شرح مقدمة صحيح مسلم (02)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-:   

ثم إنا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عنه وسلم- فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد؛ لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المُحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم.

فأما ما وجدنا بداً من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله -إن شاء الله تعالى-.

فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم.

فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار.

فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة والرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سَنِية.

ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثاً بمنصور بن المعتر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث.

وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جَمِيلة وأشعث الحمراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين، كما أن بن عون وأيوب صاحباهما، إلا أن البَون بينهما وبين هاذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعيَن عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم.

وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه، فلا يُقَصَّر بالرجل العالي القدر عن درجته ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته.

وقد ذكر عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-أنها قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله علية وسلم-أن نُنَزِّل الناس منازلهم، مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[(76) سورة يوسف]. فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم، كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار.

وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضاً عن حديثهم، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله.

فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث فلسنا نعرج على حديثهم، ولا نتشاغل به؛ لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته.

فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الإتقان منهم في أكثره، فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم.

قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها، وسنزيد -إن شاء الله تعالى- شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح -إن شاء الله تعالى-.

وبعد -يرحمك الله- فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثاً فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعرفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيراً مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث، مثل: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة لَمَا سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل، ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- الإمام مسلم الحجاج في مقدمة صحيحه:

"ثم إنا -إن شاء الله-مبتدئون في تخريج ما سألت -يعني إجابة لطلبك- وتأليفه وجمعه على شريطة" (وتأليفه على شريطة) التأليف والجمع وضم الشيء إلى غيره، بحيث تكون الأشياء متآلفة، فالتأليف الأصل فيه جمع الشيء إلى نظيره من الأشياء المتآلفة.

"ثم إنا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطةٍ سوف أذكرها لك".

الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بيَّن شرطه في كتابه، في هذه المقدمة بيَّن وأشار إلى شيء من شرطه، ولا يعني أن كل ما احتواه الكتاب مما يحتاج إلى بيان في الشرطية والطريقة والمنهج بينه الإمام مسلم إنما بيَّن ما يحتاج إليه السائل، وغيره يقاس عليه، والباقي يُستنبط من واقع الكتاب.

"على شريطة سوف أذكرها لك، وهو إنا نعمَد أو نعمِد -أي نقصد-إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات" ثم بيَّن الأقسام الثلاثة، الأقسام الثلاثة في بيانه ما خلاصته، القسم الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.

والقسم الثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان.

والقسم الثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون.

ما رواه الحفاظ والمتقنون هذا القسم الأول، والثاني: ما رواه المستورون والمتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون، وبيَّن ومثّل لهذه الأقسام في كلامه اللاحق.

والطبقات، يقول: "وثلاث طبقات" جمع طبقة وهم القوم المتشابهون من أهل العصر في السن والتلقي عن الشيوخ، يعني تجد شيوخهم -شيوخ الطبقة الواحدة-متقاربون، والآخذون عنهم كذلك.

ولذا الحافظ ابن حجر قسم طبقات رجال الكتب الستة إلى اثنتي عشرة طبقة، فجعل الصحابة على اختلاف مراتبهم طبقة؛ لشرفهم ميزهم بطبقة مستقلة، وإن كان بعضهم تأخرت وفاته عن بعض التابعين، الطبقة الثانية: كبار التابعين، والثالثة: أوساط التابعين، والطبقة الرابعة: طبقة تلي الطبقة السابقة، وجل روايته عن التابعين، والخامسة: طبقة صغار التابعين، والسادسة: طبقة عاصروا السابقين، عاصروا صغار التابعين لكنهم لم يثبت لهم لقاء أحدٍ من الصحابة، والسابعة: طبقة أتباع التابعين، والثامنة: أوساطهم، والتاسعة: صغارهم، والعاشرة: كبار الآخذين عن تبع الأتباع، والحادية عشرة: أوساط الآخذين عن تبع الأتباع، والثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع.

ابن حجر مشى على هذا، واستعمل هذه الطبقات في جميع الرواة الذين أوردهم في التقريب، بينما لم يشر إلى هذه الطبقات في التهذيب مثلاً؛ لأنه كتاب مبسوط، وتصنيف الرواة إلى طبقات يفيده في الاختصار، إذا أشار إلى أنهم من الطبقة كذا ما يحتاج إلى أن يقول أنه أخذ عن فلان أو عن فلان، أو يذكر ولادته، بل يقتصر على جزء من وفاته، فإذا ذكر الطبقة ذكر من سنة الوفاة الآحاد والعشرات وترك المئات؛ لأنه إذا قال: من السابعة أو من السادسة توفي سنة 46، كيف يكون من السادسة وتوفي سنة 46؟ توفي في عصر الصحابة معقول؟! لا، توفي سنة 46 يعني ومائة، وما دام عرفت الطبقة وحددت هذه الطبقة وعرف على سبيل التقريب لا التحديد الوفاة والزملاء ومن يشابهه بالأخذ عن الشيوخ، وطبقة شيوخهم وطلابهم، والآخذين عنهم فتفيد معرفة الطبقات معرفة بالغة، ومعرفتها أمرٌ مهم بالنسبة لطالب الحديث.

