتقديم في بيان أهمية التفسير.

 

تفسير سورة الطور التي نحن بصدد الحديث عنها، هذه السورة من سور القرآن سورة عظيمة تهز قلب الكافر قبل المسلم، ففي الصحيح من حديث جبير بن مطعم: أنه قدم المدينة في فداء أسرى بدر -وكان يومئذ كافراً-، فسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، وأخبر عن نفسه أن قلبه كاد يطير من سماع هذه السورة.

 

قال: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وهذا كافر لا يؤمن بالله ولا بما جاء عن الله، لكنه بفطرته مع تذوقه للكلام، فالعرب الذين نزل القرآن بلغتهم يفهمون ما يلقى إليهم، ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين لا يعون ولا يدركون مثل هذا الإدراك، فتقرأ سورة الطور، وتقرأ سورة هود، وتقرأ الآيات التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ومع ذلك لا تحرك ساكناً، هذا كافر كاد قلبه أن يطير والنصارى   {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [(83) سورة المائدة]، ومع الأسف أن المسلم في عصرنا هذا لا تكاد تحرك فيه ساكناً إلا من رحم الله وهم قلة؛ حتى أنا نجد من أنفسنا ونحن مع إخواننا من طلاب العلم، يعني لنا صلة وإن كانت ضعيفة حقيقة الصلة ضعيفة بكتاب الله، لكنها موجودة يعني ولو كانت ناقصة ومع ذلك كلام الله لا يحرك فينا ساكناً.

 

وما ذلكم إلا لقسوة القلوب وما ران عليها من الذنوب، ومن أظهر ذلك التخليط في المأكول الذي ران على القلوب، وغطاها وغشاها فصارت لا تفقه شيئاً إذا كان كلام الله يتلى بأصوات مؤثرة، ومع ذلك القلب لا يوجف ولا تزيدنا إيماناً مع الأسف، والله -جل وعلا- حصر الإيمان بالذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وجلت قلوبهم.

 

نحن لا تحرك ساكناً، فانشكوا إلى الله -جل وعلا- قسوة القلوب، ومع هذه الشكوى لا بد من بذل الأسباب لإحياء الشعور فيها، أبو جهل وأبو لهب وغيرهم من مشركي قريش من عتاة، من صناديد قريش قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله نفروا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [(5) سورة ص]، وتجد المسلم منذ قرون يطوف بالقبر وهو يقول: لا إله إلا الله فهل هذا يفهم معنى لا إله إلا الله كما يفهمها أبو جهل وأبو لهب؟ والله ما يفهم لا إله إلا الله، تجده يقول: لا إله إلا الله، ويقول: يا علي، يا حسين، هل هذا يفهم معنى لا إله إلا الله؟ ونحن نسمع كلام الله بالأصوات المؤثرة، التي لو قرئ فيها كلام عادي يعني تتأثر من جمالها وحسنها وترقيقها، فيكف بكلام الله المؤثر بنفسه بذاته؟ هذا كافر كاد قلبه أن يطير، فماذا عنا، هل نحن بهذا الصفة؟

 

أتكلم عن نفسي وأعرف من حال كثير من إخواني أنهم ليسوا كذلك، فلا بد من مراجعة الحسابات، الحسن يقول: تفقد قلبك في ثلاثة مواطن:  

 

1/ في قراءة القرآن.

 

2/ في الصلاة.

 

3/ في الذكر. فإن وجدته وإلا فعلم أن الباب مغلق، فعلم أن الباب مغلق يعني -بينك وبين ربك في حجاب. يعني فاسعى إلى رفع هذا الحجاب، فهل سعينا إلى رفع هذا الحجاب سعينا بجد، وبذلنا الأسباب، وعملنا على انتفاء الموانع التي تمنع ارتفاع هذا الحجاب؟ على طريقة واحدة منذ بدأنا الطلب إلى يومنا هذا ونحن طريقتنا لا تتغير، بل الملاحظ أنها تتغير إلى الأسوأ، أيام بداية الطلب يمكن قلوبنا أفضل من الآن، وهذا يجعل الإنسان يسيء الظن بنفسه وبنيته وبطلبه للعلم، هل هو على الجادة؟ العلم فائدته العمل، والقرب من الله -جل وعلا- فهل أفادنا هذا العلم القرب من الله -جل وعلا-؟ هل استحضرنا لذة المناجاة بين يدي الله -جل وعلا-؟ هل تلذذنا بصلاة ركعتين في جوف الليل؟ لا بد من إعادة الحساب فإذا كان هذا كافر يسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ بسورة الطور فيكاد قلبه أن يطير، يكاد قلبه أن ينخلع كما في بعض الروايات، فماذا عنا ونحن ننتسب إلى طلب العلم، ونعنى في الظاهر والله أعلم بالبواطن والخفايا؟ في الظاهر نعنى بكتاب الله، وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- وهي ديدن كثير من الأخوان وطلاب العلم، لكن مع ذلك النتيجة، الغاية هل نحس منها أو فيها لذة؟ ما نحس بشيء فلا بد من إعادة النظر، لابد من بذل الأسباب والسعي بجد على انتفاء الموانع.

 

يعني اعلم أن الباب مغلق، يعني لا أبالغ أنني قلت: مراراً أبدأ بسورة يونس ولا أشعر إلا وأنا بسورة يوسف، أقول هذا عن نفسي، أين ذهبت سورة هود بين السورتين يعني -الثلاث السور واحد وأربعين صفحة من القرآن-؟ الثلاث السور تبدأ من أولها إلى أخرها، مررت بسورة هود ولا كأن شيئاً حصل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما سأله أبو بكر وغيره أراك شبت يا رسول الله،! قال: ((شيبتني هود وأخواتها))...، الحديث لا يسلم من كلام لأهل العلم حتى قيل: إنه مضطرب، لكن الحافظ ابن حجر يقول: إنه يمكن ترجيح بعض الوجوه على بعض فيكون حسناً.

 

قصص لأمم غابرة ارتكبت ما ارتكبت من الذنوب والمخالفات، وعذبت بصنوف من العذاب نقرؤها ونسمعها وكأن الأمر لا يعنينا، والمسِألة كما قال عمر وغيره: "مضى القوم ولم يرد به سوانا"، نحن المقصودون بهذا القران، ليس المقصود لا عاد ولا ثمود ولا أصحاب الأيكة ولا مدين ولا قوم فرعون انتهوا، لمن أنزل القرآن؟ أنزل لنا لنعتبر ونتعظ وندكر، والسنن الإلهية واحدة لا تتغير، عذبوا بأسباب إذا وجدت مثل هذه الأسباب يعذب بها غيرهم {َلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [(62) سورة الأحزاب]، ولم يستثن من الأمم إلا قوم يونس، ما استثني من هذه السنة إلا قوم يونس يعني لما انعقدت الأسباب وحقت كلمة العذاب، نفعهم إيمانهم لكن غيرهم السنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، ونحن الآن واقعون في مسائل، وفي عظائم موجودة يعني في مجتمعنا وفي غيرنا أكثر، ونخشى من عقوبة تنزل بنا، ومن أن يحل بنا ما حل بغيرنا من المثلات،  والقوارع، نرى الناس يتخطفون من حولنا ونحن في بلد أمن، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، ونقوم بشكرها، ونؤديها على الوجه المطلوب، لا يكفي اللسان بل لا بد من العمل.

