شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (206)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدًا وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي، مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في اشتداد الوجع عند النبي -صلى الله عليه وسلم- توقفنا عند قول عمر -رضي الله عنه-: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع.

الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.

 في الحديث عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: لما اشتد الوجع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو لما اشتد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»، تقدم الحديث في هذه الجملة، وقفنا على قوله: قال عمر -رضي الله تعالى عنه- لمن حضر من الصحابة؛ لأن قوله: «ائتوني» خطاب لجماعة. «أكتب لكم» فدل على أن الحضور جمع.

المقدم: في الصحيح قال أم فقال؟

قال ائتوني.

المقدم: لا، عمر.

قال عمر.

المقدم: عندنا نسخ فقال.

على كل حال العطف وارد هنا، قال: ائتوني فقال عمر ما فيه إشكال، الذين حضروا هذه المقولة للنبي- عليه الصلاة والسلام- جماعة من الصحابة، فقال عمر -رضي الله تعالى عنه- لهؤلاء الذين حضروا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع أي فيشق عليه إملاء الكتاب، فيشق عليه إملاء الكتاب، أو مباشرة الكتابة، يعني فيشق عليه إملاء الكتاب بناءً على أنه -عليه الصلاة والسلام- لا يكتب، أو مباشرة الكتابة على ما تقدم في كلام الباجي، وهذا كله من كلام ابن حجر، لكن عامة أهل العلم على أنه يأمر بالكتابة، يأمر بها، ولا يباشرها، تقدم كل هذا مفصلًا عند قوله: «ائتوني بكتاب أكتب لكم».

 وكأن عمر-رضي الله تعالى عنه- فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل، يعني يأمر أو يكتب بكتاب مطول قد يقول قائل: إذا كان ما يريد كتابته -عليه الصلاة والسلام- شيئًا مختصرًا، فإن هذا لا يؤثر عليه.

المقدم : من أين أُخد هذا الاعتقاد؟

من أين، فهم عمر أنه كتاب مطول؟ كأنه فهم من قرائن الأحوال.

المقدم: لكن رد عمر لا يدل على هذا، يرد يقول: غلبه الوجع كأنه يقول: إن هذا التصرف بسبب ارتفاع الوجع وشدة الحمى على الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

ما يمنع أن يأمر بكتابة جملة افعلوا كذا، أو اتركوا حتى مع الوجع، لكن عمر فهم من حاله -عليه الصلاة والسلام- ومن طلبه ما يكتب به وما يأمر الكتابة به أن هذا شيء مطول يشق عليه في هذه الحالة التي غلبه فيها الوجع، والنبي-عليه الصلاة والسلام- كما ثبت في الصحيح أنه يوعك كما يوعك الرجلان منا، يعني وجعه مضاعف، قال ابن مسعود: «ذلك أن لك أجرين، قال: أجل».

المقدم: يعني أنا سؤالي الحقيقة لما بدر من بعض الكتاب المعاصرين، وتلقفه مع كل أسف بعض المنتسبين للإسلام في أن عمر -رضي الله عنه- اتهم النبي في هذه الحالة بأن يخشى أن يكتب شيئًا خاطئًا؛ نظرًا لارتفاع درجة الحرارة، ولما أصابه، هم يركزون على هذا.  

سيأتي الكلام على هذا.

يعني الشراح تكلموا عنه.

أشاروا إليه، ويأتي الكلام عنه إن شاء الله.

المقدم: طيب، على أساس نقد قولهم أيضًا ما ننساه.

لن يمر بسلام، نشير إليه إن شاء الله تعالى، وكأن عمر -رضي الله عنه- فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل يعني فهم من قرائن الأحوال أنه كتاب مطول، أو الاحتمال على حد سواء أنه مطول أو مختصر إذًا والوجع قد غلبه، واحتمال أن يكون مطولًا يقلقه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يناسب وضعه مع وضعه الصحي، ظرفه الصحي لا يتناسب مع إملاء الكتاب، والنبي-عليه الصلاة والسلام- عصمته إلى أن خرجت روحه وعقله وتمامه إلى أن لحق بربه -عليه الصلاة والسلام-، فلا يظن به ما يظن ويأتي الكلام في شيء من هذا، قال القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «ائتوني بكتاب أكتب»، وعمر ماذا أراد من قوله: أن النبي-عليه الصلاة والسلام- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله؟

المقدم: الاكتفاء بالقرآن.