الحافظ الذهبي -رحمه الله- زاد في الطبقات في تذكرة الحفاظ، فصنف الطبقات أوصلها إلى قريب من خمسين طبقة، لماذا؟ لأنه ذكر رواة تأخرت وفياتهم إلى قريب من عصره سبعمائة، فهؤلاء يحتاجون إلى تصنيف طبقات أخرى، علماً بأن الطبقات عنده قد لا تتفق مع ما ذكره الحافظ ابن حجر، المسألة اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، يعني قد يضع هذا من السادسة وابن حجر وضعه من الخامسة أو العكس.

اختلف الشراح في مراد الإمام مسلم بالأقسام الثلاثة، وهل ذكرها كلها في كتابه، أو ذكر طبقتين الأولى والثانية، واخترمته المنية، أو اقتصر على القسمين دون الثالث؟ لأن التقسيم الذي أشرنا إليه واضح في المقدمة، أنه ذكر ثلاثة أصناف من الرواة، ذكر الحفاظ المتقنين، وذكر المستورين المتوسطين، وذكر الضعفاء والمتروكين، فهل استوعب هذه الثلاث، أو يفهم من كلامه أن الطبقات الثلاث لم يعرج على روايتهم، وإنما ذكرهم للتحذير منهم؟

على كل حال الشراح يختلفون في هذا، والنووي في مقدمة الشرح في صفحة (23) بين شيئا من هذا، صفحة (23 و24).

قال -رحمه الله-: "ذكر مسلم -رحمه الله-في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام، الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون، والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون، وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه القسم الثاني، وأما الثالث فلا يعرج عليه. فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم، فقال الإمامان الحافظان أبو عبد الله الحاكم وصاحبه أبو بكر البيهقي -رحمهما الله-: أن المنية اخترمت مسلماً -رحمه الله-قبل إخراج القسم الثاني، وأنه إنما ذكر القسم الأول".

لأن القسم الثاني: متوسطون مستورون دون الطبقة الأولى، وإنما ذكر القسم الأول واقتصر عليه واخترمته المنية قبل أن يذكر أصحاب القسم الثاني.

قال القاضي عياض -رحمه الله-: وهذا مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه، قال القاضي: وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد، فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابه الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال، فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ، وأنه إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم، ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته، ونفى من اتهمه بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا، ووجدته ذكر في أبواب كتابه حديث الطبقتين.

يعني حديث الطبقة العليا وحديث الطبقة التي تليها، فعادة الأئمة بما في ذلك البخاري ومسلم، يعنون بأحاديث الطبقة الأولى أهل الحفظ والضبط والإتقان، ويستوعبون أحاديث هؤلاء، وقد ينزلون إلى أحاديث الطبقة التي تلي هذه الطبقة، فينتقون من أحاديثهم ما وفقوا عليه، فتجد في ترجمة راوٍ خرج له البخاري، أو خرج له مسلم، تجد فيه كلاما لبعض أهل العلم، ثم تجد أحدا يصحح حديث في سنن أبي داود مثلاً؛ لأنه مروي من طريق راوٍ خرَّج له البخاري أو مسلم، وما عرف هذا المصحِّحُ أن البخاري ومسلما إنما انتقى من أحاديث هذا الراوي ما وُوفِقَ عليه، فكونه يقبل في صحيح البخاري لا يعني أنه يقبل في غيره؛ لأن العلماء تكلموا فيه إما مطلقاً أو في روايته عن راوٍ بعينه، فمثل هذا لا بد من التنبه له.

يقول القاضي عياض: ووجدته ذكر في أبواب كتابه حديث الطبقتين الأوليين، وأتى بأسانيد الثانية منهما على طريق الإتباع للأولى والاستشهاد، أو حيث لم يجد في الباب الأول شيئاً.

يعني ما وجد من أحاديث الطبقة العليا شيئاً ينفع في الباب الذي يريد أن يورد فيه الأحاديث التي يستدل بها على الحكم.

