الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلسنا بحاجة إلى بيان فضل العلم وشرفه، وإنما نذكر ما يتعلق بعنوان المحاضرة، فالمحاضرة عنونت بالوجوب، وجوب طلب العلم الشرعي.
حكم العلم الشرعي:
وهو علم الكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فالأصل المطلوب من المسلم الاهتمام بالأصلين الكتاب والسنة، قد يقول قائل: لماذا يُعنى أهل العلم بالعربية، بأصول الفقه، بقواعد التحديث، بعلوم القرآن، وهي روافد؟ نقول: هذه دراستها وإن كانت وسائل إلا أنها خير ما يعين على فهم الكتاب والسنة، ولا يستطيع أحد أن يتعامل مع نصوص الوحيين إلا بعد معرفة هذه الوسائل.
العلم الشرعي أهل العلم يطلقون في حكمه الوجوب الكفائي، بمعنى أنه فرض كفاية، وعنوان المحاضرة كأنه يفيد الوجوب العيني، والعلم والتعلم تنتابه الأحكام من الوجوب العيني والوجوب الكفائي، والسنية والاستحباب، وقد ينتابه بسبب ما يقترن به بقية الأحكام من الكراهة والتحريم، فيجب وجوباً عينياً على من تأهل له بحيث لا يوجد غيره في البلد، لأن وجود أهل العلم والعلماء الذين ينيرون الطريق، ويوضحون للناس ما يحققون به الهدف الشرعي من وجودهم، وهو العبودية لله -جل وعلا- أمر واجب على الأمة، ويتعين بالنسبة لبعض الأشخاص الذين لا يمكن أن يقوم إلا بهم، فهو من هذه الحيثية بالنسبة لأولئك الأفراد الذين تأهلوا له بحيث لو تركوه لما وجد غيرهم ممن يقوم به، هذا وجوب عيني يأثمون بتركه، وأما بنسبة لحكمه على العموم فهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، يقوم به من يكفي ويسقط الإثم على الباقين، ويصير في حكم الباقين سنة.
نأتي إلى كل فرد بعينة، كل فرد بعينه ما أوجب الله عليه من أعمال وأحكام يجب عليه أن يتعلم ما يقوم به هذا العمل وهذا الحكم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالصلاة واجبة، فتعلم أحكام الصلاة واجب، لأن هذا الواجب لا يقوم إلا بتعلم هذه الأحكام، الصيام واجب، معرفة ما يخل بهذا الفرض واجب، لأنه قد يتطرق الخلل إليه وهو لا يشعر فهو واجب يأثم بتركه، وهناك مسائل بين أهل العلم وجوبها، وأنها لا بد أن تكون معلومة لدى الخاص والعام، وهي ما علم من الدين بالضرورة.
وجوب العلم الشرعي والمراد به:
وجوب العلم الشرعي، وجوب العلم، أولاً: العلم المراد به في النصوص هو العلم الشرعي، هو العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، هذا هو الذي جاءت النصوص بمدحه والحث عليه، وهو المورث للخشية لله -جل وعلا-، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] قد يقول قائل، الناس يقولون الأقسام العلمية، والقسم العلمي والنظري، هذا التقسيم الاصطلاحي الحادث، يجعل علوم الدنيا من طب وهندسة وغيرها من هذه العلوم يسمونها علمي، وما عدا ذلك يسمونه نظري، علمي ونظري، أو علمي وأدبي، فيجعلون العلوم الشرعية التي جاءت النصوص بمدحها علوم نظرية، أو علوم أدبية، ويخرجونها من مسمى العلم العرفي، العلم العرفي، لكن النصوص التي جاءت في مدح العلم والعلماء المراد به العلم الشرعي المورث للخشية، قد يقول قائل: أن الخشية قد توجد عند طبيب وعند مهندس وعند مزارع وعند راعي غنم، أكثر مما يوجد عند بعض أهل العلم أما ما يجده الإنسان من نفسه من غير أهل العلم الشرعي، مما يورث الخشية سببه التفكر والنظر، وللأطباء من هذا النصيب الأوفر، التفكر والنظر الذي يورثه ما يورثه من خشية الله -جل وعلا-، ومعرفة آلائه هذا سببه التفكر.
كذلك الأعرابي في البادية إذا نظر في السموات والأرض نظرة تفكر واعتبار استفاد فائدة كبيرة، بينما قد يكون طالب العلم الشرعي، يطلب العلم عشر سنين عشرين سنة ما استفاد قلبه من هذا العلم، هذا سببه الخلل في كيفية التحصيل، نجد أو نشاهد من طلاب العلم، بل بعض ممن ينتسب إلى العلم من هو مخالف مخالفة ظاهرة لهذا العلم الذي يحمله بين جنبيه، هذا خلل، هذا يحرمه لذة العلم والعمل، فمثل هذا الذي يحمله مثل هذا الشخص الذي لا يستفيد منه هو في الحقيقة ليس بعلم، العلم الذي لا يورث صاحبه الخشية ليس بعلم لأن الأسلوب أسلوب حصر،{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} يعني لا غيرهم، فالذي لا يفيده علمه خشية لله -جل وعلا-، وقرباً منه هذا ليس بعلم، ولذا يقول الله -جل وعلا-: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران] فعطف شهادة أولي العلم على شهادة الملائكة، المعطوفة على شهادة الله -جل وعلا-، فهذه أعظم شهادة، الشهادة على كلمة التوحيد، أعظم شهادة، أعظم مشهود به، لأعظم مشهود له، ولا يتحرى ولا ينتقى للشهادة بهذا الأمر العظيم إلا العظماء من الناس، يعني فرق بين أن تشتري سلعة رخيصة زهيدة تطلب لها أدنى شاهد، وأحياناً لا تشهد عليها لأنها لا تستحق، لكن إذا اشتريت سلعة نفيسة غالية الثمن تطلب لها من الشهود ما يثبت به العقد، بحيث لا يتردد أحد في ملكك لهذه السلعة، يعني هل من المعقول أن تشتري بيتاً بمليون ريال وأكثر، ثم تأتي بآحاد الناس من الشارع لا تعرف عدالته ولا تعرف ثقته يشهد لك بهذه الصفقة؟ لا يمكن، لا بد أن تبحث عن شخص تجزم بأن الخلل لا يتطرق إلى العقد مع وجوده، فهذه أعظم شهادة أعظم مشهود به، لأعظم مشهود له، أشهد الله -جل وعلا- عليه أهل العلم، فدل على أن أهل العلم هو الثقات الذين يتحملون مثل هذه الشهادة، وبمفهوم المخالفة الذين يحملون العلم وهم ليسوا من الثقات لا يستحقون أن يوسموا بهذه السمات الشريفة، ليسوا من أهل العلم، ولهذا جاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فالذي يحملون العلم الشرعي هم العدول، طيب قد يقول قائل: إن آثار الفسق ظاهرة على بعض من ينتسب إلى العلم؟ نقول: ما يحملونه هذا ليس بعلم،هذا ليس بعلم، وإن اشتمل على مسائل شرعية بأدلتها، هذا في الحقيقة ليس بعلم؛ لأن العلم ما نفع، ويدل على ذلك قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] بجهالة، هل يقول قائل: أن الفاسق الذي يعرف حكم الزنا ويزني، ويعرف حكم شرب الخمر ويشرب، ولو عرف الحكم بدليله بأقوال العلماء، وما حده وما يترتب عليه والآثار المترتبة عليه، لو عرف هذا كله هل نستطيع أن نقول عالم؟ يعرف جميع الأحكام المترتبة على هذه المسألة ويعرف حكم هذه المسألة بأقوال أهل العلم بأدلتها، ويستطيع أن يوازن بين هذه الأقوال من خلال هذه الأدلة، ويرجح، هل نستطيع أن نقول: مثل هذا عالم؟ الله -جل وعلا- وصفه بأنه جاهل، فكل من عصى الله -جل وعلا- فهو جاهل، ولو حمل من العلم ما حمل، لأننا لو قلنا عالم لترتب على ذلك أنه لا تقبل توبته، والله -جل وعلا- يقول:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] طيب الذي يعرف الحكم عالم أو جاهل؟ في عرف الناس عالم، لكنه في الحقيقة ومن خلال مفهوم هذه الآية هو جاهل، فمهما حمل من العلم هو جاهل، لأننا لو قلنا: أنه عالم، لقلنا توبته غير مقبولة، للنص في الآية على أن التوبة لا تقبل من الجاهل، فدل على أن من يزاول المعصية جاهل، ولو كان من أعلم الناس بحكمها.
فضل العلم:
العلم لا يحمله إلا العدول الثقات، ومن أعظم ما يستدل على فضله وشرفه، الآية التي سقناها آية آل عمران، ومن ذلكم قول الله -جل وعلا-:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] درجات، وهل نتصور أن الدرجات مثل درجاتنا في الدنيا التي يتخطاها الإنسان بسهولة؟ يعني عشرين سانتي الدرجة ثلاثين سانتي، لا، درجات، بين كل درجة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض، الأمر ليس بالسهل وليس بالهين، يقول: هذا سهل درجتين ثلاث نفرط بها، لكن أين الدرجة الأولى من الثانية من الثالثة إلى مائة درجة؟ هذا شيء عظيم من تأمله بعين البصيرة أفنى عمره في تحصيل العلم، وليس بكثير أن يفني عمره بتحصيل العلم.
يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) يفقهه في الدين، أولاً إذا عرفنا الدين عرفنا المراد بالفقه، الدين بجميع أبوابه مما يدخل في مسمى الإسلام من الأحكام العملية والعقائد الداخلة في مسمى الإيمان، وما فوق ذلك من الصفات التي يمنحها الله -جل وعلا- لبعض عباده من مراقبته والتعبد على جهة الإحسان الذي لا يحصل لكل أحد، هذا هو الدين، ولذا لما سأل جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- في نهاية الحديث: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فدل على أن الدين يشمل الثلاثة، الإسلام والإيمان والإحسان، فمن يتفقه في هذه الثلاثة التي تشمل جميع أبواب الدين، هو الذي أراد الله به خيراً، لأن بعض الناس يعنى بالفقه العملي من الأحكام والحلال في الأبواب الأربعة المعروفة عند أهل العلم الأرباع الأربعة العبادات والمعاملات والمناكحات والأحوال الشخصية والجنايات والحدود، يخصون الفقه بهذا، هذا اصطلاح عرفي خاص، لكن لا يعني أن المراد بالحديث هو هذا.
علم العقائد الفقه الأكبر، وتعلمه أهم من تعلم الأحكام مع أن الكل مهم، أبواب الدين الأخرى من التفسير والمغازي وسيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- التي هي الترجمة العملية للإسلام والرقاق والفتن والاعتصام وغيرها من أبواب الدين؛ هذه في غاية الأهمية لطالب العلم، لكن نجد طلاب العلم عموماً في عزوف عنها، لأنهم على حد عزمهم، أنه لا يوجد داعي لدراستها داعي آني في الوقت الحاضر، الصلاة تحتاجها في كل يوم خمس مرات، وتحتاج من الصلوات الأخرى من النوافل أكثر من ذلك، فأنت تتعلم أحكامها هذا شيء طيب، هذا شيء طيب، لكن ماذا عن أبواب الفتن التي قد تعرض على قلبك فيقبلها وأنت لا تشعر؟ هذه في غاية الأهمية، ماذا عن كتاب الرقاق، كثير من طلاب العلم يأنف عن قراءته، ولا يود أن يصنف واعظ، هذا خطأ، خطأ عظيم، يا أخي ما الذي يحدوك إلى العمل بالأحكام، إلا كتاب المواعظ والرقائق، كيف تعمل بالأحكام التي تعلمتها إلا من خلال هذا الباب؟ وقل مثل هذا في جميع أبواب الدين ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) يعني بجميع أبوابه، فلا يكون شيء على حساب شيء، نحن نشاهد طلاب العلم في الجملة لا يعنون بكثير من أبواب الدين، ويهتمون بالأحكام العملية فقط.
طيب ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) الذي لم يتفقه في الدين هل أراد الله به شراً؟ الذي لا يتفقه في الدين هل هو ممن أراد الله به شراً، أو نكتفي بأن الله -جل وعلا- لم يرد به خيراً، لأن من عوام المسلمين ممن لم يتفقه في الدين، وضرب في نصر الإسلام والبذل للإسلام الشيء الذي يعد أضعاف ما بذله بعض من ينتسب إلى العلم، هل نقول: أن هذا أراد الله به شراً؟ يعني مثل بعض الأثرياء الأتقياء الذين يبذلون لنصر الدين، وينفقون على العلم الشرعي، ويسهلون أمره للناس، هل نقول: أن هؤلاء أراد الله بهم شراً؟ نكتفي بأن نقول: بأن الله -جل وعلا- ما أراد الله بهم خيراً من هذه الحيثية، وأراد بهم خيراً من جهة أخرى، لكن الخير المطلق إنما هو لمن جاء الوعد له في الحديث ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) ولا نقول: إن الله -جل وعلا- أراد به شراً، نعم لو كان أضاف إلى عدم تفقهه في الدين مزاولة محرمات ومنكرات وترك واجبات، نقول: هذا أراد الله به شراً، أما إذا كان من النوع العابد المخلص لله -جل وعلا-، ولو لم يتفقه في الدين وضرب في أبواب أخرى من النفع العام، كأن يجاهد في سبيل الله، ببدنه أو بماله أو ينصر الإسلام بماله أو بمقاله أو بجاهه هذا أراد الله به خيراً من هذه الحيثية، لكن الخير المطلق إنما هو بالتفقه في الدين، قد يقول قائل: من أراد الله به خيراً يفقهه في الدين، لكن أنا طلبت العلم عشرين ثلاثين، وعرفت من طلب العلم سبعين سنة وما أدرك شيئاً، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم، والله المعطي)) فعلى هذا على الإنسان أن يبذل السبب، ولا يقول: أنا طلبت العلم سنين ما استفدت، عليك أن تستفيد وتستمر إلى أن يأتيك اليقين، لأن العلم من أعظم أبواب العبادة، بل يفضله أهل العلم على جميع ما يتعبد به بعد الفرائض أفضل نوافل العبادات تعلم العلم الشرعي، فعليك أن تستمر، ولو كان حفظك ضعيف، ولو كان فهمك أقل، مثل هذا لا يثنيك عن تعلم العلم الشرعي، ومع الوقت والإخلاص والحرص تدرك -إن شاء الله تعالى-، ولو لم تدرك في ذلك إلا الاندراج في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) فأنت ألا تريد أن يسهل الله لك طريقاً إلى الجنة؟ ولو لم تدرك العلم، لأن الوعد في هذا الحديث ما رتب على العلم إنما على سلوك الطريق فقط، فأنت مجرد ما تسلك الطريق، ييسر لك الطريق إلى الجنة، ولو لم تدرك من العلم ما يكفيك أو لم تدرك شيئاً، لأن هذا الوعد ثابت لمجرد من سلك الطريق.
فالعلم الشرعي في غاية الأهمية لكل مكلف، لكل مسلم ينتسب لهذا الدين، والعلماء الناس إليهم بأمس الحاجة بل الضرورة قائمة وداعية إلى وجود علماء، يمثلون لوجود العلماء بين أوساط الناس وعامتهم بمن؟ بقوم سلكوا وادياً في ظلام دامس وفيه أشجار وأحجار وسباع وهوام، وليس معهم من ينير لهم الطريق، في ظلام دامس، هؤلاء حيرى، فإذا جاءهم من بيده مصباح وتقدم عليهم واستناروا بنور مصباحه ما فضله عليهم؟ له فضل عليهم أو ما له فضل عليهم؟ السائر في الظلام ما يدري ماذا يواجهه؟ هل تنهشه حية؟ هل يتعرض لسبع يأكله؟ ما يدري، هل يمشي يمنياً أو شمالاً أو من الأمام، أو يرجع من طريقه؟ لا يعرف شيئاً، وهذا مثل عامة الناس، يتعبدون على جهل، فإذا جاءهم من يبين لهم وينير لهم الطريق الصراط المستقيم والتنظير مطابق، وإن كان المثال أقل من الممثل له؛ لأن هذا الذي مشى في الوادي المظلم إذا قل على أسوأ الاحتمالات تعرض لسبع أو نهشته حية فمات ماذا خسر؟ خسر الدنيا، لكن الذي يتعبد لله -جل وعلا- على جهل هذا يخسر الآخرة، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فإذا كان يتعبد على جهالة على غير مراد الله -جل وعلا- ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام- فإن مثل هذا يخسر الآخرة، ومجرد حسن القصد لا يكفي، بل لا بد أن تكون العبادة على بصيرة، والدعوة لا بد أن تكون على بصيرة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [(108) سورة يوسف] فلا بد من أن تكون العبادة على بصيرة على نور من الله على مراد الله، وأن تكون الدعوة كذلك.
أهمية العلم الشرعي لمن يشتغل في مجال الطب:
نأتي لمن يعمل في مجالكم، في المستشفيات، ويعالجون المرضى، من أطباء ومساعديهم وغيرهم، هؤلاء العلم الشرعي في غاية الأهمية لهم، لأن مجتمعهم لا يسلم من شيء من التعرض للفتنة، فإذا كان الإنسان عنده من العلم الشرعي ما يورثه الخشية لله -جل وعلا-، ينجو من هذه الفتنة ويوفق ويسدد، هذه من جهة، الأمر الثاني أنه قد يطرأ له أحكام تتعلق بالمريض، وتتعلق بكيفية معاملته للمريض لا يعرفها إلا إذا كان عنده قسط كافي من العلم الشرعي، فالأطباء ومعاونوهم في أمس الحاجة إلى العلم الشرعي، وكذلكم هم أيضاً بأمس الحاجة إلى دعوة من يعالجونه ومن يحتاج إليهم؛ لأن المريض كالغريق، يريد بس من يأخذ بيده، أنت إذا كان الإنسان لديك له حاجة تستطيع أن تملي عليه ما شئت، طبيب يعالج مريض، افترضنا أنه حالق لحيته، فجاء الطبيب الذي يرى هذا المريض أنه بالنسبة له كل شيء، يريد أن ينقذه من هذا الغرق الذي هو فيه، من هذا المرض، لو قال له: يا أخي ماذا تستفيد من حلق اللحية، والنصوص التي جاءت في تحريمها معروفة؟ لو قال: أنت مسبل، ماذا تستفيد من كون ثوبك يكنس الأرض وينظفها؟ أنت في غنية لست بحاجة إلى مثل هذا، فهو يقبل من الطبيب، يقبل من صاحب المواعيد، ويقبل من كل أحد في هذا المجال.
فعلينا أن نستغل هذا الظرف، وهذه الفرصة التي سنحت ويسرها الله -جل وعلا- لنا، لو يجي عالم مثلاً ينصح له مريض مثلاً، ويعرف أنه ما يعرف من الطب شيئاً، قال: وش دخلك؟ هذا شأني، لكن لو جاء شخص هو محتاج إليه لا شك أنه يقبل منه، فلا نفوت مثل هذه الفرص، لا التعلم لأننا بحاجة ماسة إليه، ولا الدعوة ولا الصبر، لا بد أن نعرف كيف نتعامل مع المريض؟ المريض مسكين، أصيب بهذا الداء، لا بد أن نربطه بالله -جل وعلا-، وأن نوسع الآمال بسعة رحمة الله -جل وعلا-، وأن مفاتيح الأمور كلها بيده، ولا نعلقه بمخلوق، ولا نعلق هذا المريض بمخلوق، لأنه احتمال ألا يخرج من المستشفى يموت، فيموت على هيئة حسنة، وتعلق بالله -جل وعلا-، وحسن ظن به، ويكون في ميزان حسنات من وجهه إلى هذا.
فالعلم والدعوة لا بد منهما لمن يعمل في هذا المجال، ولغيرهم، لكن نحن بصدد الكلام مع الأخوة العاملين في هذا المجال، هناك أحكام كثيرة تتعلق بالمرض والمرضى، وكيفية التعامل معهم وتوجيههم إلى أن يعبدوا الله -جل وعلا- حسب استطاعتهم هذه لا يدركها إلا من اعتنى بالعلم الشرعي، والأمر ميسور، يعني لا يتطلب منا أن نترك العمل نأخذ إجازة استثنائية لمدة ستة أشهر مثلاً، وأن نطلب العلم على المشايخ ونلازم الحلق، ثم بعد ذلك نرجع إلى عملنا لئلا نفصل مثلاً ثم بعد ذلك نأخذ إجازة استثنائية لا لا، ما يلزم هذا كله، الأمر في عصرنا متيسر جداً، والعلم سهل مذلل، لكن يحتاج إلى مبادرة منا، العلم لا يأتي إلى أحد، بالإمكان أن يكون الإنسان مع عمله الرسمي يحضر ما تيسر له من الدروس التي لا يكلفه الذهاب إليها قريب من بيته، والدروس -ولله الحمد- منتشرة وبكثرة كاثرة، في كل حي دروس، هذا لا يكلفه شيء، قد تكون الدروس بعد صلاة الصبح، قبل دوامك، ما الذي يمنعك من الحضور؟ قد تكون الدروس بعد المغرب، بعد انتهاء الدوام، قد يقول القائل منكم: إن الدوام الطبي يختلف عن الدوام الوظيفي العادي، الوظيفي العادي معروف من سبع ونصف إلى ثنتين ونصف وينتهي، لكن الطب لا بد أن يكون موجود على الأربعة والعشرين ساعة نقول كذلك، لكن ليس مطلوب من كل شخص أن يعمل أربعة وعشرين ساعة، نعم والمهنة شاقة ومتعبة، لكن مع ذلك إذا عرفنا شرف المطلوب ضحينا بكل شيء، يعني نقتطع له جزء من الوقت ولو ساعة في اليوم، لتعلم العلم الشرعي، وبعد صلاة الصبح، وقبل الدوام هذا يدركه كل أحد، يعني بعد صلاة الصبح لمدة ساعة حتى تنتشر الشمس أو ساعة وربع هذا لو استغله الإنسان بقراءة حزبه وورده من كتاب الله -جل وعلا- على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل ومراجعة كلام أهل العلم فيما يشكل علينا فهمه من كتاب الله -جل وعلا- هذا ليس بكثير، بل أنا أجزم بأن هذا خير ما يعين على أداء العمل، ويكون في آخر النهار مدة ساعة أخرى للنظر في سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- والفقه العقائد وغيرها.
الأمر الثاني: أن الآلات والأجهزة يسرت الآن بإمكانك أن تحضر الدروس وأنت في بيتك، وأنت جالس في بيتك من خلال الأشرطة والإنترنت وغيره.
تأتي إلى المتن الذي يشرحه هذا العالم، وليكن مثلاً كتاب التوحيد، فتحضر المتن وتسمع الشرح من الشريط، أو من خلال الشبكة، وتنظر في المتن تقرأ المتن أكثر من مرة قبل أن تسمع الدرس وتفهم المتن معناه كلمة كلمة من خلال ما تسمع من شرح، والأمر ميسور -ولله الحمد- وهذا في جميع العلوم، وكثير من الناس أدرك من العلم أكثر مما يدركه من يزاحم العلماء وهم في بيوتهم، بل تأتينا الأسئلة التي تدل على الفهم الدقيق من كندا واستراليا في آن واحد، من خلال الشبكة، ونحن في الدرس، فالأمر متيسر، وليس لأحد عذر، فعلينا أن نعنى بهذا الجانب وهذا لا يكلفنا شيء، وإذا عرفنا لا بد أن نعرف أولاً شرف المطلوب، يعني لو قيل لك مثلاً: اذهب كل عصر إلى الحراج، ترزق، أنت راتبك قد لا يكفيك ويكفي أولادك، تروح إلى الحراج، تقول: يا أخي أيش أتردد إلى الحراج عشرين ثلاثين كيلو وأنا رايح جاي، أيش باحصل في الحراج؟ أثاث متكسر أو شيء ما يسوى التعب، لكن إذا عرفت شرف المقصود، وهو العلم الشرعي، الذي أشهد الله -جل وعلا- أربابه وأصحابه على الشهادة له بكلمة التوحيد، عرفت أن جميع ما تبذله من أجل تحصيل هذا العلم فهو رخيص، يعني ما يستحق الذكر بالنسبة لما تحصله.
هناك كتب ألفها أهل العلم بلهجة العصر، صارت سهلة وميسرة، بإمكان المتعلم أن يقرأ فيها ويستفيد، نعم كانت المتون صعبة، كانت المتون صعبة، لا يدركها كثير ممن يقرأ فيها من غير أهل الاختصاص، الآن صارت العلوم ميسورة، سهلة ميسرة، يعني من كان يتطاول على زاد المستقنع من غير العلماء وطلاب العلم حتى يسر الله له الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- فشرحه بالشرح الممتع، الشرح الممتع يفهمه الناس كلهم، لأن الشيخ -رحمه الله تعالى- ذلل الله له كيفية التعليم وإيصال المعلومات، فنستفيد فائدة من هذا الكتاب الملخص الفقهي، كتاب يستفيد منه كل من يقرأ ويكتب، فلا عذر لنا ولا حجة لنا في أن نترك، يعني لو المسألة متن الزاد، نقول: هذا صعب على المتعلمين، لكن شرحه للشيخ ابن عثيمين مفهوم، شروح الشيخ ابن جبرين وشروح المشايخ كلها سهلة ميسرة، نفهما ونحن في البيوت، لكن نحتاج مع ذلك إلى أن نطلع درجة درجتين ثلاث، في علوم الآلة حتى نستطيع أن نتعامل مع النصوص على الطريقة العلمية المعروفة عند أهل العلم، وهذا أيضاً أمر يسير، ولله الحمد، لأن هذه العلوم شرحها هؤلاء العلماء ويسروها لطلاب العلم، فكيفية التحصيل تتم بحضور الدروس وبالمطالعة الخاصة بهذه الكتب التي ألفت بلغة العصر، ولهجة العصر بحيث يفهما كل أحد، بحضور الدروس بالبدن ومزاحمة الشيوخ والإفادة منهم مباشرة أو من طريق الآلات لمن لا يستطيع ذلك، فالأمر متيسر -ولله الحمد- وبإمكان الشخص أن يكون عالماً من خلال هذه الآلات، نعم قد يحتاج إلى أن يستفهم، بإمكانه أن يرفع سماعة التلفون ويسأل أي عالم يحل له هذا الإشكال، وقد يقول قائل: أن العلماء مشغولون نتصل ولا يردون، نعم التقصير موجود، وأيضاً العدد غير كافي لحاجات الناس، لأنه كان في السابق العالم الواحد يغطي البلد لأن السواد الأعظم عوام، لا يحتاجون إلى أسئلة إلا فيما يقع لهم، الآن لا، السواد الأعظم متعلم، ويسأل عن كل ما يشكل عليه، فصار في كثرة في الطلب على أهل العلم، مع كثرتهم، صار الطلب أكثر من طاقتهم، فعلينا أن نعنى بهذا الباب، وهذا الشأن، ومن الأطباء في السابق من ضرب أطنابه في العلم الشرعي، وصار بحيث يعد من العلماء الكبار في جميع أبواب العلم في التفسير في الحديث في الفقه، في العقائد في كل باب من أبواب الدين وهم أطباء، يعني شهرتهم في الطب طبقت الآفاق، فمثلاً -أنا أوردت مثالين- لاهتمام وعناية الأطباء بالعلم الشرعي، عندنا شخص يقال له: ابن النفيس ولا أخاله يخفى على أحد منكم، هذا من كبار الأطباء، ابن النفيس علي بن أبي الحزم القرشي، علاء الدين ابن النفيس الطبيب المصري صاحب التصانيف في الطب كالموجز، الموجز مطبوع معروف، شرح الكليات وغيرهما، يقول السبكي في طبقات الشافعية، كان فقيهاً في مذهب الشافعي، صنف شرحاً على التنبيه، التنبيه متن من متون الشافعية لأبي إسحاق الشيرازي، وصنف في الطب كتاباً سماه الشامل، قيل: لو تم لكان ثلاثمائة مجلد، تم منه ثمانون مجلداً، وصنف في أصول الفقه وفي المنطق وفي الفقه والعربية والحديث، يعني أقوال ابن النفيس في كتب المصطلح تدور بكثرة، يعني مثلما يدور كلام ابن حجر والعراقي وغيرهم من أهل الحديث في كل باب يذكر رأي ابن النفيس في علوم الحديث، وهو طبيب صنف الشامل أتم منه ثمانين مجلد.
وبالجملة كان مشاركاً في فنون كثيرة، قلت: ومنها علوم الحديث، فأقواله الكثيرة تدور في كتب المصطلح، وعناية العلماء بأقواله تدل على رسوخه في العلوم الشرعية، يقول السبكي: وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، لأن بعض الناس يقول: لو اتجهت إلى العلم الشرعي ضعفت في تخصصي، نقول: هذا ليس بصحيح، لأنك قد تتجه إلى العلم الشرعي، وتنظم وقتك وترتب أمورك ولا تتأثر في تخصصك، وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاء بعد ابن سيناء مثله، قالوا: وكان في العلاج أعظم من ابن سيناء، توفي سنة سبع وثمانين وستمائة.
من الأمثلة ما ذكره السخاوي في فتح المغيث، قال: "إن الرئيس المتطبب يوسف بن عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الإسرائيلي، يهودي، المعروف بابن الديان، سمع الحديث في حال يهوديته، مع أبيه من شمس الدين محمد بن عبد المؤمن الصوري" هو سمع الحديث حال يهوديته، طيب قد يقول قائل: كيف يستفيد وهو يهودي؟ بأي نية يطلب الحديث وهو يهودي؟ قال السخاوي: "وكتب بعض الطلبة اسمه في الطباق" الطباق تدوين الأسماء، أسماء الطلاب الذين حضروا على هذا الشيخ من أجل أن يجيزهم بالرواية عنه "وكتب بعض الطلبة اسمه في الطباق في جملة السامعين، فأنكر عليه" أنكر على هذا الطالب الذي كتب هذا اليهودي في الطباق، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأجازه، قال: اكتبوا اسمه، لأن كتابة اسمه ما تضر، وكونه يتلقى في حال كفره، هذا لا يمنع وتلقيه للعلم في حال اختلال الشرط صحيح، لكن العبرة فيه في حال الأداء، عندنا حال تحمل وحال أداء، حال التحمل للعلم ولو كان فاسقاً، يتحمل العلم ويطلب العلم لكن بعد ذلك لا يقبل منه هذا العلم حتى تنطبق عليه الشروط، فيصح تحمل الكافر، يتحمل العلم، وفي الصحيحين وغيرهما أن جبير بن مطعم أتى في فداء أسرى بدر وهو كافر، فسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب بالطور، تحمل حال كفره، ثم لما أسلم أدى هذه السنة فقبلت عنه، خرجت في الصحيحين وغيرهما.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأجازه، ولم يخالفه أحد من أهل عصره، بل ممن أثبت اسمه في الطباق الحافظ المزي، -رحمه الله تعالى-، ويسر الله تعالى أنه أسلم بعد، وسمي محمد، وأدى وسمعوا منه، وممن سمع منه الحافظ شمس الدين الحسيني، وغيره، نقول: هذا طبيب وغير مسلم يُسمع منه الحديث، ومع ذلك يكتب اسمه في الطباق، ومع السامعين لكن لا تقبل روايته حتى يسلم، لأن من شرط الرواية العدالة، والكافر ليس بعدل.
ابن الديان هذا ترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة فقال: "يوسف بن عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الإسرائيلي، كان يهودياً فأسلم مع أبيه سنة إحدى وسبعمائة، وقد سمع مع أبيه ومحمد بن عبد المؤمن الصوري، وحدث عنه، وكان ماهراً في الطب، قليل الانطراح على الدنيا، إذا حصل كفايته في أول النهار توجه إلى النـزاهة -يعني في حال يهوديته يستريح ويتعبد بما يظنه صواباً، وإن كان خطأ محرفاً، لكن جُبل على هذا- يقول: كان ماهراً في الطب قليل الانطراح على الدنيا، إذا حصل كفايته في أول النهار توجه إلى النـزاهة لا يخل بذلك- ولعل هذا ازداد بعد إسلامه، بحيث يزاول الطب في أول النهار، ثم بعد ذلك يتجه إلى العبادة- مات في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وسبعمائة.
ومن هذا نأخذ دروس، نقول: إذا كان هذا يهودي، ويسمع الحديث لأن الحديث كلام من لا ينطق عن الهوى، محبب إلى النفوس، فكيف بالقرآن الذي هو كلام الله -جل وعلا-؟! كلام الله -جل وعلا- الذي من كان يقرؤه كأنما يخاطب الرحمن، يخاطب الله -جل وعلا-، لكن علينا أن نقرأ القرآن على الوجه المأمور به، نتدبر ونرتل ونتفهم ونراجع كلام أهل العلم لنفهم، ونستفيد من القرآن الفائدة المرجوة.
في ترجمة هذا لفتة، وهي أن كثيراً من الأطباء وهم كغيرهم ممن يزاول أمور الدنيا من وجوه الكسب، تجده إذا زاد دخله زاد تعبه وعمله، فإذا كان طبيب عادي تجده عمله أقل ممن فوقه، أقل من استشاري، لماذا؟ لأن الدخل أقل، فلا يغري بأن الإنسان ينهمك في هذا العمل ويكثر منه، لكن إذا ارتفع شأنه صار استشاري وقصد من جميع الناس تجد عمله كله مشغول بهذا الأمر، فلا يصرف لما يصلح قلبه شيئاً من وقته.
نرى الأطباء الكبار باستمرار أربعة وعشرين ساعة مشغولين، لماذا؟ لأن الدخل أعظم، تجده يحصل على الأموال الطائلة من خلال هذه المهنة، وينكب جانباً عما يتعلق بقلبه، وما يصلح دينه، وما يقربه إلى الله -جل وعلا-، فمثل هذا لا ينسى الله -جل وعلا-، نعم هو مطلوب بألا ينسى نصيبه من الدنيا، لكن هو خلق لهدف لا بد من تحقيقه والعبودية لله -جل وعلا- وبإمكانه أن يزاول العبودية من أبواب الدين المتنوعة، فتنوع العبادات من نعمة الله -جل وعلا- على المكلفين، فبإمكانه أن يتعبد بالصلاة يتعبد بالصيام، يتعبد بالإنفاق في سبيل الله -جل وعلا-، من خلال ما يكسبه من هذه المهنة تأدية لشكر هذه النعمة، بإمكانه أن ينفع الآخرين، فالطبيب عليه مسؤولية عظمى، فلا ينهمك في مهنته التي تدر عليه شيئاً من حطام الدنيا وينسى ما خلق من أجله، على الأطباء أن يبذلوا من أوقاتهم لنفع الناس، يعني لا يقال للطبيب مثلاً: أنت افتح عيادة أربعة وعشرين ساعة تبرع لنفع الناس، نقول: لا تنسى نصيبك من الدنيا، لكن أيضاً لا تكن الدنيا همك، يعني ابذل نفسك لنفع الناس، يعني وأنت في المسجد تصلي مع الناس، رأيت على واحد من الجيران آثار التعب، أو آثار مرض لم يحس به، وأنت تعرف أن هذه أعراض مرض، أنت تعرفه تنصحه وتسدي له النصيحة، ولو لم يطلب منك، فضلاً عن كونه يطلب منك.
فعلى هؤلاء الإخوان كغيرهم من العاملين في المجالات الأخرى أن يصرفوا من أوقاتهم لنفع الناس في أمور ما يحسنون، أنت طبيب تحسن أن تسدي النصيحة لهذا الشخص المريض لا تتردد يا أخي، والدنيا أنت ما خلقت من أجل الدنيا ليكون عملك كل كلمة لها مقابل، فإذا وجدت من يحتاج إلى بذل النصيحة سواء كان من الأقارب أو من الجيران، أو ممن يرد عليك ممن ليس من الأقارب ولا الجيران، وعرفت أنه بحاجة إلى هذه النصيحة فالدين النصيحة، وأنت تسعى لهذا العمل بنية أن يمتع الله -جل وعلا- هذا الشخص بصحة وعافية ليعبد الله -جل وعلا-، ويكثر سواد من يتعبد لله -جل وعلا-، وتستغل مثل هذه النصائح لهؤلاء الناس في مجال الدعوة إلى الله -جل وعلا-، أجرك عظيم، أنت حينئذ مجاهد.
فعليهم أن يقتطعوا من أوقاتهم لاستقبال الناس وسماع شكواهم وأمراضهم ويشير بما ينفعهم مجاناً بادئين بالأقربين، ولا يحملهم الحرص على الدنيا أن ينشغلوا بوظائفهم وعياداتهم عن مثل هذا العمل التطوعي الذي يجدون ثوابه عند الله -جل وعلا-، وهو من أقرب وسائل الدعوة، والمريض يقبل ممن ينفعه في هذا الباب، أكثر مما ينفعه في باب المال، وإن كان المال بذله ينفع في الدعوة نفعاً كبيراً.
أيضاً مما يشار به على الأطباء أن ييسروا هذا العلم لمن احتاجه بتأليف مؤلفات مبسطة، فيها مبادئ هذا العلم يستفيد منه كل من يقرأ ويكتب، بذكر بعض الأمراض المنتشرة بين الناس، وذكر أعراضها، وما ينفع فيها من الأدوية والأغذية، وما لا ينفع بل يضر فإذا وجدت هذه الأمراض وذكرت أعراضها بأسلوب سهل يفهمه عادي الناس، وذكر ما ينفع في علاجه من الأغذية وما يضر استعماله من الأغذية بالنسبة لهذا المرض، وكذلك الأدوية التي ليست لها آثار جانبية على أن يربطوا في مثل هذا المجال بالأطباء، وألا يستغنوا بهذه الكتب، لأن الإنسان قد يستعمل الشيء على غير وجهه، بل يحرص أن يكون مثل هذه الكتب سهلة ميسرة تفيد الناس وتعينهم؛ لأن ما كل الناس يستطيع أن يبذل الأموال من أجل العلاج، تعرفون الآن العلاج مرتفع القيمة، كثير من الناس الذين دخلهم متوسط وعوائلهم كبيرة، لا يستطيعون أن يغطوا ما يحتاجون إليه من علاج وما تحتاج إليه أسرهم، فمثل هذه الكتب تيسر، الكتب قليلة في المكتبات، نعم موجودة لكنها قليلة، وبعضها كتب قديماً، يعني من سنين، من خمسين من ستين سنة، تغير كثير من النظريات الطبية، وبعضها إذا وجد شيء حديث لكن باهض القيمة، أنا وجدت في مجلد واحد مكتوب عليه 120 ريال، لطبيبة ألفته في بعض الأدوية والأغذية والأمراض، فهذا باهض الثمن يعني لو كان كتاباً شرعياً كان بعشرة ريالات، فكيف يكون بهذه القيمة؟ لا بد من التيسير على أمور الناس، والأطباء لا يجعلون الناس يلجؤون إلى كتب الطب القديم، إذا ما وجد الإنسان شيء ميسر مبسط يفيده في هذا المجال، لا بد أن يبحث عن أي كتاب في الطب يستفيد منه، القانون لابن سيناء، كان معول الأطباء الشعبيين عليه، والنووي -رحمه الله تعالى- يقول: جرى في خاطري أن أنظر في كتب الطب، فاقتنيت كتاب القانون لابن سيناء، يقول: فأظلم قلبي، وصرت لا أستطيع الحفظ، ولا أفهم كلام العلماء، فأخرجت الكتاب، فعاد إلي ما كنت أعهده من نفسي، نعم، صاحب الكتاب معروف وضعه في ميزان الشرع، يعني ملحد زنديق، بكل صراحة، ما يحتاج إلى أن نجامل في هذا الباب، يعني لو نقرأ كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيره فيما يتعلق به وجدنا أنه ضال، نسأل الله السلامة والعافية.
الأطباء الشعبيون وكثير ممن ينتسب إلى العلم في العصور المتأخرة معولهم في الطب على كتاب اسمه: التذكرة، لداود الأنطاكي، التذكرة في هذا المجلد الكبير فيها بعض الأمراض، وفيها بعض الأدوية، التي تعالج بها هذه الأمراض، سواء كانت مركبة أو مفردة وفيها أغذية، تنفع في هذه الأمراض، لكن كثير من الأدوية لا يعرف كثير من النباتات التي يصفها لا تعرف أسماؤها، فلا يستفاد من هذا الكتاب، كثير من الأغذية التي ذكرها إنما ذكرها لمجرد أنها جربت مرة واحدة فنفعت لهذا المريض، لكن ماذا عن بقية المرضى، احتمال أن يكون هذا المريض عنده مضاد لهذا الغذاء، أو عنده قابلية لمرض آخر بسبب هذا الغذاء، أولاً: وعورة معرفة الأدوية والأغذية التي يذكرها لأن المسميات تغيرت، الأمر الثاني: أن التجارب ناقصة، ليست عن استقراء تام، كما هو شأن الطب الحديث، لأنه قد يجرب هذا الدواء نفع لفلان، فيظنه ينفع لجميع الناس والأمر ليس كذلك، قد يكون الإنسان مصاب بمرض آخر يزيده هذا العلاج أو هذا الغذاء يزيد مرضه الثاني، فيحصل عنده تعارض، فمطلوب من الأطباء أن يبذلوا في هذا المجال شيئاً ييسر للناس، ما كل الناس يرغب في مراجعة المستشفيات، بعض الناس يمكن يصاب بعاهة أو بأمر عظيم ولا يراجع، إما لكونه لا يرغب في هذا، أو لكون التكلفة عليه كبيرة لا يستطيعها.
إضافة إلى أن هذه الكتب فيها شعوذة، وفيها طلاسم، وقع بسببها كثير من الناس في السحر والاستعانة بالشياطين وهو لا يشعر، لأنها ألفت في عصور مظلمة، والكتاب هذا مشحون من الطلاسم، وفيها أيضاً استعانات، وفيها تعلق بحيوانات أو بطيور أو بأجزاء من الطيور، من وضع رأس الهدهد في وسادته صار له كذا، وعوفي من كذا، من استعمل كذا، مما يستعان فيه بغير الله -جل وعلا-.
وفيه أيضاً أرقام وحروف وأشياء هي إلى السحر أقرب، مثل هذه الأرقام، وفيها حروف مقطعة لا يدرى، وفيها كلمات هي إلى السحر أقرب، فلا نجعل عامة المسلمين يرجعون إلى مثل هذه الكتب، ونحن لدينا القدرة في تصنيف ما ينفع الناس في هذا المجال، والله المستعان.
الإخوة العاملون في المجال الطبي، وما يعنيه وما يساعد عليه من معاونين يعملون في أماكن فيها تعرض لشيء من الفتن، سواء كانت من المرضى المراجعين لتباين مستوياتهم في العلم وفي التدين، أو كانت من العاملين، لأن العمل يرون أن من ضرورته أن يختلط الرجال بالنساء، مع أنه لا داعي لذلك ولا ضرورة له، لكن هم يدعون هذا، العامل في هذا المجال يتعرض لفتن، فعليه أن يكون داعية خير، وأن يحول بين الناس وبين هذه الفتن بقدر استطاعته، فهذا المجال وهذا المرفق الحيوي المهم الذي يحتاجه جميع الناس فيه ما فيه وكثير من الأخيار يتضايق من مراجعة الأطباء في المستشفيات من أجل هذا، حتى في العيادات الخاصة يجد ما يجد، التبرج على أشده في هذه الأماكن.
فعلينا أن نبذل النصيحة لكل من نراه مخالفاً، سواء كان من الذكور أو من الإناث، سواء كان من العاملين في القطاع أو من الواردين عليه، من مرضى ومن زوار وغيرهم، والإنسان الحريص على نفسه يتضايق عند مراجعة المستشفيات، وهذا ليس بسر، أمر مكشوف عند الناس كلهم، كل الناس يعترف بهذا، فعلينا أن نسعى جاهدين لتقليل هذا الشر بقدر الإمكان، لأنه قد يقول قائل: أنه ليس بالإمكان أن يفصل الأطباء عن غيرهم من الذكور، الذكور عن الإناث، أو ما أشبه ذلك، نعم المرضى الرجال على حدة، والنساء على حدة، لكن تجد الاشتراك أحياناً في مكتب مواعيد أو شيء من هذا، أو أسياب وطرقات ويتعرض بعض الناس للمضايقة ويتضايق بعض الناس من بعض المناظر، فعلينا أن نكون دعاة هدى في هذا الباب، وأن نحول بين مثل هذه المخالفات وبين أصحابها، ولا يفتح المجال للشيطان وأعوانه أن يستغلوا مثل هذه الفرص.
وجد مخالفات وعند الإخوان في الحسبة رصد لما يحدث في بعض المستشفيات وبعض المستوصفات الأهلية شيء كثير، لأن الرقابة عليها أقل، فعلينا أن نكون دعاة خير وهداة، نبذل النصيحة لكل أحد، ولنا الأجر العظيم من الله -جل وعلا-، فمن دل على هدى فله مثل أجر فاعله، فلنحتسب الأجر من الله -جل وعلا-.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.