مخالفة هذا الأمر، يقول القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر -رضي الله تعالى عنه- مع الطائفة أنه ليس على الوجوب، مع الطائفة الموجودين كلهم فهموا هذا الفهم؟ أن هذا الأمر ليس على سبيل الوجوب. كيف فهمنا أن الطائفة فهموا هذا الفهم؟ أنه لم ينقل عنهم معارضة عمر، أي ما قالوا: أنت تعترض على كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهم فهموا مجتمعين أنه ليس على سبيل الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، ولهذا قال عمر -رضي الله تعالى عنه- كأنما يراد كتابته شيء من التفصيل، شيء من التفصيل «أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده» لأن الأمور المجملة التي جاءت في الكتاب وبعض النصوص تحتاج إلى شيء من التفصيل، أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يكتب شيئًا من هذا التفصيل؛ لئلا يضلوا بسبب هذا الاختلاف.

 وهذا الضلال كون مسألة إصابة الحق لا بد أن يصاب الحق في الاجتهاد، فلابد أن تصيب الحق طائفة من أهل العلم؛ لأن الأمة مجتمعة لا يجوز لها أن تجتمع على شيء من الضلال أبدًا، ولا يمكن أن تكون مجتمعة يخفى عليها شيء من دينها، أو يغيب عليها شيء من دينها، لكن هذا الدين إن حفظه قوم وضيعه آخرون فهو محفوظ بأولئك هذا الفهم لهذا النص المجمل، إن أصاب وطابق الواقع قوم خالفه آخرون، وكلهم مجتهدون، وكلهم مأجورون، وهذه طبيعة الشرع جاءت بهذا، النصوص جاء فيها المحكم، وفيها المتشابه، وفيها المجمل، وفيها المبين، وفيها العام، وفيها الخاص، النصوص لا شك أن المجال مفتوح للاجتهاد فيها لفهمها.

 والحديث «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد»، يعني لو أن النبي- عليه الصلاة والسلام- في كتابه هذا بيَّن كل شيء بحيث لا يضلون في صغيرة ولا كبيرة ما صار للاجتهاد مجال، ما صار للاجتهاد مجال، وانقطع أو انسد باب من أبواب مُعظم للأجور سواء أصاب المجتهد الذي هو أهل للنظر والاجتهاد أو أخطأ، فكلهم مأجورون، فعمر-رضي الله عنه- فهم هؤلاء الطائفة أنه ليس على سبيل الوجوب، والدين في الجملة محفوظ، وهذا الكلام، الحديث هذا هل هو بعد قوله -عليه الصلاة والسلام- «اليوم أكملت لكم دينكم» أو قبله؟

المقدم: أكيد أنه بعده.

في مرض موته بعده، بعده فهم فهموا أن الدين كامل والكتاب {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فلا شك أن هذا الذي أراد كتابته شيء زاد عن التفصيل قدرًا زائدًا على ما جاء في هذه النصوص، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ولهذا قال عمر-رضي الله تعالى عنه- حسبنا كتاب الله؛ يعني يكفينا كتاب الله، لكن هل يفهم من كلام عمر أن السنة لا يحتاج إليها؟ أبدًا؛ لأن كتاب الله بما يحتاج إليه في فهم كتاب الله مع ما يحتاج إليه في فهمه؛ لأن العلماء لا يستقلون بفهم كتاب الله من دون فهم بيانه من السنة، فإذا أمر بشيء أمر بجميع ما يتطلبه ذلك الشيء وما لا يتم الواجب إلا بفهم الواجب، يعني تعلم السنة؛ لأنها بيان للقرآن ومصدر أصيل من مصادر التشريع، فلا شك أن الذي ينادى بالاقتصار على القرآن ممن يسمون القرآنيين، هذا لا شك أنه ضلال مبين أكثر الأحكام ما عرفها أهل العلم إلا بواسطة أهل السنة، وإن كانت الإشارة إلى أصولها موجودة في القرآن، ولهذا قال عمر-رضي الله تعالى عنه-: حسبنا كتاب الله، وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب، هم يتفقون على أنه أمر إرشاد، وعمر يرى أن الأولى أن لا يكتب لماذا؟

