شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (095)

 

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

 

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا وإياكم مستمعيَّ الكرام مع حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-، وقد أسلف الشيخ شيئًا من شرح ألفاظ الحديث في الحلقة الماضية، لعلنا نستكمل ما تبقى من هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تقدم الكلام على كثير من ألفاظ الحديث، قوله «الحلال بيِّن» يعني واضح، لا خفاء فيه ولا غموض، والحرام مثله، لكن بين هاتين المرتبتين أمور ينتابها ما يقربها من الحلال وما يقربها من الحرام، وهي التي جاءت تسميتها بالمشبَّهات، وهي تخفى على كثير من الناس، هذا يعني أنها لا تخفى على بعض الناس، وهم أهل الرسوخ من أهل العلم.

«فمن اتقى المشبَّهات» جعل بينه وبينها وقاية، بأن لزم الحلال البيِّن، وترك الحرام البيِّن، وابتعد عن المشبَّهات، استبرأ لدينه وعرضه، لم يعرِّض طلب البراءة لدينه، فلم يعرِّضه للخلل ولا لعِرْضه من أن ينتهك بالقيل والقال. وأشرنا سابقًا إلى أن من وقع في الشبهات فقد عرض دينه للكلام، يرمى بالتساهل، وقد يرمى بغشيان الحرام من خفي منه الحكم وقد ينال من عرضه، وليس معنى هذا أن عرضه مباح، هذا بيان واقع أن الناس يتكلمون فيه، وليس معنى هذا أن عرضه مباح لمن أراد أن يتكلم فيه.

«ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى» وهذه جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب، يعني الأمور معنوية، المشبَّهات والمشتبهات والشبهات على الخلاف في ضبطها، أمور معنوية للتقريب والتمثيل مُثِّلت بالحمى، فهذا المثال، أو هذه الجملة المستأنفة إنما وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب، والحمى المحمي، أُطلِق المصدر على اسم المفعول، قاله ابن حجر، وتعقَّبه العيني بأن هذا ليس بمصدر، بل هو اسم مصدر، ومصدر حَمى يحمي حمايةً.

قال ابن حجر: وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، هؤلاء يحمون هذه الأماكن لتميزها بالخصب لأملاكهم الخاصة، لمواشيهم الخاصة وإلا فالنبي –عليه الصلاة والسلام- حمى النقيع لإبل الصدقة، أبو بكر حمى، عمر -رضي الله عنه- حمى، رضي الله عنهم جميعًا، للأموال العامة، لكن الملوك، ملوك العرب قبل الإسلام واستمر ذلك يحمون لمراعي مواشيهم الخاصة، يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثَّل لهم النبي –عليه الصلاة والسلام- بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضى الملك يُبعِد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتد حذره، يقول: أنا أقرب من الحمى مع أني شديد الحذر، أنتبه، لكن من يملك هذه العجماوات التي لا تميز بين هذا المكان المحمي والمكان المباح ولو اشتد حذره، وغير الخائف يقرب منه ويرعى من جوانبه فلا يأمن أن تنفرد الفاذَّة فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه، أو ينته ما فيه من عشب فتتناول المحمي، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله -سبحانه وتعالى-   هو الملك حقًّا، وحماه محارمه. فالذي يكثر من مزاولة المباحات، قد يتطلَّبها، كما مضى في الدرس الماضي فلا يجدها أحيانًا، وقد مرنت نفسه عليها وأخذت عليها، فيلتفت بحثًا عنها فلا يجدها فيزاول ما يقرب منها من مكروهات، ثم قد يتجاوز ذلك لأن المسألة مرحلة مرحلة، يتجاوز ذلك إلى ما حرمه الله عليه كالراعي يرعى حول الحمى.

في شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: هذا ضرب مثل لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ويمنع الناس من الدخول إليه، فمن تباعَد عنه فقد توقَّى سخط الملك وعقوبته، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرَّض لمساخط الملك وعقوبته؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى.

قال الحافظ ابن حجر: ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، أحد رواة الحديث، وأنه مدرَج في الحديث، حكى ذلك أبو عمرو الداني، يقول ابن حجر: ولم أَقِفْ على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي.

قال ابن عون في آخر الحديث: لا أدري المَثَل من قول النبي –صلى الله عليه وسلم- أو من قول الشعبي. قلت، قال ابن حجر: وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرَجًا، لماذا؟ لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه. وكذلك سقوط المَثَل من رواية بعض الرواة كأبي فروة عن الشعبي لا يقدح فيمن أثبته لأنهم حفاظ من جهة، وأيضًا اختصار الحديث سائغ عند عامة أهل العلم عند الجمهور شريطة ألا يكون فهم الموجود متوقِّف على المحذوف، يعني لا يكون للمحذوف أثر في فهم الموجود، وإلا فلا يجوز حذفه حينئذٍ. وكذلك سقوط المَثَل من رواية بعض الرواة كأبي فروة عن الشعبي لا يقدح فيمن أثبته لأنهم حفاظ، ثم قال ابن حجر: ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله: «وقع في الحرام».

