كتاب الجامع من سبل السلام (9)

نعم.

أحسن الله إليك.

"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

اللهم اغفر لشيخنا والسامعين.

أما بعد،

فقال في البلوغ وشرحه في باب البر والصلة من كتاب الجامع:

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.

 الحديث دليل على وجوب رضا الولد لوالديه، وتحريم إسخاطهما، فإن الأول فيه مرضاة الله، والثاني فيه سخطه، فيقدَّم رضاهما على فعل ما يجب، فيقدِّم رضاهما على فعل ما يجب عليه من فروض الكفاية، كما في حديث ابن عمرو: أنه جاء رجل يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد، فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد». وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أن رجلاً هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن فقال: يا رسول الله، إني قد هاجرت، قال: «هل لك أهل باليمن؟» فقال: أبواي، قال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما». وفي إسناده مختلف فيه."

وهو شاهد للحديث السابق: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»، ولا شك أن بر الوالدين واجب ومؤكد ومتعين، والجهاد قد يكون متعينًا، وقد لا يكون متعينًا، بل من فروض الكفايات، وقد يكون مندوبًا إليه.

أحسن الله إليك.

"وكذلك غير الجهاد من الواجبات، وإليه ذهب جماعة من العلماء كالأمير الحسين، ذكره في الشفاء، والشافعي فقالوا: يتعين ترك الجهاد إذا لم يرضَ الأبوان إلا فرض العين كالصلاة الواجبة، فإنها تقدم وإن لم يرضَ بها الوالدان بالإجماع."

لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فروض الأعيان لا يُقبل فيها قول أحد كائنًا من كان، وفروض الكفايات أمرها أوسع، والمندوبات أوسع، فإذا منعه أبواه عن الصلاة نقول: لا سمع ولا طاعة، منعه أبوه عن التعليم، وفي الأمة من يعلِّم، وتقوم به الكفاية، نقول: يلزمك أن تطيع والدك، وقل مثل هذا فيمن يُمنَع من التعليم من الجهات الرسمية إذا كان يتعين عليه التعليم، ولا يوجد من يقوم مقامه فلا سمع ولا طاعة، وإذا كان لا يتعين عليه، وفي البلد من يقوم مقامه، وهو من فروض الكفايات يلزمه أن يمتثل.

أحسن الله إليك.

"وذهب الأكثر إلى أنه يجوز فعل فرض الكفاية والمندوب وإن لم يرضَ الأبوان، ما لم يتضرر بسبب فقد الولد، وحملوا الحديث على المبالغة في حق الوالدين، وأنه يتبع رضاهما فيما لم يكن في ذلك سخط الله، كما قال تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [سورة لقمان:15].

 قلت: الآية إنما هي فيما إذا حملاه على الشرك، ومثله غيره من الكبائر، وفيه دلالة على أنه يطيعهما في ترك فرض الكفاية والعين، لكن الإجماع خصص فرض العين، وأما إذا تعارض حق الأب وحق الأم.."

خصص فرض العين؛ لأنه في حالة فرض الكفاية والمسألة مفترضة في أنه يوجَد من يكفي صار في حقه وفي حق غيره ممن دون ذلك سنة.

أحسن الله إليك.

"وأما إذا تعارض حق الأب وحق الأم فحق الأم أقدم؛ لحديث البخاري: قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن صحبتي؟ قال: أمك، ثلاث مرات، ثم قال: أبوك، فإنه دل على تقديم رضا الأم على رضا الأب.

 قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب، قال: وكأن ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع.

 قلت: وإليه الإشارة بقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [سورة الأحقاف:15] ومثلها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [سورة لقمان:14]، قال القاضي عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل على الأب، ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل على الأب في البر، ونقل الحارث المحاسبي الإجماع على هذا، واختلفوا في الأخ والجد من أحق ببره منهما؛ فقال القاضي: الأكثر الجد، وبه جزم الشافعي، ويقدم من أدلى بسببين على من أدلى بسبب، ثم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم.."

الإخوة والجد باعتبار أن كلاًّ منهما يدلي بالأب، هذا أخوه، وهذا أبوه، فعلى القول بأن الإخوة يقاسمون الجد في الميراث يتجه مثل هذا الكلام، وإلا على القول المحرر المرجح أن الجد أب، وأنه يحجب الإخوة صار حقه مقدمًا على حقوق الإخوة. وسئل الإمام مالك- رحمه الله- قال له سائل: أمرني أبي، فنهتني أمي، أمرني أبي، فنهتني أمي. فقال مالك- رحمه الله-: أطع أباك، ولا تعص أمك، أطع أباك، ولا تعص أمك. أجاب أم ما أجاب؟ استفاد السائل؟ رجع بجواب بحل أم ما رجع بحل؟

طالب: .............

كيف رجع؟

طالب: .............

المعنى يسدد ويقارب، يسدد ويقارب.

 وعلى كل حال إذا كانت الأم في ذمة الأب فلا شك أن الأب يجمع بين الحقين؛ لأنه يملك الأمر على الأم، يملك الأمر على الأم، يملك أن يقول: لا تنهيه عنه، ولها أن تجيب، المقصود أن هذه الأمور ينبغي أن تدار بحكمة، والعاقل اللبيب يستطيع أن يخرج من هذه المعارضات لاسيما مع وجود المشاكل بين الأبوين، يكثر مثل هذا، ويتصدى كل واحد للثاني، وينبري له كلما قال شيئًا قال: لا، الثاني، فيكون الأولاد في حرج عظيم، لكن على المرء أن يسدد ويقارب، ويعنى بأمه ولا يعصي أباه، ويحقق مصلحة الطرفين.

أحسن الله إليك.

"ويقدَّم من أدلى بسببين على من أدلى بسبب، ثم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منه من محارمه على من ليس بمحرم، ثم العصبات، ثم المصاهرة، ثم الولاء، ثم الجار، وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن البر دفعة واحدة، وورد في تقديم الزوج ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: «زوجها».: قلت فعلى الرجل؟ قال: «أمه». ولعل مثل هذا مخصوص بما إذا حصل التضرر مع الوالدين فإنه يقدمهما على حق الزوج؛ جمعًا بين الأحاديث.

 وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره..»."

طالب: .............

نعم.

طالب: .....

العلماء يقررون في مثل هذا أن الطاعة في المعروف، «إنما الطاعة بالمعروف»، فإذا كان لا يستطيع فراقها فلا يجيبها إلى طلبها، لكن عليه أن يتلطف معها، ويرفق بها، فلا يجيبها. النبي- عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عمر: «أطع أباك»، عمر -رضي الله عنه- أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته، فقال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «أطع أباك»، وجمهور أهل العلم يقولون: ومن مثل عمر في معرفة المصالح والمفاسد؟

 على كل حال هذه المسألة ترجع إلى الابن باعتبار أنه قد لا يملك أحيانًا إذا استولت المرأة على مشاعره، واستولت على تفكيره، وتعلق بها تعلقًا شديدًا خرج عن طاقته، فصار مما لا يطاق، والطاعة بالمعروف.

ودك تقف على هذا أم..؟

ما تراه يا شيخ.

نعم. قف...