لأنه يشق على النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه الحالة في هذا الظرف، وغيرهم رأوا أن الأولى أن يكتب؛ لما فيه من امتثال أمره، وما يتضمنه من زيادة الإيضاح هو وضح وبين وبلغ البلاغ المبين، ولكن زيادة في الإيضاح، ظاهر هذا؟

المقدم : نعم.

ودل أمره لهم بالقيام قال: «قوموا عني»، ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، كان على الاختيار لماذا؟ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لما وافق عمر وأمرهم بالقيام...

المقدم: لأعاد الأمر.

نعم أعاده مرة ثانية، واستدرك على عمر -رضي الله عنه-، ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أيامًا، ولم يعاود أمرهم بذلك، لم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا، وقد عد العلماء هذا من موافقة عمر -رضي الله تعالى عنه-؛ موافقات عمر للشرع، سواء كان في الكتاب والسنة كثيرة جدًّا، ولو اتخدنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية بها، ولو حجبت نساءك، فنزل الحجاب، وإلى غير ذلك، موافقاته كثيرة وهذا منه، وافق فيه ما في خاطر النبي-عليه الصلاة والسلام-.

 وعلى كل حال قد يفهم الكلام هذا على غير وجهه، لاسيما إذا لم يكن قارئ الحديث ممن لا يطلب الحق ولا ينشده، وإلا فوضوح المراد من الحديث مثل الشمس ما يخفى معناه، الصحابة يراجعونه في بعض الأمور، هل يعني هذا أنه عدم امتثال منهم؟

لما أمرهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالحلق في الحديبية ترددوا، السبب في هذا أن أوامره - عليه الصلاة والسلام- غير نافذة عليهم، أو كونهم لا يحترمونه؟ أبدًا، وإنما هذا من زيادة حرصهم على الخير جاءوا من أجل العمرة، فيريدون تمام هذه العمرة، مازال في الأمر فسحة وفيه مجال للأخذ والرد، يعني ناقشوه وراجعوه عله أن يترك لهم فرصة الدخول إلى مكة، فيتم لهم ما أرادوا، لكن لما حلق رأسه -عليه الصلاة والسلام- الآن لهم مندوحة أم ما لهم؟ خلاص كادوا أن يقتتلوا.

عرفوا أن المسألة جد، المسألة لا تحتمل المخالفة، فإذا عزم امتثلوا، وقد عد هذا من موافقات عمر -رضي الله تعالى عنه-، قال الكرماني وقبله الخطابي: فإن قيل: كيف يجوز لعمر أن يعترض على ما رآه الرسول- صلى الله عليه وسلم- في أمر الدين، ولا يسرع في قبوله؟ أفتراه خاف أن يتكلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير الحق، أو يجري على لسانه الباطل؟ حاشاه عن ذلك، قلنا: لا يجوز على عمر أن يتوهم الغلط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويظن به التهمة في أي حال من الأحوال، لا يتصور هذا من عمر، ولا يمكن أن يجري على خاطره -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

 قلنا: لا يجوز لعمر أن يتوهم الغلط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويظن به التهمة في أي حال من الأحوال، إلا أنه لما نظر أن الله -جل وعلا- قد أكمل الدين، وتمم الشرائع، وقد غلب الوجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأظلته الوفاة، وهو بشر يعتريه من الآلام ما يعتري البشر، يعتريه من الآلام ما يعتري البشر، يعتريه من الآلام، الآلام الجسدية التي قد يشق عليهم الأمر بالكتابة أو الإملاء مع هذه الآلام، يعنى عموم  البشر إذا تألم جسده يصل هذا أحيانًا إلى تغطية شيء من عقله، يكون تفكيره قاصرًا، إذا.. مع المرض، إذا كان تفكيره قاصرًا مع الجوع، مع شدة الحر، مع شدة البرد، مع غلبة.. مغالبة الأخبثين، مع الغضب؛ إذا كان البشر يتغير.. تتأثر آراؤهم بهذا، ولذا نهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ونهي المصلي أن يصلي وهو يدافع الأخبثين، لكن لا يظن بالنبي-عليه الصلاة والسلام- مثل هذا؛ لأن المسألة مسألة تبليغ، وهو معصوم في أن يبلغ غير الحق، أو أن يفوته شيء من الحق -عليه الصلاة والسلام-.

