مقدمة إرشاد الساري (02)

صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين..

قال المؤلف –رحمه الله تعالى-: "وأما اقتصاره -أي البخاري- على بعض المتن من غير أن يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفًا على الصحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ويحذف الباقي؛ لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه، كما وقع له في حديث هذيل بن شرحبيل عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون"، هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف أوّله: "جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني أعتقت عبدًا لي سائبة، فمات وترك مالاً ولم يدع وارثًا، فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، فأنت وليّ نعمته، فلك ميراثه، فإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله منك، ونجعله في بيت المال".

فاقتصر البخاري على ما يعطى حكم الرفع من هذا الموقوف، وهو قوله: إن أهل الإسلام لا يسيبون".

 وهو قوله: إن أهل الإسلام أنهم لا يسيبون.

الطالب: "وهو قوله: إن أهل الإسلام لا يسيبون؛ لأنه يستدعي بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك الحكم، واختصر الباقي؛ لأنه ليس من موضوع كتابه، وهذا من أخفى المواضع التي وقعت له من هذا الجنس. فقد اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة حتى لو لم يظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد ولا من جهة المتن، لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة لحكم الذي تشتمل عليه الترجمة الثانية".

 يعيده لأجل كثرة ما يستنبط منه، فيعيده في الموضع الآخر؛ لأنه يستنبط منه فائدة أخرى نعم، وإذا أعاده في الباب نفسه فإنه لما فيه من الاختلاف إما في المتن وإما في السند وإما في الصيغ صيغ الأداء.

الطالب: "فكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم الذي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجبًا؛ لئلا يعدّ تكرارًا بلا فائدة. كيف وهو لا يخليه مع ذلك من فائدة إسنادية، وهي إخراجه للإسناد عن شيخ غير الشيخ الماضي أو غير ذلك؟

 وأما إيراده للأحاديث المعلقة مرفوعة وموقوفة، فيوردها تارة مجزومًا بها كقال وفعل، فلها حكم الصحيح، وغير مجزوم بها كيُروى ويذكر".

 لها حكم الصحيح؛ لأن الإمام البخاري –رحمه الله- ضمن في حالة الجزم من حذف، وهو صحيح إلى من أبرز، ويبقى النظر فيمن أُبرز من الرواة؛ فمنهم من يستحق بشرطه وهم كثير، ومنهم من يقصر دونه وهو صحيح إلى غيره كمسلم مثلاً، ومنهم من هو صحيح على شرط غيره، ومنهم ما هو حسن.

الطالب: "وغير مجزوم بها كيروى ويذكر. فالمرفوع تارة يوجد في موضع آخر منه موصولاً وتارة معلقًا، فالأوّل وهو الموصول إنما يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث؛ إذ إنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام..".

علق

طالب: "واحتاج إلى تكريره يتصرف في الإسناد بالاختصار خوف التطويل، والثاني وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإما أن يذكره بصيغة الجزم فيستفاد منه الصحة".

ذكر مئة وستين حديثًا من ألف وثلاث مئة وأربعين أو واحد وأربعين كلها موصولة في الصحيح إلا مئة وستين أو مئة وتسع وخمسين، هذه أحاديث لم توصل بالصحيح، وهي محل بحث.

طالب: "فيستفاد منه الصحة عن المضاف إلى من علق عنه وجوبًا، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلحق بشرطه، ومنه ما لا يلحق، فأما الأوّل فالسبب في كونه لم يوصل إسناده لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراده مستوفيًا ولم يهمله، بل أورده معلقًا اختصارًا، أو لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه، أو سمعه مذاكرة فلم يسقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدّثنا عوف حدّثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "وكّلني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزكاة رمضان" الحديث بطوله.

 وأورده في مواضع أُخَر منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه. وقد استعمل البخاري هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة: قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم، ويأتي لذلك أمثلة كثيرة في مواضعها."

 لا يلزم من إيراد الحديث بصيغة قال، إذا رواه عن شيخه الذي سمع منه وحدث عنه بأحاديث وروى عنه حديثًا بصيغة قال، لا يلزم أنه يكون لم يسمع منه، منهم من يقول: إن صيغة قال تستعمل في حال المذاكرة إذا سمع في حال المذاكرة أو في حال التحديث، لكن غاية ما في قال أنه نقل عن يحكم لها بالاتصال لا بالانقطاع بالشرطين المعروفين عند أهل العلم أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأن لا يوصف بالتدليس.

