شرح مقدمة صحيح مسلم (01)

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أما بعد:

 

فإنك -يرحمك الله- بتوفيق خالقك ذكرتَ أنك هممت بالفحص عن تعرف على جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنن الدين وأحكامه، وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردتَ -أرشدك الله- أن توقَّفَ على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر، فإن ذلك -زعمت- مما يشغلُك عما له قصدت من التفهم فيها، والاستنباط منها، وللذي سألتَ -أكرمك الله- حين رجعتُ إلى تدبره، وما تؤول به الحال -إن شاء الله- عاقبةٌ محمودةٌ، ومنفعةٌ موجودةٌ، وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه، وقضي لي تمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس؛ لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف، إلا أن جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام إلا بأن يوقِّفَه على التمييز غيره، فإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا، فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم، وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن، وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله، فذلك -إن شاء الله- يهجم بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه، فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاصة من أهل التيقظ والمعرفة، فلا معنى لهم في طلب الكثير، وقد عَجزوا عن معرفة القليل.

ثم إنا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عنه وسلم- فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار إلا أن يأتيَ موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يُفَصَّل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم.

فأما ما وجدنا بُداً من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله -إن شاء الله تعالى-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في مقدمة الصحيح، ثاني الكتب -كتب السنة-  ثاني الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله -جل وعلا- في قول الجمهور، وقدمه من قدمه من المغاربة.            

أول من صنف في الصحيحِ
ومسلم بعد وبعض الغرب معْ

 

محمدٌ وخُصَّ بالترجيحِ
أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ

ومسلم بعد -يعني بعد البخاري- يعني فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري وسبق الكلام في المفاضلة بين الصحيحين في شرح الألفية في الدورة السابقة.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"بسم الله الرحمن الرحيم"

ابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بالبسملة؛ إقتداءً بالقرآن، وأيضاً رسائل النبي -عليه الصلاة والسلام- ابتُدِأت بالبسملة، وأما الحديث: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)) فهو حديث ضعيف، وقد حكم جمع من الحفاظ على الحديث بجميع طرقه وألفاظه بالضعف، وحكم ابن الصلاح والنووي وبعض العلماء على رواية: الحمد فقط بالحسن، وعامة أهل العلم على تضعيف الحديث بجميع طرقه وألفاظه.

فالعبرة الاقتداء بالكتاب  -القرآن- حيث افتتح بالبسمة، والعبرة أيضاً بكبته ومخاطباته -عليه الصلاة والسلام- حيث افتتحت بالبسملة، ثم ثنّى -رحمه الله- بالحمد، فقال -رحمه الله-:

"الحمد لله رب العالمين"

ثنى بالحمد؛ إقتداءً بالقرآن، لأنه افتتح بالحمد لله رب العالمين بعد البسملة، قد يقول قائل: كيف بدأ الإمام مسلم كتابه بالحمدلة مع أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يبتدئ كتابه إلى هرقل ولا إلى غيره بالحمدلة، بل اكتفى بالبسملة؟ وكذلك سليمان في كتابه إلى بلقيس كما نُصَّ على ذلك بالقرآن؟ وكذلك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- اكتفى بالبسملة؟

مسلم -رحمة الله عليه- ذكر البسملة وذكر الحمدلة والبداءة بهما إقتداءً بالقرآن، وأما الاعتماد على ما جاء في البسملة والحمدلة والصلاة والشهادة، وغيرها من الألفاظ فكل هذا لا يثبت، وليس معنى كونه لا يثبت أنه لا يذكر؛ لأن بعض الناس إذا بحث عن شيء على أمرٍ اعتاد الناس عليه وجد النَّص الذي يدل عليه صراحةً فيه ضعف نسفه نسفاً، من غير نظرٍ إلى أدلةٍ أخرى، فيقول: ما دام ((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم)) ضعيف، و((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله رب العالمين)) فهو ضعيف، لماذا نبدأ؟ حديث ضعيف، الأحاديث الضعيفة لا يعمل بها، فلماذا نبدأ؟ ولذا قال بعضهم: مع الأسف أنه يؤلف في العقيدة يقول: كانت الكتب التقليدية تُبدأ بالبسملة والحمدلة، لماذا؟ لأن الحديث ضعيف، في البسملة وفي الحمدلة، والضعيف لا يجوز العمل به، فكيف نعمل بحديث ضعيف؟ يعني ونظير هذا من لم يثبت عنده البقاء بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ما دام ما ثبت عنده الخبر فإنه لا يجلس، مع أنه ثبت من فعله -عليه الصلاة والسلام- في مسلم وغيره، وإذا جلس لا يصلي؛ لأن الحديث ضعيف، فكيف يصلي ويعمل بحديث ضعيف؟ يا أخي: إن لم تعمل بهذا الحديث اعمل بحديث: صلاة الضحى، ويقول بعضهم: أتصلي صلاة العجائز؟ صلاة الإشراق؟ يعني إذا انتبه بعض الناس لشيء نسف الباقي ولو ثبت من وجهٍ آخر.

فالذي يبدأ بالبسملة والحمدلة لا عملاً بالأحاديث الضعيفة، وإنما عملاً بما ثبت في كتاب الله -جل وعلا- وفي سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فالكتاب واضح فيه البداءة بالبسملة والحمدلة، فالجمع بينهما إقتداءً بالقرآن الكريم.

أما ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- ففي رسائله يبدأ بالبسملة وفي خُطبه يبدأ بالحمدلة، ولم يجمع بينهما، فكيف يجمع مسلم بينهما؟ البخاري -رحمه الله تعالى- بدأ بالبسملة، ما جمع بينهما، مسلم جمع بينهما، هل يعاب على مسلم أن جمع بين البسملة والحمدلة؟ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما جمع بينهما؟ وهل الكتب في حكم الخطب أو في حكم الرسائل؟ البخاري جعل كتابه في حكم الرسالة لطلاب العلم، فافتتحه بالبسملة فقط ليس فيه حمدلة، فهل كتاب مسلم في حكم الرسائل أو في حكم الخطب؟ هو رسالة من المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى طلاب العلم، فابتدأه بالبسملة، وافتتح هذه الرسالة بخطبة، بمقدمة، يعني ما بدأ بالمقصود مباشرة ليقول: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثنا فلان، افتتح الكتاب بخطبة، والخطبة تُفتتح بالحمدلة، إذاً افتتحه بالبسملة لأنه رسالة منه إلى طلاب العلم كما فعل البخاري، وافتتحه بالحمدلة لأنه افتتحه بخطبة، فجمع بين الأمرين -رحمه الله- ولا يعاب على ذلك، ولو لم يكن في ذلك إلا الاقتداء بالقرآن الكريم.

"الحمد لله رب العالمين"

الحمد: عرفه الأكثر بأنه الثناء على المحمود بأفعاله الجميلة وصفاته الحسنة الجليلة، لكن هذا التعريف فيه نظر، لما عرف من الفرق بين الحمد والثناء، والتفريق يؤخذ من حديث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي)) فجعل الثناء غير الحمد، أولى ما يقال في تعريف الحمد ما ذكره العلامة ابن القيم في الوابل الصيب، قال: "هو الإخبار عن الله تعالى بصفات كماله مع محبته والرضا به، والثناء: هو تكرير المحامد".

"الحمد لله" وأل في الحمد للجنس، يعني جميع المحامد لله -جل وعلا-، والله علَم على المعبود بحق، وهو أعرف المعارف على الإطلاق، ويُذكر أن سيبويه -النحاة يقولون: أن أعرف المعارف الضمير- لكن سيبويه قال: أعرف المعارف: الله، ورُؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: بم؟ قال: لقولي الله أعرف المعارف، فعلى كل حال هذا قول لا يتردد فيه من يتعبد لله -جل وعلا-، فهو أعرف المعارف.

"الحمد لله رب" الرب: هو الذي ربّى جميع المخلوقات بنعمه، يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام، ولا يقال مطلقاً إلا لله تعالى، ويقال مضافاً إلى غيره، فيقال: رب الدابة، ورب الدار، {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ}[(50) سورة يوسف]، فإذا أضيف جاز.

"رب العالمين" العالمون: ما سوى الله -جل وعلا-.

"والعاقبة للمتقين" العاقبة والعقبة والعُقبى آخر كل شيء، "للمتقين" جمع متقي، وهو من اتصف بالتقوى بفعل الواجبات وترك المحظورات.

"وصلى الله على محمدٍ خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين"

صلى الله على محمد، روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه تعليقاً مجزوماً به: عن أبي العالية أنه قال: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، وقال ابن عباس: يصلون في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[(56) سورة الأحزاب] يبركون، يصلون يبركون، وفي جامع الترمذي عن سفيان وغير واحدٍ من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.

"وصلى الله على محمد خاتم النبيين"

(خاتم) بفتح التاء وكسرها أي هو آخرهم -عليه الصلاة والسلام-، فلا نبي بعده وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- ذكر الصلاة، صلى الله على محمد، ولم يذكر السلام، والامتثال -امتثال الأمر- إنما يتم بالجمع بينهما، في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] لا يتم امتثال الأمر إلا بالجمع بينهما؛ ولذا صرح النووي بكراهة إفراد الصلاة دون السلام والعكس، النووي صرح بكراهة إفراد الصلاة دون السلام والعكس، لكن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- خص الكراهة بمن جعل ذلك ديدناً له، يعني استمر يصلي فقط ولا يسلم أو يسلم فقط ولا يصلي، فمن كان ديدنه ذلك يتجه القول بالكراهة، ومن كان يصلي تارةً ويسلم تارةً ويجمع بينهما تارة فهذا لا تتجه إليه الكراهة.

علماً بأن إفراد الصلاة دون السلام وقع في كلام كثير من أهل العلم كالشافعي في الرسالة، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي في التبصرة واللمع والتنبيه، والنووي نفسه الذي انتقد مسلما وقع في ذلك في خطبة التقريب وبعض كتبه، فالأولى الجمع بين الصلاة والسلام.

الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- صلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلى جميع الأنبياء والمرسلين لكنه لم يذكر الآل والأصحاب، وهو بهذا برئ من عهدة الأمر في الآية؛ لأنه في الآية إنما أمر بالصلاة والسلام على النبي -عليه الصلاة والسلام-، برئ من هذه الحيثية وإن كان تركه للسلام لا يتم امتثال الآية إلا بالصلاة والسلام معاً، وأما الصلاة على الآل والأصحاب فَلِما لهم من حقٍ على الأمة، وأنتم تجدون في مصنفات الأئمة الاقتصار على (صلى الله عليه وسلم) وبهذا يتم الامتثال، لكن لما للآل وللصحب من حقٍ على الأمة، فالآل وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، والصحب لما لهم من حمل الدين إلى من بعدهم فبواسطتهم وصل إلينا الدين، لهم علينا من الحق أن نعطفهم على النبي -عليه الصلاة والسلام- فنقول: صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إفراد الآل دون الصحب، الآية ليس فيها لا آل ولا صحب، فيتم الامتثال بدونهم، ولا ضير على شخصٍ يقول: - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أو مرّ على ذكره -عليه الصلاة والسلام-، وعلى هذا صنيع الأئمة، وإن اتهمهم من اتهمهم، وأنهم تركوا الصلاة على الآل، ممالأة للحكام، ويرمى جميع الأئمة بهذا ممالأة للحكام، حاشى لأئمة الإسلام أن يتركوا شيئاً من شرع الله مداراة أو مداهنة لأحد، يعني كونهم يتفقون على قوله -صلى الله عليه وسلم- حاشاهم أن يتركوا ذلك ممالأةً لأحد، والجمع بين الآل والصحب لما للجميع من حقٍ علينا.

أما إفراد الصحب دون الآل فشعار للنواصب، وإفراد الآل دون الصحب فشعار للروافض، وأهل السنة يوالون الصحب كما يوالون الآل، فلذا الأولى الجمع بينهما، وأما استدلال الصنعاني والشوكاني وصديق حسن خان بالصلاة الإبراهيمية في التشهد بأنه ذكر الآل دون الصحب، وأنه يجب أن يصلى عليهم كما يصلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- فنقول: أن الصلاة الإبراهيمية فرد من أفراد المأمور به، فتتعين في موضعها، لأنها متعبد بلفظها، أما في غير موضعها فالمتجه الأمر في آية الأحزاب، فإذا زدنا على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلتكن الزيادة لجميع من له حق علينا، وهم الآل والأصحاب ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك:

"أما بعد".

أما بعد بهذه الصيغة جاءت في أكثر من ثلاثين حديثاً، يقول فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- أما بعد، بهذا اللفظ، فلا نحتاج إلى (ثم) ثم أما بعد، لا نحتاج إليها إلا لو أردنا تكرارها مرة ثانية، فالإقتداء يتم بهذا اللفظ: (أما بعد) ولا نكتفي بقولنا: وبعد، كما شاع على ألسنة المتأخرين، وهذا من القرن العاشر، (وبعد) يقولون إلى الآن يكتبون (وبعد) ويريدون أن الواو تقوم مقام (أما) لكن الإقتداء بأفعاله -عليه الصلاة والسلام- لا يتم إلا بقولنا: (أما بعد) وأما: حرف شرط، وبعد: قائم مقام الشرط مبني على الضم، مثل ما تقدم في فوق؛ لأن المضاف محذوف مع نيته، فيبنى على الضم، وجواب (أما) الفاء وما دخلت عليه، يعني ما بعد الفاء هو جواب (أما).

"أما بعد: فإنك -يرحمك الله- بتوفيق خالقك"

يجوز أن يتعلق بتوفيق بيرحمك، أو بذكرتَ بعده، ذكرت بتوفيق خالقك، أو يرحمك الله بتوفيق خالقك.

"ذكرت أنك هممت" الهمّ: مرتبة من مراتب القصد، والمراتب خمس يجمعها قول الناظم:

مراتب القصد خمس هاجسٌ ذكرو
يليه همٌ فـعزمٌ كلها رفـعت  

 

فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا
إلا الأخير ففيه الإثم قـد وقـعا

"أنك هممت بالفحص" يعني والتنقيب "بالفحص عن تعرف جملة الأخبار" جملة الأخبار جمع خبر وهو مرادف للحديث، وقد يفرق بين الخبر والحديث بقصر الحديث على ما أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- والخبر أعم.

"بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة -المروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنن الدين وأحكامه" في سنن الدين وأحكامه التي هي أعم من المندوبات، بل جميع الأحكام، فالسنن هي الأحكام، وكتب السنن هي كتب أحاديث الأحكام، في سنن أبي داود؛ لأن فيها أحاديث الأحكام، سنن الدين وأحكامه، فيكون العطف لمجرد التوضيح، أو نقول: أن السنن هي المندوبات، والأحكام أعم مما يشمل الواجبات والمندوبات والمباحات والمكروهات والمحرمات.

"في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب" فالترغيب الثواب لمن أحسن، والعقاب لمن أساء، لمن أحسن بفعل الواجبات وترك المحظورات، والعقاب لمن انتهك المحرمات أو ترك الواجبات، والترغيب: هو الحظ على الشيء بذكر ما يوجب الرغبة فيه، والميل إليه من ثواب، والترهيب: هو التخويف من فعل الشيء بذكر عقوبته أو ما فيه من مفسدة.

"وغير ذلك" مما يتعلق بالدين، يعني الكتاب المؤلف الذي بين أيدينا ليس خاصا بسنن الدين وأحكامه أو الثواب والعقاب و الترغيب والترهيب؛ لكن فيه غير ذلك من صنوف الأشياء يعني مما يتعلق بالدين، والمراد بالدين: جميع مراتبه، الإسلام والإيمان والإحسان، مما يتعلق بالدين من الإيمان والعقائد، وأيضاً الأحكام والسير والآداب والتفسير والفتن والملاحم والأشراط والمناقب وغيرها، فالكتاب جامع.

"وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد" هي جمع إسناد، والإسناد عرفه ابن حجر بأنه: الطريق الموصل إلى المتن، ويُعرّف بتعريفٍ أوضح فيقال: هو الرجال الذين يذكرهم المحدث مبتدئاً بشيخه منتهياً بالرسول -عليه الصلاة والسلام-.

بالأسانيد التي بها نقلت، والإسناد منزلته من الدين معروفة، كما يقول ابن المبارك وغيره من الأئمة، الإسناد من الدين: "ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" "وبيننا وبين القوم القوائم" يعني الإسناد التي يقف فيها الخبر على سوقه.

"بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم فأردتَ أرشدك الله" والخطاب هنا كأنه موجه إلى راوي الصحيح عن الإمام مسلم، أو الذي سأله تأليف الكتاب، هو الذي سأله تأليف الكتاب سواء كان هو الذي رواه عنه وتلقاه عنه أو غيره، والراوي عن الإمام مسلم هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان.

"فأردتَ -أرشدك الله- أن توقَّف على جملتها مؤلفةً محصاةً" يعني غير مخلوطة بما ليس بحديث كاستنباطٍ فقهي أو رأي لعالم.

"محصاة" يعني خاص بالأحاديث المرفوعة، وليس مثل صحيح البخاري الذي خلط فيه الاستنباط، وظهر فيه وبان فقه الإمام -رحمه الله تعالى-، وفيه أيضاً آثار الصحابة والتابعين، أما صحيح مسلم فهو خاص في الأحاديث المسندة المرفوعة، فليس فيه معلقات إلا النادر، اثنا عشر حديث، وأما الآثار فهي نادرة أيضاً، وليس فيه مما في صحيح البخاري من استنباط؛ لأن الكتاب مجرد حتى من التراجم، ورجحه من رجحه من المغاربة لهذا، كما قال ابن حزمٍ وغيره أنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد، وهذا سبب ترجحيه عند من رجحه.

"وسألتني أن ألخصها لك" والتلخيص هو الاختصار يعني قلة الألفاظ مع كثرة المعاني. "أن ألخصها لك في التأليف -يعني في هذا الجمع والتصنيف- بلا تكرارٍ يكثر" الوصف مقصود بيكثر؛ لأن فيه تكرار، لكنه تكرار ليس بكثير، يعني كون الحديث يؤتى به من طريقين من ثلاثة من خمسة من عشر طرق لا يسمى تكرارا كثيرا، نعم هو تكرار لكن القيد الذي ذكره بقوله: يكثر منتفي؛ لأنه يروي الأحاديث من مئات الطرق، ولو أراد الإكثار من التكرار لذكر هذه الطرق كلها، فبعض الأحاديث له مائة طريق، وبعض الأحاديث له أكثر، إلى أن يصل بعضها إلى سبعمائة طريق، فماذا عن الصحيحين لو رويت عن جميع الطرق التي تروى بها من قبل هذين الإمامين، يعني إذا كان حديث: (الأعمال بالنيات) أبو إسماعيل الهروي يقول: أنه يرويه عن يحيى بن سعيد سبعمائة شخص، وإن كان الحافظ بن حجر يشكك في هذا العدد، ويقول: إنه منذ بداية الطلب لم يقدر على تكميل المائة، على كل حال في أحاديث صرح ابن حجر وغيره أنها تروى من مئات الطرق، وقوله: "يكثر" لكن طلاب العلم حينما يقرؤون في الصحيح، في صحيح مسلم ويجدون في بعض الأحاديث مكررة من عشر طرق، يقولون: أين هذا القيد الذي يقول: "يكثر"؟ العشر كثيرة؟ نعم كثيرة بالنسبة لهممنا، أما بالنسبة لهم هذه لا شيء، يعني هذا صنفه الإمام مسلم مثل المتن، مثل الأربعين عندنا، ليس فيه تكرار وليس فيه  طول أسانيد، شيء يسير بالنسبة لنا مثل الأربعين، يقول: ليس فيه تكرار يكثر في بعض الأحاديث من عشرة طرق، نعم ليس فيه تكرار يكثر بالنسبة لهم -رحمة الله عليهم-.

"فإن ذلك زعمت" يعني حسبما قلت، والزعم يطلق ويراد به القول، ولا يلزم منه أن يكون القول مشكوكاً فيه، نعم قد يطلق ويراد به التشكيك في القول، ((بئس مطيّة القوم زعموا)) لكنه في الأصل يطلق ويراد به ما يوازي القول، وكثيراً من يقول سيبويه: زعم الكسائي ثم يوافقه، فهل يشكك في قوله ثم يوافقه؟ لا.

"فإن ذلك -زعمت- مما يشغلك" كأنه قال له: أريد أن تجمع لي أحاديث أحفظها وأعمل بها ولا تكثر عليّ لأن هذا يشغلني؛ لأنه كأنه عنده أعمال أخرى، مشتغل بأمور دنياه أيضاً، فألف له هذا الكتاب المناسب للمشغولين، ليس للمتفرغين.

"فإنك -زعمت- أن ذلك يشغلك عما له قصدت" وقد يكون بل التصريح والتنصيص بقوله: عما له قصدت من التفهم والاستنباط أنك لا تريد الإكثار من الرواية أكثر من الحجم الذي ذكرته لتتفرغ للدراية، وهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم عنده شيءٌ من التوازن، لا يوغل في الرواية فيعنى بها ويغفل عن الاستنباط والاستدلال للمسائل العلمية الذي هو الثمرة العظمى من الرواية، لا يغفل عن هذا فينشغل بالرواية، ولا يعكس، لا يشتغل بالدراية ثم في النهاية يجد نفسه لم يحفظ شيئا، كما هو صنيع بعض من يعاني الحديث على طريقة الفقهاء، فعليه أن يوازن، يحفظ ما يحتاج إليه، الأحاديث من أصولها بأسانيدها بألفاظها، ويستنبط منها، ويعاني شروحها، ويراجع الشروح؛ لأن بعض الناس ليست له عناية الحفظ، ويعنى بالاستنباط ومراجعة الشروح ويهتم بذلك، ثم إذا انتبه بعد سنين إذا ليس في ذهنه شيء، إلا رواية مائة حديث بالمعنى، كما هو واقعنا وواقع كثير من طلاب العلم؛ لأن العناية اتجهت إلى الاستنباط والدراية، وغفلنا عن الرواية، وبعضهم بالعكس تجده يحفظ مئات بل آلاف الأحاديث يُعنى بحفظ زوائد البيهقي والمستدرك على الكتب، ومع ذلك لو تسأله ما الذي يفيده هذا الخبر؟ ما له عناية؛ لأنه لا يراجع الكتب، لا يراجع الشروح، مراجعة الشروح والإكثار من مراجعة الشروح تولد لدى طالب العلم ملكة يستطيع أن يفهم بها ويشرح أحاديث لم يسبق شرحها، تكون لديه ملكة خلاص أخذ، صار لديه أهلية للشرح، لكثرة معاناته للشروح، فينبغي لطالب العلم أن يوازن بين هذا وهذا.

"عما له قصدت من التفهم فيها والاستنباط منها، وللذي سألت -أكرمك الله- حين رجعتُ إلى تدبره"

يقول: لما تأملت هذا الطلب، وأني لا أكثر عليك ولا أكرر لتفهم وتستنبط، "وللذي سألت -أكرمك الله- حين رجعت إلى تدبره -يعني تأملت ورددت في نفسي- وما تؤول به الحال -إن شاء الله تعالى- عاقبة محمودة، ومنفعة موجودة -يعني طلبك هذا لتوازن بين هذا الكم الذي سألتنيه مع العناية به وفهمه والاستنباط منه- له عاقبة محمودة ومنفعة موجودة- وظننت حين سألتني تجشم ذلك -يعني غلب على ظني أنك حينما سألتني عن ذلك، أنه لست أنت المستفيد فقط، وإنما أول من يستفيد أنا، يعني المؤلف نفسه ، أول من يستفيد من التأليف المؤلف، أول من يستفيد من التعليم المعلم، ولذا من أنفع وسائل التحصيل التأليف والتعليم، فإذا تعلم الإنسان -طالب العلم إذا تعلم- وأخذ من مبادئ العلوم ما يؤهله للتعليم، ولو لم يكن أعلم الناس يجلس للتعليم وفي أثناء التعليم يتعلم، ويعاني التأليف، ولا يلزم أن يكون تأليفه في أول الأمر للناس لينشره للناس لا، ليتعلم، والله كتاب أشكل عليك فهمه، وله شروح، اقرأ في هذه الشروح، ولخص عليه شرح بأسلوبك، حينئذٍ يستقر المتن في ذهنك، والشروح أيضاً تكتمل صورتها في ذهنك.

من صنوف التأليف الجمع، اجمع في هذه المسألة، أو اجمع شرحاً لهذا الكتاب من الكتب، مفردة لغوية راجع عليها كتب اللغة، علم تراجع له كتب التراجم، جملة من الجملة راجع لها، مشكل إعراب راجع له كتب النحو، وهكذا تتعلم وتتأهل، فأول من يستفيد من تصنيف المصنف، ولا يلزم أنك إذا أكملته تنشره للناس، لا، لأن بعض طلاب العلم بادر في هذا وندم ندامة الكسعي، فصار عرضةً للنقد، وصار عرضةً للسخرية والاستهزاء، ومهما ألف ما قبل منه، خلاص انطبع في ذهن الناس أن هذا لا يجيد التأليف، لكن لو صبر على تأليفه هذا وراجعه وكل ما تجدد له علم في مسألة حررها في هذا الكتاب، يتأهل، يعني من طرق التصنيف الاختصار، عندك –والله- كتاب مطول، عندك فتح الباري تقرؤه لا تحيط به، فلا مانع أن تختصر هذا الكتاب، بدل ما هو بضعة عشر مجلد أنت تختصره في مجلدات يسيرة، أو تعلق على نسختك منه ما تحتاج إليه، كتاب مطول تختصر في الحديث، في التفسير، يعني بعض الإخوان يقول: أنه قرأ تفسير ابن كثير خمس مرات ولو تسأله عن أي آية أو عن أي كلمة ما يدري، ضاع؛ لأنه كلام فيه تكرار، وفيه أسانيد، بعض الناس لا ينحصر ذهنه في هذه الأمور، طيب ما المانع أن تختصر ابن كثير في مجلد واحد، وفي النهاية يستقر في ذهنك هذا المجلد، ويكون علمك بما حذفت كعلمك بما أثبت؟

فالاختصار وسيلة من وسائل التحصيل، والإمام مسلم يقول -رحمه الله تعالى-:

"وظننت حين سألتني ذلك تجشّم ذلك" تجشمّ لا يكون إلا في اقتحام ما هو وعر، يعني لا يمكن أن تتجشم أمتار لتصل إلى المسجد، لكن يمكن أن تتجشم صعود جبل، وهذا لا شك أن فيه صعوبة، وصياغة الكتاب بمثل هذه الطريقة التي ألفه عليها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أمر ليس بالمقدور، يعني لعموم الناس ولا لخواصهم، بل فيه تصرفات من الإمام مسلم تدل على براعةٍ تامة، فمن عانى هذا الكتاب عرف مزاياه، كما أن له عناية بصحيح البخاري عرف أنه كتاب لا يوازيه كتاب، إلا كتاب الله -جل وعلا-، حاشا كتاب الله، هذا لا يدخل في الموازنة مع أي كتابٍ كان.

"وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عُزم لي عليه، وقضي لي تمامه" عُزم وقُضي فعلان مبنيان للمجهول، الفاعل في الفعلين هو الله -جل وعلا-، يعني لو عزم الله لي عليه وقضى -جل وعلا- لي تمامه، العزم إضافته إلى الله -جل وعلا- ما حكمه؟ هل نجد في كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ما يفيد إثبات العزم لله -جل وعلا-؟ إذا نظرنا في العزم بالنسبة للمخلوق هو المرحلة التي قبل التنفيذ، فبالنسبة لمعناه عند المخلوق يمكن أن يوصف بها الله -جل وعلا- دون التنفيذ؟ يعزم على شيء ولا يفعل، يعني يعزم على شيء ولا يفعل، هذا بالنسبة للمخلوق يحصل، لكن إضافته إلى الله -جل وعلا- لا يوجد نص صريح في إضافته إلى الله -جل وعلا- من كتابه ولا من السنة المرفوعة، يوجد هنا: لو عزم لي تمامه، ويوجد أيضاً في حديث أم سلمة في صحيح مسلم من قولها: قالت: ثم عزم الله لي فقلتها، وأيضاً قرئ قول الله -جل وعلا-: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[(159) سورة آل عمران] قرئ: فعزمتُ فتوكل على الله، يعني الباب ليس فيه إلا هذا، فهل يثبت العزم لله -جل وعلا- من خلال هذه القراءة؟ أو من خلال كلام أم سلمة؟ أو لا يثبت؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى في المجلد السادس عشر 303/304 هل يجوز وصفه بالعزم؟ يعني الرب -جل وعلا-؟ " فيه قولان: أحدهما المنع، كقول القاضي أبي بكرٍ والقاضي أبي يعلى، والثاني: الجواز وهو أصح، فقد قرأ جماعة من السلف: فإذا عزمتُ فتوكل على الله، وفي الحديث الصحيح من أم سلمة... فذكره، (ثم عزم الله لي فقلتها) وذكر ما في مقدمة مسلم، المقصود أن القول الصحيح أنه ينسب ويضاف ويوصف الرب -جل وعلا- بالعزم على ما يليق بجلاله وعظمته كسائر ما ثبت له -جل وعلا-.

يقول: "كان أول من يصيب نفع ذلك إياي خاصة" لو قال: أنا، أنا خاصة، يجوز أو ما يجوز؟ إياي هذا خبر كان، واسمها: أول، ولو كانت أنا نفس الشيء؟ أنا: ضمير رفع وإياي ضمير نصب، يجوز وإلا ما يجوز؟ إلا إذا نصبت أول، لو قلنا: كان أول من يصيبه نفع ذلك أنا، جاز، لكن إذا رفعنا أول لا بد أن نقول: إياي.

يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً، ويجوز: غنمٌ وننصب (خير).

"كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس" هذا لا إشكال فيه، يعني من عانى التأليف أول من يستفيد من التأليف المؤلف، وذكرنا أن أول من يستفيد من التعليم المعلم، ولا نحتاج إلى مزيد بسط، لأن هذا شيء لا يحتاج إلى استدلال.

"لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف، إلا أن جملة ذلك يعني حاصله وخلاصة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه" ضبط القليل، إذا كان صحيحا أفضل من الكثير الذي فيه الصحيح والضعيف والغث والسمين، وأيضاً ضبط القليل لمن لا يستطيع ضبط الكثير لا شك أنه أفضل من الكثير الذي لا يُستطاع، وما عاق بعض طلاب العلم عن التحصيل إلا الإكثار، يريد أن يكثر، يريد أن يحفظ القرآن فيقول: في كل يوم ورقة، مدة سنة وأنا منتهي، وحافظته ضعيفة، يحاول في هذه الورقة ثم يعجز، يكرر من الغد كذلك، ثم لا هو الذي قطع فضلاً عن كون بعض الناس يقول: لا أنا أستطيع جزء، ثم يتفلت عليه ولا يحفظ لا اليوم ولا الغد ولا الذي بعده، لكن كل يعرف قدر نفسه، وكل يستطيع أن يزين حافظته، فيحدد القدر الذي يستطيعه بدون إرهاقٍ للحافظة؛ لأن الحافظة تكل، بدون إرهاقٍ لها، فبدلاً من أن يقرر ورقة، يقرر ثلاث آيات، خمس آيات، خمسة أسطر، ستة أسطر، ويجعل الورقة في أسبوع مثلاً، فإذا أتقنها وضبطها، وعرف أنه يستطيع أكثر من ذلك يزيد، لكن إذا عرف أن هذه الورقة في أسبوع شقّت عليه وأتعبته ينقص؛ لأن معالجة القليل الذي يُستطاع أفضل وأثبت من معالجة الكثير الذي لا يُستطاع، فيعذب نفسه وفي النهاية يترك، يعني في النهاية يترك الذي لا يستطيع، إذا لم تستطع شيئاً فدعه، لكن لو بدأ بالقليل لعرف أنه يستطيع أكثر فزاد، أو لا يستطيع يثبت على القليل.

قال: "وذلك لأن جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام" يعني سواء قلنا: أن هذا الشخص الذي يريد أن يعالج كثير الصحيح وغير الصحيح، الذي لا يميز لا يذهب إلى غير الصحيح، والذي يميز ينظر في الصحيح على حده ليعمل به، وينظر في الضعيف وما دونه ليتقيه.

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يحفظ من الصحيح عُشر ألف ألف كما تقدم، ويحفظ من الضعيف: مائتي ألف حديث، يعني الضعف، مائة ألف صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، فالذي يستطيع -وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء- يحفظ من هذا وهذا، والذي لا يستطيع يقتصر على الصحيح ليعمل به.

"ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام" قد يقول قائل: إننا نسمع دورات مكثفة، القرآن يحفظ في شهرين، البخاري يحفظ في شهر، الصحيحان تحفظ في شهران أو ثلاثة، هل هذا من كلام مسلم الذي يحذر منه؟ وينهى عنه طلاب العلم أو لا؟ هل يمكن أن يحذر من هذه الطريقة التي مفادها أنك في شهرين تحفظ ألف حديث أو ألفي حديث، أو تحفظ القرآن ثم لا تلبث أن تنسى ذلك أو ليس منه؟

يعني من أراد أن يحفظ بهذه الطريقة ثم يقول: حفظت ويتكل على هذا الحفظ ولا يراجع، يدخل؛ لأنه لن يتقن ولن يضبط، بل لا بد أن يتفلت عليه، وبعض الناس يلتحق بهذه الدورات لأنه بمفرده لا يستطيع الحزم على نفسه، بمفرده لا يستطيع أن يحزم نفسه، إذا أمسك الكتاب ليريد أن يحفظ بعد صلاة الصبح، قال: لا، الليل قصير، لعل الحفظ يكون بعد صلاة الظهر، فإذا جاء الظهر قال: لا والله الظهر حر، في آخر العصر، بعض الناس لا يمكن أن يحزم نفسه، ولا شك أن الحفظ ثقيل على النفس، فمثل هذا يلتحق بهذه الدورات وعليه أن يراجع، وإذا كان يستطيع أن يحفظ بالتدريج بدلاً من أن يحفظ باليوم خمسين حديثا، يحفظ خمسة ويحفظها حفظاً متقناً، ويراجع عليها الشروح، ويكون حفظه بالتوقيت لا شك أن مثل هذا أثبت وأضمن، لكن بعض الناس يقول مثل هذا الكلام، وهو لا هو حافظ مع الناس ولا هو حافظ بمفرده، فتضيع أيامه هدراً، فمثل هذا يقال له: التحق بهذه الدورات، والنفع محقق والضرر منتفي، اللهم إلا إذا كان شخص سيحصل عنده ردة فعل من الحزم عليه؛ لأن الإخوان عندهم حزم لا يتركونه يتراخى ويتساهل، فإذا ما عنده ردة فعل فيحتاج إلى أن يرتاح مدداً متطاولة، فنقول: لا، كل إنسان يعرف قدر نفسه.

"ولا سيما عند من لا تمييز عنده إلا بأن يوقفه على التمييز غيره -يعني من العلماء المميزين والأئمة النقاد- فإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم -يعني بعض الناس يقتصر فيه على الصحيح؛ لأنه لا يؤهل لأن يكون إماماً للناس يعلمهم الصحيح وغير الصحيح، الصحيح ليعمل به، وغير الصحيح ليجتنب ويحذر منه- وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن وجمع المكررات منه لخاصة من الناس، ممن رزق فيه بعض التيقظ -للتمييز بين الصحيح والضعيف -والمعرفة بأسبابه وعلله -لمعرفة أسباب الضعف، وعلل الأحاديث الضعيفة- فذلك -إن شاء الله- يهجم بما أوتي -يعني يُقدم على الإكثار من الأحاديث والتنويع؛ لأن عنده تيقظ يستطيع أن يميز به، "فذلك إن شاء الله يهجم بما أوتي من ذلك" الباء سببية يعني بسبب ما أوتي من ذلك الحفظ والتيقظ والمعرفة من ذلك كله، هذا يستطيع أن يهجم على الفائدة في الاستكثار من جمعه، يعني يحصل فائدة عظمى من الإكثار، ويستطيع أن يصل إلى الفوائد من هذه المادة الكثيرة التي تناسبه، ولا تناسب غيره.

"على الفائدة في الاستكثار من جمعه، فأما عوام الناس".

يعني عوام الناس بما فيهم بعض طلاب العلم لم يصلوا إلى هذه المرتبة؛ لأنهم في أحكام العوام، ولا نقول: العوام أصحاب التجارات وأصحاب الأسواق، وهيشات الناس، والذين لا يعنون بالعلم، لا، هم ممن يعنى بالعلم، لكنهم الكثرة الكاثرة من طلاب العلم الذين لم يتأهلوا.

"فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص".

الخاص من هو؟ الخاص: الذي رزق بعض التيقظ، الذي لم يرزق بعض التيقظ وإن اعتنى بهذا الشأن فإنه يستمر أنه يصنف من عوام الناس "فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة فلا معنى لهم -يعني لا فائدة لهم- في طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل" يعني ما معنى طالب علم يحاول جاهداً أن يحفظ حديث ويعجز، يريد أن يحفظ آية ويعجز؟ ويقال له: احفظ في اليوم ورقة، احفظ مائة حديث، لا يا أخي. "فلا معنى لهم في طلب الكثير، وقد عجزوا عن معرفة القليل".

"ثم إنا -إن شاء الله- مبتدئون"

نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.