شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (227)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الأخوة المستمعين.

المقدم: لا زلنا في حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-، توقفنا عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارًا» أشرتم إلى أقوال أهل العلم في معنى كفارًا، لعلنا نستكمل، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما بعد,,

ففي هذا الحديث تعظيم شأن قتل المسلم والتهويل من أمره، وأنه قد يؤول بصاحبه إلى الكفر، كما جاء في بعض أقوال أهل العلم، فلا يوفق للخاتمة الحسنة، لكن لا يعني أن القتل كفر إلا عند الخوارج الذين يكفرون بالكبائر، والمقرر عند أهل السنة والجماعة أنه ليس بكفر، وإن كان من عظائم الأمور، يقول النووي: ثم إن الرواية يضرب برفع الباء هذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا، ونقل القاضي عياض -رحمه الله- أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء (يضرب)، قال القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم.

المقدم: استشكال النووي إيش لضبط المعنى يا شيخ؟

يضرب، يضرب، إذا قلنا يضرب صارت جوابًا للطلب.

المقدم: ما وجه الاستشكال لأنه يقول وهو الذي يدل عليه المعنى الضم، لماذا؟

سيأتي إن شاء الله له تكملة، قال النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبري: أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر أي إن ترجعوا يضرب، إن ترجعوا يضرب، والله أعلم، في كلام الكرماني: ولفظ يضرب مرفوع على أنه جملة مستأنفة مبينة لقوله لا ترجعوا أو وصف كاشف؛ إذ الغالب من الكفار ذلك، وكونه مجزومًا بأنه جواب النهي ظاهر على مذهب من يجوّز لا تكفر تدخل النار، إذا قلنا إن الجواب للطلب، أو جواب شرط مقدر إن ترجعوا يضرب..

المقدم: صار جزاء رجوعكم ضرب بعضكم رقاب بعض، لكن بالرفع..

نعم، والمعنى عند النووي أن الرجوع مبني على الضرب، هل الرجوع سببه الضرب؟ ضرب الرقاب أو أن ضرب الرقاب سببه الرجوع؟

المقدم: الآن الرجوع..

لا ترجعوا بعدي كفارًا.

المقدم: لا، ضرب الرقاب سببه الذي سيحصل أنكم سترجعون كفارًا.

إذًا المتقدم أيهما؟

المقدم: ضرب الرقاب.

نعم هذا يحتم أن تكون مضمومة، وهذا الذي مال إليه النووي، لكن بعضهم يرى العكس أن ضرب الرقاب سببه الرجوع، ومرتب عليه، ولهذا جوز أبو البقاء العكبري -وهو إمام في هذا الباب- جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب، على كل حال أبو البقاء العكبري هذا له كتب في الإعراب، كتاب في إعراب القرآن، إملاء ما من به الرحمن، وله أيضًا في إعراب الحديث.

 «بعضكم رقاب بعض» قال الكرماني: فإن قلت: ليس لكل شخص إلا رقبة واحدة، ولا شك أن ضرب الرقبة الواحدة منهيٌ عنها، قلت: البعض وإن كان مفردًا، لكنه في معنى الجمع، يعنى إذا قلت: أكرمت بعض الناس، فهل يعني هذا واحدًا؟! لا يلزم، قد يكون واحدًا وقد يكون جمعًا، قال: البعض وإن كان مفردًا يعني في لفظه لكنه في معنى الجمع، كأنه قال: لا تضرب فرقة منكم رقاب فرقة أخرى، والجمع في مقابلة الجمع أو ما في معناه يفيد التوزيع، يعني مقابلة الجمع بالجمع تفيد القسمة أفرادًا، يعني إذا قيل: ركب القوم دوابهم. يعني كل واحد ركب دابته، يفيد التوزيع، ولفظ يضرب إلى آخره قال: مرفوع على أنه جملة مستأنفة مبينة لقول: لا ترجعوا، أو وصف كاشف؛ إذ الغالب من الكفار ذلك، وكونه مجزومًا بأنه جواب النهي ظاهر على مذهب من يجوز لا تكفر تدخل النار، هذا تقدم الكلام فيه.

في شرح ابن بطال: الإنصات للعلماء والتوقير لهم لازم للمتعلمين؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أمر الله عباده المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، ولا يجهروا له بالقول خوف حبوط أعمالهم، وكان عبد الرحمن ابن مهدي إذا قرأ حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر الناس بالسكوت وقرأ:  {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]، ويتأول أنه يجب من الإنصات والتوقير عند قراءة حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل ما يجب له -عليه السلام-، فكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم؛ لأنك لا تستفيد إلا بهذا، فإن كنت تريد العلم فلابد من هذا، وكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم؛ لأنهم الذين يحيون سنته، ويقومون بشريعته.

 وقال شريكان الأعمش: لا يتجاوز صوته مجلسه؛ إجلالًا للعلم، يعني لا يرفع صوته أكثر من المجلس، يعني ما يُسمع إلا بقدر الحاجة، لكن قد تكثر الجموع، فيحتاج المحدث أو العالم أو الشيخ إلى أن يرفع صوته، وليس هذا من هذا الباب، إنما الحاجة دعت إلى ذلك، وقد تكثر الجموع بحيث لا يبلغهم صوته، فيتخذ من المستمعين من يبلغ صوته إلى أقاصي الحضور، والآن مع وجود هذه الآلات التي تكبر الصوت وتبلغه إلى من بعُد لا حاجة إلى رفع الصوت، وبعض الناس إذا تكلم وخطب يزعج الناس ويقلقهم برفع صوته، مع أن المسجد قد يكون لا يحتاج إلى هذا، والحضور لا يحتاج إلى هذا، وسمعنا ورأينا ممن يؤم الناس في رمضان تجد خلفه خمسة أشخاص أو ستة، وعنده من المكبرات والمؤثرات، ويرفع الصوت بحيث يسمعه الحي كله، فهذا لا شك أنه غير مرضي.

 وابن الجوزي يذكر -رحمه الله-  في تفسير سورة لقمان عند قوله -جل وعلا-: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[لقمان:19] أن قوة الصوت ليست محمدًا إلا حيث يُحتاج إليها، وقال شريكان الأعمش: لا يتجاوز صوته مجلسه؛ إجلالًا للعلم، وقال مُطرّف: كان مالك إذا أراد الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا ثم تحدث إجلالًا لحديثه -عليه الصلاة والسلام-، وكل هذا من باب الكمال وليس بواجب، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: كان يُستحب ألا يُقرأ حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا على وضوء، يعني زيادة في تعظيم الحديث النبوي، قال شعبة: كان قتادة لا يحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا وهو على طهارة، وحكى مالك عن جعفر بن محمد مثله، وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث وهو على غير طهارة تَيَمَّمَ. وقال ابن أبي الزناد: «ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلّم- وهو مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَجْلِسُونِي، فَإِنِّي أُعْظِمُ أَنْ أُحَدِّثَ بحَدِيثَ رَسُولِ اللهِ  -صلى الله عليه وسلّم- وَأَنَا مُضْطَجِعٌ» لكن في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190-191] يدل على جواز ذلك، وأنهم ملازمون للذكر على سائر الأحوال.

وقال ابن أبى أويس: كَانَ مَالِكٌ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ يَقُولُ: «لِيَلِيْنِي مِنْكُمْ ذَوُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى-يعني مثل الصلاة- فَرُبَّمَا قَعَدَ الْقعنبيُّ عنْ يمينهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ إِجْلَالِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلّم- وَتَوْقِيرِه»، لكن هل للعالم مثلًا إذا كان الجمع متوافرًا وحضر ثم جاء متأخر واحد من كبار الآخذين عنه من كبار الطلبة، هل يأمر بأن يُفسح له بجانبه، لا شك أنه إذا ضمن ما في نفوس الحضور ألا يتأثروا، وإلا فالأصل أن من سبق إلى مباح فهو أحق به، وإذا ضمن ما في نفوسهم وكانت بينه وبينم الكلفة مرفوعة، والدالة موجودة بينهم، لا يتأثرون، فلا شك أن إكرام أهل الفضل مطلوب.

وقال العيني: من الفوائد بعد ما تقدم بعد الإنصات للعلماء والتوقير لهم وتوقير الحديث والنظر في حال المحدث أثناء التحديث قال الثاني: وفيه تحذير الأمة من وقوع ما يُحذر منه «لا ترجعوا»؛ لأنه يحذر النبي -عليه الصلاة والسلام- من ردتهم، ويحذر أيضًا من قتال بعضهم بعضًا «لا ترجعوا بعدي كفارا» فيه تحذير الأمة من وقوع ما يُحذر منه.

والثالث يقول العيني: تعلق به بعض أهل البدع بهذا الحديث من جهة تعلق الخوارج ظاهر من نصوص الوعيد، لكن يقول: تعلق به بعض أهل البدع في إنكار حجية الإجماع..

المقدم: الإجماع على أن القتال بين المسلمين ليس كفرًا لا يخرج..

لا، لا ترجعوا يحتمل أن يكون جميع الأمة، وقد أجمعت على ضلالة إذا كان لا ترجعوا يحتمل أن يتجه إلى جميع الأمة.

المقدم: وليس للمتقاتلين؟

كلهم يتقاتلون تفترض هذا، هذا الذي يريد أن يبطل الإجماع قال: إن الاحتمال أن تكون جميع الأمة ما المانع أن يكون خطابًا لجميع الأمة، وأنهم يجوز أنهم يتقاتلون كلهم، فيكونوا أجمعوا على ضلالة، ظاهر؟

المقدم: ظاهر.

يقول: تعلق به بعض أهل البدع في إنكار حجية الإجماع كما قال المازري؛ لأنه نهى الأمة بأسرها عن الكفر، ولولا جواز إجماعها عليه لما نهاهم، والجواب أن الامتناع إنما جاء من جهة خبر الصادق أن الأمة لا تجمع على ضلال، أن الإجماع إنما جاء من أن الامتناع إنما جاء من جهة خبر الصادق لا من عدم الإمكان، وقد قال الله -جل وعل-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر:65] ومعلوم أنه معصوم من الذنوب فضلًا عن الإشراك، ظاهر التعلق بهذا الحديث؟ والجواب عنه؟

المقدم: نعم والجواب واضح.

نعم، والإجماع كما هو معلوم حجة عند كل من يُعتد بقوله من أهل العلم، وهو معروف: اتفاق مجتهدي الأمة على أمر من أمور الدين، فلا مدخل لغير المجتهدين في الإجماع، وهو حجة قطعية عند أهل العلم حتى قال بعضهم: إنه مقدم على النصوص؛ لأنه لا يحتمل نسخًا ولا تأويلًا.

المقدم: لكن يتحقق يا شيخ.

الخلاف في إمكان وقوعه بعد تفرق الأمة محل نظر عند أهل العلم، لكن ليس بممتنع.

المقدم: متحقق أن يُقبل من يحكيه يا شيخ.

على كل حال منهم من يرى أنه بعد الصحابة لا إجماع؛ لأن الأمة تفرقت في الأقطار والأمصار، فكيف يعرف الأندلسي ما قاله العالم في أقصى المشرق وهكذا..؟

أما ما يحكيه كثيرٌ من أهل العلم من دعاوى الإجماع فحصل فيه الخلل، فقد ينقل الإجماع في مسائل الخلاف فيها مشهور، وقد ينقل الإجماع في مسألة هو ينقل الخلاف فيها.

المقدم: ولهذا شيخ الإسلام -رحمه الله- تعرض للهجوم من بعض الكتاب المعاصرين مع كل أسف، كأنهم جعلوا هدفهم وسهامهم عليه، ومن ضمن مآخذهم حكاية الإجماع عنده -رحمه الله-ـ فبعضهم اتهمه اتهامات سيئة لا تليق بطلبة العلم.   

على كل حال شيخ الإسلام -رحمه الله- من أهل الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة وقواعدها وعلى أقوال أهل العلم والإحاطة بها، كلام لا يلحق شيخ الإسلام، لكنه الهوى وأدنى نظر في كتبه ومؤلفاته يشهد له بذلك، لكن الذين يعنون بنقل الإجماع مثل ابن المنذر وابن عبد البر والنووي..

المقدم: ابن حزم.

ابن حزم له كتاب في الإجماع، وشيخ الإسلام تعقبه في مواضع نقد مراتب الإجماع، وكذلك ابن قدامة، هؤلاء قد يحصل الخلل في بعض نقولهم، ولذا قال الشوكاني في نيل الأوتار: هذه الدعوى للإجماع تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، وهذا كلام ليس بصحيح، نعم وجد الخلل ووجد النقد لبعض هذه الدعاوى، لكن ليس مطردًا، بل على طالب العلم أن يهاب ما أجمع عليه أهل العلم، ما نقل فيه الإجماع فضلًا عما تحقق فيه الإجماع بل عليه أن يهاب.

 هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع:

الأول: هنا في كتاب العلم في باب الإنصات للعلماء، قال -رحمه الله-:

 «حدثنا حجاج قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني علي بن مدرك عن أبي زُرعة عن جرير –أبو زُرعة حفيد لجرير أبو زُرعة بن عمرو بن جرير- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له في حجة الوداع قال له: استنصت الناس فقال:.. » فذكره، وسبق ذكر المناسبة باب الإنصات للعلماء، وفيه الأمر بالإنصات أو بالاستنصات.

والموضع الثاني: في كتاب المغازي.

المقدم: في مثل هذه الحالة استنصت الناس يجمعهم، يعني المعتاد أنه كان يجمعهم يقربهم كما فعل بلال وغيره.

لا، هم مجتمعون في حجة الوداع، مجتمعون حوله -عليه الصلاة والسلام-، ولعل هذا كما جاء في بعض الروايات أنه عند الجمرة مجتمعون، لكن المسألة جلبة وأصوات وكذا، فيطلب منهم الإنصات.

أما قوله لبلال كثيرًا يجمع الناس من الخارج يناديهم للمسجد كأن يقول: الصلاة جامعة.

نعم، إذا أريد اجتماع ينادون ويدعون لهذا الاجتماع، ولذا إذا دعاهم الإمام تعين عليهم الاجتماع، ويقرر أهل العلم أن ولي الأمر إذا دعا الناس للمشورة لزمهم الحضور، وهل يدخل في هذا المجالس الرسمية مثلًا تدعى لحضور جلسة خارج الدوام، تُدعى لحضور المجلس...

المقدم: والٍ، حاكم، رئيس..

نعم وحتى مجلس كلية، مجلس قسم، مجلس كذا، يأتيك خطاب من عميد الكلية تحضر المجلس، من رئيس القسم تحضر الجلسة، هل يلزمك أو لا يلزمك إذا كان خارج الدوام، دعاك بعد أن انتهى الدوام، هل يلزم أو لا يلزم؟

إذا جرت العادة بأن مثل هذا الاجتماع له بدل، إذا جرت العادة في غير هذا المرفق من المرافق لا يلزم إلا في البدل؛ لأنك تعاقدت على وقت معين، وهو الدوام الرسمي، وإذا كان هذا من تتمات العمل الذي تعاقدت من أجله وفي ذهنك هذا الأمر وأنت مقدمٌ عليه، تعرف أنك توظفت في هذا العمل، وفيه جلسات، وتعرف أن هذه الجلسات بدون مقابل يلزمك، فكأنه شُرط عليك ما دام أقدمت وأنت تعرف.

الموضع الثاني: في كتاب المغازي في باب حجة الوداع «قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع لجرير: استنصت الناس...»  فذكره والمناسبة للباب ظاهرة، يعني لأن باب في حجة الوداع وقال في حجة الوداع في الحديث فالمناسبة مطابقة.

المقدم: لكن إدخال الحج في المغازي سبق.

نعم، حيث ذكرت حجة الوداع في الخبر، ومناسبة حجة الوداع لكتاب المغازي ذكرنا مرارًا أن المتقدمين يعنون بذكر ما يتعلق في أسفاره -عليه الصلاة والسلام- التي هي من متطلبات الغزو، متطلبات الغزو السفر والحج يقتضي السفر، وأيضًا الحج نوع من الجهاد، ولذا لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن جهاد النساء قال:  «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»، فهو جهاد من هذه الحيثية.

الثالث: في كتاب الديات في باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق، فكم أن أحيا الناس جميعًا، من حرم قتلها-هذا تابع للترجمة- من حرم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعًا، قال -رحمه الله-: حدثنا محمد بن بشارٍ قال: حدثنا غندر- محمد ابن بشار لقبه بندار.

 

وغندر اسمه محمد بن جعفر- حدثنا محمد بن بشارٍ قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع «استنصت الناس...» فذكره، والمناسبة في تعظيم قتل النفس المعصومة في الحديث، الحديث فيه تعظيم قتل النفس المعصومة، يترتب على ذلك عدم قتلها؛ يريد المناسبة لقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}  تعظيم قتل النفس المعصومة في الحديث يؤدي إلى عدم قتلها، وهو إحياؤها المذكور في الترجمة، فمن لم يقتل أحدًا..

المقدم: كأنما أحيا.

 فقد أحيا الناس جميعًا؛ لسلامتهم منه، يعني سلموا منه فحيوا، والقتل أيضًا موجب للدية، فأدخل هذا الحديث في باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}، وهذه الترجمة ضمن كتاب الديات.

والموضع الرابع: في كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، القتل من أعظم الفتن، وإن كانت الفتنة عن الدين ورد الناس عن دينهم أشد من القتل، لكن الفتن المحسوسة التي تؤدي بالناس إلى الارتداد عن أديانهم -نسأل الله السلامة والعافية- خوف القتل، في كتاب الفتن في باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده جرير قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع  فذكره، والمناسبة ظاهرة؛ لأن الترجمة بلفظ الحديث، باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» بالمطابقة.

المقدم: وهو فتنة.

 ومناسبة القتل لكتاب الفتن ظاهرة.

وهذا الحديث رواه مسلم من حديث جرير، فهو متفق عليه، وفي الباب عن عبد الله بن عباس، اللفظ رواه الترمذي.

المقدم: في باب مسلم أم في البخاري.

أين؟ لا

المقدم: في باب آخر.

انتهينا من حديث جرير، نورد شواهد له على غير العادة، لكن هذا الحديث في غاية الأهمية، وشواهده وطرقه تدل على أنه متواتر قطعي، في الباب عن عبد الله بن عباس رواه الترمذي، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- رواه أبو داود والنسائي، ورواه أيضًا البخاري في الفتن، ومسلم فهو متفق عليه، ومن حديث ابن مسعود رواه عنه ذكره أو أخرجه عنه النسائي أيضًا.

المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ، الحديث عن القتال ربما يظهر للناس جرم هذا الأمر عندما يحصل مقتلة بين مسلمين ويتقاتلون، كأن الناس يستعظمون هذا، لكن البعض مع كل أسف يستسهل مسألة أن يقتل مسلمًا إما لغياب كثير من النصوص المحذرة لهذا الفعل الشنيع العظيم، أو لأن بعض المجتمعات مع كل أسف أصبحت تهون من هذا الأمر، فإذا قتل فزعوا لفكاك رقبته أو دفع الدية عنه، فاستسهل بعض الناس هذا الأمر مع أنه يدخل في هذه الخطورة، ولا شك أن من أعظم الكبائر وأشدها أن يقتل المسلم أخاه المسلم.

هو الغالب أن ذلك إنما يحدث بسبب الغضب الذي هو وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن استوصاه قال له: لا ، ولذا عجب الإنسان حين يقال: إن فلانًا قتل فلانًا؛ بسبب مبلغ يسير زهيد من المال، أو لمجرد مشادة كلامية، ويستسهلون هذا، نسأل الله السلامة والعافية، لكنه الغضب، ولذا كرره النبي -عليه الصلاة والسلام- مرارًا: لا تغضب، لا تغضب.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم.

 أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام زين الدين أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي، المتوفى سنة ثلاثة وتسعين وثمانمائة -رحمه الله رحمة واسعة- بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، ونأخذ حديثًا آخر بإذن الله مع مطلع الحلقة القادمة، وأنتم على خير.. شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.