 

حديث جبير بن مطعم يستدل به أهل العلم على أن الراوي في وقت التحمل لا يشترط فيه شرط، لا يشترط له شرط في وقت التحمل، إنما الشروط إنما هي في وقت الأداء، هذا كافر، ورواية الفاسق مردودة كما تقدم في سورة الحجرات، رواية الفاسق مردودة فكيف بالكافر؟ من باب أولى إذا كان المسلم الفاسق روايته مردودة، فالكافر من باب أولى، وعلى هذا فرواية الكافر، رواية الفاسق، رواية الصغير وغيرهم ممن لا تنطبق عليهم الشروط التي اشترطها أهل العلم في قبول الرواية لا تشترط حين التحمل، إنما تشترط حال الأداء إذا أراد أن يحدث غيره، نظر هذا المتلقي فإن كان ممن تنطبق عليه الشروط قبل منه وإلا فلا، أما وقت التحمل ليتحمل وليكن كافراً كما في حال جبير بن مطعم، وما جاء مما يتعلق بابن الديان هذا يهودي متطبب يحضر مجالس الحديث عند الحافظ المزي وغيره، فترددوا في كتابة اسمه في السامعين هذا يهودي قالوا: كيف يكتب اسمه في الطباق، وهو يهودي؟ الرواية للمسلمين، وإنما تقبل من المسلمين فكيف يكتب؟ فسئل شيخ الإسلام فقال: اكتبوا اسمه، وهذا ينفع في باب التأليف، وإن لم ينفع في باب الرواية إلا إذ أسلم، ومع ذلكم أسلم الرجل وصار يحدث بما سمع، قبل عنه الحديث، يهودي.

 

على كل حال قصة جبير بن مطعم وراويته لهذا الخبر مسطرة في الصحيحين وغيرهما، ودل على صحة الرواية حال الكفر، وأما الأداء لا بد أن يكون أهلاً للرواية.

 

يقول الله -جل وعلا-: {وَالطُّورِ} [(1) سورة الطور] أولاً: سورة الطور مكية تسع وأربعون أية، تسع وأربعون أيةً وعلى عد البسملة منها أية تكون خمسون أية على الخلاف المعروف بين أهل العلم.

 

هل تعد البسملة آية وليست بآية؟ على ما ذكرناه فيما تقدم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام على البسملة في معناها وإعرابها والخلاف فيها تقدم في مناسبات كثيرة، ومن سمع تفسير سورة الفتح سمع شيئاً من التفصيل فيها.

 

يقول الشارح المفسر -وهو جلال الدين المحلي-: الذي بدأ التفسير، وذكرنا في درس مضى في العام الماضي أننا نجعل بين أيدينا تفسير الجلالين؛ لأن التفسير المطلق المرسل هكذا لا يحصل له أوقات محدودة تنتهي، مثل هذا يحتاج إلى استطراد من اليمين والشمال، وتوسع، والإنسان إذا لمن يتقيد بشيء معين قد لا ينجز ما وكل إليه.

 

الجلال المحلي عرفنا أنه فسر من القرآن من سورة الكهف إلى آخر القرآن، ثم رجع من أوله ففسر الفاتحة، وأكمله جلال الدين السيوطي من سورة البقرة إلى آخر الإسراء، ولذا قيل لهذا التفسير المختصر: "تفسير الجلالين"، وهذا التفسير تكلمنا عنه فيما مضى فلا حاجة إلى إعادة القول فيه، إلا أن التنبيه على أن فيه بعض المخالفات العقدية مما ينبه على ما يمر منها -إن شاء الله تعالى-.

 

يقول المفسر: {وَالطُّورِ} [(1) سورة الطور] الواو هذه واو القسم، واو القسم والمقسم به مجرور؛ لأن حروف القسم الثلاثة: الواو، والباء، والتاء من حروف الجر، من حروف الجر، والقسم بالطور الذي هو الجبل من الله -جل وعلا- الذي لا يسأل عما يفعل واقع، وإن كان بعض المفسرين يقدر "رب" هنا فيقول: "ورب الطور،  ورب الذاريات"، لكن لا داعي لهذا التقدير؛ لأن الله -جل وعلا- له أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما بالنسبة للخلق فلا يجوز أن يقسموا إلا بالله -جل وعلا-، إلا بالله -جل وعلا- ((فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، ((لا تحلفوا بآبائكم)) الإقسام بالشيء والحلف به يدل على عظمته وأهميته، فما أقسم الله به في كتابه يدل على أن له شأن، وأن له خصيصة وميزة؛ لأن القسم الأصل فيه التعظيم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كثير ما يقسم على الأمور المهمة، ويحلف من غير استحلاف، ويحلف من غير استحلاف، مع أن الله -جل وعلا- نهانا أن نجعل الله عرضة لأيماننا، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الأمر المهم يحلف الإنسان ولو لم يستحلف، كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كثيراً ما يقول: والذي نفسي بيده.

 

قد يقول قائل: ماذا عن الحلف بالطلاق هل هو شرك؟ الحلف بالطلاق هل هو شرك أو ليس بشرك؟

 

أولاً: الحلف بالطلاق ليس بيمين، وإنما قيل له حلف؛ لأنه يلزم عليه، على من حنث فيه كفارة اليمين فهو يشبه اليمين من هذه الحيثية، وإلا فليس فيه من حروف القسم شيء، ليس فيه من حروف القسم شيء، لو قال لزوجته: إن خرجت فأنتِ طالق، وهو لا يريد الطلاق قالوا: هذا حكمه حكم اليمين -هذا الحلف بالطلاق-؛ لأن  حكمه حكم اليمين وإلا ما في أحد يبي يقول: والطلاق، والواو واو القسم أبداً.

 

يقول: {وَالطُّورِ} [(1) سورة الطور] "أي الجبل الذي كلم الله عليه موسى"، "الجبل الذي كلم الله عليه موسى" طور سيناء، طور سينين، الطور: "هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى"، وابن كثير -رحمه الله تعالى- يخص الطور بالجبل الذي فيه نبات، فيه شجر، وأما إذا تجرد عن ذلك فهو جبل وليس بطور، وجاء في بعض الروايات أن الطور من بعض جبال الجنة، ذكر ذلك المفسرون ورووا في ذلك ما رووا من جبال الجنة، الطور، وأحد، واثنان غيرهما قالوا: من جبال الجنة، كما أن النيل والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة، وما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة، وكون هذه الأشياء من الجنة، روضة من رياض الجنة، أو من أنهار الجنة، أو من جبال الجنة هذا يدل على أن فيها فضل، لكن التعبد فيها يحتاج إلى دليل، هل معنى أن النيل والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة أنه يشرع الاغتسال فيها؟ لا، وكون الطور أو أحد من جبال الجنة، هل يشرع صعودها؟ لا، إلا بدليل، إلا بدليل.

