شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (03)

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح ألفية الحافظ العراقي (3)

الصحيح الزائد على الصحيحين – المستخرجات – مراتب الصحيح

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ -رحمه الله تعالى-:

أصح كتب الحديث

أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ
وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ
وَلَمْ يَعُمَّاهُ ولكن قَلَّمَا
وَرُدَّ لكن قَالَ يَحيَى البَرُّ
وَفيهِ مَا فِيْهِ لِقَوْلِ الجُعْفِي
وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكرَارِ
أَرْبَعَةٌ آلافِ والمُكَرَّرُ

 

 

مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ
أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ
عِنْدَ ابْنِ الاخْرَمِ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا
لَمْ يَفُتِ الخَمسَةَ إلاَّ النَّزْرُ
أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلفِ أَلْفِ
لَهَا وَمَوْقُوْفٍ وفي البُخَارِي
فَوْقَ ثَلاثَةٍ أُلُوْفًا ذَكَرُوا

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لما ذكر القسم الأول من أقسام الحديث الصحيح وعرفه، وذكر شروطه ضمن التعريف، وحكمه، وذكر أصح الأسانيد، وهو من متعلقات الحديث الصحيح ذكر مظان الحديث الصحيح، كما سيأتي تعريف الحسن ومظان الحسن، فذكر أصح كتب الحديث، ثم ذكر بعد ذلك القدر الزائد من الصحيح في غير الصحيحين من الكتب التي اشترط فيها مؤلفوها الصحة، وتقاصر تطبيقهم لهذا الشرط فلم يوفوا به، وإن كان في جملتها معدودة في الصحاح، ومن ذلك المستخرجات التي كثير منها على الصحيحين، يوجد مستخرجات على ما سيأتي على غير الصحيحين، لكن أكثر المستخرجات على الصحيحين فأردف الكتب الصحاح بالمستخرجات عليها.

فقال -رحمه الله تعالى-:

"أصح كتب الحديث" ولما ذكر أصح الأسانيد ذكر أصح الكتب، فقال -رحمه الله تعالى-:

أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ

 

 

مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ

 

أول من صنف في الصحيح محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبة البخاري الجعوفي مولاهم، المتوفى سنة ستة وخمسين ومائتين، هو أول من صنف في الصحيح المجرد، وإلا فموطأ الإمام مالك فيه من الصحيح الشيء الكثير، لكن فيه أيضًا على سبيل الاعتماد والاحتجاج غير الصحيح من المراسيل والبلاغات والمقاطيع، فيوردها -رحمه الله تعالى- ويعتمد عليها؛ لأن من مذهبه الاحتجاج بمثلها على ما سيأتي في المرسل.

واحتج مالك كذا النعمانُ

 

به وتابعوهما ودانوا

 

فهو يحتج بالمراسيل ويعتمد عليها؛ ولذا لما كان كتابه مشتملاً على الصحيح وغيره تجاوزه المؤلف وجعل الأولية لمن بعده، وهو الإمام البخاري، الإمام الشافعي قال: "ما على ظهر الأرض كتاب في الحديث أصح من كتاب مالك" فهل يقدح في قول الحافظ العراقي وهو ممن يقلد الإمام الشافعي؟ لا يقدح في كلام الحافظ العراقي؛ لأن كلام الإمام الشافعي قبل وجود الصحيحين، قبل وجود صحيح البخاري، فلا يقدح في كلام الحافظ العراقي وهو كلام عامة أهل العلم، فلا يوجد على وجه الأرض أصح من الصحيحين، والأكثر على أن صحيح البخاري أصحهما، أصح من مسلم، فقال الإمام -رحمه الله تعالى-:

أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ

 

 

...................................

 

الذي سبق تعريفه "محمد" ويريد بذلك الإمام البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري "وخص بالترجيح" بالترجيح على غيره، خص بالترجيح على غيره من سائر الكتب التي صنفها البشر، يعني بعد كتاب الله -جل وعلا-، ما يوجد على وجه الأرض أصح من كتاب الإمام البخاري.

"ومسلم بعدُ" يعني مسلم بعده في المرتبة وفي الوجود، وجود صحيح الإمام البخاري قبل وجود صحيح الإمام مسلم "ومسلم بعد" في الزمن والمرتبة، هذا قول جمهور أهل العلم، "وبعض الغرب مع" بعض الغرب يعني بعض أهل الغرب من علماء المغرب "مع أبي علي" النيسابوري "فضلوا ذا" الإشارة تعود إلى مسلم "فضلوا ذا لو نفع" ومسلم بعد يعني كتاب مسلم بعد يعني بعد كتاب الإمام البخاري، وتبنى على الضم بعد وقبل والجهات الست؛ لأنها حذف المضاف إليه مع نيته، وذكرنا في درس مضى أنه إذا حذف المضاف إليه بالكلمات المذكورة قبل وبعد مع نيته فإنه يبنى على الضم {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم] وإذا ذكر المضاف إليه أعربت {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} [(137) سورة آل عمران] وإذا حذف المضاف إليه مع عدم نيته أعربت مع التنوين، وهذا تقدم الكلام فيه "ومسلم بعد" يعني بعد صحيح البخاري في الزمن والرتبة "وبعض الغرب" يعني بعض أهل الغرب من المغاربة

.................................مع

 

 

أبي علي فضلوا ذا لو نفع

 