وذكر أقواماً تكلم قوم فيهم وزكاهم آخرون، وخرَّج حديثهم ممن ضعف أو اتهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر، ورتب في كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة.

فالطبقات فهم منها النووي أنها ثلاث، وهو قسم الرواة إلى ثلاثة أقسام، وأما الرابعة هذه التي ذكرها القاضي عياض ومثل لها مسلم ببعض الضعفاء والمتروكين، هذه هل هي الطبقة الثالثة كما يدل على ذلك كلام النووي أو الرابعة كما يدل له كلام القاضي عياض؟ فعند النووي ثلاث طبقات: الحفاظ المتقنون، المستورون -من هم دون الأولى بالمنزلة-الضعفاء والمتروكون.

عند القاضي عياض: أربع طبقات: الحفاظ المتقنون، المستورون المتوسطون، والضعفاء الذين ضعفوا بما لا يقتضي الرد بالكلية، يعني ضعفوا من قبل أهل العلم -بعض أهل العلم-ووثقهم آخرون، والطبقة الرابعة هم: المتروكون.

القاضي عياض يرى أنه استوعب حديث الطبقات الثلاث، ورد أحاديث الطبقة الرابعة، وعلى كلٍ يتفق كلام النووي والقاضي عياض في الطبقة الأولى الذين هم الثقات الضابطون المتقنون، والطبقة الثانية أيضاً، وأما الثالثة التي جعلها القاضي عياض رابعة -الضعفاء والمتروكون- فهؤلاء أيضاً يتفقان على أنه لم يخرج لهم شيئا.

الكلام فيمن ضُعف ممن لم يذكره النووي وذكره القاضي عياض، فجعله مرتبة أو طبقة بين الثانية والرابعة.

فهؤلاء أدخلهم القاضي عياض، ولا شك أن واقع الكتاب فيه من مُس بضرب من التجريح الخفيف ممن انتقى الإمام مسلم من أحاديثهم مما لا مطعن في كتابه بسببهم؛ لأن الانتقاء معروف عند أهل العلم، واختبار أحاديث الراوي معروف، وقبول بعض أحاديثه دون بعض أيضاً معروف.

وطرح الرابعة كما نص عليه، فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتاباً، ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة، وليس ذلك مراده، بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه وبان من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب، ويأتي بأحاديث الطبقتين، فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى استوفى جميع الأقسام الثلاثة، ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي طرحها، وكذلك علل الحديث التي ذكر ووعد أنه يأتي بها قد جاء بها في مواضعها.

نعم الإمام مسلم له إشارات دقيقة خفية في أثناء الأحاديث يعلل بها بعض الأحاديث، ويقول: وكذلك علل الحديث التي ذكر ووعد بأنه يأتي بها قد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد، كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص، وذكر تصاحيف المصحفين، وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه، وإدخاله، وأشار إلى ذلك، أشار إلى أنه يشير إلى هذه العلل في ثنايا الكتاب، وهنا في مثال في الصحيح، في صفحة (217) من الجزء الثاني من النووي، في أواخر الجزء الثاني من النووي ذكر علة ظاهرة ليست بخفية، أما الإشارات فحدث ولا حرج في تصرفاته -رحمه الله-، أشار في حديث شريك في الإسراء فقال: وساق الحديث بقصته نحو حديث ثابت البناني، وقدم فيه شيئاً وأخر وزاد ونقص، هذا تصريح، وأما الإشارات فكثيرة جداً في كلامه -رحمه الله-.

من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين، وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كلما وعد به.

قال القاضي -رحمه الله-: وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفاً إلا صوبه؛ وبان له ما ذكرت، وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب، ولا يُعترض على هذا بما قاله بن سفيان صاحب مسلم أن مسلماً أخرج ثلاثة كتب من المسندات -يعني صنف ثلاثة كتب- أحدها هذا الذي قرأه على الناس، والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق صاحب المغازي وأمثالهما، والثالث يدخل فيه من الضعفاء، فإنك إذا تأملت ما ذكر ابن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما ذكر مسلم في صدر كتابه فتأمله تجده كذلك -إن شاء الله تعالى-.

هذا آخر كلام القاضي عياض -رحمه الله-، وهذا الذي اختاره ظاهر جداً، والله اعلم.