 

قد يقول قائل: إن الخبر بأنها من أنهار الجنة، أو من جبال الجنة يكون عارياً عن الفائدة، يقول: ما في فائدة يعني كغيره إذا كان ما يشرع الاغتسال فيه ولا التنظف فيه، ولا، يكون كغيره من الجبال، نقول: نعم العبادات توقيفية نحفظ هذه الميزة، لكن لا نفعل إلا ما أمرنا به وما شرع لنا، فماذا عن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة))،؟ ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) لولا أنه جاء في الحديث الصحيح: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) لقلنا إن هذه البقعة كغيرها؛ لأننا لا نتعبد إلا بدليل، وقد جاء في الحديث: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) وهذه روضة من رياض الجنة، وتفسير رياض الجنة بحلق الذكر، حلق العلم تفسير للعام ببعض أفراده، لا يقتضي تخصيصاً فإذا مررنا بأي روضة جاء النص على أنها من رياض الجنة نرتع للأمر: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) تفسير العام ببعض أفراده لا يقتضي تخصيصاً، نعم أولى ما يرتع فيه حلق الذكر، وحلق العلم، وحلق التحفيظ، دروس العلم هذه أولى ما يرتع فيه، لكن إذا جاءنا نص من النصوص يدل على أن هذه البقعة من رياض الجنة نرتع بما يناسب من صلاة وذكر وتلاوة، وألا نعبد الله إلا بما شرع، لا نتعبد في هذه الأماكن بغير ما شرعه الله، فما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة نرتع فيه، لكن على طالب العلم الذي ينظر إليه ويقتدي به أن ينظر في مسألة المصالح والمفاسد، هو مأمور أن يرتاع لكن إذا كان يقتدى به بحيث إذا رأوه بعض المبتدعة زاولوا بدعهم، وقالوا: إن هذه البدعة يتبرك فيها، ويتعظم، ويعتقد فيها ما يعتقد، ولولا أن الأمر كذلك ما جاء الشيخ فلان وجلس فيها ليذكر الله ويقرأ القرآن، إلا أنها ما، فيصرف فيها ويتعبد فيها بما لم يشرعه الله -جل وعلا-، فلا شك أن سد الذريعة هو المطلوب، ويبقى أن الحكم معروف وواضح ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)).

 

نعم نرتع نصلي، نذكر، ندعو لا بأس، لكن إذا ترتب على ذلك مفسدة بحيث يقتدى بالإنسان في مثل عمله الظاهر هذا، فيزاول فيها ما لم يشرع فعلى الإنسان أن يكف، وأجره -إن شاء الله تعالى- في ذلك أعظم.

 

وقلنا: إن التنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، هذه روضة من رياض الجنة، فحلق الذكر، حلق العلم هذه روضة من رياض الجنة، وهي أولى ما يدخل النص؛ لأنها منصوص عليها بالتخصيص والتعيين.

 

يقول: {وَالطُّورِ} [(1) سورة الطور] "أي الجبل الذي كلم الله عليه موسى" وجاء ذكره في مواضع من القرآن. {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} [(2) سورة الطور] كتاب الذي هو المكتوب، والكتاب مصدر أصله يراد به المكتوب، مصدر كتب يكتب كتابةً كتباً وكتاباً هذه مصادر كتب، والأصل في المادة الجمع يقال: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا،  وقيل: لجماعة الخيل كتيبة، ومنه الكتابة لاجتماع الحروف والكلمات، والمراد المكتوب المسطور المكتوب الـ{مَّسْطُورٍ} يعني كتب أسطر، والمراد به إما اللوح المحفوظ، أو التوراة لمناسبة الطور، وقد كتبها الله -جل وعلا- بيده، كتبها بيده، أو القرآن، أو جميع الكتب الإلهية.

 

{وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} [(2) سورة الطور] أو يراد بذلك الكتب عامة كما أقسم بالقلم، والمراد بالكتاب هنا المكتوب الجامع لما فيه من علوم، {مَّسْطُورٍ} يراد به مكتوب، مسطور مكتوب، كتاب هو المكتوب، ومسطور يعني مكتوب أسطر، فإذا قلنا: إن المراد بالكتاب؛ لأن الكتاب يطلق ويراد به الكتابة، ويراد به المكتوب، كما أن القرآن يطلق على القراءة، ويطلق على المقروء وكذلك الكتاب، {مَّسْطُورٍ} يعني مكتوب أسطر كما هي العادة في الكتاب يكتب أسطر، السطر الأول، الثاني، كلمة، كلمتين، ثلاثة، أربع، عشر تشكل سطراً، ثم بعد ذلك الذي يليه، ثم الذي يليه، والمسطور هو المكتوب، وهو أيضاً المزبور، كثيراً ما يقرأ يعني في المخطوطات زبره يعني- كتبه في فلان بن فلان- يعني كتبه، والزبر الكتب.

 

{فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} [(3) سورة الطور]، {فِي رَقٍّ} الرق: هو ما يكتب عليه، ما يكتب عليه، والأصل فيه ما يرقق من الأديم، من الجلود؛ لأن الورق ليست موجودة  في ذلك الوقت إنما صنعت فيما بعد أظن في عهد الرشيد، لكن لا يوجد ورق إنما في الغالب يكتب على جلود ترقق، ويوجد بعض الكتب النفيسة مكتوبة على رق غزال، يعني -جلد غزال مرقق-، ووجد نسخة كاملة من المدونة للإمام مالك مكتوبة على رق غزال، يوجد كتب كثيرة في هذا للاهتمام بها، والرق هو ما يكتب عليه، والأصل الجلد المرقق، المرقق ليسهل التعامل معه ويخف حمله، يعني تصور القرآن كتب على جلد يحتاج إلى من يحمله، فضلاً عن السنة مثلاً: لو كتبت على جلود، أو على عظام،  أو على حصى ...... وغيرها، كما كانت الكتابة في أول الأمر تحتاج إلى من يحملها أحمال، ولذا يقولون: إن كتب فلان حمل ثلاثين جمل مثلاً كلها؛ لأنها مثل هذا النوع تحتاج إلى من يحمله.

 

إن الذي هو في المصاحف مثبت

هو قول ربي كله لا بعضه

 

بأنامل الأشياخ والشبان

ومدادنا والرق مخلوقان

 

المداد الحبر مخلوق، والرق مخلوق الذي يكتب عليه، لكن كلام الله المكتوب في هذه الأوراق وفي هذا الرق هو كلام الله كله لا بعضه.

 

{فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} [(3) سورة الطور]  {مَّنشُورٍ} يعني مفتوح مبسوط يُقرأ، يقرأه كل من يعرف القراءة، كل من يقرأ ويكتب يقرأ يقول: "أي التوراة أو القرآن"، "التوراة أو القرآن" التوراة لمناسبة الطور، والله -جل وعلا- كتب التوراة بيده، أو القرآن؛ لأنه هو كتابنا، ونحن المخاطبون بهذا الكلام.

 

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [(4) سورة الطور]، {الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} يقول: "هو في السماء الثالثة أو السادسة أو السابعة"، الحديث حديث الإسراء في الصحيح يدل على أنه في السماء السابعة، وما عدا ذلك ضعيف حتى قيل: إنه في السماء الدنيا، لكن الصواب أنه في السابعة بحيال الكعبة يعني-بإزاء الكعبة- بحيث لو سقط لسقط على الكعبة، بيت معمور، معمور بعبادة الله -جل وعلا-، معمور بعبادة الله -جل وعلا- يزوره ويدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، "سبعون ألف ملك يعمرونه بالطواف والصلاة لا يعودون إليه أبداً"، تصور منذ أن خلق الله الخلق إلى قيام الساعة يدخله يومياً سبعون ألف ملك لا يعودون إليه مرة ثانية، كم عدد الملائكة؟ كم عددهم؟ لا يحصيهم إلا الله -جل وعلا-، وجاء في الحديث حديث الأطيط وهو معروف، مضعف عند جمع من أهل العلم ((أطت السماء وحق لها أن تأط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو قائم))، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} [(31) سورة المدثر] خلائق لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، سبعون ألف ملك يدخلون هذا البيت المعمور -يعمرونه بطاعة الله- ثم لا يعودون إليه أبداً، لا إله إلا لله -ما أعظمه-.