من المغاربة الذين فضلوا مسلم: ابن حزم، مع أبي علي النيسابوري؛ فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري، ومرد هذا التفضيل عندهم كما صرح به القاسم التجيبي في فهرسته أنه لم يكن فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد، يعني بعد مقدمة مسلم ما فيه إلا أحاديث مرفوعة وموصولة، وأما البخاري ففيه آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين، وفيه معلقات غير موصولة، المعلقات هذه الكثيرة -من وجهة نظرهم- أنزلت صحيح البخاري عن مرتبة صحيح مسلم الذي ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث مسرودًا، أحاديث مرفوعة، وهذا غالبًا، وإلا ففيه بعض الموقوفات اليسيرة، كقول يحيى بن أبي كثير كما قال الإمام مسلم في أثناء أحاديث المواقيت، مواقيت الصلاة قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم، هذا موقوف، لكن هذا قليل نادر بالنسبة لما في صحيح البخاري من الموقوفات على الصحابة والتابعين، وأيضًا فيه كلام تفسيرًا لألفاظ من الكتاب والسنة، وأما مسلم فهو صاف من هذا كله، إلا ما ندر، إن كان هذا هو مرد جميع من فضله على صحيح البخاري، فالمسألة سهلة؛ لأن المفاضلة في الكتابين على الأحاديث المعول عليها، الأحاديث المرفوعة الأصول التي هي أصل الكتاب، وما يتبع هذا الأصل من تراجم، فصحيح مسلم ما فيه ولا تراجم، ما ترجم، ما في باب كذا باب كذا، ما فيه، الأصل ما فيه شيء، ما فيه إلا أحاديث سرد، يعني الأصل الاعتماد على الأحاديث المرفوعة الأصول في صحيح البخاري، وما يأتي مما يذكره الإمام -رحمه الله تعالى- من تراجم، وأخبار، وآثار، وتفسير للغريب، ومعلقات، كل هذه تأتي تبعًا، والمفاضلة ليست بينها وبين الأحاديث المرفوعة في صحيح مسلم، إنما المفاضلة بين الأحاديث المرفوعة في صحيح البخاري المرفوعة الموصولة، والأحاديث المرفوعة الموصولة في صحيح مسلم، هنا تكون المفاضلة، فإن نظرنا إلى هذا القسم، وهذا النوع مع ذاك، انتهى وجه التفضيل الذي ذكره بعض المغاربة على أن ما ذكره الإمام البخاري من تراجم ينبغي أن يكون ميزة لهذا الكتاب؛ لأن الاستنباط الذي يترجم به الإمام البخاري على الأحاديث، هذا استنباط، والاستنباط هو الثمرة العظمى من هذه الأخبار؛ لماذا تذكر هذه الأخبار؟ إلا ليستنبط منها، يستنبط منها الأحكام ليعمل بها، هذه هي الثمرة، فإذا جعلنا هذا مما ينزل منزلة صحيح البخاري بالنسبة لصحيح مسلم، قلنا: إن الأحاديث تذكر لمجرد البركة، كما يفعله كثير من المسلمين من المقلدة للأئمة الذين لا يعملون بالأحاديث، وإنما يقرءونها لمجرد البركة، الأصل أن الخبر إنما يذكر ليستنبط منه، للعمل، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- تولى هذا ببراعة فائقة بما لا يوجد نظيره عند غيره -رحمه الله تعالى-، ومن عانى الكتاب عرف مقدار هذا الإمام -رحمه الله تعالى-، فهذه ميزة لصحيح البخاري، أيضًا الآثار من عيون أقاويل السلف من الصحابة والتابعين؛ هذه يتوج بها الإمام البخاري هذه التراجم ليبين معانيها، ويرجح بها ما لا يستطيع ترجيحه من الاحتمالات التي يحتملها لفظ الخبر، فيرجح بأقاويل الصحابة والتابعين -رحمه الله تعالى-، فهذا حقيقةً مما يرجح صحيح البخاري.

بعضهم رجح صحيح مسلم بحسن الصناعة؛ فالإمام مسلم ترتيبه عجيب في سرد طرق الأحاديث؛ سواءٌ كان ذلك في الأسانيد، أو في المتون، نعم، برع الإمام مسلم في هذا، إذا لحظنا ترتيب الحديث الواحد بطرقه، وما يتلوه من أحاديث تشهد له، شهد كل واحد ببراعة الإمام مسلم، وهذا مرجح كما قال بعضهم:

تشاجر قوم في البخاري ومسلم

 

فقلت: لقد فاق البخاري صحة

 

 

لدي وقالوا: أي ذين تقدم؟

 

كما فاق في حسن الصناعة مسلم

 

وإذا نظرنا إلى الكتابين من هذه الناحية رجحنا، أو شهدنا للإمام مسلم بالبراعة التامة في ترتيب الأخبار، شهدنا للإمام البخاري بنظيره، أو بما يفوقه في تقطيع الأحاديث، وتفريقها في المواضع التي يذكرها فيه حسب ما يستنبط منها، يعني كون الإمام مسلم يسرد الحديث الواحد في مكان واحد بطرقه، وألفاظه، وما يشهد له، والإمام البخاري يقطِّع هذا الحديث، ويجعله في أبواب الدين كلها مما يمكن أن يستنبط منه، هل هذه ميزة وإلا لا؟ ميزة، وأنا أعجب ممن يفضل صحيح مسلم من هذه الحيثية، يعني تقطيع الإمام البخاري للأحاديث، وذكرها في أبواب متعددة، واستنباطه من هذه الجمل من هذه الأحاديث ميزة للإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، فإذا كان وجه التفضيل هذا مرده فالبخاري أرجح.

أبو علي النيسابوري الذي ينص عليه بأنه رجح صحيح مسلم على البخاري قال: "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم" أصح من كتاب مسلم، وأفعل التفضيل في هذا الموضع لا شك أن الظاهر من اللفظ تفضيل مسلم، يعني الاستعمال العرفي لأفعل التفضيل في مثل هذا السياق يدل على تفضيله على غيره: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ} [(125) سورة النساء].

شيخ الإسلام له بحث طويل في هذه الآية، هل نفهم من هذا كما في الاستعمال العرفي أن الإسلام أفضل من غيره، أو نقول: إنه لا يوجد أحسن دينًا منه، ولا يمنع أن يوجد دين مساو له؟ إذا قلت: فلان أعلم من في البلد؛ فأنت تشهد لهذا الرجل بأنه لا يوجد أعلم منه، بأنه أعلم من في البلد بالإطلاق، لا يوجد نظير له في البلد، لكن إذا قلت: لا يوجد في البلد أعلم من فلان؛ فأنت تنفي أن يوجد أعلى منه رتبة، لكن لا يلزم منه أن يوجد من يساويه؛ ولذا حكى بعضهم القول بالتساوي بين الصحيحين قولًا ثالثًا في المسألة، واعتمد على قول أبي علي هذا، قوله: "لا يوجد تحت أديم السماء كتاب أصح" لا ينفي أن يوجد كتاب مساو له في الأصحية، وفي الحديث: ((ما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)) هذا الحديث مخرج في السنن حسنه جمع من أهل العلم، لكن هل مقتضى الحديث أن يكون أبو ذر أصدق من الصديق؟ أبو ذر تميز بالصدق، لكن لا يمنع أن يوجد مساو له في الصدق، والأمثلة على هذا كثيرة، الاستعمال العرفي يقتضي أنه أفضل من غيره، لكن أصل المادة، والاستعمال اللغوي، والمدلول اللغوي لا ينفي وجود المساوي مع نفيه وجود الأعلى، لا ينفي وجود المساوي، ويتأيد هذا بحكاية التساوي بينهما قولًا ثالثًا، يقول:"فضلوا ذا" يعني صحيح مسلم"لو نفع" لو نفع هذا التفضيل، لكنه لم ينفع، لماذا لم ينفع؟

طالب:......

لا، لم ينفع بالدليل؛ لأن الأصحية مردها إلى اتصال الإسناد، وعدالة الرواة، فإذا كان أحدهما أشد اتصالًا من الآخر، وأوثق رواةً صار أصح، على أن مسلمًا تلميذ للإمام البخاري، تلميذه، وخريجه حتى قال الدارقطني: "لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء"، ومقتضى علو المؤلِّف؛ هذا غالبًا؛ لأنه براعة التأليف من براعة مؤلفه، وإن وجد في مصنفات بعض الطلاب من بعض الوجوه ما هو أفضل من مصنفات بعض شيوخهم، والمسألة مواهب، من أهل العلم من يحفظ من العلم الشيء الكثير، ويتقن التعليم لكن لا يتقن التأليف، والعكس موجود، لكن هذا تفضيل إجمالي، التفضيل التفصيلي، قالوا: الأصحية مردها إلى عدالة الرواة، واتصال الأسانيد، فإذا نظرنا في واقع الكتابين وجدنا أنهما خرجا لرجال جازوا القنطرة، رجال الصحيحين، لكن لم يسلم بعضهم من كلام يسير، والرواة الذين تكلم فيهم من رواة صحيح مسلم أكثر من الرواة الذين تكلم فيهم ممن خرج لهم البخاري، فالمتكلم فيهم من رواة مسلم مائة وستون، والمتكلم فيهم من رواة البخاري ثمانون، على النصف، فإذا عرفنا هذا أنه من تكلم فيه من الرواة في البخاري أقل، إذن صحيح البخاري أوثق رواة، وأما بالنسبة لاتصال الأسانيد، فالإمام البخاري على ما استفاض عند أهل العلم وتناقلوه، وتداولوه من غير نكير، الإمام البخاري يشترط ثبوت اللقاء، بين من روى، ومن روى عنه، وهذا معروف عند أهل العلم، ومستفيض عندهم، وتداولوه وتناقلوه، بينما الإمام مسلم قرر في مقدمة الصحيح أنه يكتفي بالمعاصرة، ولا شك أن اشتراط ثبوت اللقاء من حيث الاتصال أقوى من الاكتفاء بمجرد المعاصرة، وإمكان اللقاء, وهذه المسألة يأتي بحثها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل في السند المعنعن، لكن هذه إشارة، فإذا كان الإمام البخاري أوثق رواة وأشد اتصالاً؛ فمن أين يأتي تفضيل مسلم على البخاري؟ والإمام مسلم، وهو يكتفي بالمعاصرة، وقرر ذلك في صدر كتابه، وذكر أحاديث لا تروى بأي إسناد يوجد في الدنيا إلا بالعنعنة، مع أنه يمكن اللقاء ولم يثبت، يعني ما فيه أحد يستطيع أن يثبت لقاء الرواة بعضهم ببعض، في الأحاديث التي ذكرها في المقدمة، وأنها ما رويت إلا معنعنة من طريق هؤلاء الرواة الذين لا يستطيع أحد أن يثبت أن أحدهم لقي الآخر، وإن أمكن اللقاء، مع أنه -رحمه الله تعالى- روى هذه الأحاديث بصيغ التحديث، وهو يقول: لا تروى إلا معنعنة، وهو بشر، يعني طال العهد بالمقدمة، وأثناء الكتاب، وآخر الكتاب، فنبه على هذا ابن رُشيد في كتاب له نفيس اسمه: "السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن" وسيأتي ذكره، وخلاصته -إن شاء الله- في بحث السند المعنعن -إن شاء الله تعالى- هذا مما يرجح صحيح البخاري على صحيح مسلم، وهو قول جماهير أهل العلم، وهو الراجح.

"فضلوا ذا لو نفع" إذا عرفنا أن أصح الكتب بعد كتاب الله -جل وعلا- صحيح البخاري وصحيح مسلم، هل نقول أو نستطيع أن نقول لأحد أن يكتفي بالصحيحين مع القرآن؟ نعم؟

طالب:......

لا، لا يكتفي أحد بالصحيحين مع القرآن؛ لماذا؟ يقول الحافظ العراقي: "ولم يعماه" ولم يعماه لا البخاري، ولا مسلم، ولا هما مجتمعين، يعما جميع ما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن وجد من ينادي بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وألف في ذلك كتاب اسمه: "تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين" لكن كم يفوت بهذا من علم وفضل، كم من حديث مطلق في البخاري مقيد في سنن أبي داود، أو العكس، كم من حديث عام خصص بحديث في مسند الإمام أحمد، كم من حديث منسوخ في الصحيح نسخه حديث في غير الصحيحين، فالتعبد على هذا الوجه ناقص، ووجد من ينادي، توفي -رحمه الله تعالى-، وهو معروف بالزهد، والعبادة، وعلى خير عظيم -نحسبه والله حسيبه-، لكنه في العلم أقل، وألف كتابًا أسماه: "تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين"، ومطبوع في مجلدين، قسم في العبادات، وقسم في المعاملات، ووجد له من يتبعه، ووجد جماعة الاقتصار على الصحيحين، وجد من يتبعه، ويدعو إلى ما يدعو إليه، هذا شيء مريح يعني كون الإنسان يعتمد على القرآن، والصحيحين يرتاح، ولا يعاني أحاديث مختلف فيها، وأسانيد متكلم فيها، وطرق، ومتابعات، وشواهد؛ ليصحح أو يضعف، طريقة سهلة للتحصيل، لكن هل تحقق العلم بجميع متطلباته؟ لا يمكن مثل ما ذكرنا أنه قد يوجد حديث منسوخ في البخاري، وناسخه في سنن أبي داود، أو مطلق ومقيده في كذا، لا بد من اكتمال الصورة مجتمعة، فالدين وحدة واحدة مترابطة بنصوصه، فلا يقتصر على بعضه على بعض، وبالإمكان أن يقول شخص: كتاب الله، بيننا وبينكم كتاب الله، وقد قيل، المحفوظ، ويكفينا، ونادى الخوارج بذلك، ولهم من يتبعهم ممن يسمى بالقرآنيين ممن لا يعنى بالسنة، لكن كم من ضلال ترتب على مثل هذا القول؟

يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: "ولم يعماه" البخاري ومسلم، جمعا من الصحيح ما جمعا في كتابيهما، لكن ما جمعاه لم يعما به جميع ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا اشترط واحد منهم ذلك، ولا ادعى أحد منهم ذلك، بل المحفوظ عنهم غير ذلك، البخاري يقول: "ما ذكرت في كتابي فهو صحيح، وما تركت من الصحيح أكثر خشية الطول، أو خشية أن يطول الكتاب"، والإمام مسلم يقول: "ما ذكرت في كتابي إلا ما أجمعوا عليه" يعني والصحيح الذي يختلفون فيه ما ذكر منه شيئًا، فدل على أن هناك صحيحًا قد يكون أكثر مما في الصحيحين، وهو الواقع مما لا يوجد في الصحيحين "ولم يعماه" وعلى هذا هما ما ادعيا ذلك، ولا التزماه، فإلزام الدارقطني -رحمه الله تعالى- لهما بتخريج أحاديث على شرطهما، غير لازم، في كتاب أسماه: "الإلزامات"، وكذلك الحاكم، حينما ألزمهما بتخريج أحاديثه على شرطهما، ولم يخرجاه، كل هذا ليس بلازم؛ لأنهما ما التزما ذلك، وما قال: إن الحديث الذي لا نذكره في كتابينا ليس بصحيح، ما قالا ذلك.

ولم يعماه ولكن قلما

 

 

عند ابن الأخرم منه قد فاتهما

 

ابن الأخرم، يعني الترتيب على هذه الهيئة بالنسبة لصحيح مسلم، وهو من مسلم، ترتيب الأحاديث، التراجم الكبرى كتاب الإيمان، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، هذا موجود في كثير من النسخ العتيقة، التراجم الكبرى، الكتب، أما الأبواب فالمعروف والمتفق عليه بين أهل العلم أن مسلم لم يترجم كتابه بأبواب؛ ولذا تجدون كل شارح يترجم بما يستنبطه من الأحاديث، تجدون عند النووي تراجم لا توجد عند القاضي عياض، تجدون عند القاضي عياض تراجم لا توجد عن الشراح الآخرين، الأُبي له تراجم، السنوسي له تراجم، كلٌ يترجم بما يلوح له من حكم يستنبطه من الحديث، هذا يدل على أن مسلم لم يترجم كتابه، والنسخ القديمة العتيقة كلها ما فيها تراجم، تراجم جزئية، وإن أشار القاضي عياض في "إكمال المعلم" أنه وقف على نسخة مترجمة، لكن المعروف عند أهل العلم أن مسلم لم يترجم كتابه، أخلاه من التراجم؛ لئلا يمزج كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- بغيره، بكلامه هو.

ولم يعماه ولكن قلما

 

 

...................................

 

"قلما" "ما" هذه أحيانًا تكتب في مثل هذا الموضع مفصولة، وأحيانًا تكتب موصولة "قل ما" وأحيانًا تكتب موصولة، هنا مكتوبة ماذا؟ موصولة، فإذا كانت موصولة فما معنى الـ"ما"، قل: هذا فعل، وما، هذه؛ هل نقول: إنها موصولة، يعني قل الذي؛ أو ماذا؟ زائدة، ولكن قل عند ابن الأخرم، ما هذه إذا دخلت على الحروف؛ إذا قلت: إنما، كأنما، نعم كافة؛ فهل تكون كافة إذا دخلت على الفعل، أو لا؟ فيها ماذا؟ خلاف، اذكر الخلاف؟ منهم من يقول: مصدرية، ومنهم من يقول، نعم، الأزهري يقول: كافة، وإذا كانت كافة فإنها لا تحتاج إلى ما يحتاجه الفعل غير المكفوف، ما له علاقة بالفعل، إذا كانت كافة مثل إنما، يلغى عملها، وإذا كانت مصدرية بقي عمل الفعل "ولكن قلما عند ابن الأخرم" محمد بن يعقوب ابن الأخرم النيسابوري:

...................................

