شرح علم أصول الفقه من النقاية (3)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى- في الأصل الرابع من أصول أدلة الأحكام التي هي أصول التشريع "القياس" والقياس حجة عند عامة أهل العلم خالف فيها الظاهرية، لكن أهل العلم المعول عليهم كلهم يقولون به ويعملون به إلا أنه عندهم لا يدخل في العبادات؛ لأنها توقيفية، وأما ما عداها فإنه تستعمل فيها الأقيسة، وجاءت الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم الشيء الكثير، المقصود أننا لسنا بصدد إثبات حجية هذا الأصل، فعامة أهل العلم على اعتباره ومشوا عليه ودرجوا عليه، فالقياس يقول المؤلف: "رد فرع إلى أصل بعلة جامعة في الحكم" رد فرع وإلحاق الفرع بالأصل بعلة جامعة في الحكم، فلا بد أن يكون هناك فرع يُلحَق ويرد، وأن يكون هناك أصل يُلحَق به ويُرَد إليه، وأن تكون هناك علة تجمع بين الأصل والفرع في حكم من الأحكام، فأركانه أربعة، قال- رحمه الله- "فإن أوجبته العلة فقياس علة" إن أوجبت القياس العلة فقياس علة، أولا: مما يمثَّل به في باب القياس الربويات والأصول الخمسة التي جاء التنصيص عليها ألحق بها العلماء ما يشاركها في العلة، فالأرْز مثلا ملحَق بالبر المنصوص عليه في جريان الربا بجامع الطعم، منهم من يضيف إليه الادخار على خلاف بينهم في هذه العلل، والعلل تختلف من صنف إلى آخر، فالذهب والفضة الثمنية هذه هي العلة عند أهل العلم ويلحقون بهما ما كان ثمنًا للسلع كالعملات الورقية وغيرها من المعادن، قياسًا على الذهب والفضة، وعلى هذا يجري فيها الربا لوجود العلة، وتجب فيها الزكاة، ونسمع مَن يثير في هذه الأيام أن هذه النقود ليست ذهبا ولا فضة ولا برا ولا شعيرا ولا ملحا ولا تمرا فلا يجري فيها الربا، وعلى هذا لا ربا في الوجود، يعني من عظائم الأمور الربا وهو حرب لله ورسوله ويريدون أن يقضوا عليه بمثل هذا القول وليقولوا في مرحلة ثانية أنه لا زكاة أيضًا لا زكاة فيه، ثم بعد ذلك تمحى الزكاة من الوجود كما يسعى إلى محو الربا- نسأل الله العافية- فالقياس عند أهل العلم أصل معتبَر لم يخالف فيه إلا من شذ كالظاهرية؛ ولذا لم يعتد أهل العلم بأقوالهم لا في الاتفاق ولا في الخلاف، يقول النووي: ولا يعتد بقول داود لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد، ولا شك أن إلغاءه للقياس أوقعه في أمور مضحكة وأُلزِم بإلزامات لا يقول بها سفيه فضلا عن عاقل فضلا عن عالم، فعلى قياس قوله أن التأفيف حرام {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [سورة الإسراء:23] لكن ما زاد على ذلك الضرب ما نص عليه، يقول لو لم يرد في البر إلا هذه الآية {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [سورة الإسراء:23] لجاز قتلهما، هذا الذي يجعل مثل النووي ومثل النووي لا يعتدون بقوله ولا شك أنهم يعظمون النصوص، وهذا من زيادة تعظيمهم للنصوص ألغوا ما عدا النصوص، لكن النصوص دلت على اعتبار القياس، وجاءت أحاديث كثيرة استعمل فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- القياس، نعم النص معظَّم ويجب أن يعظَّم ومع ذلك من تعظيم النص تعظيم ما دل عليه النص، ذكروا عنهم ولعله من باب الإلزام: ثبت النهي عن البول في الماء الدائم لكن التغوُّط فيه ليس فيه إشكال، ويحرم أن يبول فيه لكن لو بال في إناء وصبه عليه فليس فيه شيء، بعضها منصوص عندهم، المحلى فيه أمثلة كثيرة من هذا