 

{بَيْتِ الْمَعْمُورِ} العمارة لا تكون بالأجر والجص والطين والألوان والزخرفة، إنما تكون بالعبادة هذه هي العمارة الحقيقة، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [(18) سورة التوبة] وإذا كانت المسألة مسألة عمارة وتشييد لا عمارة حقيقية معنوية، جاء قول الله -جل وعلا- {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} [(19) سورة التوبة]،  ومن مسائل الجاهلية التي ذكرها الإمام المجدد، من مسائل الجاهلية التمدح بعمارة المسجد الحرام، عمارة المسجد الحرام المقصود بها العمارة الحسية: بالطين، أو بالآجر، أو بالمسلح، أو بغيرها إذا كانت في مقابل الإيمان، أما إذا كانت مع الإيمان فمن أفضل الأعمال ((من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة))؛ لأن هذه الآية يوردها من يوردها من بعض الناس الذين لا يرون لعمارة البيت المعظم قيمة، وأن من تمدح بعمارته، أو أثنى على عامره يريدون عليه {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ} نقول: إذا كانت مع الإيمان فهي من أفضل الأعمال، لكن الشأن في تمدح قريش في مقابل الإيمان، نعم في مقابل الإيمان لا شيء، فالعمارة الحقيقية هي العمارة بالعبادة -العمارة المعنوية-، فإذا اجتمعت العمارتان فنور على نور؛ لأن عمارة بيوت الله -جل وعلا- جاءت النصوص القطعية بفضلها ((من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاة -لو شبر- بنى الله له بيتاً في الجنة)) فننتبه لمثل هذا؛ لأن الآية تورد في حق من يعمر بيت الله -جل وعلا- وهو ليس من الصنف الذي جاء ذمه في القرآن، الذم في القرآن إنما جاء للمشركين الذين يتمحدون بعمارة البيت وهم أبعد الناس عن العمارة الحقيقية.

 

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [(5) سورة الطور] {وَالسَّقْفِ} السماء، مرفوع {السَّمَاء رَفَعَهَا} [(7) سورة الرحمن] هي سقف مرفوع محفوظ {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا} [(32) سورة الأنبياء] يعني لا تناله أيدي العابثين، ولا يمكن أن يصل إليه مخلوق فهو محفوظ، وأيضاً هو مرفوع، وهو بالنص سقف, وأهل العلم يقولون: وإن جاء النص بأن السقف على أن السماء سقف إلا أنه لا يحنث، من حلف ألا يجلس تحت سقف ثم جلس تحت السماء، أو لا ينام على فراش ونام على الأرض، والأرض فراش والسماء سقف بالقرآن فلا يحنث إذا قال: ما أنا، وأقسم بالله ألا ينام تحت سقف ولا فوق فراش، فنام فوق الأرض وتحت السماء، قالوا: لا يحنث لماذا؟ لأن الأيمان مبناها على الأعراف، الأيمان مبناها على الأعراف، والعرف لا يسمي السماء سقفاً، ولا الأرض فراشاً قال: نام في العراء يعني لا تحت سقف، ونام على الأديم على الأرض لا على فراش، ومثل ما قلنا: الأيمان مبناها على الأعراف فلا يحنث، إلا إذا نوى، فإذا نوى فهو حانث لا محالة.

 

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [(5) سورة الطور]، {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ *ٍ  * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [(1-6) سورة الطور] هذه الإيمان المكررة، ومنهم من يقول: اليمين والطور وما عداه معطوف عليه، فالواو في قوله: وكتاب مسطور، والبيت المعمور, والسقف المرفوع، والبحر المسجور هذه واو العطف وليست بقسم، لكن أكثرهم على أن الله أقسم بهذه الأشياء بالطور، وكتاب مسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، وجوابه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [(7) سورة الطور].

 

{الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [(6) سورة الطور]، {الْمَسْجُورِ} يقول المؤلف: "المملوء" نعم هو مملوء ماء، وكما يطلق المسجور على المملوء، يطلق أيضاً على الموقد، الموقد الذي فيه نار، لكن ابن جرير رجح أنه المملوء؛ لأننا نرى البحار ليس فيها نار وهي تحول فيما بعد إلى نار والتسجير الإيقاد، جهنم تسجر وقت الزوال أو قبل الزوال حين يقوم قائم الظهيرة فإنها تسجر فيها جنهم، وهذا سبب النهي عن الصلاة في هذا الوقت يعني توقد، وفي حديث كعب حديث الثلاثة الذين خلفوا وتيب عليهم: جاءه كتاب من ملك غسان يذكر فيه أنه ما دام على هذه الحال، وأنه مهجور بين المسلمين ليقدم علينا؛ لنكرمه ونواسيه، لكن كعب عد هذه بلية من البلايا، عدها بلية من البلايا يقول: فسجيت بها التنور يعني -أوقدت بالكتاب التنور-، أوقدت بالكتاب التنور، وهذا لا شك أن المسلم لا يجوز له أن يعرض نفسه ودينه للفتنة، بحيث يترك بلاد المسلمين لما أصابه من ضر وضيق ويذهب ليقيم بين الكفار، فيخسر بذلك الخسارة الفادحة في دينه وهو لا يشعر وقد يشعر، ولما دعاء ملك غسان كعب بن مالك، وقد أصابه من الضيق ما أصابه بسبب الهجر مدة خمسين يوماً، عد هذه بلية ومصيبة وكارثة فسجر التنور بالخطاب، فليصبر المسلم على ما يصيبه في بلاد المسلمين ولا يعرض نفسه للفتنة، ويهاجر على ما زعموا المسلم من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر يقول: نجد الحرية، لكن ما الأثر عليه في نفسه وولده؟ كم من شخص ذهب من أجل الحرية وفقد أولاده تنصروا نسأل الله العفو والعافية؟ وكيف يعلم أولاده في مدارس الكفر والكفار؟ والله المستعان.

 

{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [(6) سورة الطور] "أي المملوء" أو الموقد؛ لأن التسجير الإيقاد، أقسم الله -جل وعلا- بالطور والكتاب، والبيت، والسقف، والبحر خمسة أقسام جواب القسم {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [(7) سورة الطور]، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} "لنازل بمستحقه"، {لَوَاقِعٌ} يعني نازل بمستحقه، والمستحق للعذاب هو المخالف التارك لما أوجب الله عليه، الفاعل لما نهي عنه بدأً من تارك  التوحيد، و فاعل الشرك إلى تارك الواجبات، وفاعل المحرمات إلا أن الأول عذابه حتم، والثاني تحت المشيئة {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} "لنازل بمستحقه".

 

{مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} [(8) سورة الطور] ليس له من يدفعه، ليس للمستحق لهذا العذاب إذا وقع ليس له أحد يدفع عنه، من يستطيع أن يدفع؟ لا يستطيع أحد أن يدفع عن نفسه فضلاً عن أن يدفع عن غيره {مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} لا يرده، ولا يدفعه قبل وقوعه، ولا يرفعه بعد نزوله أي دافع {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [(58) سورة النجم] يعني غير الله -جل وعلا- لا يستطيع شيء لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، {مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} يعني يدفع "عنه" هذا العذاب النازل به وهو بالمستحق، {يَوْمَْ} "معمول لواقع"، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ* يَوْمَْ} يعني الظرف متعلق بواقع ولذا قال: "معمول لواقع".