 

 

عند ابن الأخرم منه قد فاتهما

 

يعني قلما، شيء يسير قد فات الصحيحين، فيطلب من مظانه "ورد" ورد قول ابن الأخرم؛ لماذا؟ لأنه يصفوا من الكتب الآتية من مظان الصحيح؛ صحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، والمستخرجات، والمسانيد، والسنن، والجوامع، والمعاجم يصفو شيء كثير من الصحيح، قدر زائد على الصحيحين؛ ولذا قال: "ورد" يعني قول ابن الأخرم، مقتضى قول ابن الأخرم أنك إذا أوردت وجدت من الصحيحين أربعة آلاف حديث مثلًا من غير تكرار فتحتاج مثلًا إلى شيء يسير تطلبه من بقية الكتب، وإذا كان قليلًا، فإنه لن يبلغ العدد، ولا يقرب منه، يعني افترض أنه مثلًا تحتاج إلى زيادة ألف، أو خمسمائة مثلًا؛ لأن التعبير يدل على أنه شيء يسير "قلما" فما القدر الزائد من السنن على الصحيحين مما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء كثير، يصفو من المستدرك شيء كثير، يصفو من صحيح ابن حبان، وابن خزيمة، كم في موارد الظمآن مما صح مما يزيده ابن حبان على الصحيحين؟ شيء كثير، فإذا ضمنا هذا إلى ما زاده الحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه، السنن الأربع، المسانيد، الجوامع، المعاجم، أحاديث كثيرة تصح، أحاديث كثيرة تصح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- غير ما في الصحيحين؛ ولذا جزم الحافظ -رحمه الله تعالى- العراقي بقوله: "ورد" ما تردد في رده؛ لأنه يستحق الرد يصفو شيء كثير، وهو يقول: شيء يسير؛ قليل:

ورد لكن قال يحيى البر

 

 

لم يفت الخمسة إلا النزر

 

يحيى البر النووي؛ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ووصفه بأنه بر؛ لأنه اجتمع فيه من أعمال البر ما لم يجتمع لنظرائه:

.... لكن قال يحيى البر

 

 

لم يفت الخمسة إلا النزر

 

الخمسة التي هي أصول الإسلام، البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، الخمسة، وقال بهذا –أيضًا- السِّلَفي في شرح مقدمة "معالم السنن" أنها تكفي المتفقه؛ الكتب الخمسة، ومع ذلك قال: "لم يفت الخمسة إلا النزر" يعني الشيء اليسير، وتعقبه الحافظ العراقي بقوله: "وفيه ما فيه" كناية عن ضعفه، كناية عن ضعفه، وفيه ما فيه لكن ما قال في كلام النووي مثل ما قال في كلام ابن الأخرم؛ لأن كلام النووي أقرب إلى الحقيقة والواقع من كلام ابن الأخرم؛ لأننا إذا أضفنا على ما في الصحيحين مما صح في السنن الثلاثة يبقى أقل مما ذكره ابن الأخرم مما يفوت الصحيحين، والمؤلف تأدب مع النووي، قال: "وفيه ما فيه" كناية عن ضعفه –أيضًا- لماذا؟ يقول: "لقول الجعفي" الإمام البخاري:

وفيه ما فيه لقول الجعفي

 

 

أحفظ منه..........................

 

يعني من الأحاديث، من الحديث الصحيح "أحفظ منه" مما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- "عشر ألف ألف"؛ ألف الألف مليون، وعشره مائة ألف، وهذا ثابت عن الإمام البخاري أنه يحفظ من الصحاح مائة ألف مما صح، ويحفظ مائتي ألف مما لم يصح، الآن نبحث عن مخارج لنتخلص من الأحاديث التي لسنا بحاجة إليها، تجد الطالب يحرص على أن يعتصر البخاري في أقل حجم، ثم بعد ذلك يعتصر زوائد مسلم عليه ليكون أقل حجم، وأقل قدر، ثم يعتصر زوائد أبي داود، ثم كذلك إلى آخره، والإمام البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ما قال يكفي، يحفظ معها مائتي ألف حديث غير صحيح؛ وما الفائدة من معرفة غير الصحيح، والأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ الذب عن السنة، الذي لا يعرف أن هذا الحديث ليس بصحيح كيف ينفيه عن السنة؟ ولذا العلماء يعنون بهذا عناية فائقة:

...................................

 

أحفظ منه عشر ألف ألف

 

"وعله" لغة في لعل، بحذف اللام "وعله":

لا تهن الفقير علك أن

 

 

...................................

علك يعني لعلك؛

...................................

 

تركعَ يومًا والدهر قد رفعه

 

ولعل هذه تأتي بدون لام، اللام الأولى قد تحذف، ويقال: عله، كما قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وعله" يعني لعل الإمام البخاري "أراد بالتكرار لها وموقوف"؛ لئلا يقول قائل: إذا كان البخاري يحفظ مائة ألف، والإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف، وأبو داود يحفظ خمسمائة ألف؛ أين ذهبت الأحاديث؟ يعني الدين ضاع، دواوين الإسلام ما فيها ولا عشر هذا العدد؛ أين ذهب الدين؟ أكيد ضاع شيء، وما من مغرض إلا ويدخل، وله مدخل من مثل هذا الكلام إذا استدل عليه بأمر يجب عليه فعله أو يجب عليه تركه؛ قال: لعل هذا الخبر منسوخ؛ نسخه حديث مما فرطت به الأمة؛ أين مئات الألوف من الأحاديث التي يحفظها الأئمة؟ الجواب في قول الناظم -رحمه الله تعالى-:

وعله أراد بالتكرار

 

 

لها وموقوف......................