قلنا: لا يجوز على عمر أن يظن به الغلط، ويتوهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- التهمة في أي حال من الأحوال إلا أنه نظر أن الله -جل وعلا- لقد أكمل الدين، وتمم الشرائع، وقد غلب الوجع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وأظلته الوفاة، وهو بشر يعتريه من الآلام ما يعتري البشر، أشفق أن يكون ذلك القول من نوع ما يتكلم به المريض مما لا عزيمة له فيه، فيجد به المنافقون سبيلًا إلى تلبيس أمر الدين، كيف؟ هل هذا يتفق مع الكلام السابق؟

المقدم : لا.

هذا الكلام، وجود المنافقين سبيلًا هو من نوع ما يكتب الآن، لأنه قد يتكلم بكلام واضح وصريح ويفصل فيه بعض الأشياء لكن قد يجد المنافق أن هذا الظرف يلبس يقول: إن هذا ليس بصحيح الكلام، هذا ولو كان صحيحًا؛ لأن الظرف الذي تحدث فيه النبي- عليه الصلاة والسلام- ما هو مجال اكتمال عقل، وإن كان حقًّا، الآن الكلام ذا لا ينقض الأول، ظهر وجهه.

المقدم: ظاهر واضح.

 فالمنافقون يتحينون الفرص للطعن في الدين وفي أهله وفي نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فلو جاء بكلام الحق، وجد المنافقون سبيلًا؛ لأن الظرف غير مناسب، وأوَّلوه وتأولوه على غير وجهه، وقال: النبي- عليه الصلاة والسلام- غلبه الوجع، وهو بشر كغيره، يعتريه ما يعتري البشر، فيجد به المنافقين سبيلًا إلى تلبيس أمر الدين، وقد كان -صلى الله عليه وسلم-  يرى رأيه في الأمر فيراجعه أصحابه في ذلك إلى أن يعزم الله له على شيء، كما راجعوا يوم الحديبية، يعني قصة الحلق والإحلال من الإحرام فيما كتب بينه وبين قريش أيضًا، راجعوه في الصلح، في الصلح ما راجعوه؟

المقدم: بلى.

راجعوه في بعض الجمل التي اشترطها على نفسه -عليه الصلاة والسلام-؛ لخفاء الحكمة عليهم، يعني مثلًا لو كتاب الصلح، كتاب صلح الحديبية وقع في مثل هذا الظرف، ألا يمكن أن يتكلم متكلم من المنافقين أن هذا الظرف، أن هذه الشروط قالها النبي -عليه الصلاة والسلام- في حال معينة، كما يقال عن بعض الناس إذا أصدر أمر أو نهي قال: صدر هذا الأمر في ظروف معينة، فلا يعمل به، يعني من قوانين البشر، لكن الرسول-عليه الصلاة والسلام- معصوم، لا يمكن أن يظن به هذا الظن أبدًا، لا عمر ولا من دون عمر يظن به هذا الظن، ولا يظن به إلا منافق- نسأل الله السلامة والعافية-.