 

{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا} [(9) سورة الطور] تتحرك وتدور، {يَوْمَ تَمُورُ} يوم مضاف إلى جملة، مضاف إلى جملة صدرها مبني وإلا معرب؟ نعم صدرها معرب، وحينئذ يعرب وإلا يبنى؟ يعرب، لكن لو أضيف إلى جملة صدرها مبنى بني على الفتح ((رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، ((كيوم ولدته أمه)) هذا مبنى لماذا؟ لأنه أضيف إلى جملة صدرها مبنى، ((رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) أضيف إلى جملة صدرها مبني، فبني وهنا صدرها معرب فأعرب، قد يقول قائل: لماذا لا يكون مبنى على الفتح؟ لأنه مفتوح يومُ ينفع، هذا يومُ ينفع صدرها معرب فأعربت، لكن هنا ما الذي يدرينا  أن يوم هنا معرب وإلا مبنية؟ {يَوْمَ تَمُورُ} قلنا: إنها أضيفت، أضيف الظرف إلى جملة صدرها معرب فيعرب، وقلنا: ((كيوم ولدته أمه)) أضيف إلى جملة صدرها مبنى فبني، لماذا لا نقول: إنه مبنى؟ لا، هنا ليس بمبنى وإنما هو معرب، والأصل فيه الإعراب لا البناء، والظرف الأصل فيه أنه منصوب، الأصل فيه أنه منصوب، ولكن عرفنا أن ذاك مبني لماذا؟ لأنه دخل عليه حرف جر، دخل عليه حرف جر ومع ذلك نصب، عرفنا أنه مبنى، عرفنا أنه مبنى لدخول حرف الجر، وأما هنا فموضعه النصب، موضعه النصب فهو معرب، وهو معمول يعني متعلق بواقع، {لَوَاقِعٌ} اسم فاعل، وعمله كعمل فعله معمول لواقع، {تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا} يعني "تتحرك وتدور" وتضطرب، ويدخل بعضها في بعض وتشقق، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا} "تتحرك وتدور" وتضطرب.

 

{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [(10) سورة الطور] يقول: "تصير {هَبَاء مَّنثُورًا} [(23) سورة الفرقان] وذلك في يوم القيامة"،{وَتَسِيرُ} يعني "تصير هباء"، وَتَسِيرُ {الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [(3) سورة التكوير]، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل]، السير غير كونها هباء منثوراً، نعم {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [(5) سورة القارعة] كالصوف المندوف تتفتت وتتطاير "تصير هباء منثوراً"، لكنها قبل ذلك تسير، يعني لها أحول منها: السير كما في قوله -جل وعلا-، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل] تشمي، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يعني تمشي، ويستدل بهذا أهل الهيئة ومن يقول بقولهم على دوران الأرض، إننا نظن أن الجبال جامدة وهي تمر مر السحاب تجري، تمشي، لكن الكلام على أنها إذا قالوا: إن الأرض تدور فأنت تدور معها فهي بالنسبة لك ثابتة في مكانها، وهذا ليس في الدنيا {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ليس في الدنيا هذا مثل هنا {تَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} إنما هو في القيامة قبل أن تكون هباء منثوراً، وقبل أن تكون {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} يعني كالصوف المندوف المفتت، قبل ذلك {َتَسِيرُ} فليس فيه دلالة على ما يقولون؛ لأن الشيء إذا سرت معه فهو في مكانه بالنسبة لك، لكن لو قدر أنها تسير بمفردها، وأنت جالس في مكانك لعلمك بها أنها بجوارك، ثم إذا أصبحت إذا هي بعيدة عنك هذا سيرها، أما إذا كانت تسير مع غيرها فليست تسير هي ثابتة في مكانها، وإنما الذي يسير غيرها فليس فيه دلالة على ما أرادوا، ليس فيه دلالة على ما أرادوا، {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}ٍ يقول: "تصير هباء منثوراً وذلك في يوم القيامة"، وعرفنا أن السير غير كونها هباء، وغير كونها كالعهن المنفوش.

 

{فَوَيْلٌ} [(11) سورة الطور] الفاء هذه ما المقتضي لها؟ {فَوَيْلٌ} الفاء هذه يسمونها، ماذا تسمى الواقعة في جواب شرط مقدر؟ الفصيحة "الفاء الفصيحة" واقعة في جواب شرط مقدر، إذا كان الأمر كذلك {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [(11) سورة الطور]  {فَوَيْلٌ} يقول: "شدة عذاب"، ولا شك أن ويل كلمة عذاب، وجاء تفسيرها بأنها وادٍ في جنهم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره، ويل وادٍ في جنهم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حرة، يقولون: وفيه قيح وصديد المعذبين نسأل الله السلامة والعافية.

 

{فَوَيْلٌ} "شدة عذاب" {يَوْمَئِذٍ} يومئذ يعني -يوم القيامة-، {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "للرسل" ويل لهم، ثم ويل لهم، -نسأل الله العافية- وجاء من وصفهم أنهم مكذبون للرسل.

 

{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [(12) سورة الطور] {الَّذِينَ هُمْ} يعني من وصفهم أيضاً الذين هم خوض، يعني في "باطل" يخوضون، يخوضون في الباطل ويتداولونه بينهم، ويرفعون شأنه، ويسعون جاهدين لإبطال الحق ورفع الباطل، {فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} "أي يتشاغلون بكفرهم" بباطلهم، عن الإيمان وعن الحق.

 

ويل لهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [(13) سورة الطور] {يَوْمَ يُدَعُّونَ} يعني في ذلك اليوم -يوم القيامة، يعني "يدفعون بعنف، يدفعون بعنف، ويوم بدل من قوله: {يَوْمَ تَمُورُ}" كل هذا في القيامة، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} يدفعون إليها بعنف لماذا؟ لأنهم لا يريدونها، ويحاولون جاهدين أن يمتنعوا، ثم يدفعون بعنف وقوة وشدة ولا رحمة حينئذ!، والدفع بعنف.

 

يقول: "بدل من {يَوْمَ تَمُورُ}، {يَوْمَ تَمُورُ} هو يوم يدعون هو نفسه اليوم واحد وهو يوم القيامة، في قوله -جل وعلا- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [(1-2) سورة الماعون] يدعه يعني -يدفعه-، وهذا ليس في قلبه أدنى رحمة، وحينئذ هؤلاء الذين يكذبون ويخوضون ويلعبون هؤلاء يدعون من دون أي رحمة يعني -يدفعون بعنف-.

 

ويقال لهم تبكيتاً وزجراً: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [(14) سورة الطور]، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ}؛ لأن الكافر لا يؤمن بجنة ولا نار، ولو أمن بجنة لعمل لها، ولو صدق بنار لبذل الأسباب للفرار منها.

 

وإذا كانت نار الدنيا المتوقعة تبذل الأسباب لعدم وقوعها، تجدون وسائل السلامة والطفايات وغيرها على أهبة الاستعداد؛ خوفاً من أن يقع شيء من نار الدنيا -يلتمس كهرباء، وإلا ينفجر غاز، وإلا شيء- أسباب السلامة الناس يحتاطون لها، وهي جزء من سبعين جزء من نار جنهم ((ناركم التي توقدون عليها أنها جزء من سبعين جزءاً، وإن نار الآخرة أو نار جنهم فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً))، وجاء في بعض الآثار أن أهل النار لو خرجوا إلى الدنيا لناموا في نارها -ينامون-، والآن إذا ارتفعت درجة الحرارة قليلاً ما نام الناس بدون نار، بدون شمس تحت السقف والحرارة ترتفع إلى الأربعين تجد الإنسان ما ينام، فكيف بنار الدنيا التي تذيب الحديد؟ وكيف بنار الآخرة التي فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً؟

 

يعني العاقل عليه أن يتأهب، ونسمع النصوص من الكتاب والسنة، ونسمع في الأخبار الصحيحة أن دخول النار رتب على كذا من الأعمال، وتجد المسلم المؤمن المصدق الموقن قد يرتكب بعض هذا الأعمال التي رتب عليها دخول النار لمجرد شهوة أو نزوة، وقد تكون هذه الشهوة لا يستفيد منها ولا يتلذذ بها، فعلى سبيل المثال أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، ثلاثة: المجاهد الذي يقتل في سبيل الله في الظاهر، يؤتى به يوم القيامة ويقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: قاتلت وجاهدت في سبيلك حتى قتلت، فيقال له: كذبت إنما قاتلت وجاهدت حتى قتلت ليقال: جري أو شجاع فيسحب على وجهه في النار، ومثله الذي يعلم الناس، يتعلم يسهر ويتعب العقود؛ ليتعلم العلم، ثم بعد ذلك يعلم الناس عشرات السنين، ثم يأتي به يوم القيامة فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم، وعلمت الناس فيقال له: كذبت إنما تعلمت وعلمت ليقال، فيسحب كصاحبه على وجهه إلى النار.