فهم يعدون الأحاديث المكررة أحاديث، ورب حديث يروى من عشرين طريقًا مثلًا؛ يعدونه عشرين حديثًا، أبو إسماعيل الهروي يقول: إن حديث: ((الأعمال بالنيات)) رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري سبعمائة شخص، فتعد هذه سبعمائة حديث، نظرًا لتعدد طرقه، فالتكرار عندهم أحاديث، وأيضًا الموقوفات يعدونها أحاديث، ما يروى من فتاوى الصحابة، والتابعين من الآثار معدودة في الأحاديث عند جمع من المتقدمين، وينتهي الإشكال هنا، بهذا الاعتذار ينتهي الإشكال، إذا جزمنا يقينًا أن الأمة معصومة من أن تفرط بشيء من دينها؛ لأن الدين تكفل الله بحفظه؛ فلا يجوز أن يتصور مسلم فضلًا عن طالب علم أن الأمة فرطت بشيء من سنة نبيها -عليه الصلاة والسلام- "وفي البخاري" يعني وفي صحيح البخاري من الأحاديث "أربعة الآلاف" أربعة الآلاف يعني بدون تكرار:

أربعة الآلاف والمكرر

 

 

فوق ثلاثة ألوفًا ذكروا

 

لأن في البخاري سبعة آلاف، وثلاثمائة وشيء يسير من العدة، المكرر منها ما ذكر فوق ثلاثة آلاف، وبدون تكرار أربعة آلاف، وهذا تلقوه بعضهم عن بعض، ومازالوا يذكرون العدة بدون تكرار أربعة آلاف حتى جاء الحافظ ابن حجر، فعني بعدد الأحاديث من غير تكرار في الصحيح كتابًا كتابًا إذا انتهى من كتاب -في فتح الباري- قال: اشتمل الكتاب على كذا، اشتمل كتاب الطهارة على كذا من الأحاديث؛ منها من المكرر فيما مضى، وفيما سيأتي كذا، ويصفو كذا، والموقوفات كذا، والمعلقات كذا، فبلغت عدته عند الحافظ ابن حجر على التحرير ألفين وستمائة وحديثين، هذا على التحرير عند الحافظ ابن حجر، قد يقول قائل: الفرق ليس بيسير، ألف وأربعمائة حديث أين ذهبت، أو أكثر؟ نقول: ما ذهبت، هي موجودة في الصحيح، كيف؟! الفرق ألف وأربعمائة يعني يمكن يخطئ الإنسان عدد عشرة عشرين ثلاثين، لكن ألف وأربعمائة؛ يعني ثلث الكتاب أين ذهب؟ نقول: ما ذهب شيء، لكن المتقدمين ليس من همهم التفرغ للأعداد، إنما بالتقريب، صحيح مسلم يقول أحمد بن سلمة: اثني عشر ألف حديث، وغيره يقول: ثمانية آلاف حديث، هل معنى هذا أن صحيح مسلم فقد منه شيء؟ لا؛ الأئمة ليس هذا همهم أبدًا، بدلًا من أن يعد اثني عشر ألف حديث، أو ثمانية آلاف حديث يحفظ مائة حديث، هذا همهم، بالنسبة للمتقدمين لا يعنون بهذا، والمسند قالوا: أربعين ألف حديث، وقيل: ثلاثين ألف حديث، طيب المسند بين أيديكم، كيف يختلفون مثل هذا الاختلاف؟ هذا الأمر لا يعنيهم، يعني بدلًا من أن يعد أربعين ألف حديث يأخذ عليه وقتًا طويلًا؛ يحفظ مكانها أحاديث، فليس عندهم شيء للترف العلمي، أو ملح العلم هم يعنون بمتينه، الحافظ ابن حجر عُني بهذا؛ لأن زمنه تأخر عن زمن الجد، وإن كان جادًّا -رحمه الله تعالى- لكن إذا نسبناه إلى من تقدم من الأئمة عرفنا الفرق، وإذا نسبنا من دونه ومن بعده إليه عرفنا الفرق، وعالم من أهل اليمن أشكل عليه القراءة في تفسير الجلالين، هل يقرأه بطهارة، أو بدون طهارة؟ هل يتوضأ لقراءة تفسير الجلالين، وإلا لا؟ نعم؟

طالب:......

نعم، الحكم للغالب، قال الحكم للغالب؛ فماذا صنع؟ عد حروف القرآن مع حروف تفسير الجلالين، وقال: إنه إلى نهاية سورة المزمل العدد واحد، ثم من المدثر إلى آخر القرآن زاد عدد التفسير فانحلت المشكلة عنده؛ هل يفعل مثل هذا الأئمة أحمد بن حنبل، أو يحيى بن معين، أو غيرهم؟ يفعلون مثل هذا؟ صار همنا في النهاية العناية بمثل هذه الأمور؛ بل بما دونها اهتمينا بالألوان؛ هذا أحمر، هذا أخضر، وهذا الكتاب..، مثال الذي معنا، لكن كونه يتولى هذه الأمور من لا علاقة له بالعلم الأمر سهل؛ يعني ناس تجار سخرهم الله -جل وعلا- لخدمة هذا العلم، وأخرجوه بمخرج مناسب، لكن لو كان هذه زخرفة من عالم مثلًا، أو طالب علم يريد أن يحفظ الكتاب، يلام على هذا، أن يهدر وقت يفتح القلم هذا، ويفك هذا، ويغلق هذا، وينقش، ويخطط، هذه ليست من اهتمامات أهل العلم.

عدة أحاديث صحيح مسلم بدون تكرار اختلفوا فيها، من اثنا عشر ألف إلى ثمانية آلاف إلى ما يقارب عدد صحيح البخاري سبعة آلاف وكسور، لكن..، وقالوا عنه –أيضًا-: بأنه أربعة آلاف بدون تكرار، وبلغت عدته في ترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة وشيء -نسيت الآن-، وهو يرقم بدقة، محمد فؤاد عبد الباقي.

إذا اتفق العلماء على نسخ حديث مثلًا؛ على أن هذا الحديث منسوخ، وبحثنا بين دواوين الإسلام التي بين أيدينا، ولم نجد ناسخًا، هل نقول: لا، ليس بصحيح أنه منسوخ؟ أو نقول: منسوخ ولو لم نطلع على الناسخ؛ صيانة لاتفاق الأمة؟ ونقول: مصروف لو اتفقوا على أنه سنة، نقول: مصروف ولو لم نطلع على الصارف؛ صيانة لاتفاق الأمة؟

طالب:......

