السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
ففي الحديث الصحيح من رواية أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه -عليه الصلاة والسلام- قال «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان » كل واحد منا يحس أن هذه الحلاوة المشار إليها في الحديث والتي وجدت في قلوب الكثير من سلف هذه الأمة وفُقدت عند كثير من خلفها، والسبب أن الأسباب الجالبة لهذه الحلاوة ضعفت عند الناس بل فُقِدَت عند كثير من الناس- نسأل الله السلامة والعافية- هذا أمر محسوس؛ لأن الأسباب الثلاثة المذكورة في هذا الحديث ضعفت، فالحب والبغض المشار إليه قد يكون ليس لله- جل وعلا- وهذا أثره ظاهر في حياة المسلم «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما » وعلامة ذلك ألا يقدِّم شيئا على مراد الله ومراد رسوله، فيقدم أوامر الله وأوامر رسوله على أمر كل أحد كائنا من كان، فإذا تعارض الأمر الإلهي أو الأمر النبوي مع أوامر أخرى ولو كان الوالد أو الوالدة أو الرئيس أو المرؤوس أو ما أشبه ذلك فلينظر هل يقدِّم أمر الله -جل وعلا- حضرت الصلاة فقال له أبوه اذهب أحضر كذا، الضابط واضح من قدم أمر الله على أمر كل أحد كان الله- جل وعلا- أحب إليه، وإذا قدم أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- أحب إليه من كل أحد، وإذا حضرت الصلاة فقال له رئيسه في العمل حرِّر هذه المعاملة أو أتمم هذا العمل قبل الصلاة فقدَّم أمر الرئيس على أمر الله ورسوله ما حقق هذا الشرط، ما حقق هذا السبب الذي يجد به طعم الإيمان، نعم قد يكون وقت الصلاة موسَّعًا لكن إذا تعارض أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأداء الصلاة مع المسلمين جماعة في المسجد فإن قدَّم هذا الواجب على أمر كل من يعارض هذا الأمر ولو كان الوالد أو الوالدة أو الرئيس أو ما أشبه ذلك كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإذا قدَّم أمر المخلوق على أمر الخالق تخلَّف هذا السبب وحينئذ لا يجد طعم الإيمان، وإذا وَجد المسلم طعم الإيمان طابت له الحياة وأحياه الله حياة طيبة لأنه يتلذذ بإيمانه ويتلذذ بأعماله الصالحة، وفرق بين من يأتي العمل المقرِّب إلى الله- جل وعلا- ورسوله وهو راغب فيه مقبل عليه فرح به وبين من يأتي إليه وهو كاره، فرق بين من يقول أرحنا بالصلاة وبين من يقول أرحنا من الصلاة شتان، وقد يستجيب الشخص للأمر ويستجيب الآخر للأمر وبين استجابتيهما مثل ما بين السماء والأرض، وفرق بين من أمر بذبح ولده فتله للجبين، وبين أمة تؤمر بذبح بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون، فرق بين من يأتي إلى ما يرضي الله- جل وعلا- من العبادات ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي وهو يتلذذ بذلك ويجد لها طعما هذا من الأسباب بل هو أقوى الأسباب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هناك محبة شرعية ومحبة جِبِلِّيَّة لا يستطيع الإنسان أن ينفك منها، هذه المحبة الجبلية لا شك أنها إذا لم ترجع إلى اختيار الشخص ولا يكون للشخص فيها اختيار فإنه معفوٌّ عنه، محبة الولد، محبة الوالد هذه جبلِّية، وقد تضطر الإنسان هذه المحبة الجبلية والشفقة على الولد أو الوالد إلى ملاحظتها وتأخير الأمر الإلهي لاسيما إذا كان وقته موسَّعًا ولا يرتكب بتأخيره محظورا، هذه المحبة الجبلية التي لا ينفك الإنسان منها أمرها مما لا يستطيع الإنسان أن ينفك منه، هذه المحبة معفو عنها مع أنه جاء في الحديث الصحيح «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» تظهر هذه المحبة فيما ذكرنا عند تعارض الأوامر، كثير من المسلمين لا يجد طعما ولا يجد أثرا لهذه المحبة لأنه يؤْثِر عليها الدنيا، يسمع النداء وبيده شيء يعينه على كسب الحطام فتجده لا يلتفت إلى ذلك، أين هذا من سلف هذه الأمة ممَّن جاء عن بعضهم: الذي لا يأتي إلى الصلاة حتى يُدعَى إليها هذا رجل سوء، يعني ما يذهب إلى المسجد حتى يسمع النداء فكيف بمن لا يأتي إلى الصلاة حتى يسمع الإقامة، فكيف بمن يتأخر عن الصلاة حتى يفوته بعضها أو كثير منها، فضلا عن أن تفوته كلها، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» لا يحبه لأمر آخر، لا يحبه لغرض من أغراض الدنيا «أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» الواقع في حياة الناس أو في حياة كثير من الناس اليوم أن المحبة مصالح متبادَلة، منها مصالح دنيوية، ومنها مصالح معنوية، فلينظر الإنسان نفسه إذا قرر زيارة رجل صالح أو عالِم عامل يقرر هذه الزيارة في أول الأمر لله- جل وعلا- ثم انظر أثر هذه الزيارة إن تأثر بنوع الاستقبال لم تكن هذه الزيارة لله أعني الثانية، فإن استقبله استقبالا حسنا وأعاد الزيارة من أجل هذا الاستقبال خدش في كون المحبة لله، وكذلك إذا كان الاستقبال أقل مما توقعه فلينظر الإنسان إلى نيته وقصده، وبعض الناس يزور ثم إذا حصل في أثناء الزيارة يعني ما أنزله منزلته أو قصر في استقباله أنه لن يكرر الزيارة وهذا واقع في كثير من الناس هذا ما كانت زيارته خالصة لله جل وعلا «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله»، «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» نعم المصالح مؤثرة لها أثر وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها والإحسان مطلوب والإساءة مرفوضة فهذا له أثر في القلوب، لكن يبقى أن يكون الأثر الأول والمقصد الأول أن يحَب هذا الشخص لأنه محبوب عند الله- جل وعلا- وقد أثَّرت أمور الدنيا على هذه المحبة حتى قال ابن عباس وهو في الصدر الأول: "ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا" وهذا في أواخر القرن الأول يعني بعد انقراض الجيل الأول من الصحابة وإتيان كثير من التابعين وبقية من الصحابة، يقول ابن عباس: "ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي عند الله شيئا" لا يغني {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [سورة البقرة:166] قال كل الأسباب التي تُبنَى على غير هذا الميزان لا تنفع وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله.
وما الدين إلا الحب والبغض والولا |
|
XE "08-فهرس القصائد العامة:وما الدين إلا الحب والبغض والولا *كذاك البرا من كل غاوٍ وآثم " كذاك البرا من كل غاوٍ وآثم |
هذه أوثق عرى الإيمان، "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" الإنسان يحمد الله- جل وعلا- على هذه النعمة التي امتن الله بها عليه فهي أعظم نعم الله على المرء، أن يكون مسلما أنقذه الله- جل وعلا- من الكفر، وإلا ماذا يتصور عن حاله لو وجد بين أبوين كافرين في مجتمع كافر وما قدرت له السعادة باعتناق هذا الدين، ثم النتيجة والنهاية أن يكون خالدا مخلدا في النار- نسأل الله السلامة والعافية- فهي نعمة عظيمة فعلى الإنسان أن يلهج بشكر الله- جل وعلا- أن جعله مسلما، وأن يتصوَّر حال غير المسلمين في الدنيا والآخرة شقاء وتعاسة في الدنيا وعذاب أليم مقيم في الآخرة، فإذا تصوَّر هذا شكر الله- جل وعلا- على هذه النعمة وسعى وجهِد وتعب في تحصيل الأسباب المثبتة لهذه النعمة خشية أن تسلب منه؛ لأن الإنسان قد يكون مسلما ثم بعد ذلك يتساهل ولا ينظر إلى هذه النعمة العظيمة ويقدرها قدرها، ثم يعمل الأسباب التي تجعلها تضعف في قلبه ثم تضمحل وتتضاءل حتى يبيع دينه بعرض من الدنيا، كما جاء في حديث الفتن: "يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا" لأن المسألة تحتاج إلى معرفة قدر هذه النعمة، ثم تحصيل الأسباب المثبِّتة لهذه النعمة، تجد الإنسان وقد يكون من طلاب العلم يتساهل في أمور المعاصي أو يقصِّر في امتثال الأوامر، وقبل ذلك يتساهل في النوافل أو في ارتكاب المكروهات، ثم بعد ذلك يجره إلى أن يترك بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات، ثم ينسلخ بالكلية؛ لأن أعظم وسائل التثبيت والثبات التقرب إلى الله- جل وعلا- بالنوافل «وما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه» لأن النوافل سياج تحفظ الواجبات من الضياع، والواجبات سياج يحفظ أصل الدين ولو تأملنا قوله- جل وعلا- {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [سورة البقرة:61] هذه المعاصي صارت سببا للكفر الذي صار سببا لضرب الذلة والمسكنة عليهم، فهي أمور مرتَّب بعضها على بعض، فحذار حذار من أن يفرط المسلم بهذه النوافل التي تحفظ عليه الواجبات، والمحافظة على الواجبات يحفظ عليه أصل الدين والإسلام، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يعود أو كما يكره أن يلقى في النار، هل يوجد أحد يحب أن يلقى في النار؟! لا أحد يرضى أو يحب أن يلقى في النار ولو كان إلقاؤه في النار مرتَّبا على أمرٍ يقرِّبه إلى الله- جل وعلا- بمعنى أنه لا يتمنى ذلك، لا يحب ذلك بل يكره ذلك؛ ولذا جاء في الحديث الصحيح «لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا» فلا يتمنى الإنسان أن يُلقَى في النار كما ألقي إبراهيم- عليه السلام- يسأل الله العافية؛ لأنه ما يدري ما نتيجة هذا الابتلاء، يمكن لا يطيق فيرتد- نسأل الله العافية- يسأل الله العافية، لكن إذا لقيتموه فاثبتوا، إذا كنت على الحق وأرادوك أن ترتد على هذا الحق وهددوك بالإلقاء في النار هذا إكراه لك مندوحة في أن تجيب إلى كلمة الكفر شريطة أن يكون قلبك مطمئنا بالإيمان، وإذا ارتكبت العزيمة وثبَتّ على الحق وألقيت في النار لا شك أن هذا أكمل، لكن يبقى أن لك رخصة في أن تجيب إلى قول كلمة الكفر إلا من أكره {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سورة النحل:106] والخشية أن يتمنى الإنسان بمثل هذا الابتلاء ثم لا يثبت ثم يستجيب وقلبه متردد غير مطمئن بالإيمان، فمثل هذا عرَّض نفسه لفتنة لا يطيقه «وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار» ومَن مِن العقلاء مَن يحب أن يلقى في النار؟! -نسأل الله العافية- على كل حال هذه أمور على المسلم أن يجعلها نصب عينيه؛ لأنه يجد بها حلاوة الإيمان، وإذا وجد المسلم حلاوة الإيمان فحدِّث ولا حرج من انفتاح أبواب التوفيق لهذا المسلم؛ لأنه إذا وجد الحلاوة أقبل على الأعمال الصالحة وهو يتلذذ بها، إذا لم يجد هذه الحلاوة تجد هذا المسلم قد لا يفرِّط بواجبات قد لا يرتكب محظورات لكن فيها مشقة عليه تستمر معه المجاهَدة، والسلف أثِر عن كثير منهم أنهم كابدوا وجاهدوا أنفسهم من أجل قيام الليل ثم تلذذوا به، فرق بين من يأتي إلى العبادة وهي شاقة عليه وبين من يأتيها وهو مرتاح إليها ومرتاح بها كما هو شأنه -عليه الصلاة والسلام- «أرحنا يا بلال بالصلاة» وواقع كثير من المسلمين الذين مازالوا في طَوْر المجاهَدة لسان حالهم يقول أرحنا من الصلاة، هؤلاء الذين يعلمون الناس الخير بينهم فروق كبيرة جدًّا، بعض الناس يعلِّم العلم عقودا تكون ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة وفي كل درس يحتاج إلى مجاهَدة، وبعض الناس وذلك بسبب صلاح القلب وخلوص النية تجده يجاهِد مدة ثم يتلذذ بقية عمره؛ ولذا يُعجَب من بعض الناس مثار عجب أن يكون ديدنه العلم والتعليم، تجده في كل الأوقات يعلِّم أو يؤلِّف وبعض الناس ينظر إليه على أنه مسكين، الناس في استراحاتهم وفي لهواتهم وفي رحلاتهم وهذا عاكف بالمكتبة يؤلف أو يعلم الناس جالس على كرسي، لا يدري أنه يتلذذ بها كما يتلذذ أنعم الناس في هذه الدنيا، شرف الدين الطيبي شارح المشكاة وشارح البخاري وغيرهما وله تفسير أيضًا يجلس من بعد صلاة الصبح إلى أذان الظهر جلسة واحدة يفسر القرآن، ومن بعد صلاة الظهر إلى أذان العصر لصحيح البخاري، ومن بعد صلاة العصر إلى أذان المغرب لكتاب ثالث نسيته الآن، والمغرب كذلك، هل مثل هذا العمل يُطَاق في تصوُّرِنا الآن؟! ما الذي أعانه على هذا المكث في المسجد وكيف كانت نهايته؟ مات- رحمه الله- وهو ينتظر صلاة الظهر بعد فراغه من درس التفسير، شيوخ أدركناهم من لزم التعليم إلى أن عجز حتى صار التعليم في آخر أيامه كثير منه لا يفهم كلامه من شدة مرضه ويموت بعده ببضعة أيام، ما الذي يسَّر له هذا الأمر إلا أنه جاهد في البداية ثم كانت هذه هي النهاية، شباب يأتون إلى شيخ من مسافة ليقرؤوا عليه كتابا وقد حددوا الموعد معه في يوم من الأيام، صلوا معه الفجر وابتدأ بشرح الكتاب من صلاة الصبح وهم وضعوا جدولا لمجيئهم أو لزيارتهم لهذا البلد الذي فيه الشيخ، قالوا الساعة السادسة يعني بعد الصلاة بحدود ساعتين مقررين أن الكتاب ينتهي بعد ساعتين، الساعة السادسة تواعدوا مع أحد زملائهم ليفطروا عنده، والساعة السابعة يمرون مكتبة من المكتبات ويصلون الظهر في بلدهم الذي يبعد عن الرياض ثلاثمائة كيلو هذا تخطيطهم، جلس لهم الشيخ بعد صلاة الفجر الساعة الرابعة وشرح قراءة وشرح جاءت الساعة السادسة يتناظرون، جاءت الساعة السابعة يتناظرون لا فائدة، لم يمسك، الساعة الثامنة ضاقت بهم الأرض، التاسعة، العاشرة، الحادية عشرة، الحادية عشرة ونصف قال: عن إذنكم أجدد الوضوء، إعانة إلهية لكن ما جاءت من فراغ بذل الأسباب، على المسلم أن يبذل السبب لينال مثل هذه الإعانات، يعني التلذذ مرحلة فوق المجاهدة، نعم الذي يجاهد نفسه ليرضي ربه يُكتَب له أجر العمل وأجر المجاهدة، لكن لا يعني أن هذا أفضل من الذي يتلذذ الذي وصل إلى مرحلة التلذذ كما عرف عنه -عليه الصلاة والسلام- وكون الأجر يضاعَف لبعض الناس لا يعني أنه أفضل من غيره، فالذي أعاد الصلاة بالتيمم له الأجر مرتين، والذي لم يعد أصاب السنة أيهم أفضل؟ الذي أصاب السنة قطعًا، على كل حال مثل هذا الحديث عظيم ينبغي لطالب العلم المسلم المؤمن أن يُعنى به، ويسعى جاهدًا لتحقق هذه الخصال الثلاث ليجد بهن حلاوة الإيمان.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.