 

ومن يكن ليقول الناس يطلبه

 

أخسر بصفقته في موقف الندم

 

والثالث: المتصدق الذي لا يترك باباً من أبواب الخير إلا ويبذل فيه، ويبذل فيه، فيقال له: ماذا صنعت؟ قال: كسبت المال، ثم أنفقته في وجوه الخير فيقال: كذبت إنما أنققت ليقال: جواد.

 

هذه الأمثلة محسوسة يعني في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- من أبلى بلاء حسناً قال النبي: ((هو في النار)) في الجهاد، ويوجد من يعلم الناس والله أعلم بنيته ومراده {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر]، فعلى الإنسان أن يُعنى بهذا الباب ويهتم به، وكم من متصدق ليقال؟ وإذا كان وجد من بعض الأثرياء من إذا جاءه من يجيء لطلب مساعدة، تجده يستخرج الدفتر -دفتر الشيكات- وعنده الحضور وعنده الوجهاء والأعيان  فيتبرع بمبلغ كبير -هذا الشيك-، ثم إذا ذهب ممن يذهب -هذه واقعة ما هي بافتراضية-، اتصل على البنك قال: وقفوا الشيك، شيء لا يخطر على البال يعني! ما الذي يضره أن يقول: والله ما فيش شيء؟ لكن قد يقول قائل: إننا نتعلم العلم ونعلم، وفي نياتنا دخن، وفيها غبش، وجاهدنا وحاولنا أن نصحح وعجزنا هل نترك العلم والتعليم؟ نقول: لا تترك لا العلم ولا التعليم تابع، وألح على ربك أن يصحح نيتك؛ لأن الترك ليس بعلاج، تترك إلى أي بدل، وإلا فالأمر عظيم يعني بدلاً من أن يكون ممن رفعه الله درجات يكون من أول من تسرع بهم النار؛ لأن العلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة التي لا تقبل التشريك.

 

{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [(14) سورة الطور] وأنت ...... أخبار والله ما هو بصحيح ولا معقول نار هذه صفتها، وجنة عرضها السموات والأرض وين النار؟ إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض يعني ما في مكان للنار{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} ليس الخبر كالمعاينة، والله المستعان.

 

لكن هل يقول: ما فيه نار وهو يراها يمتنع من دخولها ولا يقدم عليها؟ فيدفع دفعاً شديداً ويكب على وجهه ومنخره في النار رغم أنفه لا بطوعه واختياره؛ لأنه لا يقبل هذا.

 

{أَفَسِحْرٌ هَذَا} [(15) سورة الطور] "العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في الوحي هذا سحر"، {أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني -"العذاب الذي ترون"-؛ لأنهم قالوا للنبي: ساحر، وقالوا في الوحي سحر، هذا النار التي ترونها هذه سحر حقيقة وإلا خيال {أَفَسِحْرٌ هَذَا} "العذاب التي ترونه كما كنتم تقولون في الوحي هذا سحر" {أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [(15) سورة الطور] يعني إن كذبتم وقلتم سحر ذوقوا العذاب يدفعون إليه دفعاً، ولا يمكنهم الهرب، ولا يمكن أن يقولوا: سحر؛ لأنهم يرونها بأم عيونهم، بأمات عيونهم تتلظى {نَارًا تَلَظَّى} [(14) سورة الليل] تتلهب، يدركهم حرها وسمومها قبل دخولها، {أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني هذا "العذاب وهذه النار التي ترون كما كنتم تقولون في الوحي"، نعم الذي لا يصدق يقول: سحر، لكن إذا رأى هل يستطيع أن يقول: سحر؟ لا يستطيع أن يقول سحر، {أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} هل أنتم لا ترون هذه النار التي أمامكم، أو هي سحر؟ لا هذا، ولا هذا ليست بسحر وإنما هي حقيقة، وصلهم مقدماتها ويبصرونها ويرونها بأعينهم {أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}؟.

 

{اصْلَوْهَا} [(16) سورة الطور] صلي النار حرها، وشدة حرها الذي يصطلي يعني يستدفئ في النار لعلكم تسطلون، فلا شك أن النار حارة ومحرقة، لكن يستفاد منها في الدنيا بقدر الحاجة، يستدفأ بها لكن ما يجلس الإنسان في وسطها في سواها {فِي سَوَاء الْجَحِيمِ} [(55) سورة الصافات]، ما يستطيع الإنسان أن يجلس، لكن يستفيد منها يوقد على طعامه؛ لينضج، ويقترب منها؛ ليستدفأ لكنه لا يصلاها كما يصلى النار {إِلَّا الْأَشْقَى} [(15) سورة الليل].

 

{اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [(16) سورة الطور] يعني "اصبروا عليها" أولا تصبروا سيان؛ لأنه لا ينفع لا الصبر ولا الجزع، الصبر ينفع في الدنيا، الصبر إنما ينفع في الدنيا، الصبر على أوامر الله على الواجبات بأدائها، والصبر عن المحرمات بعدم اقترافها، الصبر على الأقدار المؤلمة هذا ينفع {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [(10) سورة الزمر]، لكن إذا دخلوا النار ماذا يستفيدون؟ اصبروا أو لا تصبروا.

 

{اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا} "عليها {أَوْ لَا تَصْبِرُوا} صبركم وجزعكم سواء، صبركم وجزعكم سواء"؛ لأن الآخرة ليست دار تكليف، يقال نؤجر على الصبر؟ لا سواء صبرتم أو جزعتم فـ{سَوَاء عَلَيْكُمْ}؛ "لأن صبركم لا ينفعكم" {سَوَاء عَلَيْكُمْ}،" لأن صبركم لا ينفعكم"، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(16) سورة الطور] يعني جزاء ما كنتم تعملون، يقول أي "جزاءه" {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني جزاء عملكم، جزاء عملكم، أو جزاء الذي كنتم تعملونه، فما موصولة أو مصدرية جزاء عملكم، أو جزاء الذي تعملونه.

 

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [(17) سورة الطور] ذكر الله -جل وعلا- في الآيات السابقة حال الأشقياء وما أعد لهم في الآخرة، ثم ثنى بحال السعداء، وهذه طريقة القرآن إذا ذكر حالاً ذكر ضدها، وهذا من أوجه تسمية القرآن المثاني {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} جنات بساتين، {جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} في هذه الجنات، يتنعمون ويتلذذون {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [(24) سورة الواقعة] يجزون بأعمالهم في الدنيا، فالمحسن يجزى بإحسانه، والمسيء كما تقدم يجزى بإسأته، وكل يجازى بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهنا يجزى المتقون الجنات والنعيم المقيم الأبدي السرمدي الذي لا ينقطع، وفي الجنات ما لا عين رأت، ولا آذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} المتقين الملازمين للتقوى بفعل الأوامر واجتناب النواهي، الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمروا به واجتناب ما نهوا عنه.