هذه مسألة في الفهوم؛ الفهم ما له علاقة، الفهم لا يدخل فيما نقرره، الكلام فيما لو وجد حديث الأمة بحاجة ماسة إليه فلم يروَ، سبعمائة طريق لحديث: ((الأعمال بالنيات))، فيما قاله أبو إسماعيل الهروي؛ سبعمائة طريق، فيما قرره إسماعيل الهروي كلهم يروونه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، والحافظ ابن حجر يقول: وقد عُنيت بجمع طرق الحديث عن يحيى بن سعيد منذ بداية الطلب، منذ بداية الطلب إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة؛ أين ذهبت الستمائة؟ الحديث خطب به على المنبر، ولا يحفظ إلا من طريق رجل واحد؛ أين ذهب مَن حضروا الخطبة؟ نقول: العلماء يكتفون بما يسقط الواجب، قامت الحجة ببلوغ الخبر، انتهى الإشكال؛ لأن تبليغ العلم فرض كفاية، قام به من يكفي؛ ما له داع كل الناس تروي هذا الحديث.

الصحيح الزائد على الصحيحين:

وخذ زيادة الصحيح إذ تنص
بجمعه نحو: ابن حبان الزكي
على تساهل وقال: ما انفرد
بعلة والحق أن يحكم بما

 

 

صحته أو من مصنف يخص
وابن خزيمة وكالمستدرك
به فذاك حسن ما لم يرد
يليق والبستي يداني الحاكما

 

لما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- من مظان الصحيح أصح الكتب؛ ذكر القدر الزائد من الصحيح، أين يوجد؟ أين نأخذ القدر الزائد من الصحيح على الصحيحين الذين تقدم الكلام فيهما؟

يقول -رحمه الله تعالى-: "وخذ زيادة الصحيح" الزيادة في قدر الأحاديث الصحيحة:

........................إذ تنص

 

صحته أو من مصنف يخص

 

"تنص صحته" من إمام معتبر من أئمة الحديث، إذا نص الأئمة على صحة الخبر اعتمدنا هذا التصحيح، وعملنا به، وصار قدرًا زائدًا على ما في الصحيحين، لو صحح أبو داود، صحح الترمذي، صحح النسائي، صحح الإمام أحمد أحاديث نضيفها إلى ما في الصحيحين من الأحاديث الصحيحة "تنص صحته" هذا النص إما أن يكون في مؤلف هذا الإمام الذي نص على الصحة في مصنفه، وهذا ما نص عليه ابن الصلاح؛ يعني تؤخذ زيادة الصحيح عنده مما نص الأئمة على صحته في مؤلفاتهم، لا فيما نقل عنهم، يعني صحح الإمام أحمد حديث في كتاب من كتبه، نعمل به، لكن صححه فيما نقل عنه، أو صححه يحيى بن معين فيما نقل عنه، لا في مؤلفه؛ نقبل، أم لا نقبل؟ عند ابن الصلاح ما نقبل؛ لماذا؟ لأننا نحتاج إلى تصحيح الإسناد إلى هذا الإمام، والمسألة مفترضة عنده في انقطاع التصحيح والتضعيف على ما سيأتي تقريره من رأي ابن الصلاح في هذه المسألة، وأن باب الاجتهاد انتهى في التصحيح والتضعيف، فليس لنا أن نصحح الطريق إلى هذا الإمام لنقبل قوله في تصحيح الحديث، ونص على أن هذا التصحيح لا بد أن يكون في مصنفاتهم، والحافظ العراقي ممن لا يوافقه على هذا، بل يرى أن باب الاجتهاد في التصحيح والتضعيف باق؛ ولذا قال:

وخذ زيادة الصحيح إذ تنص

 

 

صحته.............................

سواءً كان في مؤلف، أو فيما نقل عن هذا الإمام؛ لأن لنا أن نصحح الطريق إلى هذا الإمام الذي به صحح الخبر.

النووي يخالف؛ يخالف ابن الصلاح في رأيه في انقطاع التصحيح والتضعيف:

وعنده التصحيح ليس يمكن

 

 

...................................

على ما سيأتي "عنده" أي عند ابن الصلاح، وقال يحيى النووي، وقال يحيى: ممكن:

وعنده التصحيح ليس يمكن

 

 

في عصرنا، وقال يحيى ممكن

 

سيأتي الكلام فيه -إن شاء الله تعالى-، ومع ذلكم أقر ابن الصلاح في هذه الجملة في هذا الموضع من مختصره، قال في مصنفاته، ثم رد عليه فيما بعد، يعني رد عليه اجتهاده هذا في موضعه، وأما الحافظ العراقي ما نص على المصنفات؛ لأنه يرى العموم في المصنفات، وفيما نقل عنه "أو من مصنف يخص بجمعه"، أو من مصنف يخص بجمعه:

بجمعه نحو: ابن حبان الزكي

 

 

...................................

يعني مصنف يجمعه، ويؤلفه ابن حبان، ويريد بذلك صحيح ابن حبان، المعروف بالأنواع والتقاسيم، صحيح ابن حبان:

وخذ زيادة الصحيح إذ تنص

 

بجمعه نحو ابن حبان الزكي

 

 

صحته أو من مصنف يخص

 

وابن خزيمة وكالمستدرك

 

يعني خذ الأحاديث الزائدة على ما في الصحيحين من هذه الكتب الثلاثة التي اشترط مؤلفوها فيها الصحة، وتسمى صحيح ابن حبان، صحيح ابن خزيمة، صحيح الحاكم، أو المستدرك على الصحيحين مما هو على شرطهما، أو على شرط أحدهما -على ما سيأتي في بيان شرطهما-، أو صحيح عند غيرهما، هذه الكتب اشترط مؤلفوها الصحة لكنهم تساهلوا في تطبيق الشروط التي اشترطوها، ومع أن في شروطهم شيء من التساهل؛ لأنهم يجتمعون -يعني ابن حبان وابن خزيمة- في إدراج الحسن في الصحيح وهذا تساهل، وأيضًا شرطهم في قبول الرواة أخف من شرط الصحيح الذي تقدم ذكره.

