كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 05

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "وَعَن ابْن عمر -رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهما- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمس: شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت»".

هذا الحديث متفقٌ عليه مُخرَّجٌ في الصحيحين، لكن المتفق عليه بتقديم الحج على الصيام «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمس: شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَحج الْبَيْت، وَصَوْم رَمَضَان»، هذا المتفق عليه، وعلى هذا الترتيب بنى الإمام البخاري صحيحه، فقدَّم كتاب الإيمان، ثم الطهارة التي هي شرطٌ لصحة الصلاة، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الحج، ثم الصيام، وهذا اللفظ هو المتفق عليه.

وفي صحيح مسلم عن ابْن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمس: شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت»، المخرج واحد، والصحابي واحد، الراوي واحد، فقال رجلٌ: وحج البيت وصوم رمضان، فقال ابن عمر: لا، صوم رمضان والحج.

فالمتفق عليه بتقديم الحج على الصيام، والرواية الأخرى وهي صحيحة ومُخرَّجة في صحيح مسلم بتقديم الصيام على الحج، وأنكر ابن عمر على من قدَّم الحج على الصيام مع أنه رواه بأسانيد صحيحة ومخرَّجة في الصحيحين.

فإما أن يكون ابن عمر –رضي الله عنهما- رواه على الوجهين، وإنكاره على من استدرك عليه؛ ليُبين له أنه عنده علم ومعرفة بتقديم الصيام على الحج، وأنه لم ينسَ؛ لأنه رواه على الوجهين، فأراد أن يؤدِّب هذا المستدرك، وأن ابن عمر ما وهِم ولا نسي، وأنه رواه على الوجهين، فمرةً رواه بتقديم الحج على الصيام، ومرةً بتقديم الصيام على الحج، والخطب في ذلك سهل، فالبخاري –رحمه الله- بنى ترتيب كتابه على تقديم الحج على الصيام، وعامة أهل العلم في ترتيب كُتبهم سواءٌ كانت الحديثية أو الفقهية جارية على تقديم الصيام على الحج.

وفي كلٍّ من الركنين أحاديث صحيحة تُشدد على من يتساهل فيهما، وأنهما من أركان الإسلام، الإسلام بُني على خمس، يعني دعائم، على خمس دعائم، وفي روايةٍ عند مسلم: "على خمسةٍ" يعني أركان.

 والركن هو جانب الشيء الأقوى الذي لا يتم الشيء إلا به، الركن لا يمكن أن يصح العمل إلا بالإتيان به، فالأركان الخمسة هي دعائم الإسلام.

أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمسٍ شَهَادَةِ» بدل من خمس بدل بعض، وكذلك ما عُطِف عليه، وفي بعض الروايات: «شَهَادَةُ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله» على تقدير مبتدأ هي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله... إلى آخره.

الشهادتان لا يدخل المرء في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله بدون شهادة لا يصح إسلامه، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» يعني على الكفر «حَتَّى يقولوا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فمن لم ينطق بالشهادة فلا حظ له في الإسلام وهو معدودٌ في الكفار الخالدين المخلدين في النار –نسأل الله العافية- ويُقَاتل؛ حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا هو الركن الأول.

والشهادة شأنها عظيم لا يُقبَل من شخصٍ صرف ولا عدل ما لم ينطق بالشهادة، وإذا وقر الإيمان في قلب شخص فصدَّق وأيقن، لكنه لم ينطق بالشهادة، فهذا حكمه أنه كافر؛ لأنه يُقَاتل على الكفر حتى يشهد أو حتى يقول: لا إله إلا الله، ما دام أنه لم ينطق بالشهادتين فإنه لا يُحكَم بإسلامه.

قد يقر الإيمان في قلب عبد ويُصدِّق ويعترف بأنه لا إله إلا الله، لكن يحول دون النطق آفة كالبكم مثلًا، أبكم ما يتكلم، هذا مسلم إذا دلت القرائن على أنه يشهد أن لا إله إلا الله ولو لم ينطق بذلك؛ لوجود المانع الذي هو البَكَم، وقد تُعاجله المنية يقر الإيمان في قلبه، ثم يُريد أن ينطق بالشهادتين، ولا يعرف كيف ينطق أو يظن أنه لا بُد أن ينطق على لسان من يُلقنه الشهادة كما هو الحال فيمن يدخل في الإسلام من الأعاجم وغيرهم، يذهبون إلى مكاتب الدعوة أو إلى أحدٍ من أهل العلم، فيُلقنهم الشهادة، وبذلك يكونون قد دخلوا في الإسلام، قد يتريث الإنسان ويتأخر، فتُعاجله المنية، هذا بالنسبة لأحكام الدنيا ما دام ما نطق فهو يُعامَل معاملة الكفار، والله يتولاه الذي فيما بينه وبين الله الله –جلَّ وعلا- يتولاه.

