شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (105)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين، قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

"عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن ثعلبة البَجَلي الأحمصي، الصحابي الجليل، أبو عمرو ويقال أبو عبد الله، روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة حديث، اتفقا منه على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة، نزل الكوفة ثم تحول إلى قِرْقِيْسْيَا، وبها توفي سنة إحدى وخمسين.

كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول له، أو يلقبه بيوسف هذه الأمة لجماله، وكان -رضي الله عنه-، أعني جريرًا، يخدم أنس بن مالك. يقول أنس -رضي الله عنه-: كان يخدمني وهو أكبر مني مكافأةً له على خدمة النبي –عليه الصلاة والسلام-، جرير بن عبد الله البجلي يخدم أنس وهو أكبر منه، ووجد بعد ذلك من أهان أنس بن مالك، مع أنه خادم النبي –عليه الصلاة والسلام-، حتى قال: خدمت النبي –عليه الصلاة والسلام- وأذلني بعضهم، ولو أدرك اليهود حمار عزير لخدموه، والله المستعان.

الحديث ترجم عليه البخاري بقوله: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة 91]. باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة» البخاري علق هذا الحديث ولم يخرِّجه في الأصول، بل جزم به؛ لأنه ليس على شرطه، وهو مخرَّج في مسلم، لكن جزمه به يدل على أنه صحيح وإن لم يكن على شرطه؛ لأن شرطه أشد -رحمه الله-.

يقول الزركشي في التنقيح: مراد البخاري الرد على المرجئة في أن مجرد التصديق لا يكفي، بل لا بد من الأعمال، إذ لو كفى مجرد التصديق، لما احتاج إلى بيعته على النصح لكل مسلم. فلما شرط ذلك عليه في بيعته، دل على اعتباره في الدين.

وفي شرح ابن بطال: معنى هذا الباب أن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، نص الحديث «الدين النصيحة»، معنى هذا الباب أن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، ألا ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بايع جريرًا على النصح كما بايعه على الصلاة والزكاة، سوَّى بينها في البيعة.

وفي عمدة القاري للعيني: وجه المناسبة بين البابَين، الباب السابق، باب ما جاء «إن الأعمال بالنية»، والباب اللاحق...

المقدم: «الدين النصيحة».

نعم، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الأعمال بالنيات وأنها لا تقبل إلا إذا كانت ابتغاءً لوجه الله تعالى، مع ترك الرياء، والعمل على هذا الوجه من جملة النصيحة لله تعالى، ومن جملة النصيحة لرسوله –عليه الصلاة والسلام- حيث أتى بعمله على وفق ما أمر به الرسول –عليه الصلاة والسلام- مجتنبًا عما نهاه عنه. يقول: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الأعمال بالنيات وأنها لا تقبل إلا إذا كانت ابتغاءً لوجه الله تعالى، يعني مع الإخلاص، مع ترك الرياء، والعمل على هذا الوجه من جملة النصيحة لله تعالى كما سيأتي في بيان معنى «النصيحة لله»، ومن جملة النصيحة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا حيث أتى بعمله على وفق ما أمر به الرسول –عليه الصلاة والسلام- مجتنبًا عما نهاه عنه، هذا من النصيحة للرسول –عليه الصلاة والسلام- ومتابعته والاقتداء به والائتساء به على ما سيأتي.

ثم إن البخاري -رحمه الله تعالى- ختم كتاب الإيمان بهذا الحديث؛ لأنه حديث عظيم جليل حفيل عليه مدار الإسلام كما قيل: إنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، فيكون هذا ربع الإسلام، ومنهم من قال: يمكن أن يستخرج منه الدليل على جميع الأحكام، «النصيحة»، من هذه الكلمة، يعني كلمة جامعة بحيث ينصح الإنسان لنفسه، فإذا نصح الإنسان لنفسه، التزم بجميع ما أمر به وانتهى عن جميع ما نهي عنه، إذا نصح لنفسه، إذا نصح لله ، إذا نصح لرسوله، إذا نصح لكتاب الله على ما سيأتي، إذا نصح لأئمة المسلمين وعامتهم، عمل بجميع الشريعة.

وفي شرح النووي على أوائل الصحيح: قد ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في هذا الباب ثلاثة أحاديث، يقول النووي: قد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث، حديثين مسندين، عن جرير -رضي الله تعالى عنه-، والثالث حديث «الدين النصيحة». ذكره تعليقًا كما تراه، وهذا الحديث المعلق قد رواه مسلم عن تميمٍ الداري -رضي الله عنه­-، أن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وليس لتميم الداري في صحيح البخاري عن النبي –عليه الصلاة والسلام- شيء، ولا في صحيح مسلم غير هذا الحديث، هكذا يقول النووي، وفيه أيضًا حديث الجسَّاسة، لكن هل حديث الجسَّاسة يرويه تميم عنه –عليه الصلاة والسلام- أو يرويه النبي –عليه الصلاة والسلام- عن تميم، إذًا لا يعد من هذا النوع، وعلى كل حال هو حديث باعتبار النبي –عليه الصلاة والسلام- أقر تميمًا على خبره، فهو حديث بالإقرار.

المقدم: وحديث تميم عند مسلم موصول يا شيخ؟

موصول نعم، أصل.

هذا الحديث عظيم الشأن، بل عليه مدار الإسلام، يقول النووي: وأما ما قاله جماعة من كبار العلماء أنه ربع الإسلام، أي أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، التي تجمع أموره فليس كما قالوا، بل هو وحده محصِّل لغرض الدين كله، يعني على ما بيناه آنفًا.

يقول: وقد بسط العلماء -رحمهم الله تعالى- شرحه بسطًا منتشرًا، فأول من علمته بسطه الإمام أبو سليمان الخطابي، ثم تابعه الأئمة وزادوا فيه.

أول من شرح الحديث شرحًا مبسوطًا تتابع الشراح على نقلهم عنه الإمام أبو سليمان الخطابي في أعلام الحديث، شرح صحيح البخاري.

يقول الخطابي في شرحه: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له. قد يقول قائل: لماذا يُشرَح حديث «الدين النصيحة» ولا يوجد في المختصَر؟

المقدم: لأن الباب...

الباب، حتى ولا باب المختصَر، التراجم هذه...

المقدم: من وضع المحقق.

نعم، لكن لأهميته، عني به الشراح عناية فائقة، وشرحوا حديث «الدين النصيحة» في هذا الباب وهو معلق في الأصل أكثر مما شرحوا فيه الأصول لأهميته، ولكونه لن يمر بنا مرة أخرى في هذا الكتاب.

يقول الخطابي -رحمه الله-، وننقل كلام الخطابي على طوله لنفاسته، ولتتابع الشراح على نقله عنه: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، ويقال: إن هذه الكلمة من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، فإنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تُستوفَى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كلمة واحدة، حتى انضم إليها شيء آخر، كما قالوا في الفلاح إنه ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه، يعني من كلمة الفلاح، حتى..، فهذا كلام لا يعدله شيء من الكلام في معناه، يعني مثل هذه الكلمات الوجيزة التي تضم المعاني الكثيرة، ولذلك قالوا: أفلح الرجل إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له، ويقال: إن أصل النصيحة مأخوذ من قولهم: نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، والنصاح الخيط، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يصده من خلل الثوب ويلأمه من فتوقه ويجمعه من الصلاح فيه، الناصح، النصاح، خيط؛ فالناصح يخيط، يرقع ما عند المنصوح من خلل مثل الخياط، هذا إذا كانت النصيحة على بابها، وإلا فبعض الناس يتظاهر أنه بالنصيحة وهو في الحقيقة...

المقدم: تعيير وتعييب.

أو غش للمنصوح، يُظهِر أنه ينصح، وفي الحقيقة يخادع ويغش.

يقول الخطابي: وقيل: إنها مأخوذة من نصحْت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول والعمل من شوب الغش والخيانة بتخليص العسل من الخلط الذي فيه.

وقوله «الدين النصيحة» ثلاثًا، يريد أن عماد أمر الدين «الدين النصيحة»، تعريف جزأي الجملة «الحج عرفة» «الأعمال بالنيات» وهذا تقدم، «الدين النصيحة» تعريف جزأي الجملة، ألا يدل على الحصر؟

المقدم: بلى.

ظاهره الحصر، فيراد بذلك أن عماد أمر الدين وقوامه إنما هو النصيحة، وبها ثباته وقوته كقوله –عليه الصلاة والسلام-: «الأعمال بالنيات» أي ثباتها أو صحتها بالنيات، وكما قال: «الحج عرفة» أي عماد الحج ومعظمه عرفة؛ لأن من أدركها فقد أدرك الحج، وأمكنه أن يجبر سائر الفوات من أعماله، ومن لم يدركه، أعني الوقوف، فاته الحج فلم يستدركه بشيء، وكما يقال: الناس تميم مثلاً، والمال الإبل ونحوها من الكلام، هذا كله من كلام أبي سليمان الخطابي.

وقال الخطابي: ولما كانت النصيحة من باب المضاف استُفصِلت، فقيل: لمن يا رسول الله؟ يعني لا بد لها من متعلق، «الدين النصيحة» ما معنى النصيحة؟ لا بد من بيان متعلَّقه، لا بد لها من متعلق يتعلق به، نصيحة ماذا؟

المقدم: وفعلها متعدي، نصح الرجل...

أي لكن (أل) هذه في مقام المضاف إليه، فهي من باب المضاف فاستفصلت، فلا بد من بيان متعلقها، ولذا قالوا: لمن يا رسول الله؟ يعني لو قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «الدين النصيحة» وسكت وما سئل عن الباقي، هل يحصل البيان بهذا؟ لا بد من بيان، إما أن يبين النبي –عليه الصلاة والسلام-، لكن جرت عادة الصحابة أنهم يستفصلون في مثل هذه الأمور، فقيل: لمَن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولنبيه» ولأئمة المؤمنين «وعامتهم» «ولأئمة المسلمين» هنا يقول "ولأئمة المؤمنين" وهو لفظه «وعامتهم»، فجعلها شائعة في كل سهم من سهام الدين، وفي كل قسم من أقسامه، وفي كل طبقة من طبقات أهله، ثم قال: فأما النصيحة لله -عز وجل-، الله -سبحانه وتعالى-، هل هو بحاجة إلى أحد ينصحه؟ هل هو بحاجة إلى أحد ينصح له؟ الذي يحتاج إلى نصيحة القاصر عن إدراك حقائق الأمور، والله -سبحانه وتعالى- عالم بالأمور دقيقها وجليلها، جليها وخفيها. إذًا ما معنى النصيحة لله -عز وجل-؟ قال أبو سليمان: فأما النصيحة لله -عز وجل-، فمعناه منصرف إلى الإيمان به، ونفي اعتقاد الشرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبذل الطاعة له وإخلاص العمل فيما أمر به ونهى عنه...

المقدم: وبذل الطاعة؟

نعم وبذل الطاعة له وإخلاص العمل فيما أمر به ونهى عنه وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه، والشكر له عليها، وحقيقة هذه الأوصاف، أو حقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد، يعني الفائدة منها...

المقدم: ترجع للعبد.

ترجع للعبد نفسه. يعني هل الطاعة..، الله -سبحانه وتعالى- لو اجتمع الناس كلهم على أتقى قلب رجل فأطاعوه وكفوا عن محارمه، هل ينفع الله -سبحانه وتعالى- شيء؟ لا {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهًا وَلا دِمَاؤُهَا} [سورة الحج 37] ومثله لو كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملك الله -عز وجل- شيئًا.

وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله ودعوة غيره من الخلق إلى هذه الخصال في أمر خالقه -عز وجل-، والله سبحانه غني عن نصح كل ناصح، وإرشاد كل مرشد، وبه نال الرشد المرشدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجى الفائزون، يعني نظير ذلك قوله -جل وعلا- {إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [سورة محمد 7] هل الله -جل وعلا- بحاجة إلى من ينصره، نصرًا حقيقيًّا؟ لا، تنصروا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه التي هي في العاقبة فائدتها لكم ينصركم، وأما النصيحة لكتابه، فمعناه الإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، وأنه لا يشبه شيئًا من كلام المربوبين، ولا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحسينه عند القراءة، والذبّ عنه في تأويل المحرفين له، وطعن الطاعنين عليه، والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعلم بفرائضه وسننه وآدابه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والتفقه في علومه، والتبيُّن بمواضع المراد من خاصه وعامه وناسخه وسائر وجوهه، المقصود من ذلك الإيمان بأنه كلام الله -عز وجل-، وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، كما هو معتقد أهل السنة والجماعة، ثم بعد ذلكم تلاوته وتدبره وقراءته على الوجه المأمور به، والاتعاظ به والاعتبار والائتمار بأوامره والانزجار عن زواجره... إلى آخره، الإيمان بمحكمه، العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، معرفة ناسخه ومنسوخه، مجمله ومبينه، وخاصه وعامه، ناسخه ومن... إلى آخر ما يتعلق بكتاب الله -عز وجل-.

وأما النصيحة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإنما هي على تصديقه في الرسالة، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وطاعته فيما سن وشرع وبين من أمر الدين وشرح، والانقياد له فيما أمر ونهى وحكم وأمضى، وترك التقديم بين يديه، وإعظام حقه وتعزيره وتوقيره، ومؤازرته ونصرته، وإحياء طريقته في بث الدعوة وإشاعة السنة، ونفي التهمة في جميع ما قاله ونطق به، فإنه كما وصفه ربه وباعثه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم 3-4] وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [سورة النساء 4].

وأما النصيحة لأئمة المؤمنين، فإن الأئمة هم الولاة من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم ممن يلي أمر الأمة ويقوم به. ومن نصيحتهم بذل الطاعة لهم في المعروف؛ لأنه كما هو معلوم ومقرر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والصلاة خلفهم، وجهاد الكفار معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء سيرة، وتنبيههم عند الغفلة، وألا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعا بالصلاح لهم.

قال أبو سليمان: وقد يُتَأول ذلك في الأئمة الذين هم علماء الدين، يعني أئمة المسلمين، يشمل الولاة ويشمل أيضًا العلماء. يقول: وقد يتأول ذلك في الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه إذا انفردوا، وتقليدهم ومتابعتهم على ما رأوه إذا اجتمعوا واتفقوا، احترامهم، إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، عدم تنقصهم، التشفي بأعراضهم، الوقوع فيهم لمجرد خطأ وقعوا فيه.

وأما نصيحة عامة المسلمين...

المقدم: لكن فضيلة الشيخ أحسن الله إليك، الملاحظ يعني أن هناك خلل الحقيقة في فهم النصيحة لولاة أمر المسلمين لمن ولاه الله الأمر، الحقيقة حتى في عصور مختلفة في تاريخنا الإسلامي، هل يرجع هذا الخلل لذات الحكام أو للمسلمين الذين حولهم بالنسبة للنصيحة، لأننا نجد أن اختلاف هذا الفهم لهذه النصوص بدأ يتناقص بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم، ربما يعود في عصر دون عصر، لكنه يتناقص شيئًا فشيئًا ويزول هذا المعنى الذي كنا نقرأ عنه في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، في عهد عمر بن عبد العزيز مثلاً.

على كل حال، هناك، أو هذا الخلل، وهذا النقص مباشره من يقع في هذه الأمور، فيقع في الحكام أو يقع في العلماء، هذا هو المباشر للمخالفة الشرعية، مباشر المخالفة الشرعية من يقع، قد يكون الطرف الثاني متسبب، لكن المسؤول الأول المباشر..

المقدم: الناصح.

نعم. إذا نصح أدى ما عليه، لكن يبقى أنه إذا وقع في الأعراض من غير نصيحة، وقع في الحكام من غير نصيحة، وقع في العلماء من غير نصيحة، من غير مفاهمة فيما يقع منهم من بعض الأخطاء. نعم قد يكون الإنسان، يكون سبب في أن يقع الناس في عرضه، قد يتسبب الإنسان في أن يقع الناس في عرضه، هو المتسبب، لكن الذي يقع في العرض هو المباشر للذنب، والمباشرة أقوى من التسبب، فبدلاً من القيل والقال في الأعراض، سواءً كان في العلماء أو في الحكام، أو في عامة الناس، إذا لوحظت ملاحظة على أحد كبر أو صغر تُبدَى له هذه الملاحظة بما يغير أو بما ينتج عنه الأثر الإيجابي دون أن يترتب على ذلك مفسدة، كما هو معروف عند أهل العلم قاطبة.

المقدم: لكن يتساوى في هذا عامة الناس يا شيخ بالنسبة للنصح لأئمة المسلمين؟ هل مثلاً مقدار مسؤوليته مثل مسؤولية شخص كبير من العلماء يدخل على ولاة الأمر صباحَ مساء؟

لا شك أن الناس متفاوتون، من يتمكن من الوصول إلى شيء مسؤوليته أعظم، ليس مثل مسؤولية شخص يحجب، هذا عليه، الذي يحجب أن يبين لمن فوقه، من يصل إلى أولئك؟

على كل حال الوقوع في الأعراض أمر محظور شرعًا، ولو كان من وقع في عرضه متسبب، ولذلك مر بنا في حديث النعمان بن بشير.

المقدم: «كالراعي يرعى حول الحمى».

«من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» معناه أن من زاول هذه الشبهات، فضلاً عن المحرمات، ارتكب محرمات، يعني عرض دينه وعرضه للكلام، لكن هل يعني هذا إعفاء المتكلم من المسؤولية؟ لا يعني هذا إعفاء المتكلم من المسؤولية، الذي يتكلم هو المسؤول الأول عن كلامه، وأما المتسبب عليه مسؤولية من تسببه، لكن المباشر هو المباشر للذنب.

وأما نصيحة عامة المسلمين فجماعها تعليم ما يجهلون من أمر الدين، وإرشادهم إلى مصالحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم والترحم على صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة كنحو ما أرشد إليه في قوله -عز وجل-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل 125] فقيل إن المجادلة بالتي هي أحسن ما كان عن قول -عز وجل- حكايةً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [سورة مريم 42] كقوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ*أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [سورة لبشعراء 72-73] فإن مثل هذه المجادلة تقيم الحجة ولا تورث الوحشة، وهو معنى الدعاء إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، والله أعلم. انتهى كلام أبي سليمان، نقلته كاملاً لتتابع الشراح على نقله ولأهميته، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

لعلنا نستكمل -بإذن الله- ما تبقى في هذا الحديث في حلقة قادمة.

مستمعي الكرام، بهذا أصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، نستكمل -بإذن الله- في الحلقة القادمة.

لقاؤنا يتجدد معكم بالحلقة القادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.