«ومن وقع في الشبهات»، في بعض الروايات: «وقع في الحرام»، وتقدمت، حذفها البخاري لماذا؟ ليصل المَثَل بقوله: «وقع في الشبهات كراع يرعى...».

يقول ابن حجر: ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله: «وقع في الحرام» ليصير ما قبل المَثَل مرتبطًا به فيسلم من دعوى الإدراج، ظاهر؟ هذا العيني، تعقَّبه العيني، يقول: قلت: هذا الكلام ليس له معنًى أصلاً، ولا هو دليل على منع دعوى الإدراج، وذلك لأن قوله «وقع في الحرام» لم يحذفه البخاري عمدًا، وإنما رواه في هذه الطريقة هكذا مثل ما سمعه، وقد ثبت ذلك في غير هذه الطريق، وكيف يحذف لفظًا مرفوعًا متفقًا عليه لأجل الدلالة على رفع لفظٍ قيل فيه الإدراج، تعقُّب العيني واضح أو ليس بواضح؟ يقول: قلت: هذا الكلام ليس له معنًى أصلاً، الآن الحافظ ابن حجر ماذا يقول؟ يقول: «ومن وقع في الشبهات»، جاء في بعض الروايات «وقع في الحرام»، حذفها البخاري لكن حذفها عمدًا أو لأنها وقعت له هكذا ممن رواه عن رواية أبي نعيم مثلاً، من شيخه أبي نعيم هكذا سمع؟

المقدم: لا، حذفها عمدًا.

رأي الحافظ ابن حجر أنه حذفها عمدًا ليصل المثل...

المقدم: بالمعنى بالمشبَّه به.

بالمشبَّه به، للشبهات، ليبيِّن أن المثل مرفوع. العيني تعقَّبه، يقول: قلت: هذا الكلام ليس له معنًى أصلاً، ولا هو دليل على منع دعوى الإدراج، وذلك لأن قوله «وقع في الحرام» لم يحذفه البخاري عمدًا، وإنما رواه في هذه الطريق هكذا مثل ما سمعه، وقد ثبت ذلك في غير هذه الطريق، وكيف يحذف لفظًا مرفوعًا متفقًا عليه لأجل الدلالة على رفع لفظ قد قيل فيه الإدراج، وقوله ليصير ما قبل المثل مرتبطًا به، إن أراد الارتباط المعنوي فلا يصح لأن كلاًّ منهما كلام بذاته مستقل، وإن أراد به الارتباط اللفظي فكذلك لا يصح، وهو ظاهر. ابن حجر في انتقاض الاعتراض: قلت: لا يزال        يدفع بالصدر، ولا يقيم على ما ينكره دليلاً، وتعجُّبه من حذف لفظ مرفوع للدلالة لأنه تعجُّب ممن يجيز الاختصار من الحديث، وقد عُهِد ذلك من البخاري كثيرًا. وأما افتتاح كلامه بدعواه أن ليس للكلام المذكور معنى، فغايته أنه لم يفهم المراد منه، وما عَلَيَّ إذا لم يفهم.

المقصود أن كلام الشيخين دائر حول الحذف، هل هو عمد أو لأنه رواه هكذا؟ نقول هذا كونه عمدًا أو عن غير عمد، هل هو لهدف ما رآه أو ما قرره، للهدف الذي قرره ابن حجر من أجله ليربط المثل بالممثَّل به، أو لأنه روِّي كذلك، هذا أمره ومردُّه إلى البخاري نفسه، والبخاري ما بيَّن، فلا نستطيع أن نقول: كلام ابن حجر هو الصواب، ولا نستطيع أن نقول: كلام العيني هو الصواب؛ لأن هذه حقيقة لن نصل إليها. لا شك أن من منهج البخاري أنه يحذف ويختصِر بنفسه، وأثبت الشراح أنه حذف بعض الجمل بناءً على جواز الاختصار؛ لأنه لا يحتاج هذه الجملة في هذا الموضع فيحذفها اختصارًا. ومن عادة البخاري -رحمه الله- أنه لا يكرر الحديث بلفظه وسنده في موضعين إلا نادرًا وأشرنا إليها مرارًا، فإذا احتاج إلى التكرير، قد يحذف من الحديث لئلا يقع في التكرير باللفظ والسند، احتاج إلى التكرير لأنه استنبط من الحديث أكثر من فائدة، فاحتاج أن يورده في أكثر من موضع، هل يورده بلفظه وسنده، ليس هذه عادته ولا طريقته، يعني وقع له نحو عشرين موضعًا من هذا النوع، وسبق أن أشرنا إليها، لكن مثل هذا يدور على مقصد البخاري، مقصد البخاري لا يمكن الاطلاع عليه، كلاهما محتمل، لا كلام العيني ولا كلام ابن حجر، لأن هذا مرده إلى قصد البخاري، وقصد البخاري ذهب معه.

المقدم: قد يشكل -أحسن الله إليك- على مثل هذا، يعني ما يرد عند البعض هل يجوز للبخاري التصرف عمدًا بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحذف مثلاً بعض الكلمات التي يحتاج المعنى إلى إثباتها؟

العلماء، بل الجمهور حينما أجازوا اختصار الحديث اشترطوا وقالوا على ألا يتوقَّف فهم معنى الموجود على المحذوف، لكن هل يتوقف الفهم على المحذوف؟ «وقع في الحرام»؟

المقدم: هنا لا.

 لا يتوقف، لماذا؟ لأننا فهمنا «وقع في الحرام» من المثل، وعلى هذا يجوز، في مثل هذه الصورة يجوز. والبخاري رحمه الله تعالى في مثل هذا الباب يتوسع، يحذف ويختصر كثيرًا، ويقطِّع الحديث في أماكن، في مواضع، يذكر لفظة في موضع ولا يذكرها في موضع آخر، كل هذا مع الاحتفاظ بوحدة المعنى وسلامته، والإمام البخاري -رحمة الله عليه- من أبرع الناس في هذا الباب. بعض أهل العلم يرى أنه لا يختصِر، يأتي بالحديث بفصِّه ويكرره في مواضع كثيرة، هذا مُمِل، وهذا تطويل للكتاب، وفي الوقت نفسه يمله القارئ، لكن لو اقتصَر على موضع الشاهد الذي يحتاج إليه مع عدم احتياج هذا الموضع إلى ما حُذف، أتى بالمقصود من غير إملال للقارئ.

قوله: «يوشِك أن يواقعه» «يوشِك» بكسر المعجمة أي يقرب «أن يواقعه» أن يقع فيه وعند ابن حبان: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سُترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أَرْتَع فيه كان كالمُرتِع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه».

«ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف تنبيه يُبتدَأ بها، وفي إعادتها وتكرارها في الحديث، كم كررت؟ «ألا وإن لكل ملك حمى» «ألا وإن حمى الله...» «ألا وإن في الجسد مضغة» كم مرة؟

المقدم: ثلاث.

«ألا وهي القلب» كم؟

المقدم: أربع.

أربع مرات، وفي إعادتها وتكرارها دليل على فخامة شأن مدخولها وعظم موقعه.

«وإن لكل ملِك حمى» ملِك بكسر اللام من الملوك.

المقدم: أحسن الله إليك (إن) بعد (ألا) دائمًا مكسورة؟

ألا وإن.

المقدم: دائمًا مكسورة؟

نعم نعم.

المقدم: يعني في بعض الطبعات، النسخ التي معنا جاءت مفتوحة ويبدو أن هذا خطأ في الطباعة، ألا وأن.

لا.

المقدم: خطأ.

لأنها يُبتدَأ بها، وإن في ابتداء الكلام وصدره لا بد أن تُكسَر.

«وإن لكل ملك» بكسر اللام من ملوك الأرض «حمًى» مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة الشديدة.

«ألا» كسابقتها «إن» وفي رواية أبي ذر: «وإن» «حمى الله تعالى في أرضه» سقط «في أرضه» من رواية المستملي «محارمه» المعاصي التي حرمها كالزنا والسرقة.

قال القسطلاني: هذا من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب فشَبَّه المكلف بالراعي والنفس البهيمية بالأنعام والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول الشبهات بالرَّتْع حول الحمى، ووجه التشبيه حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك، كما أن الراعي إذا جره رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك من أكثر من الشبهات، وتعرض لمقدماتها، وقع في الحرام فاستحق العقاب بسبب ذلك.

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات، كما تحرم الخلوة بالأجنبية، وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره، وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فجعل المنع من الصلاة بعد الصبح وبعد العصر من باب منع الوسائل؛ لأن الممنوع بالقصد النهي عن الصلاة وقت الطلوع ووقت الغروب، ولذا يقول: وكما يُنهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكما يمنع من تحرك القُبلة شهوته في صيامه من القُبلة، وكما يؤمر من باشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق الإزار، يستر ما بين سرتها وركبتها، وكما يُضَمَّن من سَيَّب دابته نهارًا بقرب زرع غيره فتفسده، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم، فصاد فيه، فإنه يَضْمَن في الصورتين على الأصح.

يقول أيضًا ابن رجب -رحمه الله-: وفي الحديث دليل على صحة القياس، وتمثيل الأحكام وتشبيهها، وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدِين في مسائل الاشتباه واحد، يعني ليس كل مجتهد مصيبًا، «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فدل على أن المصيب واحد، لكن من أين يؤخذ من الحديث؟ وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد.

المقدم: «لا يعلمها كثير من الناس».

هو ما تقدم في قول من أقوال أهل العلم، بل الأول منها أن المشتبهات...؟

المقدم: في معنى الشبهات، تكافؤ الأدلة.

تكافؤ الأدلة و...

المقدم: اختلاف العلماء.

نعم.

المقدم: وهي مثل الأول كما ذكر.

نعم. يقول -رحمه الله-: لأنه جعل المشتبهات «لا يعلمها كثير من الناس» مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه، وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها، يعني هو مجتهد، لكنه قد لا يصيب، ويصير إلى ما أداه إليه اجتهاده وطلبه.

هنا فائدة، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ذكر في تفسير المشبَّهات من كتاب البيوع، وله علاقة في الحديث، وإن كان الحديث الذي أورده غير حديث الباب، لكنه في تفسير المشبهات من كتاب البيوع إذ قال -رحمه الله-: وقال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، هذا المال تشك فيه هل هو حلال بيِّن، اتركه. هذا سهل على النفوس؟! هذا يقول: ما رأيت شيئًا أهون من الورع.

حسان بن سنان البصري، أحد العباد في زمن التابعين، وقال الحافظ ابن حجر: روى أبو النعيم أنه اجتمع يونس بن عبيد، وحسان بن أبي سنان، فقال يونس: ما عالجت شيئًا أشد عَلَيَّ من الورع، لا شك أنه شديد على النفس، لماذا؟ لأنه يتطلب التنازل عن أحب المحبوبات، لأن الشبهة تقع في كل شيء، تقع في المال، تقع في العبادة، تقع في أبواب الزواج والنكاح، تقع في جميع أبواب الدين، على ما سيأتي الإشارة إليه.

يقول: فقال يونس: ما عالجت شيئًا أشد عَلَيَّ من الورع. قال حسان بن أبي سنان: ما عالجت شيئًا أهون عَلَيَّ منه، قال: كيف؟ قال حسان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت.

قال بعض العلماء: تكلم حسان على قدر مقامه، والترك الذي أشار إليه أشد على كثير من الناس من تحمل كثير من المشاقِّ الفعلية، أتعاب البدن تهون عند هذا الصراع النفسي الذي يتنازع فيه حب الدنيا وحب ما يتصل بالدنيا من مال ومن زوجة ومن ولد ومن أمور كثيرة تدخل فيها الشبهات وبين مراد الله -عز وجل-.

المقدم: أنت ذكرت لنا -أحسن الله إليك- قبل التسجيل أيضًا بعض النماذج، يعني عندما يذكر مثل هذه النماذج لسلف الأمة، قد يقول البعض أنه من الصعب تطبيقها في مجتمعاتنا المعاصرة. قبل أن نسجل هذه الحلقة ذكرتم بعض القصص والنماذج لأقوام هم بيننا ممن تركوا كثيرًا من أموالهم فيه شبهة من أجل تحقيق المباح الظاهر، وهذه أيضًا إذا ذكرت للناس، وإن لم يكن شاهد أعيان، لكن هناك صور تذكر -بحمد الله-، لعله يكون بها تشجيع أيضًا أنه موجود بين أظهرنا من هم مثل هؤلاء.

نقول: أمة محمد، الخير فيها إلى قيام الساعة، ولا يزال -ولله الحمد- أقوام من هذه الأمة، بل فئام -ونحمد الله- موجودون، وناس أدركناهم ومضَوا، اتصفوا بهذا الوصف، وتركوا كثيرًا من أمور الدنيا، وعزفوا عنها، وأقبلوا على الآخرة، ومنهم من تورع ولم ينس نصيبه من الدنيا، منهم من تورع مع العزلة، ومنهم من تورع مع الخلطة، وهذا أشد، يعني الورع مع الخلطة أمره شديد، ويوجد هذا ولله الحمد في علمائنا العاملين موجود ولله الحمد، والله المستعان.

المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يصلح أحوالنا.

أيها الإخوة والأخوات، كنا وإياكم مع برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. كان معنا في هذه الحلقة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى في هذا الحديث من الفوائد الهامة، أدعوكم لمتابعة الحلقة القادمة، سيخصصها الشيخ للحديث عن قضايا هامة تتعلق بهذا الموضوع وسنركز على موضوع القلب أيضًا، لعله يأخذ نصيبًا كبيرًا في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى-. حتى ذلكم الحين نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.