شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (056)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية حلقتنا هذه نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زال الحديث حول حديث "أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»."

أسلفنا في الحلقة الماضية معكم -أحسن الله إليكم- الحديث عن بعض ألفاظ الحديث، بقي مسائل عديدة في هذا الحديث نستكملها مع الإخوة المستمعين الكرام.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكرنا في الحلقة السابقة استشكال الكرماني وجوابه حيث يقول: فإن قلت: قالوا في قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} اختيار باب الافتعال، يعني العدول من الكسب إلى الاكتساب، اختيار باب الافتعال للإشعار بأنه لا بد في الشر من الاعتمال والمعالجة بخلاف الخير، فإنه بالنية المجردة فيثاب عليه، فما وجه كون المقتول بمجرد القصد في النار؟  قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا» وفي الحديث الآخر: «إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه» قلت -القائل الكرماني-: من عزم على المعصية بقلبه، ووطَّن نفسه عليها أَثِمَ في اعتقاده وعزمه؛ ولهذا جاء بلفظ الحرص فيما نحن فيه، ويحمل ما وقع في هذه الظواهر، يعني من حديث «إن الله تجاوز» و «إذا هم عبدي بسيئة»، ويحمل ما وقع في هذه الظواهر وأمثالها على أن ذلك فيما لم يوطن نفسه عليه، وإنما مر ذلك في فكره بغير استقرار، ويسمى هذا هم، ويفرق حينئذٍ بين الهم والعزم، وأن هذا العزم يكتب سيئة، فإذا عملها كتبت معصية ثانية. فإن قلت: فلم أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة في سلك القتل وهو كبيرة؟ قلت: إدخالهما في سلك واحد في مجرد كونهما في النار فقط، وإن تفاوتا صغرًا وكبرًا وغير ذلك، كما يقال: المشرك في النار، والزاني أيضًا متوعد بدخول النار، والمرابي متوعد بدخول النار، والسارق كذلك، كل العصاة جاء الوعيد بدخولهم النار، وإن تفاوتت هذه المعاصي.

يقول ابن حجر: الحاصل أن المراتب ثلاث: الهم المجرد، وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم، ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم وهو أقوى من الهم وفيه النزاع.

وقال أيضًا: احتج به الباقلاني، ومن تبعه على أن من عزم على المعصية يأثم ولو لم يفعلها، وأجاب من خالفه بأن هذا شرع في الفعل والاختلاف فيمن هم مجردًا، ثم صمم ولم يفعل شيئًا هل يأثم؟

أقول: أشاروا إلى شيء من مراتب القصد، لكن مراتب القصد عند أهل العلم خمس: الهاجس، والخاطر، وحديث النفس، والهم، والعزم.

الأول: الهاجس، والثاني: الخاطر، والثالث: حديث النفس، وهذه كلها في حيِّز التجاوز، والهم كذلك عند عامة أهل العلم، والعزم فيه الخلاف القوي عندهم، يجمعها قول بعضهم:

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا
يليه هم فعزم كلها رفعت

 

فخاطر فحديث النفس فاستمعا
إلا الأخير..........................

 

يعني العزم.

...................................

 

 

إلا الأخير ففيه الإثم قد وقعا

 

والذي معنا من العزم.

نعم حريص عازم بدون تردد، بل هو عازم ومقرون أيضًا، وهذا العزم مقرون بالفعل والسعي إلى القتل، فترتيب الإثم والتوعد على هذا الحرص والعزم المقرون بالفعل لهذا لا لمجرد كونه حديث نفس متجاوز عنه.

السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، ذكرتم الهم، حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «من هم بحسنة» وفيه: «من هم بسيئة» فهو يؤاخذ يؤجر ويؤاخذ لمجرد الهم، وذكرتم أن الأكثر على أنه لا يؤاخذ.