النوع، لكن بعضها إلزام مما لم يُنَص عليه في كتبهم، مما يلزمه القول به لتقريرهم هذا الأصل، ولقولهم في نظائره "فإن أوجبته العلة فقياس علة" ويقول العلماء كقياس الضرب على التأفيف لعلة الإيذاء، علة الإيذاء موجودة في الفرع أكثر من وجودها في الأصل، العلة التي هي الإيذاء موجودة في الفرع الذي هو الضرب أكثر من وجودها في الأصل الذي قد يشعر به الوالدان أو لا يشعران به لأنه ما يوجد أخف من كلمة أف ومع ذلك حرام إذًا ما فوقهما من باب أولى، ويسمى قياس الأولى والقياس الجلي وقياس العلة، "أو دلت عليه العلة من غير إيجاب" لا توجبه العلة إنما تدل عليه "فقياس دلالة" كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة بجامع النمو، مال الصبي نامي مثل مال البالغ فتجب فيه الزكاة، فرع وأصل لعلة وهي النمو تجمعهم في الحكم وفي وجوب الزكاة هذا قياس دلالة، والقول بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون هو قول الجمهور خالف في ذلك الحنفية لأنهم غير مكلفين فلا يلزمهم والمكلف مرفوع عنه القلم، لكن غيرهم يقولون هذا من باب ربط السبب بالمسبب ولا علاقة بالتكليف فيكون من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف، الصبي إذا أتلف يلزمه قيمة المتلَف، المجنون إذا أتلف تلزمه قيمة المتلف من باب ربط الأسباب بالمسببات وليس من باب الحكم التكليفي، وجاء ما يدل على ذلك من الأمر بالاتجار بأموال الأيتام لئلا تأكلها الصدقة، الأيتام غير مكلفين ولا شك أن المال إذا جمد انتهى من الزكاة كل سنة ينقص كل سنة إلى أن ينتهي، لكن إذا حرك بالتجارة وأدير في التجارة عوِّض، "أو تردد فرع بين أصلين وأُلحق بالأشبه فشبه" يعني فقياس شبه، قياس الشبه: أن يتردد فرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا به، ويمثلون على ذلك بالعبد هل يلحق بالحر أو يلحق بالبهيمة؟ إذا رأينا أو نظرنا إلى أن الأشبه به من حيث الخِلْقة الحر فيلحق به، وإذا نظرنا إلى أنه أشبه بالبهيمة من حيث أنه يباع ويشترى ويُضمن ويغرم كله أو جزئه بالقيمة كالبهيمة لا بالدية كالحر أُلحِق بالبهيمة، فرأوا أنه من حيث الأحكام المتعلقة به رأوا أن أكثرها شبها هو ما يشبه فيه البهيمة، وإلا فالأصل أنه إنسان له اعتباره الشرعي وله نفسيته وله وضعه لكن الله جل وعلا قدر عليه وقضى أن يكون رقيقا بيد أخيه، وجاءت النصوص الشرعية تأمر بإكرامه وعدم إهانته لكنه من حيث الحكم يباع ويشترى هذا الحكم الشرعي، قياس الشبه قالوا في المذي هل يُعفى عن يسيره كالدم أو لا يعفى عنه كالبول؟ هو متردد بين هذين الأصلين في هذا الحكم، الدم جاء العفو عن يسيره في آثار كثيرة، والبول جاء التشديد فيه في نصوص كثيرة حتى أن من أهل العلم من يرى أنه لا يُعفى عن يسيره حتى ما لا يدركه الطرف وقالوا مثل ما يقع على البدن من رؤوس الإبر مثل رؤوس الإبر هذا لا يعفى عنه في البول، أما بالنسبة للدم فالصحابة في وقائع كثيرة حصل منهم، الذي عصر بثرة، والذي حرك أنفه، والذي فعل خرج من الدم ما غسلوه فهل المذي وقد جاء فيه التخفيف في غسله يعفى عن يسيره بحيث لا يغسل ولا ينضح كالدم؟ أو لا، كالبول ينضح لا بد أن ينضح لكن لا يشدد في غسله كالبول؟ يعني فرق في مسألة أصل الحكم وبين كيفية تطبيق الحكم، النافلة والفريضة في أصل الثبوت واحد ما تتنفل إلا بشيء له دليل كالفريضة وإلا كنت مبتدعا، لكن كيفية تطبيق النافلة أخف من تطبيق الفريضة، وجاءت بذلك النصوص، يعني ما تقول والله تثبت النافلة بخبر ضعيف لأنه يتسامح فيها لا، لا يتسامح في تشريعها إنما يتسامح في تطبيقها على ضوء ما جاءت به النصوص «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا» هذا في الفرض «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم» هذا في النفل تصلي قاعدا وأنت قادر، وغير ذلك من الأشياء التي تفترق فيها الفريضة عن النافلة، "وشرط الأصل ثبوته بدليل وفاقي" يعني يتفق فيه مع خصمه الذي يناظره ويختلف معه في الحكم لا بد أن يثبت الأصل بدليل يوافقه عليه الخصم وإلا كيف تنازع شخصا ثم تستدل وتقيس على أصل هو لا يوافقك عليه؟! يقول الشافعي أو الحنفي لا يجوز الرمي بجمرة سبق الرمي بها قياسا على الماء المستعمل ثم يورد هذا الحكم على مالكي يوافِق؟ لا يوافق لأن المالكي لا يوافقه على أن الماء المستعمل لا يجوز الوضوء به ولا يصح الوضوء به، لا بد أن يكون الأصل متفقا عليه بين الخصمين، وأن يكون دليله متفقا عليه، ما تأتي بدليل ثم تقول تثبت حكما ثم يقول لك الخصم لا والله الدليل ليس بصحيح بل لا بد من أن تتأكد من ثبوت الدليل الذي يوافقك عليه خصمك، وهذا يجب أن ينتبه له في المناظرات التي كثرت الآن وصارت على الملأ ويلقى بها على عامة الناس في شبهات دخلت البيوت، ثم يأتي من يمثل أهل السنة ولا يحفظ من الأدلة إلا شيئا قد لا يثبت عند التمحيص، وفي المسألة أدلة قوية هذه الأدلة تنسف ثم ينتهي الموضوع يقال خصم أهل السنة، ما يقال خصم فلان، لا يجوز أن يقحم نفسه في المناظرة إلا من عنده علم ويأوي إلى نصوص يعتمد عليها لا تقبل النقض، مثل الذي استدل بحديث قال والله الحديث ضعيف فنشبه الأقوام الذين يستدلون بالأحاديث الضعيفة بل يختلقون الأدلة ويكذبون على الأئمة، يأتي بحديث ويقول هذا في البخاري وهو كذاب ليس في البخاري لكن الخصم ما يدري ما أحاط بالبخاري ولا راجع البخاري ولا كذا قد يستسلم مادام قال في البخاري خلاص سمعنا وأطعنا وهو ليس في البخاري وهذه يستعملها الخصوم كثيرا لاسيما في القنوات، الآن يأتيك مخالف من أهل البدع ويناظر سني، السني غير متمكن ثم يقول له هذا حديث في البخاري ما يدري إذا صار غير متمكن، لا بد أن يكون على اطلاع بما يستدل وكيف يستدل، "وشرط الأصل ثبوته بدليل وفاقي والفرع" يعني شرط "الفرع مناسبته للأصل فيما يجمع بينهما" يعني مناسبته يعني يكون متفقا معه في العلة، "والعلة" يعني "شرط العلة أن تكون مطردة" الاطراد في معلولاتها، لا تكون في بعض الفروع مناسبة وفي بعضها غير مناسبة لا بد أن تكون هذه العلة مطردة وكذا الحكم بأن يكون تابعا للعلة وجودا وعدما طردا وعكسا مطردا منعكسا "وهي" أي العلة "الجالبة له" أي للحكم فيُلحَق بالأصل بهذه العلة بعموم العلة هذا ما يتعلق بالقياس على ما أورده المؤلف، وهذا يعني مناسب لحجم الكتاب وإلا المسألة مبسوطة في كتب الأصول وفيها مباحث منها العميق الدقيق الذي لا يدركه كثير من طلاب العلم، ومنه ما هو واضح وظاهر وجلي، وإذا أكثر من الأمثلة سهلت بإذن الله، ثم بعد هذا من الأدلة: استصحاب الأصل عند عدم الدليل، قال: "استصحاب الأصل عند عدم الدليل حجة" وهو الخامس من الأدلة لكنه مختلف فيه استصحاب الأصل وكلٌّ على أصله عند أهل العلم، فالأصل عند الشافعية الحل حتى يرد ما يمنع، ويقولون: الحرام ما حرمه الله، وعند الحنفية العكس الأصل المنع حتى يرد ما يبيع وعندهم الحلال ما أحله الله؛ ولذا يقول المؤلف "وأصل المنافع الحل" الأصل في الأعيان المنتفع بها الحل "والمضارّ التحريم" هذا الأصل والقول الثاني الأصل المنع مطلقا؛ لأن الله جل وعلا خلق لنا ما في الأرض جميعا كما دلت على ذلك آية البقرة، القول الثاني يستدلون بأن هذه الأعيان المنتفع بها ملك لله- جل وعلا- فلا يتصرف فيها إلا بإذنه، فأنت تتصرف في مال غيرك بغير إذنه وهذا قبل ورود الدليل والدليل هو الإذن، أصحاب القول الأول يقولون نعم هي ملك لله- جل وعلا- لكن عهد بالنسبة للمخلوق الضعيف الشحيح أنه إذا كان له منافع يمكن أن ينفع بها غيره من غير أن يتضرر بها فإن عادي الناس لا يمنع من الانتفاع بها، يعني لو جاء شخص يستظل بجدارك تقول له قم أو يستصبح بمصباحك مثلا ما تقول له قم؟ إلا إذا تضررت جالس أمام الباب بحيث كلما فتح الباب التفت أو شيء تمنع، لكن إذا لم يكن هناك ما يضر بك فكونه ينتفع هذا هو الأصل وكونك تمنع هذا خلاف الأصل، وجاء: الناس شركاء في بعض الأشياء، المقصود أن المسألة خلافية وقول الشافعية الحرام ما حرمه الله وقول الحنفية الحلال ما أحله الله تابع لأصولهم، ويظهر مثل هذا إذا وجدنا شيئا وما وجدنا عليه نصا، في أيام الربيع تجد نباتات تعجبك فتشمها رائحتها طيبة تذوق طعمها طيب تأكل أو ما تأكل؟ تأكل أو ما تأكل؟ ربيع وجدت نباتا أخضر واستهواك وجاز لك قلت سآكل عند الشافعية تأكل حتى تجد ما يمنعك، عند الحنفية لا، لا تأكل حتى تجد دليلا يبيح لك، هذا الفرق بين القولين يعني قد يقول قائل ما الفرق بين الحلال ما أحله الله وبين قولهم الحرام ما حرمه الله ؟ كله كلام صحيح لكن الكلام له مفهومه بينهما فرق كبير أما بالنسبة للمضار فكل ما يضر فهو محرم؛ لأن البدن ليس ملكا للإنسان يتصرف فيه كيفما شاء ولا يجوز له أن يتصرف في بدنه فيما يضره، ولا يجوز له أن يأكل ما يضره. ثم بعد ذلك الاستدلال لأن هذا متمم لحد علم أصول الفقه وكيفية الاستدلال بها الاستدلال بالنصوص الأصول تقدمت، كيف يُستدل بها المجتهد كيف يتعامل معها المتفقه؟ وهذا أمر في غاية الأهمية، ونسمع من ينادي بالتفقه من النصوص مباشرة ما له داعي، تقرأ علوما تزاحم النصوص تقرأ في الكتاب الفلاني من كتب الرجال؟ تتفقه على زاد المستقنع أو على العمدة أو الدليل أو على مختصر خليل أو غير ذلك؟ تفقه من الكتاب والسنة، نقول نعم هذا الكلام حق لكن بالنسبة لمن؟ لمن يستطيع أن يتعامل مع النصوص على طريقة أهل العلم، أما شخص مبتدئ عامي في حكم العامي يقال تفقه ما يمكن، لا بد أن يسلك الجادة وأن يتمرن على طريقة أهل العلم ثم بعد ذلك يصير فرضه أن يتفقه من الكتاب والسنة ولا يجوز له أن يقلد الرجال، لكن متى؟ إذا تأهل، "إذا تعارض عامَّان أو خاصّان وأمكن الجمع بينهما جمع" إذا تعارض عامان أو خاصان وأمكن الجمع فإنه يجمع بينهما وحينئذ لا يلجأ إلى الترجيح أو القول بالنسخ؛ لأن الجمع عمل بجميع الأدلة والترجيح والنسخ اطراح لبعض الأدلة، أو عمل أو ببعضها، جاء مدح الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا «ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» وهذا الحديث في البخاري وهذا في مسلم والحديث الثاني «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون» فخير الناس الذي يدلي بشهادته قبل أن يسألها، وفي الحديث الثاني ذم لأن السياق سياق ذم لمن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها، يمكن الجمع بينهما يؤدي الشهادة قبل أن يسألها إذا كانت لا توجد عند غيره وخشي من ضياع الحق وصاحبها لا يعلم بها هذا يؤدي الشهادة ولو لم يستشهد لئلا يضيع الحق، وإن كتمها دخل في الوعيد، المذموم الذي يأتي بالشهادة إذا كان يمكن أن يؤديها غيره أو كان صاحبها يعلم بها بهذه الشهادة بحيث يترك حتى يستشهد فيشهد هذا أمكن الجمع بين النصوص ومثل هذا يسمى مختلف الحديث، وفيه مصنفات ونافعة هذه المصنفات تفتح عند طالب العلم آفاقا وتفتق ذهنه، كتب مختلف الحديث، اختلاف الحديث للشافعي، أو مختلف الحديث لابن قتيبة، أو مشكل الآثار للطحاوي، أو غيرها من الكتب تمرن طالب العلم، وابن خزيمة من أعرف الناس بهذا الباب وهذا النوع من أنواع علوم الحديث، ابن خزيمة يقول لا أعرف حديثين صحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما تعارض فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني لأؤلف بينهما، فإذا أمكن الجمع والتأليف تعيَّن؛ لأنه عمل بجميع النصوص مع أن ابن خزيمة سئل عن حديث «من أم قوما فخص نفسه بدعوة دونهم» قال هذا الحديث ليس بصحيح لأنه مخالف لحديث «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من ذنوبي وخطاياي» إلى آخره وخص نفسه بدعوة دون الصحابة، ابن خزيمة حكم على الثاني بأنه ليس بصحيح لأنه معارض للحديث الصحيح مع أنه يمكن الجمع، الجمع ممكن، شيخ الإسلام حمل ما جاء من وعيد على الدعاء الذي يؤمَّن عليه يعني في دعاء القنوت تقول: "اللهم اهدني فيمن هديت" والناس وراءك يقولون آمين ما يجوز الدعاء الذي يؤمَّن عليه لا يجوز تخصيص نفسه بدعوة دونهم، أما ما يدعو به في سجوده أو في دعاء الاستفتاح أو غير ذلك يدعو به سرا فلا مانع من أن يخص نفسه بدعوة دون المأمومين، وهناك أقوال أخرى قيلت للتوفيق بينهما "إذا تعارض عاما أو خاصان وأمكن الجمع بينهما جمع" يعني تعين الجمع "وإلا وُقِف" يعني إذا لم يمكن الجمع توقف فيهما حتى يوجد مرجِّح لأحدهما على الآخر، أو يعلم المتأخر فيحكم بالنسخ، "فإن علم متأخر فناسخ" وتقدمت أمثلته في النسخ، المتقدم منسوخ والمتأخر ناسخ، "فإن علم متأخر فناسخ أو عام وخاص خص العام به" وقد تقدم مثاله في العموم والخصوص، ومثله إذا وجد مطلق ومقيد حمل المطلق على المقيد على ضوء الصور السابقة "أو كلٌّ عام من وجه" يعني وخاص من وجه "خص كلٌّ بكلّ" إذا وجد عام من وجه وخاص من وجه إذا أمكن تخصيص عموم العام الأول بخصوص الثاني والعكس تعيَّن، وإلا يُطلَب المرجِّح الخارجي، في حديث القلتين «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" هذا عام في المتغير وغيره لكنه خاص بما زاد على القلتين وحديث أبي سعيد «إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه» هذا عام في القليل والكثير لكنه خاص بالمتغيِّر، فحديث القلتين ما زاد على القلتين لا يحمل الخبث إلا إن تغير حملا لعمومه على خصوص حديث أبي سعيد، وحديث أبي سعيد «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» عمومه مخصوص بخصوص حديث القلتين فهذا أمكن حمل خصوص أحدهما عموم أحدهما بخصوص الآخر على خصوص الآخر لكن أحيانا لا يمكن فنطلب مرجِّح خارجي «من بدل دينه فاقتلوه» هذا عام في الرجال والنساء لكنه خاص بالمرتدين، النهي عن قتل النساء والذراري هذا خاص بالنساء لكنه عام بالمرتدات والأصليات، عموم «من بدل دينه فاقتلوه» مخصوص بما جاء في النساء، وعموم النهي عن قتل النساء مخصوص بأمور كثيرة منها أن المرأة إذا زنت وهي محصنة تدخل في النهي عن قتل النساء أو ترجَم؟ ترجَم، المرأة إذا قتلت تقتل أو لا تقتل، النهي عن قتل النساء نقول لا تقتل إذًا عموم النهي عن قتل النساء دخله من المخصصات أكثر مما دخل «من بدل دينه فاقتلوه» فهو أضعف وحينئذ يرجح عموم «من بدل دينه فاقتلوه» على العموم الثاني، وعلى هذا تقتل المرتدة كما تقتل إذا زنت كما تقتل إذا قتلت، "يقدم الظاهر على المؤول" لأن الظاهر أقوى من المؤول، أولا يقدم النص على الظاهر لأنه لا يحتمل، ثم إذا كان هناك احتمال فالظاهر الذي هو أقوى الاحتمالين مقدم على المؤول الذي هو أضعف الاحتمالين، والموجِب للعلم على الموجِب للظن كالمتواتر مقدم على الآحاد كما هو معلوم، وهذه مسألة سبق بحثها في الفن السابق من علم الحديث، "والكتاب والسنة على القياس" لأنهما أصله، القياس معتمِد على النص ولا قيمة للقياس في مقابل النص، والقياس في مقابل النص فاسد الاعتبار، فالكتاب والسنة مقدمة على القياس ولا كلام لأحد مع كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- الإجماع صرّح جمع من الأصوليين أن الإجماع مقدَّم على النصوص من الكتاب والسنة لماذا؟ قالوا لأنه لا يحتمل نسخا ولا تأويلا بخلاف النص يحتمل تأويلا، يحتمل أنه منسوخ يحتمل كذا؛ ولذلك إذا وجدوا نصا ووجدوا الإجماع على خلافه قالوا أن النص منسوخ، طيب أين الناسخ؟ قالوا دل عليه الإجماع كما تقدم الإشارة إليه، دل عليه الإجماع ولو لم نطلع على الناسخ لكن هذه العبارة يعني إطلاقها في مقابل نص الكتاب والسنة فيه شيء من عدم التأدب مع كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- يعني كل قضية تبحث في وقتها ومرجحاتها وما يحتف بها من غير إطلاق مثل هذه العبارة، "وجليه" يعني يقدم جلي القياس على خفيه كقياس العلة على قياس الشبه يعني قياس الشبه ضعيف ليس مثل قياس العلة الموجبة ثم بعد ذلك انتهينا من الأدلة أدلته الإجمالية والإفادة منها والاستدلال، بها بقي حال المستدل الذي هو المستفيد من هذه الأدلة وهو المجتهد، قال: "المستدل المجتهد" طيب لا يستدل غير مجتهد؟ غير مجتهد طالب علم عندهم مسألة وعنده دليلها من الكتاب والسنة قال المستدل هو المجتهد يعني المستدل الوارد في الحد في التعريف هو المجتهد "وشرطه" يعني الشرط الذي يجب أن يتوافر فيه ليكون مجتهدا لتحقق مرتبة الاجتهاد "العلم" يعني ما يمكن أن يكون مجتهدا وجاهلا "والعلم بالفقه" يعني بمسائله سواء كانت بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل، يعني علم بدليل أو بدون دليل؟ يعين يحفظ مسائل من غير أدلة هذا يسمى مجتهدا؟ لا يمكن أن يسمى مجتهدا يحفظ المسائل من كلام أهل العلم هذا مقلد، لكن الذي ليس عنده دليل يبني عليه علمه وفقهه هذا لا يسمى مجتهدا مهما حفظ، لو يحفظ متون الدنيا كلها لأنه لا يجوز له أن يقلد غيره على ما سيأتي، "وعلمه بالمسائل" مسائل الفقه "بالفعل" يعني تكون محفوظة في قلبه بأدلتها أو بالقوة القريبة من الفعل، قد لا تكون المسائل حاضرة لذهنه لكن عنده قدرة على الوصول إلى القول الراجح بدليله متى ما شاء في أقرب وقت بالفقه أصلا وفرعا يعني بالأصول والفروع لأن الأصول مع الفروع لا بد من تكاملهما إذ لا فروع بدون أصول ولا أصول بدون فروع يعني احفظ متن في أصول الفقه مجرد من غير فروع يطبق عليها هذا يعتبر أصولي؟ لا، وقل مثل هذا فيمن يحفظ الفقه ولا يعرف كيف يبني هذا الفقه أو كيف استخرج؟ كيف استُنبط هذا الفقه من أصوله أصلا وفرعا خلافا غالبا يعني مطلع على أقوال العلماء ومذاهب الفقهاء، لديه اطلاع واسع في هذا الباب لماذا؟ سواء كان الخلاف في بين الأئمة أو في المذهب نفسه، يعني يعرف الأقوال في داخل المذاهب بين المذاهب في أصولها وبين المذاهب في خلافاتها وأوجهها وروايتها لئلا يفتي بما لم يُسبَق إليه فيخرق الإجماع وهو لا يشعر "شرطه العلم بالفقه أصلا وفرعا خلافا ومذهبا" غالبا والمهم من تفسير آيات الأحكام وأخبار والمراد بذلك آيات الأحكام هذه هي التي يشترطونها أو يشترطون العلم بها للمجتهد، يعني لا يلزم أن يحفظ قصص القرآن، أو يكون على معرفة واسعة بقصص القرآن أو ما أشبه ذلك، إنما يهمهم المجتهد المقصود به المجتهد في الفقه وليس المجتهد في الدين في جميع أبوابه المجتهد في الفقه؛ لأن الأصول أصول الفقه والمراد بالفقه الأحكام العملية، فإذًا من القرآن يحفظ آيات الأحكام ويتعامل معها ويطلع على ما قيل فيها وكذلك أحاديث الأحكام، ما يلزم أن يحفظ أحاديث الترغيب والترهيب والآداب وأحاديث التفسير وأحاديث المغازي ما يلزم إنما يلزمه أحاديث الأحكام "والمهم من تفسير آيات وأخبار" يعني مما يحتاج إليه في فقهه "ولغة ونحو" ليتعامل مع نصوص الكتاب والسنة؛ لأنها بلسان العرب والذي لا يعرف العربية لا يستطيع أن يتعامل مع النصوص "وحال رواة الأحاديث" لا بد منها ليبني عليها الأحكام، والأحكام المبنية على غير نصوص ليست بفقه إنما هي تقليد، الآن انتهينا من قضية النصوص لكن أيضا لا بد أن يعرف من أحوال الرواة تجريحًا وتعديلا ما يستطيع بواسطته أن يحكم على هذه الأحاديث التي اعتمد عليها بالثبوت وعدمه، يعني هل يستطيع أن يستدل بحديث وهو ما يدري هو ثابت أو ليس ثابت؟ يعني من الطرائف شخص انتهى من رسالته ورجح المسائل قبل أن يخرج الأحاديث يعني ترجيحه مبني على أساس وهو ما خرج الأحاديث؟! لا، لا قيمة له ترجيح بالهواء، قال "وحال الرواة" يعني ما قيل فيهم من قبل أهل العلم من تعديل وتجريح، طيب هذا حال المجتهد وشرطه فما الاجتهاد؟ قال: "الاجتهاد بذل الوسع في الغرض" الذي هو بصدده بذل الوسع، ما يقال اجتهد حتى يتعب على ما يريد، لا أحد يقول: فلان اجتهد في حمل نواة يمكن؟ لكن لو كان عنده قوة وحمل رحى مثلا يقال اجتهد في حمل الرحى؛ لأنها ثقيلة جدا، لكن ما يقال اجتهد في حمل النواة، ما يقال والله اجتهد في مسألة ظاهرة اجتهد في حِلِّ أكل السمك الميِّت هذا اجتهاد؟ هذا واضح من النص لا يحتاج إلى اجتهاد، يسمعه العامي ويقول لكن المسائل الدقيقة العويصة تحتاج إلى اجتهاد وتحتاج إلى تعب من العالم، ولا يسمى عالما إلا إذا تعامل مع هذه المسائل الدقيقة، "والاجتهاد بذل الوسع في الغرض" من أجل أن يحصل له على طريقة أهل العلم، وليس كل مجتهد مصيبًا لماذا؟ لأن الحق واحد، اجتهد عالمان فقال هذا حلال وقال الثاني حرام هل كلهم مصيبون؟ لا، الحق واحد مع أحدهما قطعا، الحق لا يتعدد، ولا يمكن أن يوجَد الحق في الشيء ونقيضه وهذا بخلاف الأجر كلاهما مأجور، المصيب منهما له أجران والمخطئ منهما له أجر، الاجتهاد إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد، طيب مجتهد وعنده أهلية للاجتهاد فعرف المسألة وما اجتهد فيه قصَّر احتاج الناس إليه وما بذل شيئا لا شك أنه آثم لأنه تعيَّن عليه، وما الذي يقابل الاجتهاد التقليد، "التقليد قَبُوْل قول الغير بلا حجة" هذا تقليد، وكثير من الناس فرضهم التقليد لأن الصفوة والقلة الذين هم أهل الاجتهاد ليسوا أكثر الناس، لكن أهل التقليد من عامة الناس ومن مبتدئي الطلبة وممن يتبع الأئمة كلهم مقلدون ليسوا بمجتهدين فالذي يقبل قول الغير يحفظ متنا مجردا ليس فيه أدلة ويعمل به ويفتي الناس على ضوئه هذا مقلد لكن من اعتمد متنًا إذا اقتصر عليه هذا مقلِّد، وإن بحث عن أدلته وبحث المسائل على ضوء ما تقدم واستدل لهذه المسائل وعرف الموافِق والمخالِف وأدلة الموافق والمخالف ورجح بين أدلتهم ومرة وافق صاحب الكتاب ومرة خالفه تبعًا للدليل هذا مقلِّد أو غير مقلِّد؟ هذا مجتهد وبإمكان طالب العلم أن يسلك طريقًا في التفقه يوصله إلى الاجتهاد بإذن الله، يعني يمسك متنا يعتمد متنا، إما الزاد أو الدليل أو غيره، فالدليل مجرد من الأدلة والزاد مجرد من الأدلة يأتي إلى مسائل الكتاب ويستدل لها، يبحث لها عن أدلة هذه نظرة أولى في الكتاب، أولا: يتصور هذه المسائل تصورا صحيحا ثم يستدل لهذه المسائل، ثم ينظر من قال بهذا القول من أهل العلم والأدلة موجودة، ثم ينظر من خالف ويبحث عن دليل المخالف ويوازن بين هذه الأدلة على الطرق المتبعة لأهل العلم، وسبق الإشارة إلى شيء منها ويرجِّح بينها فلا ينتهي من الكتاب إلا وهو مجتهد، "والتقليد قبول القول بلا حجة ولا يجوز التقليد لمن قدر على الاجتهاد وتحققت فيه أهليته" إذا تمكن من الاجتهاد فإنه حينئذ لا يجوز له أن يقلِّد في دينه الرجال لأنهم مظنة أن يصيبوا ويخطئوا وهو بإمكانه أن يصل إلى الحق ويؤجر أجر المجتهدين فلا يجوز له حينئذ أن يقلد في دينه الرجال.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: .............

القريبة من الفعل الإمام مالك- رحمه الله- سئل عن أربعين مسألة قال عن ست وثلاثين مسألة منها لا أدري ماذا تقول لمالك؟ فقيه أو ليس فقيها؟ تستطيع أن تقول ليس فقيها؟! لكن هل مالك يعجز عن بحث هذه المسائل والوصول إلى الحق فيها؟ نعم إذا كانت لديه أهلية، طالب علم أو متعلم أو بيده كتاب تسأله عن مسألة في الطهارة ويفتح لك آخر الكتاب هذا مجتهد؟ فقيه بالفعل أو بالقوة؟ تسأله عن مسألة في الطهارة..

طالب: .............

ما تدري؟!

طالب: .............

فقيه بالقوة القريبة من الفعل؟

طالب: .............

لا، أنت سألتك معك كتاب؟ أين هو؟

طالب: .............

معنا كتاب مثل هذا، سألتك عن مسألة أو أنت سألتني عن مسألة في الطهارة صح؟ وأفتح ما شاء الله تركت عشر ورقات من الكتاب وأبحث عن الطهارة هذا فقيه بالقوة أو بالفعل؟

طالب: .............

والله لا قوة ولا فعل يا أخي! وين الطهارة في آخر الكتاب؟!

طالب: .............

ما صار فقيها أصلا، لكن لما يأتيك تقول له مسألة في الحج ثم يأخذ لك مائة صفحة من الكتاب ويقول هكذا ويفتح  لك من الحج هذا عنده دربة على الكتب وسهل يخرج المسائل، هذا فقيه بالقوة القريبة من الفعل، يعني دقيقتين ويخرج لك المسألة أما الذي يفتش الكتاب كله يبحث هذا فقيه ؟! هذه قوة قريبة من الفعل، تقول مسألة في الإقرار أو في الجنايات يفتح لك أول صفحة؟! هذا ليس عنده شيء! بالفعل المسألة محفوظة عنده براسه بأدلتها هذا فقيه بالفعل لكن فقيه بالقوة القريبة من الفعل باحث يستطيع أن يصل إلى المسائل في أقرب وقت.

اللهم صل وسلم...