والمسألة ليست نظرية، المسألة عملية، ولها شواهد في الواقع، شخص يقول: إن له صديقًا نصرانيًّا وهم أفارقة هذا مسلم، وصديقه نصراني، دعاه إلى الإسلام، وأثَّر عليه، فوقر الإيمان في قلبه وقال للمسلم: اذهب بنا إلى شيخ ندخل على يديه في الإسلام ويُلقننا الشهادة، فذهبوا إلى شيخ، هذا الشيخ ما وُفِّق، فقال: الآن بقي على الصلاة ربع ساعة، وبعد الصلاة نُلقنه الشهادة، خرجوا من عنده فإذا هناك إطلاق نار متبادل بين فئات -أنتم تعرفون الأوضاع إذا اختل الأمن نسأل الله العافية- أُصيب هذا الرجل بطلقٍ ناري فمات، ويسألون هل هو مسلم؟ الرجل ذهب إلى العالِم يُلقنه الشهادة، لكن ما نطق، إذا ما نطق ليس بمسلم حكمًا، يعني في الدنيا يُعامَل معاملة الكفار، وما يضره باقٍ ربع ساعة ما تأخذ دقيقة، دقيقة واحدة ما تكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، باقٍ ربع ساعة على الصلاة لو لقنه الشهادة، وجعله يتوضأ وذهب به معه على المسجد، وانتهى الإشكال، لو مات خلاص أنت مسلم، وبعد النطق بالشهادتين ما تمكن من معاصٍ ولا جرائم ولا منكرات، لكن الحرمان هذا الشيخ محروم حرم نفسه؛ لأنه «لأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ حُمْرِ النَّعم»، «وَمَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» محروم حرم نفسه وحرم هذ المسكين، والله يتولاه إذا علم منه صدق النية ووقر الإيمان في قلبه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، لكن أحكام الدنيا على الظاهر.

فلا بُد من النطق شهادة أن لا إله إلا الله لا بُد أن يقولها جازمًا بها، معتقدًا لها، عارفًا بمعناها، عاملًا بمقتضاها، وأنه لا معبود بحقٍّ إلا الله.

«وَأَن مُحَمَّدًا رسول الله»، ومقتضى الشهادة بالرسالة للنبي –عليه الصلاة والسلام- طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر؛ لأن الشهادتين ليست كلامًا نظريًّا مجردًا عن العمل، مع الأسف أن كفار قريش يعرفون معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه لا إله إلا الله؛ ولذلك لما طُلِبت منهم، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] يعرفون المعنى، وكثيرٌ من المسلمين –مع الأسف الشديد- لا يعرفون معنى لا إله إلا الله، ولا ما تقتضيه لا إله إلا الله، فتجده يُكرر لا إله إلا الله، ويطوف على قبر، ويقول: لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هذا ما يعرف لا إله إلا الله، ولا تنفعه لا إله إلا الله، تجده يقول: لا إله إلا الله، ويُكررها ويطوف على القبر أو يقول: لا إله إلا الله، يا حسين، يا علي، يا فلان، يا محمد، يا رسول الله، ونسمعهم وهم يطوفون على الكعبة يقولون هذا الكلام نسمعهم كثيرًا يا رسول الله، يا حبيب الله، يدعون مع الله غيره، وهذا هو الشرك الأكبر، نسأل الله العافية.

بعضهم يقول: لا إله إلا الله، ولا يعرف من الإسلام شيئًا، وقد شُوهِد في بعض البلدان التي غزتها الشيوعية، وأثَّرت على أهلها ومسختهم، تجد عندهم لا إله إلا الله، وهو شيخٌ كبير يُكرر لا إله إلا الله، وبين يديه مصحف جوامعي يعني القطع الكبير يُسمونه جوامعيًّا، وهو يبيع سمكًا إذا باع سمكة قطع ورقة ولفها بورقة المصحف وسلمها الزبون! هذا يعرف معنى لا إله إلا الله، ويُكرر لا إله إلا الله؟

مع الأسف الجهل مُطبِق، والغربة مستحكمة، نعم الخير موجود، وفي كثير من بلاد المسلمين انتشر العلم والوعي الديني، ورجع الناس أفواجًا إلى دين الله، لكن يُوجد الجهل، وتُوجد الغربة، فلا أشد من كونه ينزع ورقة من المصحف ويلف بها السمكة ويُعطيها الزبون!

والكفار لما قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] يفهمون؛ ولذلك رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله.

«وَأَن مُحَمَّدًا رسول الله» الذي يشهد أن محمدًا رسول الله، ويصرف له –عليه الصلاة والسلام- شيئًا من أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله –جلَّ وعلا- يدعوه من دون الله يستغيث به. 

"يَا أَكْرَمَ الخَلقِ مَا لي مَن أَلُوذُ به سِواكَ" هذا يشهد شهادة حق أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟

يرتكب من البدع المكفِّرة، ويقول: أنا أشهد أن محمدًا رسول الله؟ يغلو بمحمد –عليه الصلاة والسلام- كما فعلت النصارى بعيسى –عليه السلام- ويقول: أشهد أن محمدًا رسول الله؟ هذا يأتي بما يُناقض شهادة أن محمدًا رسول الله.

«وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» أشرف المقامات له –عليه الصلاة والسلام- العبودية والرسالة، وأنه لما قام عبد الله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، والعبودية هي الهدف الذي من أجله خُلِق الجن والإنس، إنما خُلِقوا لتحقيق العبودية، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.

«وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وإقام الصَّلَاة» الإقامة بمعنى الاستقامة، وتقويم العمل، وتحسينه وتكميله، ما قال: والصلاة؛ لأن كثيرًا من المسلمين يُصلي، لكن هل أقام الصلاة؟ يخرج من صلاته، وليس له منها شيء.

الصلاة مثولٌ بين يدي الله –عزَّ وجلَّ-، ومع الأسف أننا نخرج من الصلاة بدون أثر، والله –جلَّ وعلا- يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، كثيرٌ من المسلمين يُصلي، وإذا خرج من المسجد زاول فواحش ومنكرات، والله –جلَّ وعلا- يُخبِر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذه الصلاة التي يُصليها كثيرٌ من المسلمين مع مزاولة هذه الفواحش والمنكرات لا بُد من إعادة النظر فيها؛ حتى تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ لأن بعض الناس يدخل إلى المسجد ويخرج كما دخل، قلبه لا نصيب له من هذه الصلاة، والإنسان إذا لم يجد قلبه في الصلاة، وفي الذِّكر، وفي التلاوة كما قال بعض السلف؛ ليعلم أن الباب مغلق، وإذا أُغلِق الباب بين العبد وبين ربه ماذا ينتظر؟ علينا أن نسعى في إصلاح قلوبنا؛ من أجل أن نُصلي صلاةً تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وتُقربنا إلى الله –جلَّ وعلا-، وتزيدنا من الخوف والخشية والوجل من الله -جلَّ وعلا-.

لا بُد من إقامة الصلاة، «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، فإذا صلينا كما جاءنا عن النبي –عليه الصلاة والسلام- من قوله وفعله، وطبَّقنا ما بلغنا عنه –عليه الصلاة والسلام- صارت الصلاة صحيحة، تترتب عليها آثارها من انتفاع القلب، ومن الكف عمَّا لا يُرضي الله -جلَّ وعلا-.

بعض الناس يخرج من الصلاة بعُشر أجرها، وبعضهم بالتسع، وبعضهم بالثمن، وبعضهم...

«مَن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، ومن ذَكَرَنِي في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ منه»، الذِّكر به حياة القلوب {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ويقول من يقول من غُلاة الصوفية: ألا بذكر الله تزداد الذنوب، وتنطمس البصائر والقلوب –نسأل الله العافية-، وهذا تُدعى له الولاية، يُقال: إنه ولي ويُغلى فيه، نسال الله العافية.

الذِّكر به حياة القلوب كما قال الله –جلَّ وعلا-: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فإذا ذكرت الله في نفسك ذكرك الله في نفسه، هل هذا أمر سهل؟ هل نتصور مثل هذه المواقف؟ لو قيل لك: إن المدير أثنى عليك البارحة، ذكرك في مجمع من الناس، وأثنى عليك -فضلًا عن كونه وزيرًا أو أميرًا أو ملكًا- مدير ما بينك وبينه إلا يمكن مرتبة، يمكن ما تنام هذه الليلة، هذا خلل، خلل في حياة المسلم الذي هذا التصور عنده، ومع الأسف أنه كثير، ليس باليسير.

«وإقام الصَّلَاة» يعني على ما جاء عنه –عليه الصلاة والسلام- بإتمام أركانها وشروطها وواجبتها، وسُننها، وبهذا تكون إقامتها وتقويمها، وتترتب عليها آثارها.

«وإيتاء الزَّكَاة» الركن الثالث الزكاة التي هي قرينة الصلاة في كثيرٍ من نصوص الكتاب والسُّنَّة، وأبو بكر يقول: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة.

والزكاة ركن من أركان الإسلام، وجانب قوي من جوانبه العِظام يختلف أهل العلم في كفر مانعها، أما بالنسبة للشهادتين، فذكرنا أنه من لم ينطق بهما ولم يعتقدهما هذا لا حظ له في الإسلام إجماعًا هذا ما اختُلِف فيه. 

«إقام الصَّلَاة» جاءت الأدلة الصحيحة على كفر تاركها «العَهدُ الذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ»، «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ أَوِ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ»، فالمرجَّح أن تارك الصلاة كافر.

تبقى الأركان الثلاثة: إيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج محل خلافٍ بين أهل العلم، لكن الأمر خطير.

القول بكفر تارك الأركان الثلاثة انتهينا من الركنين الأولين الشهادتين مع الصلاة فيها النصوص الصحيحة التي تدل على ذلك، وإن كانت الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم، لكن المرجَّح أن تاركها كافر.

إيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج القول بكفر تارك واحدٍ منها هو قولٌ معروفٌ عند المالكية، ورواية عند الحنابلة، فالأمر ليس بالسهل.

«وإيتاء الزَّكَاة» أبو بكر –رضي الله عنه- قاتل الذين منعوا الزكاة، والله لو منعوني عقالًا أو قال: عناقًا، كانوا يؤدونه لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه، فقاتلهم.

«وإيتاء الزَّكَاة» والصلاة لها شروط وأركان وواجبات، وكذلك الزكاة محل تفصيلها كُتب الفروع، وكُتب الفقه.

«وَصَوْم رَمَضَان» على هذه الرواية، والرواية الأخرى: «وحج البيت» الركن الرابع، وذكرنا أن الإمام البخاري بنى ترتيب صحيحه على هذا، فقدَّم الحج على الصيام.

وجاء في الصيام نصوص تُشدد في أمر التساهل فيه، وكذلك الحج «مَنْ كَانَ لَهُ جِدة فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وإن شَاءَ نَصْرَانِيًّا».

ويكفي أنها جاء النص الصحيح على أنها دعائم، وعلى أنها أركان، الركن في الأصل لا تصح الماهية إلا به؛ لأنه جزء من الماهية داخلٌ فيها، فلا يصح إلا بها.

ويُمثلون هذه الأركان الخمسة بالبيت من الشَّعر له عمود في وسطه، وأربعة أعمدة في جوانبه، هي كلها أركان، إذا سقط عمود من أعمدة الجوانب تأثر، انهدم الجزء الذي هو فيه، وإذا سقط العمود الأوسط خلاص انهدم البناء كله، فتكون الشهادة بمثابة العمود الأوسط، والأعمدة الأربعة في الجوانب هي الأركان الأربعة.

ولا شك أن التفريط بشيءٍ من هذه الأركان والتساهل فيها من عظائم الأمور، وعرفنا أن القول بتكفير تارك واحدٍ من هذه الأركان قولٌ معروف عند المالكية ورواية عند الحنابلة، وإن كان الأكثر على عدم تكفيره.

«وَصَوْم رَمَضَان» الزكاة تجب في الأموال إذا بلغت النصاب، تجب في مال المسلم سواءً كان مكلفًا أو غير مكلَّف، حتى إنها تجب في مال الصبي والمجنون، قد يقول قائل: كيف مجنون غير مكلف تجب عليه الزكاة؟

قالوا: إن وجوبها من باب الأحكام الوضعية، وليس من باب الأحكام التكليفية الذي يُشترط لها التكليف بالعقل والبلوغ، إنما من باب الأحكام التكليفية من باب ربط الأسباب بالمسببات، فتجب في مال الصبي والمجنون إذا بلغ نصابًا، وحال عليه الحول، وكان من الأموال الزكوية المعروفة عند أهل العلم، وفي كل نوعٍ من أنواع المال نصاب ونسبة.

«وَصَوْم رَمَضَان» يجب على المكلف، ويُؤمر به الصبي إذا أطاقه من باب التمرين لا من باب الوجوب والتأثيم، إنما من باب التمرين، وإذا كُلِّف بأن بلغ الخامسة عشرة أو كُلِّف قبل ذلك بالإنزال أو الإنبات فإنه يجب عليه ويلزمه، ويكون حكمه حكم الكبار المكلفين.

«وَحج الْبَيْت» الصوم في كل عام صوم رمضان شهر من كل عام، وأما الحج فيجب مرة واحدة في العمر، يجب مرة واحدة في عمر المسلم، وسُئل النبي –عليه الصلاة والسلام- لما قال: «إن الله كَتب عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» قيل: أكل عامٍ يا رسول الله؟ قال: «لا، ولَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، ولو وجبت مَا اسْتَطَعْتُمْ»، يعني تصوروا أن جميع المسلمين يلزمهم الحج في كل عام، مشقة عظيمة لا تُطاق، الآن كم نسبة من يحج؟

طالب: .............

أقل، يعني كم عدد المسلمين؟

طالب: ............

مليار ونصف، بنسبة واحد من ألف، لكن لو حجوا كلهم فالأمر عظيم، ولذلك من شفقته –عليه الصلاة والسلام- قال: «ولَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، ولو وجبت مَا اسْتَطَعْتُمْ».

كم بقي؟

طالب: ثلث ساعة.

الحديث الذي يليه يقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "وَعَن أنس أَن النَّبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ من كن فِيهِ وجد بِهن حلاوة الْإِيمَان» الإيمان له حلاوة يجدها المسلم المؤمن المُحقق لإيمانه وإسلامه، ولا يجدها من لا تُوجد فيه الخصال الثلاث.

أحيانًا المسلم من حرصه وشفقته على هذا الوصف الذي هو الإيمان يفزع وهو في منامه إذا تصوَّر أنه أخل بشيءٍ من إيمانه أو بدينه، ويلهج بشكر الله –جلَّ وعلا- أن هداه للإسلام، ومع ذلك بعض المسلمين يعمل ويفعل أشياء تُخل بإيمانه، وتنقص إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، فالدين رأس المال، على الإنسان أن يحرص عليه أكثر مما يحرص على الطعام والشراب، وأكثر مما يحرص على الأهل والولد هو رأس ماله، ويسعى في زيادته؛ ليجد الحلاوة ويتلذذ.

المسلم تجده يأتي إلى الصلاة وفيها نوع مشقة عليه، ويصوم والصيام يشق عليه، ويُزكي، ودفع المال شاق على نفسه، ويحج ويتذمر متى يرجع إلى أهله، لو وجد حلاوة الإيمان يجد هذه المشقة؟

في أول الأمر لا شك أن الجنة حُفَّت بالمكاره، لكن على الإنسان أن يُجاهد نفسه حتى يتلذذ بالطاعات، الإنسان يُقدّم نفسه، يُقدّم مهجته، يُضحي بنفسه؛ ليُقتَل في سبيل الله وهو يضحك، لماذا؟

لأنه يتلذذ بالطاعة، وقد وجد حلاوة الإيمان.

كثيرٌ من السلف قال: جاهدنا أنفسنا في قيام الليل عشرين سنة، ثم بعد ذلك تلذّذ بالقيام، يعني لذة المناجاة في آخر اللي أو في الثلث الأخير من الليل في أول الأمر فيها صعوبة قد يترك القيام بسبب هذه الصعوبة، ومع الأسف أننا الإنسان يُجاهد، وأمام النفس الأمارة بالسوء والشيطان تجده أحيانًا يضعف، ويُمني نفسه أن يقوم في آخر الليل، وهو قد بذل الموانع، فضلًا عن كونه يبذل الأسباب يسهر بالليل ويأكل كثيرًا، ويقول: سأقوم آخر الليل، هذا يضحك على نفسه، ثم يقول: أقوم آخر الليل، فإذا به ما ينتبه إلا بعد طلوع الصبح.

الذي يُريد الشيء يبذل أسبابه، أنت الآن لو عندك تجارة في متجر وتكسب ما تروح لهذا المتجر ولا تفتح ولا تبيع ولا تشتري؟ ما تُدرك شيئًا، فكيف بالمتاجرة مع الله –جلَّ وعلا- إذا كانت مزاولة التجارة تجارة الدنيا مُكلفة وشاقة، وتحتاج إلى تعب، ومع ذلك يتلذذ بها الإنسان، فكيف بالمتاجرة مع رب العالمين التي لا تُكلِّف شيئًا؟

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، امسك المصحف واقرأ في ربع ساعة جزءًا بمائة ألف حسنة، لكن اقرأ على الوجه المأمور به من التدبر والترتيل، وتجد حلاوة الإيمان.

فَتدبَّرِ القُرآنَ إن رُمتَ الهُدى
 

 

فالعِلمُ تحتَ تَدبُّر القُرآنِ
 

إذا أردنا حلاوة الإيمان أن نُكثر من التلاوة والذِّكر، وصيام النوافل، والصلاة، ثم بعد ذلك نجد النتيجة إن شاء الله تعالى.

«ثَلَاثٌ من كن فِيهِ وجد بِهن حلاوة الْإِيمَان: من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا»، كثير من الناس يدعي أنه يُحب الله ورسوله، لكن هذه دعوى إن لم تُصدَّق بالعمل فلا قيمة لها، لا بُد أن يكون العمل موافق لما جاء عن الله وعن رسوله، خالصًا لوجهه الكريم، صوابًا على سُنَّة نبيه –عليه الصلاة والسلام-، ويُقدِّم هذا العمل المقرِّب إلى الله –جلَّ وعلا- على جميع حظوظ نفسه.

يعني متى يبين صدق المحبة لله ورسوله؟

إذا قدمت مراد الله ومراد رسوله على مرادك وشهواتك.    

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تَزعُم حُبَّهُ
 

 

هـذا لعمري في القـياس شنيع
 

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ
 

 

إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
 

يزعم أنه يُحب الرسول –عليه الصلاة والسلام- ويُخالفه، يبتدع في دين الله «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ» يعني مردود، ثم يقول: أنا أحب الرسول، ويكتفي بترديد مدائح فيها من الغلو، وفيها مخالفة أوامره –عليه الصلاة والسلام- ويقول: أنا أحب الرسول!

..........................................
 

 

إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
 

«أن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله»، والمحبة في الله لا تزيد مع الصفاء، ولا تنقص مع الجفاء، نزعم أننا نُحب فلان العالم العابد، ثم إذا ذهبنا إليه ووجدنا الاستقبال ليس مناسبًا تأثرنا وما زرناه مرةً ثانية، هل هذه المحبة لله؟

لا، والله ليست لله، هذه ليست لله، إذا تأثرت هذه المحبة ونقصت؛ لأنه ما استقبلك الاستقبال المناسب، هذه ليست لله؛ لأن المحبة في الله لا تزيد مع الصفاء هو متصف بوصف لا يتغير عالم عابد تقي مؤتسٍ تحبه لهذا، زادت مع الجفاء هذا شخص تُحبه لله، ثم بعد ذلك أحسن إليك، ولا شك أن النفوس جُبِلت على محبة من يُحسن إليها، وبغض من يُسيء إليها، لكن مع ذلك يبقى القدر الواجب من المحبة لا يتأثر.  

«وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره أَن يعود فِي الْكفْر بعد أَن أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يُلقى فِي النَّار»، ما فيه أحد يُحب أن يُلقى في النار كلٌّ يكره أن يُلقى في النار؛ لأنها حارة وضارة ولا تُطاق، لكن هل الإنسان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار؟ هذا محك، فإذا كان حبه لدينه، وتمسكه به بهذا المستوى يجد حلاوة الإيمان إضافةً إلى ما تقدم من الخصال.

«وَأَن يكره أَن يعود فِي الْكفْر بعد أَن أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يُلقى فِي النَّار»، ولو نظرنا بعين البصيرة لوجدنا أنه لا نسبة بين عوده إلى الكفر وبين إلقائه في النار؛ لأن عوده إلى الكفر يلزم منه الخلود في النار أبد الآباد، وإلقاؤه في النار يلزم منه القضاء على حياته في الدنيا، وما نسبة الدنيا إلى الآخرة في مدتها، وفي نعيمها، نعيم الدنيا ما نسبته لنعيم الآخرة؟ نعيم مشوبٌ بكدر وشقاء وكَبَد، فإذا أُلقي الشخص في النار وقُضي على حياته في هذه الدنيا انتهت حياته التي مهما طالت قُل: لتبلغ مائة سنة، لكن ماذا عمَّا لو رجع وعاد إلى الكفر، وخُتِم له به -نسأل الله السلامة والعافية- وخُلِّد في النار آبد الآباد، {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ:23-24]، نسأل الله العافية؟ ما فيه نسبة ولا فيه مقارنة، لكن مع الغفلة تجد أن الإنسان أحيانًا يؤثِر هذه الدنيا على الآخرة، ويغفل عن مثل هذا الكلام.

يستعجل الرزق بسخط الله، وقد قال عمر –رضي الله عنه-: ولا يحملنكم استعجال الرزق على أن تطلبوه بسخط الله، فإن ما عند الله لا يُنال بسخطه.

يتعامل بالربا ويُحارب الله ورسوله من أجل ماذا؟

من أجل الحطام، يرشي يدفع رشوة، ويستحق اللعن؛ من أجل كسب حطام الدنيا، هل هذا حب الله ورسوله أشد وأعظم عنده من حب ما سواهما؟ هذا ليس بصحيح هذه دعوى ولو قاله، "ولا يحملنكم استعجال الرزق على أن تطلبوه بسخط الله، فإن ما عند الله لا يُنال بسخطه" «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، ولَعَنَ المُصَوِّرَ»، كما في صحيح البخاري.

من أجل ماذا؟

 حطام دنيا، نسبة يسيرة يُودِع أمواله في البنوك، ويقول: اشتغلوا اثنين بالمائة، ثلاثة بالمائة، ويستحق اللعن، هل هذا عقل؟ هل هذا عاقل الذي يتصرف هذه التصرفات؟ لا والله، العاقل حقيقةً هو الحريص على نجاة نفسه، المُحقق لعبودية ربه.

تتعسّر له معاملة يُريد أن يتوظف مثلًا ما يجد إلا برشوة «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ»، هل هذا آثر ما عند الله على هذه الدنيا الفانية؟ يمكن أن يكسب هذا الحطام، ويكسب الملايين، ثم تكون وبالًا عليه، وقد تُعجَّل له العقوبة، فيُبتلى بأمراض يصرفها على نفسه في العلاج، وهذا كثير.

كم بقي؟

طالب: .............

عندك أسئلة؟

طالب: ثلاثة.

لعلنا نأخذ سؤالًا ولا شيئًا.

يقول: ما حكم التسمي بعبد النبي؟ وما يلزمني إن أردت تغيير هذا الاسم؟

التعبيد لغير الله لا يجوز، وغيَّر النبي –عليه الصلاة والسلام- الأسماء المُعبَّدة لغير الله، ويلزمك إذا أردت التغيير أن ترجع إلى الجهات الرسمية، وتُطالب بتغييره، وإذا كان عندنا مباشرةً يُغيَّر؛ لأن التسمية بهذا محرَّمة، والأحوال موجَّهة بتغيير الأسماء المحرَّمة.

يقول: هل الأولى حفظ السُّنَّة والمتون أو الأولى فهمها؟

ما فيه علم إلا بحفظ، إذا لم يكن عندك رصيد مخزون حفظ ما ينفعك الفهم، ماذا تفهم؟ وإذا وُجِد الحفظ وحاولت فهم ما حفظت أدركت إن شاء الله تعالى.

يقول: كيف أستفيد من الكتاب عندما أقرأه؟

ما المراد بالكتاب؟ القرآن ولا أي كتاب؟
طالب: .............
لا بُد أن تُحضِر قلبك وأنت تقرأ سواءً كان في كتاب الله أو في الكتب الأخرى من كتب العلم، أما الذي لا يُحضر قلبه وهو يقرأ ولا يُركِّز على ما يقولون لا يستفيد، لا بُد من القراءة مع حضور القلب، وهناك وسائل لتدوين الفوائد، والتعليق عليها، ونقلها إلى مذكرات وغير ذلك، وهي موجودة في أشرطة كثيرة من يحتاجها يرجع إليها.