في كلام الحاكم والبيهقي وأن الإمام مسلما خرج أحاديث الطبقة الأولى والثانية، ولم يخرج أحاديث الطبقة الثالثة هذا لا شك أن فيه صيانة للصحيح، من أن يتهم أحداً من رواته بشيء من الضعف، أو يمس واحد منهم بضربٍ من الجرح، واستفاض بين أهل العلم أن رواة الصحيحين قد جازوا القنطرة، لكن إذا نظرنا في واقع الكتاب وجدنا، لكن تخريج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- لحديث الراوي توثيق عملي لهذا الراوي، وحينئذٍ يكون توثيقه أو يكون تضعيف غيره أو جرح غيره الضعيف هذا الراوي الجرح الخفيف الذي صدر من غير مسلم معارضٌ بتوثيق مسلم وتخريج حديثه له، مع أن مسلما لا يكثر من أحاديث هذا النوع، ولا يذكرهم في الأصول، إنما يذكرهم في الغالب في الشواهد والمتابعات، كما قلنا في المفاضلة بين الصحيحين.

"فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار -والمراد على غير تكرار يكثر، وأما التكرار غير الكثير الذي يحتاج إليه فهو موجود- إلا أن يأتي موضع لا يُستغنى فيه عن ترداد حديثٍ فيه زيادة معنى، أو إسنادٌ -معطوفٌ على موضع "أي" أي أن التكرار تارة يكون لحديث بزيادة فيه، وتارة يكون للإسناد، وإن اتحد الحديث- يقول: أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، لأن المعنى الزائد في الحديث المُحتاج إليه يقوم مقام حديث تام -يعني زاد، حديث زاد جملة فيحتاج إلى تكراره؛ لأنه يسوق المتون بكمالها، تختلف طريقته عن طريقة البخاري في سياق المتون، الإمام مسلم يسوق المتن كاملا، فإذا اشتملت بعض رواياته على زيادة جملةٍ كرره كاملاً، أما الإمام البخاري -رحمه الله- فهو يقطع الأحاديث، ولا يسوق الحديث كاملاً باستمرار، إنما يقطعه ويترجم عليه بحسب ما يُستنبط منه وما يفيده الخبر من أحكام.

"فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة" والمُحتاج إليه صفة للمعنى؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المُحتاج، فلا بد من إعادة الحديث، يعني لا عوض ولا مندوحة ولا مناص ولا مفر من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة.

"أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن"

يعني إذا أمكن اختصار الحديث، واختصر على بعضهم على أن هذه ليست قاعدة مطردة عند الإمام مسلم، مثلها في البخاري واختصار الحديث جائز عند أهل العلم شريطة أن يكون من عارفٍ متيقظ، يعرف ما يثبت، ويعرف ما يحذف؛ لئلا يحذف شيئاً أو يختصر من الحديث شيئاً يتوقف فهم ما أبقاه عليه، كالاستثناء مثلاً، يكون في الحديث استثناء أو وصف مؤثر، لا يجوز حذف هذا الاستثناء ولا يجوز حذف هذا الوصف المؤثر؛ لأن له تأثيراً على الحكم.

"ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم، فأما ما وجدنا بداً من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله -إن شاء الله تعالى- ". يعني أنه لا يكرر الحديث لغير حاجة، ولغير فائدة زائدة.

وكذلك فعل الإمام البخاري، البخاري فيه أكثر من الثلثين تكرار، تكرار أكثر من الثلثين، فكونه يكرر، يعني ما عرف ولا وجد في صحيح البخاري حديث كرره بلفظه، سنداً ومتناً من غير اشتمالٍ على فائدة من زائدة في المواضع الأخرى إلا في نحو عشرين موضعا، وأما المواضع الأخرى فلا بد أن تجد أو تقف في هذا التكرار على فائدة زائدة، وأيضاً العشرون موضعا تجده كرره وإن كرره بسنده ومتنه إلا أنه كرره؛ لأنه يستنبط منه حكما، وترجم عليه بترجمة غير التراجم التي تقدمت.

"فأما القسم الأول فإننا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها -يعني أسانيدها أنظف من غيرها، ومتونها أوضح وأظهر وأصح من غيرها- وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة – "من" هذه تعليلية- وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة وإتقان -أي إحكام وضبط لمروياتهم- لما نقلوا لم يوجد في رواياتهم اختلاف شديد -قد يوجد الاختلاف الخفيف غير المؤثر، أما الاختلاف الشديد المؤثر فإنه لا يوجد في أحاديث القسم الأول- ولا تخليطٌ فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك -أي وضح وظهر ذلك الاختلاف والتخليط- في حديثهم، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس -هذه الطبقة الأولى المتفق عليها بين النووي وقبله الحاكم والبيهقي، وبين عياض ومن وافقه، (تقصينا) يعني استقصينا وأتينا عليها كلها- إذا تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم".