بجمعه نحو ابن حبان الزكي

 

 

وابن خزيمة.......................

قدم ابن حبان على ابن خزيمة على أنه أمكن منه، ابن خزيمة أمكن من ابن حبان، وأقوى شرطًا، وكتابه أصح، وابن خزيمة أقدم، فلماذا قدم ابن حبان؟ قدمه؛ لأن كتابه موجود كامل، كتاب ابن خزيمة لا يوجد منه إلا قدر الربع، هذا ما قرره الشراح، وابن حجر نص على أنه لا يوجد منه إلا قدر الربع، فقدم ابن حبان؛ لأنه كتاب كامل يستفاد منه بجميع أبواب الدين، بخلاف صحيح ابن خزيمة، ولو قلنا: إن النظم اضطره إلى هذا لما بعد، "وابن خزيمة" صرف للضرورة "وكالمستدركِ" للإمام الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله، الحافظ النيسابوري، وابن حبان أبو حاتم محمد بن حبان البستي، وابن خزيمة إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، أئمة من أئمة المسلمين.

بجمعه نحو ابن حبان الزكي

 

 

...................................

 

وصفه بالزكاء لعلو قدره في هذا الشأن، الزكاء النماء والزيادة، قدره زائد في هذا الشأن، وابن خزيمة إمام الأئمة يلقبه العلماء من القدم بهذا اللقب، وممن يلقبه بهذا شيخ الإسلام ابن تميمة -رحمه الله-.

....................................

 

..............................وكالمستدرك

 

للحاكم، المستدرك على الصحيحين كتاب ألفه الإمام الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري؛ ليستدرك به على الصحيحين مما فاتهما، مما هو على شرطهما، وسيأتي ما في كلامه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.

على تساهلٍ........................

 

...................................

 على تساهل ممن؟ من الثلاثة أو من المستدرك؟ نعم؟ واقع الكتب الثلاثة يشهد بأنهم كلهم متساهلون، على تساهل، لكن ظاهر السياق يدل على أنه يريد الحاكم، قال: "على تساهلٍ" ولذلك عطف عليه فيما بعد البستي ابن حبان، وإلا لو أراد الجميع، قال على تساهل يشمل الجميع، على تساهل من الحاكم في تطبيق الشرط الذي اشترطه، والخطة التي اختطها لنفسه، ففي المستدرك كثير من الأحاديث الضعيفة، وفيه بعض الموضوعات؛ ولذا وصف بالتساهل "على تساهل وقال" من الفاعل؟ فاعل قال؟ ابن الصلاح "كقال أو أطلقت لفظ الشيخ ما"... إلى آخره، وقال -يعني ابن الصلاح-: "ما انفرد"، به يعني الحاكم "فذاك حسن ما لم يرد بعلة"، وقال ابن الصلاح: ما انفرد به الحاكم فهو حسن.

ابن الصلاح يقول: ما في كتاب الحاكم مما انفرد بتصحيحه ولم يوافقه عليه أحد من الأئمة على تصحيحه، ولم نقف فيه على علة فهو دائر بين الصحيح والحسن، وهنا جزم نقلًا عن ابن الصلاح أنه حسن، لماذا؟ كأنه يرى أن التوسط في أمره هو المطلوب، الحديث الذي نجده في المستدرك، وتفرد الحاكم بتصحيحه، ولا وافقه عليه أحد من أهل العلم، ولم نطلع فيه على علة نحكم عليه بالحسن، لماذا؟ لأنه ليس لنا أن ننظر في أسانيده؛ لأنه على رأي ابن الصلاح ليس لنا النظر في الأسانيد "ما لم يرد بعلة" يقول الحافظ العراقي: "والحق أن يحكم بما يليق" وهذا جارٍ في كل كتاب ما عدا الصحيحين، حديث صححه الترمذي قال: حسن صحيح، وعرفنا ما في كلام أهل العلم من تساهل الترمذي، حديث حكم عليه ابن حبان بأنه صحيح، ابن خزيمة، وجد في سنن أبي داود أو في مسند أحمد الحق أن ندرس هذه الأسانيد ونحكم على كل حديث بما يليق به، فإن صح سنده باكتمال الشروط قلنا: صحيح، إن خف شرط الضبط قلنا: حسن، إن تخلف شرط من الشروط قلنا: ضعيف "والحق أن يحكم بما" أن يحكمْ بالتسكين، وهذه لغة عند بعض العرب يجزمون بـ(أن) "والحق أن يحكم بما يليق" يعني بما يليق به من مرتبة ودرجة بعد النظر في الأسانيد والمتابعات والشواهد والموافقة والمخالفة "والبستي" يعني بذلك ابن حبان، يعني بذلك أبا حاتم محمد بن حبان البستي "يداني الحاكما" يعني يقرب من الحاكم في تساهله، وإن كان ابن حبان أمثل من الحاكم بكثير، لكنه يدانيه ويقاربه في تساهله؛ نظرًا لخفة شرطه، وأيضًا في تطبيقه لما اشترطه شيء من التخلف في بعض المواضع، وماذا عن صحيح ابن خزيمة؟ وقد ذكره كأنه عنده سالم من التساهل؛ لأنه نص على تساهل الحاكم، وقال: إن البستي ابن حبان يداني الحاكم، لكن كأن صحيح ابن خزيمة ما فيه تساهل، وإذا نظرنا في واقع الكتاب وجدنا فيه شيء من التساهل، فتجده أدخل في صحيحه مما لم يتعقبه مما حكم بضعفه أو حسنه وهذا تساهل، لكنه أمثل بكثير من ابن حبان والحاكم.

الاقتراح الوارد من بعض الإخوة أننا نقرأ نصيب الدرس اللاحق قبل أن يتم حفظه على الصحيح على الصواب؛ لأن وإن كانت هذه النسخة مضبوطة ومتقنة لكن ما يمنع أن تقرأ.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.