الطالب: "فقال في التاريخ: قال إبراهيم بن موسى: حدّثنا هشام بن يوسف، فذكر حديثًا، ثم قال: حدّثوني بهذا عن إبراهيم. ولكن ليس ذلك مطّردًا في كل ما أورده بهذه الصيغة. لكن مع هذا الاحتمال لا يجمل حمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلسًا عنهم. فقد صرّح الخطيب وغيره بأن لفظ قال: لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع، فاقتضى ذلك أن من لم يُعرف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال.

وأما ما لا يلتحق بشرطه، فقد يكون صحيحًا على شرط غيره، كقوله في الطهارة. وقالت عائشة: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر الله على كل أحيانه، فإنه حديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه في صحيحه".

 مخرج في صحيح مسلم.

الطالب: "وقد يكون حسنًا صالحًا للحجة كقوله فيها: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه: الله أحق أن يستحيا منه من الناس".

 هذه سلسلة بهز بن حكيم عن أبيه من قبيل الحسن بعد الأقوال كعمرو بن شعيب عن أبيه.

طالب: "فإنه حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن. وقد يكون ضعيفًا لا من جهة قدح في رجاله".

 لانقطاع يسير في إسناده، لانقطاع في إسناده، لا من جهة قدح في رجاله.

الطالب: "بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، كقوله في كتاب الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيسِ في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فإن إسناده إلى طاوس صحيح إلا أن طاوسًا.."

 لكن طاووس لم يسمع.

الطالب: "إلا أن طاوسًا لم يسمع من معاذ. وأما ما يذكره بصيغة التمريض فلا يستفاد منه الصحة عن المضاف إليه".

 ولا الضعف أيضًا؛ لأنه علق بصيغة التمريض ما وصله في الصحيح.

الطالب: "لكن فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح، فالأوّل لم يوجد فيه ما هو على شرطه إلا في مواضع يسيرة جدًّا، ولا يذكرها إلاّ حيث يذكر ذلك الحديث المعلق بالمعنى، ولم يجزم بذلك، كقوله في الطب:  ويذكر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرقى بفاتحة الكتاب، فإنه أسنده في موضع آخر من طريق عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، أن نفرًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّوا بحي فيه لديغ، فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب.

وفيه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أخبروه بذلك: «أن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله». فهذا لما أورده بالمعنى لم يجزم به إذ.."

 بل علقه بصيغة التمريض، أما الضعيف الذي يعلقه بصيغة التمريض وضعفه بين فإنه ينص عليه، يصرح بضعفه، يُذكر عن أبي هريرة: لا يتطوع الإمام في مكانه، ولم يصح.

الطالب: فهذا لما أورده بالمعنى لم يجزم به؛ إذ ليس في الموصول أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عن فعله، فاستفيد ذلك من تقريره. وأما ما لم يورده في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة، فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه كقوله في الصلاة: ويذكر عن عبد الله بن السائب قال: قرأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع، وهو حديث صحيح على شرط مسلم أخرجه في صحيحه. ومنه ما هو حسن كقوله في البيوع: ويذكر عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إذا بعت فاكتل».

وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن المغيرة، وهو صدوق، عن منقذ مولى عثمان وقد وثق عن عثمان وتابعه عليه سعيد بن المسيب.  ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع، فالحديث حسن لما عضده من ذلك.

ومنه ما هو ضعيف فرد، إلا أن العمل على موافقته كقوله في الوصايا عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قضى بالدين قبل الوصية، وقد رواه الترمذيّ موصولاً من حديث أبي إسحق السبيعي عن الحرث الأعور عن عليّ، والحارث ضعيف".

وهو ضعيف ضعيف جدًّا شديد الضعف.

الطالب: شديد الضعف؟

 نعم بل كذب.

الطالب: "وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل المدينة على القول به. ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له، وهو في البخاري قليل جدًّا، حيث يقع ذلك".

 يصرح يصرح بضعفه.

الطالب: "وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف بخلاف ما قبله. ومن أمثلته قوله في كتاب الصلاة: ويذكر عن أبي هريرة رَفْعه".

 رَفَعَه، يعني رفعه إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- .

الطالب: "ويذكر عن أبي هريرة رَفَعَه: «لا يتطوّع الإمام في مكانه». ولم يصح وهو حديث أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سُلَيْم عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة، وليث بن أبي سليم ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف، وقد اختُلف عليه فيه، فهذا حكم جميع ما في البخاري من التعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتمريض.

وأما الموقوفات فإنه يُجزم فيها".

 يكفي يكفي.

 طويل نقف عنده، قف عليه.