 

{فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ} [(17-18) سورة الطور] "متلذذين" بهذه الجنات، وما أعد لهم فيها من النعيم المقيم، "{فاكهين} متلذذين" {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} {بِمَا} ما هذه "مصدرية {آتَاهُمْ} أعطاهم"، ربهم من هذا النعيم بأنواعه وكيفياته، "{آتَاهُمْ} أعطاهم"، {رَبُّهُمْ} الرب هو الذي يربي بالنعم، فالذي ربّا الخلق بالنعم في الدنيا وأغدق عليهم، وينعم عليهم في الآخرة بأمور لا تخطر على القلب هو الرب، وهذا من أسماء الله التي تدل على عطفه ورحمته بخلقه، فهو الذي رباهم، أولاً: هو الذي خلقهم وأجدهم ورزقهم ورباهم بنعمه، وأغدق عليهم من النعم الظاهرة والباطنة.

 

في الدنيا نماذج يسيرة يمكن أن يستدل بها الإنسان على ما يدخر له في الجنة، هناك نعم لا يقوم الإنسان بشكرها، لكن عليه أن يشكر قدر استطاعته {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [(18) سورة الطور] عطفاً على آتاهم، آتاهم من النعيم المقيم {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}؛ لأن الأمر لا يخلوا من أربع حالات، إما أن يعطى من النعيم المحض الذي لا يخالطه شيء من المكدرات والمنغصات، وهذا هو ما سيكون للمؤمنين يوم القيامة {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، أو يكون النعم المخلوطة بالمكدرات، وهذا شأن نعيم الدنيا، ما في نعيم خالص لا بد له من تبعات، لا بد له من تبعات فليس بخالص، ولو كان النعيم في الدنيا خالص لنسي نعيم الآخرة، وقد يعطى الإنسان من العذاب الخالص الذي لا نعيم معه وهذا عذاب الكفار في النار، وقد يكون هناك عذاب مخلوط بشيء من الفتور والنعيم المحدود، وهذا يكون في الدنيا قد يعيش الإنسان في نعيم في الدنيا لكنه ليس بنعيم خالص، ليس بنعيم خالص، وقد يعيش في شقاء في الدنيا لكنه ليس بشقاء خالص، فالنعيم في الدنيا لا بد له من مكدر، والشقاء في الدنيا لا بد له من انقطاع، ولا بد له من فترة، ولا بد أن يمر شيء مما يسر المخلوق فليس بخالص، أما في الآخرة فخالص، نعيم الجنة لا مكدر له، وعذاب النار لا نعيم معه البتة، لذلكم الشاطبي في الموافقات لما تكلم عن السعادة والشقاوة وذكر أنه لا سعادة خالصة، ولا شقاوة خالصة، ورد على من قال بأن هذا مطرد في الدنيا والآخرة، رد على من قال بذلك؛ لأن منهم من يقول: إنه وإن كان الإنسان في النعيم في الجنة النعيم الخالص، لكن لا بد معه من شيء ينغصه، بدليل أن من كان في المنزلة الدنيا في الجنة، مع أن نعيمه نسبي بالنسبة لمن فوقه في الجنة، لكن إذا استحضرنا أن من دخل الجنة وإن كان أدناهم منزلة لا يشعر بأن من فوقه أفضل منه، ولا يشرع في قلبه شيء من المكدرات ونزعنا ما في قلوبهم من غل، وإذا كان أدناهم منزلة وليس فيهم دنيء من هو على المسك الأذفر، وعلى المنابر، وعلى نجب العقيان، فكيف يكون مع هذا النعيم كدر؟ وإن كان فوقه ناس في منازلهم، والناس يتراءون أهل العلم كالكوكب الدري الغابر في السماء، ويحصل هذا لأناس أمنوا بالله وصدقوا المرسلين، المقصود أن نعيم الجنة لا يخالطه كدر البتة، ومثل ما قيل في هذا، قيل أيضاً في عذاب النار، منهم من قال: إن الذي يعذب في النار ما دام يرى أن في النار من هو أسفله منه فإن هذا يدخل السرور على قلبه، أي سرور، وأقل الناس عذاباً يوم القيامة؟ يعني من أقلهم بشفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- من عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، يغلي منهما دماغه، أبو طالب شفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- في ضحضاح من نار يغلي دماغه، هل هذا يقول إن أخاه أبا لهب أشد منه، أو أن أبا جهل أشد منه عذاباً فيستر بذلك؟ لا يمكن أن يدخل عليه سرور وهو في النار، والشاطبي -رحمه الله- في الموافقات ذكر مثل هذه الأمور فيرجع إليه.

 

المقصود أن الذي في النار لا يرى غيره شراً منه، والذي في الجنة لا يرى غيره خيراً منه، وإن كانت الدرجات في الجنة متفاوتة، والدركات في النار متفاوتة بخلاف منه في نعيم الدنيا وعذابها، يعني من في نعيم الدنيا ولو كان يملك ما يملك من أمور الدنيا، ويستفيد من هذه على وجهها، يعني دعونا من غني محروم حرمه الله من ماله لا يتلذذ به ولا يستمتع به هذا معذب بماله، لكن شخص يتمتع بماله وينتفع به، ثم بعد ذلك وجد شخصاً أرفع منه لاشك أن حياته تتكدر والنعيم نسبي، كما أن الشقاء في هذه الدنيا نسبي، ولذلك أمرنا أن ننظر في أمور الدنيا إلى من هو دوننا -إلى من هو أسفل منا-، لماذا؟ لنشكر الله -جل وعلا- على النعم، وألا نزدري نعمة الله علينا، يعني إذا كنت مدين وعليك أقساط، وأحياناً لا تستطيع السداد، ويتصل عليك الدائن ويضيق صدرك كثيراً، انظر إلى من هو مدين بالملايين، تقول: الحمد الله إنا ديني مقدور عليه، وإذا كنت لا تجد ما تأكل في يوم من الأيام أنظر إلى جهات لا يجدون ما يأكلون البتة، ومنهم من يموت من الجوع، إذ كنت تبرد في الشتاء فانظر إلى من يبيت بالعراء، انظر إلى من هو دونك؛ لئلا تزدري نعمة الله عليك، وما من إنسان وإلا ويوجد من هو دونه.

 

المريض يجد منه أشد منه مرضاً، وإذا نظر إلى المرض وأنه قد يكون منحة إلهية شكر الله -جل وعلا- على هذه النعمة أن جعله مسلم يصبر على الضراء فيؤجر عليها، فالمسلم مطالب بأن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل منه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه، ولكن في أمور الدين ينظر إلى من هو أعلى منه؛ ليجد ويجتهد ويسعى في تكميل النقص الذي عنده، ولا يشبع مما يقربه إلى الله -جل وعلا-.

 

ويقال لهم، يقول المفسر: "ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [(19) سورة الطور] حال {وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} أي مهنئين"، {بِمَا} الباء سببية {كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، الباء سببية {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، الباء سببية يعني بسبب ما كنتم تعملون، أولاً: دخول الجنة ((لن يدخل أحد الجنة بعمله)) كما جاء في الحديث الصحيح، ((قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) فضلا عمن دونه -عليه الصلاة والسلام- ((لن يدخل أحد الجنة بعمله)) إن هذا العمل مهما كان، إذا قورن بنعمة واحدة من نعم الله -جل وعلا- رجحت به هذه النعمة، فلا يدخل أحد الجنة بعمله، لكن برحمة أرحم الراحمين.

 

وهنا يقول: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والباء سببية، بسبب {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني هذا النعيم دخول الجنة بالرحمة، لكن هذا النعيم وهذا التفاوت بين الداخلين إنما هو بالأعمال، إنما يصنفون بأعمالهم وجاءت بذلك النصوص الكثيرة، وأما دخول الجنة أصله إنما هو برحمة أرحم الراحمين، {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله -جل وعلا- وعلى رأسها التوحيد الذي لا يدخل الجنة إلا موحد, فالمشرك الجنة عليه حرام ومأواه النار.

 

{مُتَّكِئِينَ} [(20) سورة الطور] يقول: "حال من الضمير المستكن{فِي جَنَّاتٍ}، "حال من الضمير المستكن في قوله تعالى: {جَنَّاتٍ} {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} ما الداعي إلى أن نقول: هذا الحال من الضمير المستكن في قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ}، و{فِي جَنَّاتٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره كائنين أو مستقرين في جنات، كائنين أو مستقرين في جنات؟ {مُتَّكِئِينَ} "حال من الضمير المستكن في قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ}" إن المتقين في جنات فاكهين، متكئين، "{فاكهين} يعني متلذذين" يعني حال كونهم فاكهين، وحال كونهم متكئين لماذا قال: مستكن؟ يعني مستتر في قوله: {فِي جَنَّاتٍ}، في قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ} يعني في جنات فاكهين، في جنات متكئين، فاكهين ومتكئين أحوال، وهنيئاً حال {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [(19) سورة الطور] حال من الواو في قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} فالأكل والشرب هنيئاً، والهنيء والمريء الذي لا عاقبت له سيئة؛ لأن بعض الأكل تكون له عاقبة غير محمودة، بخلاف الهنيء المريء الذي تكون عاقبته محمودة.

 

{مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير المستكن في قوله: {جنات}" يعني في جنات متكئين، الاتكاء هذا المصدر فعله يكون في ظرف متكئ في أي شيء، يعني في الجنة أو خارج الجنة، يعني الناس في مجالسهم إنما يتكئون في مجالسهم، وأهل الجنة يتكئون في جناتهم ولذلك احتاج أن يقول: "حال من الضمير المستكن في قوله تعالى: {في جنات}، {عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [(20) سورة الطور] {سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} يعني "بعضها إلى جنب بعض" سرر مصفوفة بعضها إلى جنب بعض بحيث ينتقل منها من سرير إلى سرير وفي وكل سرير ما ليس في السرير الأخر، {عَلَى سُرُر}  {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَة}  [(20) سورة الطور] "بعضها إلى جنب بعض" {وَزَوَّجْنَاهُم} عطف على في جنات إن المتقين في جنات ونعيم {وَزَوَّجْنَاهُم} "عطف على {في جنات}، أي: قرناهم، قرناهم" يعني الإنسان يقترن بزوجه في الجنات، "عطف على {في جنات} يعني قرناهم" الزواج والقران بمعنى واحد، فالزوج يقرن بزوجته والزوجة تقرن بزوجها، قرناهم {بِحُورٍ عِينٍ} {بِحُورٍ عِينٍ} يقول: "عظام الأعين حسانها" {بِحُورٍ عِينٍ} يعني "عظام الأعظم حسانها" يعني التنصيص على العين مما أخذ، العين أخذ من العيون، والحور أيضاً من الحور، والحور يكون في العين فالكلمتان مأخوذتان من الأعين وما يحتف بها، فالعِين المراد به السعة في العين، والحور مأخوذ من الحور ويكون بالعين فجمالها في عيونها وهذا هو المنصوص عليه، ولا يعني أن بقية الجسم ليس كذلك، بل بقية الجسم جاء فيه من الأوصاف ما جاء في الأخبار الصحيحة، وأخذ الاسم من أخص ما يميز المرأة في جمالها، جمالها يكون، جمالها الجاذب للرجال إنما يكون في العين.

 

إن العيون التي في طرفها حور

 

قتلننا  ثم لم يحيين قتلنا

 

يعني العين هي التي تجذب فنص عليها، وأما بقية الجسد فحدث ولا حرج من منتهى الجمال، ومنتهى ما يتلذذ به وذكر هذا في السنة، جاءت الأوصاف في السنة، وابن القيم -رحمه الله- في "حادي الأرواح"، وفي أخر النونية ذكر الأوصاف أوصف العين فيرجع إليه.

 

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} [(21) سورة الطور] هذا للدرس القادم -إن شاء الله تعالى-.

يقول هذا: ما المقصود بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((روضة من رياض الجنة))، أهي من الجنة لمن قعد فيها كأنه قعد في الجنة، أم التعبد فيها سبب للجنة، وقد سمعت من يقول: بإنها من الجنة حقيقة، فكيف يكون من الجنة حقيقة وهو فيها يحس الإنسان بالجوع والظمأ...

يقول هذا: ما المقصود بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((روضة من رياض الجنة))، أهي من الجنة لمن قعد فيها كأنه قعد في الجنة، أم التعبد فيها سبب للجنة، وقد سمعت من يقول: بإنها من الجنة حقيقة، فكيف يكون من الجنة حقيقة وهو فيها يحس الإنسان بالجوع والظمأ، وقد قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [(118) سورة طـه]؟
هذا خبر صحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- هي روضة من رياض الجنة، والتعبد فيها سبب موصل إلى الجنة، لكن على ما ذكرنا أنه إذا ترتب على ذلك مفسدة فلا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والإنسان إذا راع مثل هذه الأمور يعطاه ما يعطاه العامل بل أكثر.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [(124) سورة طـه] كيف نفرق بين الظنك والبلاء، فنجد بعض الناس صلته مع ربه ضعيفة، ولكن نجده بعيد عن الضنك؟

تجده في الظاهر بعيداً عن الضنك، تجده في الظاهر بعيد عن الضنك، لكنه في حقيقة الأمر {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [(125) سورة الأنعام] تجد صدره ضيقاً حرجاً يعني إن أنس بك أثناء وجودك معه، وتبادلتم أطراف الحدث ووجدته يضحك، لكن الضنك ملازم له، أما بعيد عن الضنك فهذا ليس بصحيح.

ما أفضل طبعة تنصحون بها لتفسير الجلالين؟

ذكرت أن الشيخ أحمد شاكر قبل خمسين سنة طبع الكتاب للمعاهد العلمية في جزأين، في مجلدين، في مطبعة المعارف على نفقة الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، وطبع لهم كتب أخرى لكن تفسير الجلالين طبعته جيدة.

يقول: ما القول الصحيح في قول بعض أهل العلم: إن الآيات القرآنية فيها التوقف دون أن نسأل، ونقول ما الحكمة من قول الله تعالى كذا وكذا، فهل هذا القول صحيح؟

على كل حال الله -جل وعلا- حكيم ولا يأمر إلا لحكمة، ولا ينهى إلا لحكمة، ولا يفعل إلا لحكمة، فالحكمة مقترنة بأفعاله -جل وعلا-، وإذا عرفناها فلا شك أن هذا أمر طيب والبحث عنها جيد؛ لأنها من وسائل التثبت، وإذا لم نستطع الوقوف عليها فعلينا أن نرضى، ونسلم، ونأتمر، وننتهي حسب ما طلب منا ولو لم نقف على الحكمة، وعلى المسلم أن ينقاد، ويقول: سمعنا وأطعنا كما قال أهل العلم: قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم.