شرح العقيدة الواسطية (28)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجعين، أما بعد: قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطٍ قط» متفق عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» متفق عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان».
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد: فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الأحاديث النبوية التي أوردها المؤلف في إثبات الصفات مما أثبته النبي -عليه الصلاة والسلام- لربه -عزَّ وجل- على ما يليق بجلاله وعظمته منها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تزال جهنم»، وجهنم اسم من أسماء النار -نسأل الله السلامة والعافية- يُلقى فيها من أهلها المستحقين لها، ومعلوم أنها وقودها الناس والحجارة، النار وقودها الناس والحجارة -نسأل الله السلامة والعافية-، وقد ضمن الله -جلَّ وعلا- لها أن تمتلئ فلاتزال يُلقى فيها ويُدَعُّون فيها دَعًّا، يدفعون دفعًا شديدًا ويُلقون فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ والخلاف في هذا التعبير أو الأسلوب هل هي تطلب المزيد أو تنفي أن يكون فيها محل للمزيد، وكل هذا جاء عن أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين حينما تقول: {هل من مزيد} كما جاء في سورة ق، هل معنى هذا أنها تقول تطلب الزيادة؟ هل من مزيد؟ ويكون هذا من باب الطلب، أو يكون من باب نفي قبول الزيادة؟ وأنها قد امتلأت، وقد جاء التفسير بهذا وهذا، ولكن المرجح أن هذا طلب بدليل باقي الحديث «حتى يضع فيها رب العزة رجله» وفي رواية «عليها قدمه» في فتح الباري يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: باب قوله: وتقول هل من مزيد، اختلف النقل عن قول جهنم: هل من مزيد، فظاهر أحاديث الباب أن هذا القول منها لطلب المزيد، وجاء عن بعض السلف أنه استفهام إنكار، كأنها تقول: ما بقي فيَّ موضع للزيادة، فروى الطبري من طريق الحكم بن أَبَان عن عكرمة في قوله: {هل من مزيد} أي هل من مدخل قد امتلأت، ومن طريق مجاهد نحوه، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس وهو ضعيف، ورجح الطبري أنه لطلب الزيادة على ما دلت عليه الأحاديث المرفوعة، يعني الأحاديث التي منها حديثنا صريح في أنها تطلب المزيد، ولو لم يكن فيها فضل يطلب له المزيد لما احتيج إلى أن يضع رب العزة فيها قدمه لينزوي بعضها إلى بعض وتنكمش بحيث لا يبقى فيها مكان للزيادة، يعني الحديث صريح وهو مخرج في الصحيحين وغيرهما، ورجح الطبري أنه لطلب الزيادة على ما دلت عليه الأحاديث المرفوعة، وقال الإسماعيلي الذي قاله مجاهد موجه، فيُحمل على أنها قد تزاد وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد، يعني كأنها لكثرة ما ألقي فيها خُيِّل لها أنها قد امتلأت، قال الإسماعيلي: والذي قاله مجاهد مُوَجَّه، يعني يمكن توجيهه فيُحمل على أنها قد تزاد وهي عند نفسها لا موضع فيها للزيادة؛ لأنه قد يقول قائل: السلف يخفى عليهم مثل هذه الأحاديث، فيؤولون القرآن على خلاف ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا سيما مجاهد الذي قال بعض الصحابة: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ومعروف مقامه في هذا الباب، يقول: فيُحمل على أنها قد تزاد وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد، فهي لكثرة ما يُلقى فيها خُيِّل إليها أنها قد امتلأت: ﮋ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﮊ ق: ٣٠ يعني كأنها امتلأت من كثرة ما يلقى فيها، والله -جلَّ وعلا- يعلم، لا تخفى عليه خافية، فيعرف أن فيها مواضع تقبل الزيادة، والله -جلَّ وعلا- لا يظلم أحدًا، فلا ينشئ لها خلقًا يعذبهم دون سابق جرم فيضع فيها رجله فينزوي بعضها على بعض وتقول: قَطٍ قَطٍ، أو قَطْ قَطْ، أو قَطِ قَطِ، أو قَطِي بالياء بالإشباع قَطِي قَطِي أو قَطْنِي يعني حسبي ويكفيني، ضُبطت اللفظة بهذه الأوجه، المقصود أن هذا الأسلوب {هل من مزيد}، هل هو استفهام طلب كما تدل عليه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما منها حديث الباب؟ أو استفهام نفي لقبول الزيادة؟
وعرفنا القولين، وهذا الحديث «حتى يضع فيها رب العزة، أو يضعَ رب العزة فيها رجله» حتى يضعَ اللهُ -جلَّ وعلا- والأسلوب أسلوب عظمة من قبل الله -جلَّ وعلا- فالعزة مناسبة لهذا السياق، رب العزة فيها رجله، ففي هذا إثبات الرِّجل لله -جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وتُثبت حيث ثبتت فيها النصوص الصريحة خلافًا لمن أولها، خلافًا لمن أول الرجل وقالوا: الرِّجل الجماعة، كما في حديث داود -عليه السلام- أنه حينما اغتسل ونزل عليه رِجل من جراد، يعني: جماعة من جراد من ذهب، ولكن هذا تأويل مناف للسياق، يضع الرب -جلَّ وعلا- على سبيل التنزل على قولهم جماعة من إيش؟ من البشر؟ السياق يأباه؛ لأن الله -جلَّ وعلا- يخلق للجنة أقوامًا؛ لأنها رحمته والنار جهنم عذابه -نسأل الله السلامة والعافية-، ففضله دائم ومتعد لمن يستحق ولمن لا يستحق، جوده -جلَّ وعلا- وسع كل أحد فيناسب أن يخلق للجنة أقوامًا لم يعملوا عملاً، لكن كونه يعذِّب من لا يستحق العذاب هذا ظلم، وقد حرَّمه الله -جلَّ وعلا- على نفسه، قوله في حديث أنس: «يُلقى في النار وتقول: هل من مزيد»، وفي رواية سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة: «لا تزال جهنم يُلقى فيها حتى يضع قدمه فيها» كذا في رواية شعبة، وفي رواية سعيد «حتى يضع رب العزة فيها قدمه» قوله: «فتقول قَطٍ قَطٍ» في رواية سعيد: «فيُزوى بعضها إلى بعض وتقول: قَطٍ قَطٍ وعزتك»، في رواية سليمان التيمي عن قتادة: «فتقول: قدٍ قدٍ» بالدال بدل الطاء، وفي حديث أبي هريرة: «فيضع الرب عليها قدمه فتقول: قطٍ قطٍ» وفي الرواية التي تليها: «فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قطٍ قطٍ» فهناك «تمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعض» في حديث أُبَيّ بن كَعْب عند أبي يَعْلَى: «وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فيُزوى بعضها إلى بعض وتقول: قطٍ قطٍ»، وحديث أبي سعيد عند أحمد: «فيلقى في النار أهلها، وتقول: هل من مزيد، ويلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يأتيها -عزَّ وجل- فيضع قدمه عليها فتنزوي فتقول: قدني قدني».
وقوله: «قطٍ قطٍ» أي: حسبي حسبي، وثبت بهذا التفسير عند عبدالرزاق من حديث أبي هريرة، وقَطْ بالتخفيف ساكنًا، ويجوز الكسر بغير إشباع، ووقع في بعض النسخ عن أبي ذر: «قطِي قطي» بالإشباع، «وقطني» بزيادة نون مشبعة، ووقع في حديث أبي سعيد ورواية سليمان التيمي بالدال بدل الطاء وهي لغة أيضًا، وكلها بمعنى يكفي، وقيل: قط: صوت جهنم، والأول هو الصواب عند الجمهور، يعني يكفي وحسبي حسبي ويكفيني.
يقول: ثم رأيت في تفسير بن مَرْدَوَيْه من وجه آخر عن أنس ما يؤيد الذي قبله ولفظه: «فيضعها عليها فتُقَطْقِط كما يُقَطْقِط السِّقاء إذا امتلأ»، انتهى. فهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن في سنده موسى بن مُطَيْر وهو متروك.
واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تُمَرّ كما جاءت ولا يتعرض لتأويله، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله -جلَّ وعلا-، لكن هل في إثبات ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه في كتابه أو على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام- ما يوهم نقص؟ نعم الله -جلَّ وعلا- ليس كمثله شيء وأثبت لنفسه ما ثبت نظيره للمخلوق، لكن للخالق ما يخصه وللمخلوق ما يخصه فلا مشابهة، فالله -جلَّ وعلا- ليس كمثله شيء، وليس معنى هذا أننا نبالغ في التنزيه إلى حد نصل فيه إلى نفي ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه، كما أننا مطالبون بتنزيه الله -جلَّ وعلا- عن مشابهة المخلوقين، فكذلك نحن مطالبون بأدلة..، يعني إذا كان التنزيه في قوله -جلَّ وعلا- في نص أو نصوص محدودة، فالإثبات التفصيلي..، يعني إذا كان النفي الإجمالي موجودًا..، ونحن نعتقده كما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- لكن هل يعني هذا أننا ننفي ما أثبته الله لنفسه -جلَّ وعلا- من إثبات تفصيلي من الأسماء والصفات؟ ولذا هو يقول: ولا يُتعـرض لتأويله، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله، نعم ما يوهم النقص فالله -جلَّ وعلا- منزه عنه، لكن المبتدعة يستغلون مثل هذا الكلام في نفي ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه؛ لأن الإثبات عندهم ملازم لتصور النقص، لكن إذا أثبتنا ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه ونفينا ما نفاه عن نفسه لا يلزم من ذلك تخيل ولا توهم النقص بوجه من الوجوه، قال: وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك، فقال: المراد إذلال جهنم، فإنها إذا بالغت في الطغيان وطلب المزيد أذلها الله فوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال ولا تريد أعيانها، كقولهم: رغم أنفه، وسقط في يده، وقيل: المراد بالقدم الفَرْط السابق، أي يضع الله فيها ما قدَّمه لها من أهل العذاب.
القدم إنما سميت قدم؛ لأنها تتقدم الإنسان، تتقدمه في المشي، لا يمكن المشي إلا إذا تقدمت الرجل على الأخرى، ثم الثانية على الأولى وهكذا، وهنا يقول: وقيل المراد بالقدم الفَرْط السابق، أي: يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، قال الإسماعيلي: القدم قد يكون اسمًا لما قُدِّم كما يسمى ما خِيْط من ورق خَيْطًا، فالمعنى ما قدَّموا من عمل، وقيل: المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين، فالضمير للمخلوق معلوم، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم، أو المراد بالقدم الأخير؛ لأن القدم آخر الأعضاء، فيكون المعنى: حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها، ويكون الضمير للمزيد، لكن هذه كلها تأويلات يأباها السياق، تأويلات يأباها سياق الحديث، وكل هذا فرار من أن يثبت لله -جلَّ وعلا- ما أثبته لنفسه، ولا شك أن هذا مجانب للصراط والمنهج الذي سار عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، يقول: وقال ابن حبان في صحيحه بعد إخراجه: هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عُصي الله فيها، فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتلئ؛ لأن العرب تطلق القدم على الموضع؛ قال الله -جلَّ وعلا-: {أن لهم قدم صدق} يريد موضع صدق، قال الداودي: المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإشارة بذلك إلى شفاعته وهو المقام المحمود... إلى آخره.
ثم قال: وزعم بن الجوزي أن الرواية التي جاءت بلفظ الرِّجل تحريف من بعض الرواة؛ لظنه أن المراد بالقدم الجارحة فرواها بالمعنى فأخطأ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالرِّجل إن كانت محفوظة: الجماعة، كما تقول: رِجل من جراد، فالتقدير: يضع فيها جماعة، وأضافهم إليه إضافة اختصاص، يعني إذا قال: رِجله الذي يضاف إلى الله -جلَّ وعلا- ألا يقتضي تشريف المضاف كبيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك؟ هذا يقتضي التشريف، فأي شرف لمن يوضع في النار، يقول: وأضافهم إليه إضافة اختصاص، وبالغ بن فُورَك فجزم بأن الرواية بلفظ الرِّجل غير ثابتة عند أهل النقل وهو مردود؛ لثبوتها في الصحيحين، وقد أولها غيره بنحو ما تقدم في القدم، فقيل رِجل بعض المخلوقين، وقيل: إنها اسم مخلوق من المخلوقين، وقيل: إن الرِّجل تستعمل في الزجر كما تقول: وضعته تحت رجلي، وقيل إن الرِّجل تستعمل في طلب الشيء على سبيل الجِدّ كما تقول: قام في هذا الأمر على رِجل، وقال أبو الوَفَاء بن عَقِيل -تعالى الله- عن أنه لا يُعْمَل أمره في النار حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته، وهو القائل للنار: {كوني بردًا وسلامًا} فمن يأمر نارًا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب، فكيف يحتاج في نار يؤججها إلى استعانة؟ انتهى.
المقصود أن كل هذا الكلام كله من التأويل المذموم المردود الذي يُراد منه نفي ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه، واعتقد واتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، فلا محيد عن إثبات ما أثبته الله لنفسه الله -جلَّ وعلا- يثبت لنفسه، ونحن نقول: لا يثبت، لا شك أن هذه محادة ومعاندة، فهؤلاء -أعني الذين ينفون ما أثبته الله لنفسه- كيف يتصورون يوم القيامة إذا جاء الله -جلَّ وعلا- على الصفة التي يعرفونها، كيف يعرفون الصفة وهم ينفون الصفات؟ يعني إذا جاء على الصفة التي يعرفونها يسجدون له هؤلاء، كيف يسجدون؟ هل عرفوه من أجل أن يسجدوا له؟ لا يمكن أن يعرف إلا من خلال ما جاء عنه -جلَّ وعلا- في كتابه، أو على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، هل يمكن أن يعرف شخص دون وصف؟ يُعرف شيء ما رئي سابقًا ولا وصف؟ ما يمكن أن يعرف، والله -جلَّ وعلا- وصف نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام- وأجمع سلف الأمة على هذه الأوصاف، فصاروا يعرفونه بهذه الأوصاف التي جاءت عنه، فإذا جاءهم على صفته عرفوه فكيف يعرفه من ينكر صفاته؟ كيف يعرفه من ينكر الصفات؟ هل يمكن معرفته مع إنكار الصفات؟ بأي شيء يعرفونه؟ فلا شك أن هذا خطر عظيم؛ لأنهم مع إنكارهم لهذه الصفات يعبدون غير ما جاءت صفاته في الكتاب والسنة؛ لأن ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه في كتابه وعلى لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام- وأجمع عليه سلف هذه الأمة هو بمجموعه ما يمكن أن يعرف به إذا جاء على صفته، كما أننا لا نعرف النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا من خلال ما جاء في كتب الشمائل في كتب السيرة، يعني لو لم نعرف أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أبيض، ورَبْعَة وبعيد ما بين المَنْكَبَيْن، وظَلِيْع الفم وشَتْن الكَفَّيْن، ما يمكن أن نعرف إلا بهذه الأوصاف، فإذا جاء الرب -جلَّ وعلا- على صفته التي نعرفها من خلال ما جاءنا عنه -جلَّ وعلا- في كتابه وعلى لسان نبيه، يسجد له من كان يعبده في الدنيا، لكن من ينفي الصفات كيف يعرف؟ أنا لا أتصور أن شخصًا ينفي الصفات ثم يقول: إنه سوف يعرف الرب -جلَّ وعلا-، هو لا يتصور صفات مثبتة؛ لأنه يعبد شيء لا أوصاف له وهذا أشبه ما يكون بالعدم؛ لأن وجوده في الأذهان لا يمكن أن يتصور في الأعيان شيء لا أوصاف له، هل يمكن تتصور إنسان لا وجه له ولا يد له ولا رجل له ولا شيء من الصفات؟ يمكن تتصور إنسان بهذه الكيفية؟ لا يمكن، يعني إذا كان الأذهان والخيالات يمكن أن تسرح مسارع، ويمكن تثبت مثل هذه الأمور التي لا حقائق لها، فالأعيان لا يمكن أن يوجد فيها مثل هذا, فلا بد من إثبات ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه ولا يلزم من الإثبات التشبيه، لا يلزم من ذلك أن يكون الخالق مثل المخلوق, فالخالق له وجه وله رجل وقدم ويد وعين وسمع وبصر -جلَّ وعلا- عن مشابهة المخلوقين -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا- فله هذه الأوصاف، ولا يعني أننا إذا أثبتنا شيئًا من ذلك أننا نشبهه بأحد من خلقه.
الإمام ابن خزيمة -رحمه الله- في كتاب التوحيد لما أثبت الوجه لله -جلَّ وعلا- قال: لا يستلزم مشابهة وجوه المخلوقين بحال من الأحوال ولا بوجه من الوجوه, وإذا تأملنا في المخلوقين وهم يشتركون في القدر المشترك من الخلق وجدنا تباينًا كبيرًا بين وجوه المخلوقين, فهل يستطيع أحد أن يقول: وجه الإنسان مثل وجه القرد؟ أو وجه النملة مثل وجه الحمار، أو وجه الذئب مثل وجه الجمل؟ ما يمكن، فالإنسان له وجه والجمل له وجه والحمار له وجه والنملة لها وجه والجرادة لها وجه، ولا يلزم من ذلك المشابهة، وهذا بين المخلوقين الذين يجمعهم وصف واحد، يشملهم وصف واحد وهو الخلق، فكيف بالتفاوت والتباين بين الخالق والمخلوق.
في حديث أبي هريرة عند البخاري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله -تبارك وتعالى- للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي»، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قطٍ قطٍ، فهنالك تمتلي ويُزوى بعضها إلى بعض -يعني ينضم بعضها إلى بعض- ولا يظلم الله -عزَّ وجل- من خلقه أحدًا -يعني لا يضع فيها ولا يدخل هذه النار –جهنم- من لا يستحق العقوبة- ولا يظلم الله -عزَّ وجل- من خلقه أحدًا، وأما الجنةُ فإن الله -عزَّ وجل- ينشئ لها خلقًا، وهذا السياق يأبى جميع التأويلات التي أبداها من ينكر هذه الصفات، قول النار هل هو بلسان المقال أو بلسان الحال؟ يعني هل تنطق؟ أو بلسان الحال؟ نعم تتكلم، القدرة الإلهية صالحة لمثل هذا، وقال -جلَّ وعلا- عن السموات: {قالتا أتينا طائعين} يقول النووي: هذا الحديث على ظاهره وأن الله يخلق في الجنة والنار تمييزًا يدركان به ويقدران على المراجعة والاحتجاج، ويحتمل أن يكون بلسان الحال، لكن الأصل في الكلام أنه بلسان المقال، ثم بعد ذلك بعضهم يقول: هل لها لسان وأسنان وفم يخرج منه الكلام وحنجرة، وما أشبه ذلك؟ نقول: لا يلزم، لا يلزم من هذا كله شيء؛ ولذلك حينما نفى المبتدعة صفة الكلام عن الله -جلَّ وعلا- بناء على أن إثبات الصفة يوهم وجود مثل هذه الأشياء، نعم لو ثبتت عن الله -جلَّ وعلا- هذه الأمور أثبتناها على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن الذي لم يثبت عنه لا نثبته إلا بدليل ملزم، والقدرة صالحة لمثل هذا، فتتكلم النار وتتلكم الجنة وتكلم الجماد وتكلم الذئب وتكلمت البقرة، والله المستعان.
طالب: ................
وإيش لون صارت صفة نقص؟ يعني نقص بالنسبة للخالق أو المخلوق؟ يعني المقعد هذا اللي ما له رجلين أكمل من اللي له رجلين، كيف تصير صفة نقص؟
طالب: ...............
يا أخي الإهانة والإكرام أمور نسبية، يعني كون شيء فوق شيء، هل نقول: إن الأسفل مهان، ما يلزم يا أخي، ما يلزم أبدًا.
طالب: ...............
القدم قالوا هو الشيء المتقدم على غيره فيُقدم لها أناس أو مخلوقات تمتلئ بهم مثل ما مر بنا، على كل حال هذه كلها تأويلات مردودة، القصد منها ومن ورائها نفي ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه.
طالب: ...............
رب العزة إضافة، العزة معروف أنها صفة من صفات الله -جلَّ وعلا- وهي معنى من المعاني فتكون الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته.
وقوله: يقول الله –تعالى-: يا آدم فيقول لبيك وسعديك، ينادي الرب -جلَّ وعلا- آدم وهو أبو البشر فيجيبه آدم -عليه السلام- لبيك وسعديك، وهما بلفظ التثنية والمقصود بلبيك: إجابة بعد إجابة، وسعديك إسعادًا بعد إسعاد، فآدم يجيب ويقيم على إجابة الله -جلَّ وعلا- ويطلب منه أن يسعده إسعادًا بعد إسعاد فينادي بصوت، ينادي النداء من لازمه الصوت، فقوله: بصوت، تأكيد، وإذا أكد اللفظ امتنع إرادة المجاز، إذا أكد -سواء كان بلفظه تأكيدًا لفظيًا أو تأكيدا معنويًا بمعناه كما هنا- انتفى إرادة المجاز، فينادي بصوت ففي هذا إثبات الكلام لله -جلَّ وعلا- وأنه بصوت، فينادي بصوت: إن الله يأمرك، يعني: يا آدم، إن الله يأمرك، وهذا من باب التعظيم -تعظيم الله -جلَّ وعلا- نفسه حيث لم يقل: إني آمرك، وبعض المبتدعة يقولون: إن المنادي غير الله -جلَّ وعلا- ولو كان الرب -جلَّ وعلا- لقال: إني آمرك، فنسب الأمر إلى نفسه، يعني فماذا عن قول الله -جلَّ وعلا-: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}؟ فمن المتكلم هنا؟ هو الله -جلَّ وعلا-، لكن كونه -جلَّ وعلا- يعبر عن نفسه بهذا الأسلوب لا شك أنه من باب التعظيم، يعني كما يقول الملك لحاشيته: إن الملك يأمركم بكذا أو لرعيته؛ لأن المتكلم العادي يضيف الأمر إلى نفسه مباشرة بالضمير، يكني عن نفسه بالضمير ولا إشكال في هذا إني أفعل كذا أو آمر بكذا، لكن ليس هذا من أساليب التعظيم، إنما قوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} لا شك أنه مع كونه أمرًا يحمل استشعار عظمة الآمر، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار الذين هم أهل النار وسكانها، وبعث النار جمع غفير هم السواد الأعظم من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين، وأما بالنسبة لأهل الجنة فهم واحد من ألف، الصحابة -رضوان الله عليهم- خافوا وفزعوا، فمن هذا الواحد؟ قال: ما أنتم بالنسبة للأمم إلا كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو الشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وجاء في الحديث الصحيح أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومن سائر الخلق واحد، فمثل هذا لا شك أنه يطمئن، لكن على الإنسان أن ينظر لنفسه بمفرده؛ لأنه ما ضاع من ضاع وضل من ضل إلا بالمقارنة، يعني مثلاً بعض الناس يقول: الآن الكافر تجده يسافر إلى بلد من البلدان وينظر إلى هؤلاء الملايين المتكاثرة فيخيل إليه أنه ليس له مكان في النار، ويبشر قومه أنهم كلهم في الجنة مادام يشهدون أن لا إله إلا الله وهؤلاء المليارات كفار، لكن بهذه المقارنة يضل الإنسان ويضيع ويأمن من مكر الله، فعلى الإنسان أن ينظر إلى نفسه بمفرده، ماذا قدم مما ينجيه من عذاب الله، ولو نظر في حال سلف هذه الأمة لوجد الخوف من الله -جلَّ وعلا- يستولي عليه، بحيث لا يصل إلى حد القنوط واليأس من رحمة الله، لكن هو الخوف الباعث عن العمل، وجاء في الحديث الصحيح -حديث ابن مسعود-: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» -نسأل الله السلامة والعافية- فالإنسان لا يغتر، يعني إذا سمع أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعين قال: خلاص ما لنا مكان، يا أخي عليك أن تنظر إلى نفسك بمفردك، وتنظر فيما ينجيك من عذاب الله -جلَّ وعلا- فتأتمر بما أمرت به وتنتهي عما نهيت عنه، ولا شك أن النصوص جاءت بما يبعث على الخوف، وجاء من النصوص ما يبعث على الأمل والرجاء.
وعلى هذا حال المسلم ينبغي أن يكون متعبدًا لله -جلَّ وعلا- عابدًا له مستصحب الخوف والرجاء، فلا يحمله الخوف على اليأس من رحمة الله والقنوط، ولا يحمله الرجاء إلى أن يأمن من مكر الله، فعليه أن يكون بين هذين الأمرين، وبعض الناس سمعتم وسمع غيركم سافر ورأى الجموع الغفيرة من الكفار فيقول: أبشروا كلكم في الجنة، مع أن المعتمد عند أهل السنة والجماعة أنه لا يُشهد لأحد من أهل الجنة إلا من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأما بقية الناس فلا يُشهد لهم إنما يرجى للمحسن ويخاف على المسيء.
«إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار»، متفق عليه.
يا سلعة الرحمن ليس ينالها |
|
في الألف إلا واحد واثنان |
يعني بعث الجنة واحد وبعث النار تسعمائة وتسعة وتسعون.
وقوله: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان»، فالحديث السابق فيه إثبات صفة الكلام لله -جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وتقدم ذكر المذاهب في هذه الصفة «ما منكم من أحد» ما هذه نافية، و«منكم» الخطاب لكل من يتأتى أو يمكن أن يتجه إليه الخطاب من هذه الأمة، والكلام هذا يشمل الجميع، كل من يتجه إليه الخطاب من المكلفين إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، وهذا الكلام كلام تقرير وليس بكلام تشريف بحيث يختص بالمؤمنين، وإنما كل سيكلم وكل سيحاسب ليس بينه وبينه ترجمان يعني بلغته، إنما الترجمان إنما يطلب حينما تختلف اللغة -لغة المتحدث والمُحدَّث- فالترجمان هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، وقد يُطلق على من يبلغ الكلام ولو كان باللغة نفسها، فقد جاء في الصحيح في صحيح البخاري عن أبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعي، أنه كان يترجم بين يدي ابن عباس، يعني أنه يبلغ كلام ابن عباس إلى من لا يسمعه، وهذا يسمى عند أهل العلم يسمونه المُسْتَمْلِي، هو الذي يبلغ كلام الشيخ إلى الجموع التي لا تسمع، والترجمان هو الذي ينقل من لغة إلى لغة هذا الأصل، وقد يستعمل في اللغة نفسها في تبليغ الكلام الذي لا يُسمع.
«ما منكم من أحد» أحد هذه نكرة في سياق النفي، فتعم كل من يمكن أن يوجه إليه الخطاب، إلا سيكلمه ربه، وهذا في القيامة وليس بينه وبينه ترجمان فيقرره على أعماله ويحاسبه ويناقشه أحد يحاسب وأحد تعرض أعماله عرض، والله المستعان، وفي هذا إثبات صفة الكلام.
«سيكلمه ربه» صفة الكلام لله -جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وأما مسألة صفة العلو التي أورد فيها المؤلف -رحمه الله تعالى- نصوصًا قد تكون أكثر من غيرها، فتُؤجل إلى استئناف الدروس -إن شاء الله تعالى- وسوف يُعلن عنها، وأما هذا الدرس فهو آخر الدروس بالنسبة لهذه السنة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إذا فاتت الجماعة وأيس منها وليس أمامه خيار إلا أن يصلي منفردًا فالوقت فيه سعة، إلا أنه كلما بادر بأداء الفريضة كان أبرأ لذمته وأحوط له، ولكن لو أخرها إلى أثناء وقتها أو إلى آخره ما لم يخرجها عن وقتها فالأمر فيه سعة مثلما قلنا أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر واشتد الحر وأبرد لا مانع، وكل هذا إذا أيس من إدراك الجماعة في المسجد، وإلا فالأصل أنه مادام يدركها مع الجماعة فإنه متعين يجب عليه، يأثم لو تركها مع الجماعة حيث ينادى بها في المسجد مع جماعة المسلمين، بل من أهل العلم من يرى أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لابن أم مكتوم: «أتسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «لا أجد لك رخصة»، لكن إذا أيس وقام من النوم بعد فراغ الناس من الصلاة ولا يوجد جماعة أخرى ثم قال..، لا سيما وإن كان هناك حاجة داعية إلى النوم بأن كان مريضًا أو متعبًا، زاد في نومه مدة ساعة إلى أن يخرج الوقت لا مانع من ذلك -إن شاء الله تعالى- ولا إثم عليه، إلا أنه ترك الأفضل.
والله ألفية ابن مالك على البال -إن شاء الله تعالى- وهي من أولى ما يشرح في هذه الدروس والدورات، لكن عسى الله أن ييسر الأمر نشرح بعد الآجرومية -إن شاء الله تعالى- القطر ثم الألفية.
هذا أيضًا يقول: وقع عندي إشكال في قصة آدم (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: ٣٥ ثم أورد آية الأعراف، ثم أورد آية الصفات (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) الصافات: ٦٤ والإشكال هنا، هل الشجرة موجودة في الجنة أو في النار؟
هل هذا محل إشكال أو لا؟ يعني هل هي شجرة واحدة؟ نعم الشجرة هذه ليست شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم، غير الشجرة التي في الجنة التي نُهي آدم عن الأكل منها.
يريد أن يدخل في هذه النكرة شيئًا في سياق النفي تعم كل شيء من الحيوانات والجمادات وغيرها، يقول بما في ذلك جسد الكافر يعني المسلم يسبح بلسانه بطوعه واختياره، لكن هل جسده يسبح تسبيح غير التسبيح الذي يكون بلسانه؟ لأن الجسد شيء، وبناء على ذلك فهل جسد الكافر الذي لا يسبح بلسانه يسبح تلقائيًا بدلالة هذه الآية، يقول: هل الأجساد تسبح لله فيكون لها تسبيحان بإرادة الشخص نفسه؟ يعني حينما يسبح بلسانه والتسبيح المذكور في الآية، هذا تكلف، أقول: مثل هذا تكلف، ولا شك أن الآية فيها دلالة على عظمة الله -جلَّ وعلا- حيث ينزهه كل شيء من الحيوانات والجمادات، وأما التفاصيل التي فيها دليل فلا داعي لها مع أن عموم الحديث تتناول كل شيء.
صيام ثلاثة أيام من كل شهر لا إشكال فيه، صحيح، وأما تعيين الثلاثة بالبيض فهو حديث حسن مخرج في السنن وغيرها.
على كل حال الشخص هذا لا شك أنه صاحب هوى، وإلا لو نظر بعين البصيرة في فتاوى الشيخ –رحمه الله- لوجدها من أعدل الأقوال، يعني نابعة من نصوص الكتاب والسنة.