أما بالنسبة للأجر فلا خلاف فيه، وهذا فضل الله -عز وجل- على عباده، أما المؤاخذة فمتى يؤاخذ على الهم بالمعصية؟ إذا عملها، إذا عمل المعصية كتبت عليه سيئة، إن تركها، إذا هم بها وتركها يؤاخذ وإلا ما يؤاخذ؟ لا يؤاخذ عليها حتى يعملها، نعم إذا عمل المقدمات المحصِّلة لهذه المعصية ولم يتركها من جراء الله -عز وجل- ومن أجله يؤاخَذ على هذه الأعمال التي يسعى بواسطتها إلى هذه المعصية.

المقدم: مثل هذا في حمله السلاح ومقاتلته لصاحبه هذا الواضح فيه أخذ المقدمات.

نعم، كله يؤاخذ عليه، وهو حريص أيضًا عازم عزمًا أكيدًا على قتل صاحبه، لكن لم يتيسر له ذلك، بودر بالقتل قبل أن يَقتُل.

المقدم: لكن مثل هذه القضية الحديث الآخر لا يدخلها أبدًا بتاتًا مثل حديث: «يعجب ربك من رجلين يقتتلان فيدخلان الجنة» لاختلاف الدين بينهما كان هذا مشرك وهذا مسلم، ثم تاب فهذه لا يدخلها؟

ثم تاب هذا وأسلم لا يدخلها أصلاً، لا، على العكس تمامًا.

من المناسب هنا تفسير آية النساء في قتل العمد، حيث يقول -جل وعلا-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء 93] ظاهر الآية أن القاتل المتعمِّد مخلَّد في النار، والظاهر من لفظ الخلود أنه كخلود الكفار.

أقول: من المناسب التعرض لتفسير هذه الآية.

يقول الحافظ ابن كثير: هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [سورة الفرقان 68] وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [سورة الأنعام 151] إلى أن قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام 151].

والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا، من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أول ما يُقضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء» ومن ذلك ما رواه أبو داود بإسناده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال المؤمن مُعْنِقًا صالحًا ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا» وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» وقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أنه لا توبة للقاتل عمدًا لمؤمن، الذي يقتل المؤمن يرى ابن عباس أنه لا توبة له، والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه -عز وجل-، فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحًا بدَّل الله سيئاته حسنات، وعوَّض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن طلابته.

يقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة الفرقان 68-70] وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج إلى دليل، والله أعلم.

وقال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر 53] وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذنب تاب الله عليه، يعني إذا توافرت شروط التوبة.

وقال جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة، بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء، والله أعلم.

وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالمًا: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يَعبُد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة، كما ذكرناه غير مرة -يقول الحافظ ابن كثير- إذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم، وبُعِث نبينا -عليه الصلاة والسلام- بالحنيفية السمحة.

فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء 93] فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه... إلى آخر كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-.

وهذا الحديث خرجه المصنِّف -رحمه الله- في ثلاثة مواضع.

الأول: هنا في كتاب الإيمان، وسبق بيان الترجمة والمناسبة.

قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول...، وعرفنا المناسبة فيما تقدم، ويقول الإمام البخاري هنا: حدثنا أيوب ويونس، روى الحديث من طريق اثنين، واللفظ كما تقرر بالاستقراء، اللفظ لمَن؟ للأخير منهما؛ لمَن؟ ليونس، وهو على القاعدة اللفظ ليونس، لأننا عرفنا فيما تقدم أنه خرج عن هذه القاعدة بعض الأحاديث.

الثاني: في كتاب الديات، في باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [سورة المائدة 32] قال ابن عباس: "من حرَّم قتلها إلا بحق" {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة 32] فرواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بإسناده ومتنه سواء.

{وَمَنْ أَحْيَاهَا} [سورة المائدة 32] مناسبة القتل لكتاب الديات ظاهرة، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [سورة المائدة 32] يعني {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة 32] وقبل ذلك؟

المقدم: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} [سورة المائدة: 32].

نعم {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة: 32] مَن حرَّم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعًا، من حرَّم قتلها يعني من منع وحال دون قتل هذه النفس المعصومة التي لم تستحق القتل فقد صار سببًا في إحيائها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة 32].

الموضع الثالث في كتاب الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، قال الإمام البخاري -رحمه الله- تعالى: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد عن رجل لم يسمه عن الحسن قال: "خرجت بسلاحي ليالي الفتنة فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار» والرجل الذي لم يُسمَّ في السند هو عمرو بن عبيد، شيخ المعتزلة كما جزم به المزي، ولعله أُبهِم من أجل ذلك، لكونه غير مرضي المذهب، غير مرضي المعتقد، وأيضًا ما يرويه هنا يؤيد بدعته، لكن جوابه عند أهل العلم معروف، عمرو بن عبيد من المعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار، ولذا أبهم في السند، وقد سُمِّي من يغني عنه، سُمِّي في مواضع أُخَر من يغني عنه، فالحديث لسنا بحاجة إلى روايته من طريقه إلا على سبيل الاستشهاد، ولا مانع من الرواية عن المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولم يروِ ما يؤيد بدعته، هذا في الأصول، أما بالنسبة للشواهد والمتابعات فيحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول، وهذا منها، وجوز مغلطاي وغيره أن يكون هشام بن حسان، لكن قال ابن حجر: وفيه بُعْد، يعني مبهَم.

والمناسبة في قوله: «إذا تواجه المسلمان» وهو بمعنى إذا التقى، إذا تواجه والتقى بمعنىً واحد.

والحديث خرَّجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في الفتن وأشراط الساعة، وأبو داود أيضًا في الفتن والنسائي كذلك، والله أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم يَرِد على هذا الحديث الحقيقة وخصوصًا في هذه الفترة التي نعيشها -مع الأسف الشديد- انتشار عدد من الأشرطة والكتابات الصحفية، بعضهم تطاول على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال الكتابات الصحفية، ربما قرأنا هذه الأيام من كتب عن عدم عدالة الصحابة، وما وقع بينهم من شجار وخلاف حتى تطاول هذا الكاتب وأمثاله على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، موقف المسلم تجاه هذا الموضوع -أحسن الله إليكم-؟

المذهب المقرر عند أهل الحق عند أهل السنة والجماعة أن الصحابة -رضوان الله عليهم- خير القرون، وأفضل الأمة بعد نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وأنهم خير الأمم، إذا كانت هذه الأمة خير الأمم وهم خير هذه الأمة إذًا هم خير ناس بلا إشكال ولا نزاع، وأنه لن يأتي بعدهم ممن يقارب منزلتهم أو يدانيها على ما جاءت بذلك النصوص الشرعية.

ومن وقع فيهم فهو على خطر عظيم مِن أن يزيغ فيهلك، يزيد على ذلك إن تطاول على كبارهم وجلتهم فكفَّر -نسأل الله العافية-، وهؤلاء هم الذين بواسطتهم وصلنا الدين، فهو على خطر عظيم من الكفر، وقد أفتى به جمع من أهل العلم أن من كفر الصحابة أو كفر من جاء مدحه في الكتاب والسنة فهو كافر، وقد أفتى بذلك جمع من أهل العلم، والسبب ظاهر أنهم بواسطتهم وصلنا الدين، فإذا لم نعتقد عدالتهم فكيف نثق بالدين الذي وصلنا من طريقهم؟

أما ما شجر بينهم فالأصل أن مثل هذه الأمور يجب الكف عنها، وعدم التعرض لها، لكن لما صارت تلوكها الألسنة، وألقيت على مستوى عامة الناس فضلاً عن خاصتهم، لا بد من التعرض لها، والإجابة عنها، وعرفنا أنه حصل بينهم من الشجار والقتال والنزاع بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- ما حصل، مقتل عثمان -رضي الله عنه- من الفئة الضالة الباغية الطاغية ما حصل بين علي -رضي الله عنه-، ومعاوية -رضي الله عن الجميع-، وأن مِن الصحابة مَن اعتزل الفريقين، ومنهم من نصر عليًّا، ومنهم من نصر معاوية، لكن الأكثر هم الذين نصروا علي -رضي الله عنه-، وهم الطائفة المُحِقَّة عند أهل السنة والجماعة، وأولئك وإن كانوا ليسوا هم المُحِقِّيْن لكنهم معذورون باجتهادهم، ونبهنا على ذلك في الحلقة السابقة.

السائل: أحسن الله إليكم إذا التقى المسلمان بسيفيهما ثم لم يَقتُل كل واحد منهما الآخر، أو لم يقتل أي واحد منهما الآخر لعدم استطاعة كل واحد منهما قتل صاحبه، فهل يتحقق فيهما هذا الوعيد؟

الحكم يختلف باختلاف ما وقر في قلب هذا الذي يريد قتل صاحبه، إن كان مجرد هاجس عرض له وزال، أو خاطر بمعنى أنه يتردد في ذهنه، أو حديث نفس مجرد حديث نفس فهذا كله معفو عنه، ما لم يتكلم به، فيقول يشيع بين الناس أنه يريد أن يقتل فلانًا، أو يعمل يسعى ويحرص على ذلك فينتقل من مرتبة حديث النفس إلى مرتبة العزم الذي تقع فيه المؤاخذة، وهو الحرص على القتل، فإن كان الصارف له الخوف من الله -عز وجل- أن هذا لا شك أنه يثاب على هذا على هذا الانصراف؛ لأنه تركه من جراء الله -عز وجل- وبسبب الخوف والخشية منه، وإن كان سببه أنه لم يستطع ذلك فهو مؤاخَذ بهذا العزم، ومعاقَب به، لكنه دون من قَتَل بالفعل، والله المستعان.

السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ ذكرتم في تفسير آية النساء أن المراد بعقاب من قَتَل مؤمنًا متعمدًا ليس هو على ظاهر الآية، وهو أنه خالد في النار كخلود الكفار، وإنما كما ذكرتم عن ابن كثير: أن المراد به التهديد الشديد، فما الصارف -أحسن الله إليكم- من كون المقصود به التخليد في النار كخلود الكفار؟ وهل يسوغ لأحد أن يقول عن خلود الكفار في النار مثل هذا؟ أن ليس هذا هو المراد وإنما المراد الوعيد الشديد أو التهديد الشديد؟

الصارف بالنسبة للقاتل هو ما جاء في النصوص الأخرى {إِلا مَن تَابَ} [سورة الفرقان 70] نص عليه {إِلا مَن تَابَ} الأمر الثاني: مثل قوله -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] فدل على أن هناك فرقًا بين الشرك وما دونه من المعاصي، فالشرك لا يُغفَر، المشركون مخلدون، خالدون مخلدون في النار، بينما من اقترف من الجرائم والكبائر -وإن عظمت- ما دون الشرك فإن المذهب الحق عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد، لا يخلد في النار، والصوارف الأدلة التي ذكرناها.

السائل: يعني لا يكون النظر لهذا النص بمجرده؟

لا ينظر إلى النص بمجرده، بل لا بد من أن ينظر إلى النصوص متكاملة، والنظر إلى بعض النصوص دون بعض هو سبب انحراف المنحرفين، الخوارج والمعتزلة نظروا إلى نصوص الوعيد، وغفلوا عن نصوص الوعد.

السائل: نظروا لها مجردة.

مجردة، والمرجئة ومن قال بأن هذه المعاصي لا تضر مع الإيمان نظروا إلى أحاديث الوعد أو نصوص الوعد، وغفلوا وتعاموا عن نصوص الوعيد، والله المستعان، وأما أهل السنة فنظروا إلى الطرفين، ووفقوا بين النصوص، فوفقهم الله إلى القول الحق الوسط المعتدل.

السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ في مسألة الهم بالسيئة تقدمت الإشارة إلى حديث ابن عباس «من هم بحسنة» «ومن هم بسيئة» يَرِد أيضًا الإشكال فيما يتعلق بحديث أبي كبشة -رضي الله عنه-: «إنما الدنيا لأربعة نفر» وذكر الرابع منهم، قال: «ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل» قال: «فهو... نيته ووزرهما سواء».

مؤاخذة هذا الصنف الرابع لأنه قال: لو أن لي كذا، والمؤاخذة مُرَتَّبة على القول أو الفعل «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم» وهذا تكلم، إذًا هو مؤاخذ بسبب كلامه، لا بسبب نيته المجردة فقط، إنما سببه ونيته المقرونة بالكلام.

المقدم: أحسن الله إليكم في زيادة البزار التي أشرتم إليها في لفظ: «إذا اقتتلتم على الدنيا» هل معنى ذلك أن أهل العلم حملوا معنى هذا الحديث على هذا اللفظ وهذه الزيادة، أم أن هناك أمور أخرى حمل عليها المعنى غير هذه الزيادة أو لم تصح مثلاً؟

لا شك أن الاقتتال الذي سببه الدِّين لا بد أن يكون مقرونًا بتأويل، أما الاقتتال على الدنيا ليس معه تأويل، سببه ظاهر؛ لأنه إما أن يكون الاقتتال بسبب الدنيا، أو بسبب الدين، ولا ثالث لهما، هل هناك ثالث؟ ما هناك ثالث، فالاقتتال على الدنيا لا شك أنه يتناوله ويدخل في هذه النصوص دخولاً أوليًا، أما الاقتتال على الدين فإنه في الغالب لا بد أن يكون مقرونًا بتأويل، كيف ينصر الدين وليس له تأويل؟ إن ادَّعى أنه ينصر الدين وليس لديه تأويل سائغ فهو كذاب، هو ينصر حظ نفسه ولا ينصر الدين إذا لم يكن له تأويل سائغ، كيف يخالف ما جاء من النصوص مخالفة صريحة من غير تأويل وهو يزعم نصر الدين؟ هذا أفَّاك، والله المستعان.

 المقدم: لكن معنى ذلك أن أبا بكرة -رضي الله عنه- يؤوِّل هذا القتال بين الصحابة على أنه قتال من أجل الدنيا، ما دام استدل بهذا الحديث للأحنف؟

نعم، هذا اجتهاده، هذا اجتهاد أبي بكرة، وأنهم اقتتلوا من أجل الخلافة، والخلافة من أمور الدنيا، لكن الخلافة وغيرها من الولايات إذا دخلها الإنسان بنية صالحة، وقصده الإصلاح صارت من أمور الدين، وأبو بكرة نظر إليها من حيث الظاهر، وأن الولايات من حظوظ الدنيا، والله المستعان، لكنها في الحقيقة منصب شرعي ديني، منصب ديني شرعي، لمن تولاها بنية خالصة صالحة وقصده بذلك نصر الدين وإعزاز أهله، والله المستعان.

المقدم: نعم يا أخي تفضل.

السائل: حفظكم الله فضيلة الشيخ ذكرتم قبل قليل أن المراتب الأربع السابقة أن الشخص لا يؤاخذ عليها، فلربما يستمع إلى ذلك مستمع فيترك لنفسه العنان فيبدأ يفكر في الأمور المحرمة من باب الخواطر والهواجس، فهل معنى هذا أن هذا الأمر جائز؟

مثل هذه الأمور ينبغي طردها مباشرة إذا خطرت على النفس، أو هجس به هاجس عليه معالجة هذا الهاجس، وطرد هذا الخاطر، ومعالجة النفس عن هذا الحديث كله، ثم بعد ذلك إذا تعدَّى الأمر وهَمَّ بالعمل، بعمل سيئة فتعين عليه مجاهدة نفسه في هذا الباب، ثم بعد ذلك إن زاد به الأمر وعزم على فعل المعصية يؤاخذ عليها فيأثم، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

إذًا مستمعي الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: هذا شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. في ختام حلقتنا نتوجه بالشكر الجزيل بعد شكر الله -سبحانه وتعالى- إلى ضيف هذه الحلقة فضيلة الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. شكرًا له، شكرًا لكم، شكرًا للإخوة الحضور معنا الذين ساهموا معنا في طرح أسئلة هذه الحلقة.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.