 المقصود أنهم راجعوا؛ لأنهم في بادئ الأمر هذه الشروط فيها هضم لحق المسلمين، لكن العاقبة لما تكشفت الأمور واتضح فيما بعد تبين أنها عين الحكمة، فلو أن هذه الأمور وقعت في آخر حياته -صلى الله عليه وسلم- مما لم يتبين في حياته لقيل: إنها كُتبت في ظرف معين، قال المنافقون ومن سلك مسلكهم يقولون: كتبت في ظرف معين، والرسول-صلى الله عليه وسلم- بشر كغيره إذا أصابه الألم يتغير. فإذا أمر بشيء أمر عزم لم يراجع فيه، ولم يخالف عليه بدليل أن أكثر الأوامر في العبادات ما راجعه أحد فيها، يأمرهم فيمتثلون ويبادرون إلى الامتثال، وأكثر العلماء جوزوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد فيما لم ينزل عليه الوحي، وهذا سبق الكلام فيه عند الحديث «إلا الإذخر» مسألة اجتهاده -عليه الصلاة والسلام-، جوزوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد فيما لم ينزل عليه الوحي، وهذا الاجتهاد يحتمل أن يكون، وهو الأصل الإصابة مع موافقة الأولى، ويحتمل هذا الاجتهاد أن يكون أيضًا خلاف الأولى، مثل ما قررنا سابقًا أنه قد يجتهد، وله أن يجتهد، لكن لا يقر، فكونه لا يقر لا يعني أنه أخطأ -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: لكنه خلاف الأولى.

لكنه خلاف الأولى، ولكنهم مجمعون على أن تقريره عن الخطأ غير جائز، ومعلوم أن تسميته خطأ لا شك أنها غير مرضية؛ لأن المسائل التي نُبّه عليها -عليه الصلاة والسلام- وعُوتب عليها مسائل اجتهادية، وتحتمل الأمرين، لكن أيهما أرجح هذا أم هذا؟ أيهما أولى الأمر هذا أو الأمر ذاك؟

لا شك أن هذا خلاف الأولى، ومعلوم أن الله -سبحانه وتعالى- وإن كان رفع درجته فوق الخلق كلهم، ومعلوم أن الله -سبحانه وتعالى- وإن كان رفع درجته فوق الخلق كلهم فإنه لم يبرأه من سمات الحوادث- يعني المخلوقين- والمريض موضوع عنه، والقلم عن الناس مرفوع، وقد سهى في صلاته فلم يستنكر، فقد سهى في صلاته فلم يستنكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه، فلذلك رأى عمر-رضي الله عنه- مصلحته بالتوقف، والله أعلم.

 يعني هذا من شدة احتياط عمر -رضي الله تعالى عنه-  هذا من شدة احتياط عمر، وإلا كونه يسهو- عليه الصلاة والسلام- في صلاته ليسن ويشرع أحكام السهو، لا يعني أنه يسهو في مقام التشريع، ولذا حكم أهل العلم على قصة الغرانيق بأنها باطلة؛ لأنها في مقام التشريع، ما يقال: سهى في الصلاة فيسهو في هذا، لا يُطرد السهو، الأصل أنه مبلغ ومشرع -عليه الصلاة والسلام- ومبلغ عن الله -جل وعلا- ومعصوم فلا يظن به أنه يسهو في مقام التشريع، نعم يسهو في الصلاة ليسن لا لذات السهو، ونام عن صلاة الفجر؛ ليبين للناس كيف يصلون إذا  خرج عليهم الوقت من غير قصد، فهذا لا شك أنه خلاف الأصل، لكنه بالنسبة له باعتباره مشرعًا هذا هو الأصل، إذا لم يتبين الحكم في مثل هذه الحوادث فمتى يتبين؟! فسهوه لحكمة، ونومه عن صلاة الصبح مرة في عمره لحكمة أيضًا، ولا يعني أنه في مقام العزم، وفي مقام التشريع وفي مقام التبليغ أنه يسهو؛ لأنه سهى في الصلاة أبدًا.

 ومع هذا كله يجب أن يعلم أن ذلك القول منه -عليه الصلاة والسلام- لو كان عزيمة لأمضاه الله تعالى، لو كان عزيمة لأمضاه، كما أمضى سائر الأوامر، لكن لما كان رخصة ومن باب الإرشاد والمصلحة، لا شك أنه صُرف عنه، والمصلحة قد تكون أعظم في هذا الصرف مما لو تحقق، هذا كلام الكرماني، وهو منقولٌ من الخطابي.

المقدم: نكتفي بهذا- أحسن الله إليك- في هذه المسألة على أن نستكمل بإذن الله بقية أطرافها وما تبقى أيضًا من ألفاظ الحديث أيضًا في الحلقة القادمة، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح لقاؤنا بكم في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، وشكرًا لطيب متابعتكم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته