تعليق على تفسير سورة المائدة من أضواء البيان (13)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

قال الإمام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله-: "ومعنى قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وروي عن ابن عباسٍ أنه قال: معناها أن من قتل نبيًّا أو إمام عدلٍ، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياه، بأن شد عضده ونصره، فكأنما أحيا الناس جميعًا، نقله القرطبي، وابن جريرٍ وغيرهما".

لأن أتباع النبي في حُكمه وحياتهم بحياته، والإمام العادل تحيا به البلدة، ويحيا به من يتبعه ممن هو مُولًّى عليهم، فإذا قُتل هذا العادل، فكأنه قُتل العدل الذي به تحيا هذه الأمة، إذا قُتل النبي كأنه قُتلت النبوة التي يعتنقها أتباعه، ولكن هذا بعيد الفهم بعيد عن ظاهر الآية، ولكن هذا توجيهها.

"نقله القرطبي، وابن جريرٍ وغيرهما، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.

وعن ابن عباسٍ أيضًا أنه قال: المعنى، أن من انتهك حرمة نفسٍ واحدةٍ بقتلها، فهو كمن قتل الناس جميعًا؛ لأن انتهاك حرمة الأنفس، سواءٌ في الحرمة والإثم، ومن ترك قتل نفسٍ واحدةٍ واستحياها خوفًا من الله، فهو كمن أحيا الناس جميعًا؛ لاستواء الأنفس في ذلك.

وعن ابن عباس: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] أي: عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحدٍ بعد موته هو، ومن أحياها واستنقذها من هلكة، فكأنما أحيا الناس جميعًا عند المستنقذ".

يُقال مثل هذا في غير المسلم الذي يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، أصحاب الأثرة والأنانية وغير المسلمين لا تهمهم إلا أنفسهم، فإذا قُتل هذا فود أو تساوى عنده أن يحيا الناس أو يموتوا، مثل هذا لا يليق بالمسلم الملتزم بأحكام شرعه الذي يُحب لأخيه ما يُحبه لنفسه.

بعض الناس إذا أُصيب بمرض وقد سُمِع هذا، سُمِع من يدعو الله –جلَّ وعلا-أن يبتلي الناس جميعًا بمثل هذا المرض –نسأل الله العافية-، أمثال هؤلاء ينطبق عليه مثل هذا الكلام، لكن المسلم المتدين بما أوجب الله عليه، وبما أمره به ونهاه عنه لا ينطبق عليه مثل هذا الكلام، وأصحاب الإيثار الذين يؤثرون على أنفسهم واقعهم عكس ما نُقل في هذا القول.   

"وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه، ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، ولو قتل الناس جميعًا لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه، واختار هذا القول ابن جرير".

من قتل مؤمنًا متعمدًا واستحق الوعيد في آية النساء، يعني هل يستوي في حقه أن يقتل ثانيًا وثالثًا أو أن الأمر أعظم وأشد عليه؟ بلا شك أعظم وأشد.

اختيار ابن جرير لهذا القول "المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه، ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا" افترض أنه فعل واستحق هذا العقاب وأُدخِل جهنم، وحصل عليه الغضب واللعن، وأُعد له العذاب العظيم، يعني هل إذا قتل ثانيًا وثالثًا سيزداد عذابه عما ذُكِر أو إن ما ذُكِر يكفيه، ويُناسب جنايته لو قتل أكثر من واحد؟ مثل هذا عظيم وشنيع، ولا يُطاق، لكن لا شك أن من قتل أكثر من واحد؛ لأن العقوبة عظمها بقدر عِظم الذنب.

قلنا من أمثلة ذلك: الزنا هو زنا ومستحق للعقوبة المرتبة على الزنا، استحق الرجم إن كان محصنًا، لكن هل الزنا بحليلة الجار مثل الزنا بالبعيدة عنه؟ يختلف، هل الزنا بالمحارم مثل الزنا بغيرهن؟ يختلف.

لذلك فالعقوبة عِظمُها وخِفتها بحسب الأثر المترتب عليها.

طالب:.......

معناه أنهم استحلوا هذا اختيار كثير من أهل العلم.

"وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسًا يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعًا، قال: ومن أحياها، أي: عفا عمن وجب له قتله".

يعني إذا طُلب القصاص يلزمه القصاص، لكن من قتل نفسًا واحدة وعُفي عنه فهل يستوي مع من قتل أكثر من نفس؟ لأنه يقول ابن زيد "المعنى أن من قتل نفسًا يلزمه من القصاص" يعني: إزهاق الروح "ما يلزم من قتل الناس جميعًا" من قتل واحدًا وطُولِب بالقصاص يستوي مع من قتل عشرة وطُولِب بالقصاص، لكن من قتل نفسًا واحدة احتمال أن يُعفى عنه أكثر من الاحتمال فيمن قتل أنفسًا متعددة إن عفا هؤلاء لم يعفُ أولئك.

طالب:........

هو المسألة إذا طولِب بالقصاص إذا قتل واحدًا توافرت الشروط ونُفِّذ فيه فلا يختلف عمن قتل عشرة.

طالب:........

السرقة، قاطع طريق يُصلب بعد، لا هي المسألة فيمن قتل.

طالب:........

ماذا ؟

طالب:........

مَن هو زيد؟

طالب:........

هو زيد بن أسلم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. 

"وقال الحسن أيضًا: هو العفو بعد المقدرة، وقيل: المعنى أن من قتل نفسًا فالمؤمنون كلهم خصماؤه؛ لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها وجب على الكل شكره، وقيل: كان هذا مختصًّا ببني إسرائيل، وقيل: المعنى أن من استحل قتل واحد، فقد استحل الجميع؛ لأنه أنكر الشرع، ومن حرَّم دم مسلم، فكأنما حرَّم دماء الناس جميعًا، ذكر هذه الأقوال القرطبي، وابن كثير، وابن جريرٍ وغيرهم، واستظهر ابن كثيرٍ هذا القول الأخير، وعزاه لسعيد بن جبير.

وقال البخاري في صحيحه، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة:32]، قال ابن عباس: من حرَّم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعًا.

وقال القرطبي: إحياؤه عبارةٌ عن الترك، والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع، إنما هو لله تعالى، وهذا الإحياء، كقول نمرودٍ لعنه الله: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فسمى الترك إحياءً".

من استحق القصاص وفداه شخصٌ بماله، أقنع أولياء الدم بالمال، وأغراهم بالمال أن يعفو عن هذا الجاني، يصدق عليه أنه أحياها؟ نعم يصدق عليه أنها أحياها، لكن ليس كل من قتل وفُدي بالمال أو بالجاه يستحق هذا الفداء؛ لأن بعض القتلة لا يجوز فداؤهم، بل يتعين تطهير المجتمع منهم؛ ولذلك قال الإمام مالك فيمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، قال: هذا لا يدخل فيه أهل الجرائم والسوابق، أولئك الذين لهم سوابق ويُخشى وبالهم في المستقبل مثل هؤلاء العفو عنهم فيه ما فيه، وإن جاءت العمومات بالعفو ومدح العافين عن الناس.

طالب:........

طبيب جيء له بمريض لو لم يؤتَ به لغلب على الظن هلاكه، فبذل الأسباب وشخَّص المرض وصرف له العلاج المناسب لهذا المرض فسلِم، وكل شيءٍ بأمر الله -جلَّ وعلا- لا يستطيع طبيب ولا غيره أن يُحييه، ولكن صارت الحياة بسببه، والمُحيي هو الله تعالى.

طالب:........

في حال الإنقاذ من هلكة غريق رآه شخص، فألقى بنفسه في الماء وأنقذه، هذا أحياه أم ما أحياه؟ الثاني لو تُرك يغلب على الظن – ما هو بيده، بيد الله الأعمار- يغلب على الظن أنه يهلك فاجتهد طبيبٌ في علاجه حتى سلِم، الأمور كلها بيد الله –جلَّ وعلا-، لكن هذه أسباب يُرجى أن يكون له نصيب منها بعد الاعتماد على الله -جلَّ وعلا-.

طالب:........

ماذا؟

طالب:........

الآية فيها حث على السعي لإنقاذ من وقع في هلكة أو ما أشبه ذلك، لكن لا يلزم أن يكون المشبَّه مطابق للمُشبَّه به من كل وجه، لا يلزم أن يكون مطابقًا للمشبَّه به من كل وجه، يعني هناك وجه شبه؛ لذلك لما قال النمرود: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] طيب كيف تُحيي وتُميت؟ هذا يكون ثبت في حقه القتل فأعفو عنه، فأكون أحييته، والثاني أقتله، فأكون قد أمته.

على كل حال هذا فيه الحث على السعي في إنقاذ النفس المقبلة على هلكة ولم يُحرم الأجر، وإن كانت المطابقة بكل وجه غير لازمة ولا مُتعينة.

طالب:........

هو الأصل العموم مثل ما قيل فيما تقدم من القصاص {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] يعني هذا ما يشمل النفس بالنفس، نقول: هذا على بني إسرائيل؟

طالب:........

لا، هذه الأقوال هي تابعة للآية.

طالب:........

ماذا فيه؟

طالب:........

لا ما له وجه، التخصيص ما له وجه، حتى بقية النص ما يختص ببني إسرائيل، الحكم واحد {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] إلى آخر الآية، هذا ما يشملنا؟ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] هذا شامل لهم ولنا ولمن جاء إلى آخر الدهر، والذي تقرر في المسألة، لكن الواقع ما جاء في شرعنا يؤيد هذا وهو في الأصل مكتوب على بني إسرائيل.

"وكذلك قال ابن جرير، قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] الآية، اعلم أن هذه الآية اختُلف في سبب نزولها، فقيل: نزلت في قومٍ من المشركين، وقيل: نزلت في قومٍ من أهل الكتاب، وقيل: نزلت في الحرورية.

وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح، وغيرها".

يعني نزلت في قومٍ من المشركين، وأقرب الحوادث لهذه الآية ما جاء في بئر معونة حينما قتلوا القراء السبعين حاربوا الله ورسوله، هذا من المشركين.

ومن المسلمين –إن كانوا مسلمين- القوم من عُكل وعُرينة، العُرنيين.

"وقيل: نزلت في الحرورية" في الخوارج يعني وقت نزول الآية هل كان الخوارج موجودين؟

طالب: لا.

يقول: هل يدخل في هذه الآية {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] نشر العلم وحياة القلب؟ واحد من الشيوخ الكبار في الدرس جاءه أعرابي، وقال له: رأيت أني أذبح ولدي بالسكين في أكثر من رؤيا، فكان بجواره من المُحبين المستمعين -إلى وقتٍ قريب والعوام يحضرون الدروس، ويقربون من الشيوخ- بادر بتأويل هذه الرؤيا، والشيخ موجود ولا أذِن له ولا أمره بذلك، قال: أين تسكن؟ قال: في البادية، قال: هذا الولد أسكِنه الحاضرة وقربه من الشيوخ، واجعله يحضر الدروس لتُحييه بالعلم، سبق الشيخ، التفت إليه الشيخ وقال: جزاك الله خيرًا، وُفِّقت للصواب، وهذا هو الجواب أحييه بالعلم، أم ماذا يقولون؟ خُذ سكينًا واذبحه؟! من أفضل الأجوبة هذا.

ولا شك أن حياة القلوب أعظم من حياة الأبدان، وموت القلوب أشد من موت الأبدان؛ لأنه بحياة القلب ينال السعادة في الدنيا والآخرة، وبموته يفقدها في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قالوا: إن مسخ القلب أعظم من مسخ البدن.

وأورد ابن القيم –رحمه الله- قصة الرجلين يمضيان إلى المعصية، فيُمسخ أحدهما خنزيرًا، ويمضي الآخر إلى المعصية ما يقول: الحمد لله على السلامة ويرجع، يمضي إلى معصيته، الأول مُسخ بدنه إلى خنزير، والثاني قلبه ممسوخ، يعني لو عُرضت على أحد من آحاد الناس قال: هذا خنزير، ماذا يصير؟ نسأل الله العافية، هذا الذي مُسخ خنزيرًا، وذاك يمكن أن يتوب، يمنّ الله عليه، لكن في الحال قد يكون هذا الذي مُسِخ خنزيرًا عُوقب في الدنيا، وقد يسلم في الآخرة؛ لأنه ما زاول المعصية، لكن الثاني الذي نجا من المسخ واستمر في معصيته هذا لا شك أنه ممسوخ القلب.

طالب:........

الخوارج في وقت التنزيل هم موجودون؟

طالب:........

نعم، لكن هل هم موجودون؟ أصولهم موجودة «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا» لكن وجودهم في الواقع ما بعد وُجِدوا، فلا يصح أن تُنزَّل الآية عليهم.

"أنها نزلت في قومٍ من عُرينة وعُكل، الذين قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة، فأمر لهم -صلى الله عليه وسلم- بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا وسمنوا، قتلوا راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا اللقاح، فبلغه -صلى الله عليه وسلم- خبرهم، فأرسل في أثرهم سرية فجاؤوا بهم، فأمر بهم فقطِّعت أيديهم وأرجلهم، وسُملت أعينهم، وأُلقوا في الحرة يستسقون، فلا يُسقون حتى ماتوا.

وعلى هذا القول، فهي نازلةٌ في قوم سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها.

والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين، كما قاله جماعةٌ من الفقهاء بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] الآية، فإنها ليست في الكافرين قطعًا؛ لأن الكافر تُقبل توبته بعد القدرة عليه، كما تُقبل قبلها إجماعًا؛ لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] وليست في المرتدين؛ لأن المرتد يُقتل بردته وكفره، ولا يُقطع؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عاطفًا على ما يُوجب القتل: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»، وقوله: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين، فإن قيل: وهل يصح أن يُطلق على المسلم أنه مُحاربٌ لله ورسوله؟ فالجواب: نعم.

والدليل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279]".

تقدم الخلاف في قتل المرتدة، والجمهور على أن عموم «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» يشمل الرجال والنساء، والحنفية يقولون: الحديث مخصوص بالنهي عن قتل النساء، وسبق تفصيل القول في ذلك والجمع بين الحديثين وأنها من باب العموم والخصوص الوجهي، فلا حاجة إلى إعادة الكلام في ذلك.  

"تنبيه:

استشكل بعض العلماء تمثيله -صلى الله عليه وسلم- بالعُرنيين؛ لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يُقتل ولا يُمثَّل به.

واختُلف في الجواب، فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم، وقال محمدٌ بن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود، وقال أبو الزناد: إن هذه الآية معاتبة له -صلى الله عليه وسلم- على ما فعل بهم".

المُثلى والتمثيل ممنوع، لكن المماثلة مطلوبة، من باب تحقيق العدل المماثلة مطلوبة، والمثلى والتمثيل ممنوع، وما جاء في قصة العُرنيين مُماثلة؛ لأنهم فعلوا بالراعي مثل ما فُعل بهم، نعم. 

"وبعد العتاب على ذلك لم يعد، قاله أبو داود.

والتحقيق في الجواب هو أنه -صلى الله عليه وسلم- فعل بهم ذلك قصاصًا، وقد ثبت في صحيح مسلمٍ وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما سمل أعينهم قصاصًا؛ لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح، وعقده البدوي الشنقيطي في (مغازيه) بقوله:

وَبَعْدَهَا انْتَهَبَهَا الْأُلَى انْتَهَوْا".

"الْأُلَى انْتَهَوْا" يعني: الذين.

المنظومة هذه منظومة البدوي الشنقيطي مطبوعة ومتداولة في السيرة النبوية وفي المغازي، وهي مشروحة، شرحها النَّشَاط وغيره باسم (إنارة الدُّجى في مغازي خير الورى)، وهو شرح للمنظومة هذه، وشرح حماد هذا الذي يُشير إليه الشيخ ما أدري ما رأيته.

"وَبَعْدَهَا انْتَهَبَهَا الْأُلَى انْتَهَوْا

 

لِغَايَةِ الْجَهْدِ وَطِيبَةَ اجْتَوَوْا

فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا أَلْبَانَهَا

 

وَنَبَذُوا إِذْ سَمِنُوا أَمَانَهَا

فَاقْتَصَّ مِنْهُمُ النَّبِيُّ أَنْ مَثَّلُوا

 

بِعَبْدِهِ وَمُقْلَتَيْهِ سَمَلُوا

واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة (بعبده)؛ لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء، والعلم عند الله تعالى".

وهل يمنع أن يكون الراعي عبدًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، هل فيه ما يمنع؟

طالب:........

لا، قد يكون واحدٌ منهم عبدًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب:........

مثَّل به، يُمثِّل به.

نعم.

"قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] الآية.

اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو: القربة إلى الله تعالى، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- بإخلاصٍ في ذلك لله تعالى؛ لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة".

ومن هذا التوسل بالأعمال الصالحة التي تُقرِّب إلى الله –جلَّ وعلا-، وحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبق عليهم، توسلوا بأعمالهم الصالحة، فكُشِف عنهم.

"وأصل الوسيلة: الطريق التي تُقرب إلى الشيء، وتُوصل إليه، وهي العمل الصالح بإجماع العلماء؛ لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدًّا".

كل ما أُمِر به أو نُهي عنه، وفُعل المأمور واجتنب المحظور كلها تُوصِل إلى طاعة الله ومرضاته.

"كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] وكقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] ، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] إلى غير ذلك من الآيات".

الآية الثانية غير موجودة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} [آل عمران:31] هذه غير موجودة عندي، هل عندك؟

طالب:........

نعم.

"وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن المراد بالوسيلة الحاجة، ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك؟ أنشد له بيت عنترة:  

إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ

 

إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي

قال: يعني لهم إليك حاجة، وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس، فالمعنى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] واطلبوا حاجتكم من الله؛ لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها.

ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17] الآية".

الوسيلة إنما يُتوسل بها ويُتوصل بها إلى المطلوب إلى الحاجة، أن تطلب من الله –جلَّ وعلا- حاجة، فتُقدم بين يديك، بين يدي هذا الطلب وسيلة تُقربك إلى الله –جلَّ وعلا-.

"وقوله: {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32] الآية، وفي الحديث: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ».

قال مقيده -عفا الله عنه-: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بإخلاصٍ له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتفسير ابن عباسٍ داخلٌ في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.

وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثيرٌ من ملاحدة أتباع الجهال المُدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبطٌ في الجهل والعمى، وضلالٌ مبين، وتلاعبٌ بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرَّح به تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر:3]".

فأثبت أنهم يعبدونهم، أنهم يعبدونهم من دونه {مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزُّمَر:3] أنهم يعبدونهم من دون الله، وهذه العبادة يرون أنهم يتوسلون بها إلى الله.

كيف يعبدونهم وعبادة غير الله كفر؟ فكيف يُقرَّب الكافر بكفره ويجعل كفره وسيلة إلى الله- جلَّ وعل-ا؟! هذه الوسيلة هي التي تُبعده عن الله، وهذا دليلٌ على جهل هؤلاء وضلالهم، وقد جُهِّلوا وضُلِّلوا من قِبل أشياخهم ومتبوعيهم. 

"وقوله: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [يونس:18] فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] الآية.

والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضا إلى المحبوب؛ لأنه وسيلةٌ لنيل المقصود منه؛ ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جريرٍ، والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا، وجمع الوسيلة: الوسائل، ومنه قول الشاعر:

إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا

 

وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِل

وهذا الذي فسرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضًا في قوله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] الآية، وليس المراد بالوسيلة أيضًا المنزلة التي في الجنة التي أمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نسأل له الله أن يُعطيه إياها، ترجو الله أن يعطيه إياها؛ لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو.

قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة:41] في هذه الآية الكريمة إجمال؛ لأن المشار إليه بقوله هذا، ومفسر الضمير في قوله: {فَخُذُوهُ} [المائدة:41]، وقوله: {لَّمْ تُؤْتَوْهُ} [المائدة:41]، لم يُصرَّح به في الآية، ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضعٍ آخر.

اعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله التوراة: الرجم، أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه، والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم: تعالوا نتحاكم إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في شأن حدهما".

ما جاؤوا إلى محمد –عليه الصلاة والسلام- إلا لِما في حكم الزاني المحصن عندهم من الشدة وهو أشد حكم، فهم من باب التجريب يأتون إلى محمد، فلعل أن يكون الحكم عنده أخف، فكانت المفاجأة أن الحكم واحد، فلما طُلبت التوراة وجيء بها وأُمروا بقراءتها، ابن صوريا اليهودي وضع إصبعه على آية الرجم، فقيل له: ارفع يدك، ارفع إصبعك، فظهرت آية الرجم تلوح، وهم استبدلوا هذا الحكم بتسويد الوجه، والإركاب على الحمار والدوران به بين الناس، هذا أخف، ولعله يكفي عندهم، ولكن حكم الله واحد في التوراة والإنجيل في هذه القضية واحد.

فيُسمع أو يُقرأ من بعض الكتبة أن مثل هذه الأحكام الشديدة التي لا تُناسب كرامة الإنسان، وحقوق الإنسان هذه تُحرج عند الكفار، فليُبحث لها عن حل، هذه طريقة اليهود لما استبدلوا الرجم بالتسويد...إلى آخره.

طيب هذا الإنسان الذي ترحمونه وتخففون عنه الحكم؛ لئلا تُحرجون مع الكفار، أين الكفار من فِعلة هذا الجاني؟ طيب من مسببات القتل: القتل والقصاص، طيب إذا رحمتم القاتل فكيف لا ترحمون المقتول؟ والقاتل إذا تُرك سيقتل؛ ولذا جاء قوله –جلَّ وعلا-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] والعرب تقول: القتل أنفى للقتل، ما يدري هذا الكافر المعاند أو هذا الجاهل أنه إذا تُرك القاتل ولُوحظ الكفار وتُرك من أجلهم أن القتل يستشري بسبب هذا العفو، يُسمونه عفوًا، وهو في الحقيقة نشرٌ للقتل، وتيسيرٌ لأسبابه.

طالب:.........

ماذا؟

طالب:.........

مقارب، وكانت آية منسوخة.

طالب:.........

ماذا؟

طالب:.........

(إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وهذا الذي أحفظه، لو عندك شيء أحضره، آية الرجم.

"فإن حكم بالجلد والتحميم، فخذوا عنه ذلك واجعلوه حُجةً بينكم وبين الله تعالى، ويكون نبيٌّ من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله: {هَـذَا} [المائدة:41]، وقوله: {فَخُذُوهُ} [المائدة:41]، وقوله: {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} [المائدة:41]، هو الحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بيَّنا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِه يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا} [المائدة:41] يعني المحرَّف والمبدَّل الذي هو الجلد والتحميم فخذوه، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} [المائدة:41] بأن حكم بالحق الذي هو الرجم فاحذروا أن تقبلوه.

وذكر تعالى هذا أيضًا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ} [آل عمران:23]، يعني التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [آل عمران:23]، يعني في شأن الزانيين المذكورين {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُون} [آل عمران:23] أي: عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُون} [آل عمران:23]، هو معنى قوله عنهم: {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة:41]، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} [المائدة:44] الآية".

طويل هذا؟

طالب:.........

إلى أين؟ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} [المائدة:44] الكلام فيها طويل جدًّا {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} [المائدة:44].

هيا أعطنا هذا.

"أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني: استُودِعوه، وطُلب منهم حفظه، ولم يُبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه؟ ولكنه بيَّن في مواضع أُخر أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرَّفوه وبدلوه عمدا كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء:46] الآية.

وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِه} [المائدة:41]، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:91]، وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ} [البقرة:79] الآية، وقوله -جلَّ وعلا-: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78] الآية، إلى غير ذلك من الآيات".

البيهقي في (دلائل النبوة) ذكر قصة يهودي دعاه يحيى بن أكثم القاضي إلى الإسلام، فلم يستجب لدعوته، وذهب وبعد مُضي سنة، جاء مُعلنًا إسلامه عند يحيى بن أكثم، فقال له: ما الذي جعلك تتأخر هذه المدة؟ قال: عمدت إلى التوراة فنسخت منها نسحًا وقدمت فيها وأخَّرت، وزدت ونقصت، فجئت بهذه النُّسخ إلى سوق الوراقين من اليهود فتخطفوها من يدي –يعني اشتروها- وشرعوا في قراءتها والعمل بما فيها، ثم عمدت إلى نُسخ من الإنجيل، فنسخت نسخًا منها فنسختها وقدمت فيها وأخَّرت، وزدت ونقصت، وذهبت إلى سوق الوراقين من النصارى، وفعلوا كما فعل اليهود، ونسخت من القرآن نسخة وزدت فيها حرفًا، فجئت بها إلى سوق الوراقين من المسلمين، فكل من نظر فيها رماها في وجهي.

قد يقول قائل من قُراء هذه القصة: كيف وقفوا على التحريف وهو في موضعٍ واحد؟ وما يدري أن الحفظ الإلهي يدل على ذلك، أحيانًا تكون النسخة من المصحف المخطوطة فيها تصحيح كلمة خطأ ومُصححة في الحاشية، فيقشعر منها القلب وهي مُصححة حصلت خطأً من الناسخ وعلَّم عليها وصححها، فيقشعر منها الجلد.

يحيى بن أكثم لما سمع القصة وأسلم الرجل على يديه حج هذه السنة، فالتقى بسفيان بن عُيينة، وذكر له القصة، قال: هذا مذكور في كتاب الله في القرآن، الله –جلَّ وعلا- يقول في حق القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحِجر:9] يعني ما ترك حفظ القرآن لأحد، تكفل بحفظه –جلَّ وعلا-، وكُتبهم بما جاء في هذه الآية {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} [المائدة:44] استحفظوا فلم يحفظوا، والقرآن تكفل الله بحفظه، فبقي محفوظًا إلى يوم القيامة، إلى أن يُرفع.

قد يقول قائل: بعض فرق الضلال عندهم مصاحف خاصة بهم، وفيها زيادة، وفيها نقص، وبعض المفتونين يُطالبون بحذف بعض الجمل أو بعض الآيات من القرآن، فهل يتسنى لهم ذلك؟ أولئك الطائفة الضالة التي عندها زيادة ونقصان من المصحف، والله –جلَّ وعلا- تكفل بحفظ كتابه من الزيادة والنقصان، أمرهم واضح لن ينطلي على أحد؛ وهذا لبيان ضلالهم، ومخالفتهم للمقطوع من شريعة الإسلام، وهذا أحد الأوجه الذي كُفِّروا به، ولا يزال القرآن محفوظًا حتى مع تحريفهم، ومع زيادتهم فيه هو محفوظ؛ لأن ما وقعوا فيه لا ينطلي على صغار من يتدين بالإسلام.              

طالب:.........

هذا المحو من الطبعة، يأتينا في اللجنة مصاحف مطبوعة في الشام وفي غيرها من الأمصار أحيانًا تجد ملزمة مُقدمة على ملزمة، هذا خطأ فني، يعني في الترتيب، في ترتيب الملازم، والذي جاء به تحمله الغيرة ويتكلم بكلامٍ قوي، وأنهم حرَّفوا وفعلوا، هم ما حرفوا، ولا فعلوا عند التجليد وصف الملازم تقدمت هذه على هذه، هذا لا يُخل بـ....، ومع ذلك يجب عليهم العناية بترتيب الملازم أحيانًا الحبر قد يزيد وقد ينقص، فالحروف يصير عليها غبش، وأحيانًا يصير في الطباعة ارتجاج بمعنى أن الورقة تُطبع مرتين، ويصير الحرف على الحرف يزل هذا عن هذا، هذه أخطاء فنية، ما هي مقصودة للتحريف.

وهم في مُجمَّع الملك فهد -رحمه الله- في أول نشرة للمصحف في المراجعة رقم مائة وواحد وأربعين، انظر الحرص والضبط والإتقان في المراجعة، رقم مائة وواحد وأربعين وجدوا شكلًا يعني ضبطًا، هم انتهجوا منهجًا وسلكوا طريقة للشكل والضبط، فالتنوين أحيانًا يُرسم على وجه، وأحيانًا يُرسم على وجهٍ واحد للاختلاف المقتضي لذلك، وهو اصطلاحٌ بينوه، جعلوا هذا التنوين من النوع الآخر، وقفوا عليه في المراجعة مائة وواحد وأربعين، يعني لو تُرك ما أثر، لكنه من باب الزيادة في الدقة والإتقان عدلوا، متى وقفوا عليه؟ في المراجعة مائة وواحد وأربعين، وهذا من حفظ الله –جلَّ وعلا- لكتابه على يد هؤلاء الذين نسأل الله أن يرفع درجاتهم، والسبب الأول هو: الملك فهد –رحمه الله- ونفع الله به نفعًا عظيمًا.

ومئات الملايين من النُّسخ كانت كثير من الأقطار الإسلامية فيها شُح في المصاحف فضلاً عن غيرها، الآن مئات الملايين من المصاحف- الحمد لله- التي وصلت أقصى الأرض من شرقها وغربها وجميع جهاتها.

طالب:.........

أين؟

طالب:.........

المقصود غير المحرَّف، المقصود الأصل. 

"تنبيه:

إن قيل: ما الفرق بين التوراة والقرآن؟ فإن كلاًّ منهما كلام الله أنزله على رسولٍ من رسله- صلوات الله وسلامه عليهم- والتوراة حُرِّفت، وبُدِّلت كما بيناه آنفًا، والقرآن محفوظٌ من التحريف والتبديل، لو حرَّف منه أحدٌ حرفًا واحدًا فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفًا أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم".

أحيانًا يُظن ما ليس بتحريفٍ تحريفًا، فمثلاً المغاربة عندهم الفاء نقطتها تحت، والقاف نقطة واحدة من فوق هذا عندهم، وجاء شخص بمصحف للحرم للرئيس -الرئيس العام- قبل عشرين سنة، قال: انظر ماذا كتبوا، يعني على قراءة ورش؟ المصحف على قراءة ورش، ومعتمد فيه طريقة المغاربة في الخط {قَسْوَةً} [البقرة:74] ما المقتضى أن تكون؟ على اصطلاحهم فاء، وجاء بها ومستعظم من هذا الأمر، لكنه ما يعرف الاصطلاح، فلا يُعد هذا من باب التغيير ولا التبديل.  

"فالجواب أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمدًا، والقرآن العظيم لم يَكِل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه -جلَّ وعلا- بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحِجر:9]، وقوله: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَت:42] الآية، إلى غير ذلك من الآيات، و «الباء» في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} [المائدة:44]، متعلقةٌ بالرهبان والأحبار؛ لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة؛ بسبب ما استحفظوا من كتاب الله.

وقيل: متعلقةٌ بيحكم. والمعنى متقارب".

قف على هذا.

اللهم صلِّ على محمد.

"