يعني هم موصوفون بالحفظ والإتقان، لكن وصفهم بالحفظ والضبط والإتقان ليسوا بمنزلة من تقدم، يعني هم أهل حفظ وضبط وإتقان، لكنهم أخف من القسم الأول.

يقول: "أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان -يعني هكذا نقف على هذا أو نقول: كالصنف المقدم قبلهم؛ لأن قوله: "كالصنف المقدم قبلهم" مرتبط ارتباطا وثيقا بما تقدم من الكلام، لأنه لو حذفنا كالصنف المقدم قبلهم، قلنا أن مسلم يخرج عن الضعفاء، لكننا إذا قلنا كالصنف المقدم قبلهم قلنا لا يخرج عن ضعفاء، وإنما يخرج عن أهل ضبط وحفظ وإتقان دون الذين تقدم.

فشرط الصحة متوافر، والحفاظ الثقات الضابطون المتقنون هل هم على درجة واحدة في الضبط والحفظ والإتقان؟ لا، فنجد واحدا عنده الحفظ والضبط والإتقان 99%، والثاني عنده 95%، والثالث عنده 90%، هؤلاء كلهم معروفون بالحفظ والضبط والإتقان، لكنهم درجات، فهو يستوعب أحاديث الدرجة الأولى والقسم الأول، وينزل إلى الثاني، وقد ينزل إلى الثالثة، وكلهم في دائرة الحفظ والضبط والإتقان؛ لأنه يقول: "كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم، كعطاء بن السائد، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة -يفضلونهم يعني يفوقونهم- لأن هذا يعني الإتقان والاستقامة في الرواية عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية -يعني منزلة عالية وساطعة، هؤلاء نجوم الرواية، فإذا كان الإمام مالك نجم السنن، فمن في طبقته ومن يوازيه هؤلاء لهم هذه الخصال السنية.

ألا ترى هؤلاء الذين ذكرهم الإمام مسلم -رحمه الله-، عطاء بن السائب الثقفي الكوفي، صدوقٌ اختلط من الخامسة، مات سنة 36 مثل ما ذكرنا في أن الحافظ ابن حجر يحذف المئات، ورمز له ابن حجر في التقريب بـ"خ" يعني خرج له البخاري والأربعة، وهو مثال للطبقة الثانية عند مسلم، ولم يخرج له مسلم، وإنما أخرج له البخاري حديثا واحدا متابعة في ذكر الحوض، مقروناً بأبي بشر جعفر بن أبي وحشية، إنما خرج له البخاري مقرونا بغيره، لا على سبيل الاستقلال، كعطاء السائبي، ويزيد بن أبي زياد الهاشمي موالهم، كبر فتغير فصار يتلقن، وحديثه مخرج في البخاري تعليقاً لا في الأصول، ومسلم مقرون بغيره، يعني لم يعتمد عليه البخاري ولا مسلم، إنما قرنه بغيره من الثقات.

ومخرجٌ له أيضاً عند الأربعة، وليث ابن أبي سليم، وهو أيضاً صدوقٌ اختلط ولم يتميز حديثه فترك، ورمز له الحافظ في التقريب بـ"خت" يعني خرج له البخاري تعليقاً، ومسلم والأربعة، والمعروف أن مثل هؤلاء لا يعتمد عليهم، ومسلم والبخاري لم يعتمدا على مثل هؤلاء، وإنما يخرجون لهم في المتابعات.

"وليث ابن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار، فإنهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم، عطاء ويزيد وليث بمنصور بن المعتمر، وسليمان بن مهران الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، -هؤلاء أئمة حفاظ- في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم -بينهم قومٌ شاسع، بين الثلاثة والثلاثة- لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ -الثلاثة الذين ذكرهم آخراً- منصور والأعمش وإسماعيل، وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك -الحفظ والضبط والإتقان- من عطاء ويزيد وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران -يعني إذا وازنت بين الرواة من الطبقة الواحدة وجدت من الفروق بينهم ما تجد، فابن عون مثلاً ، وأيوب السختياني، وإذا وازنت بين ابن عون، وهو عبد الله بن عون إمامٌ ثقة حافظٌ فاضل، إذا وازنت بين ابن عون وأيوب السختياني، أيوب بن أبي تميمة السختياني، مع عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، وأشعث بن سوار الحمراني، وهما صاحبا الحسن وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما، يعني ابن عون وأيوب أخذا عن الحسن وابن سيرين، وعوف بن أبي جميلة وأشعث هما صاحبا الحسن وابن سيرين، يعني لا يعني كون الإنسان قرين للآخر أن يكون بمنزلته، ولا يعني أن كونهما اتفقا في الرواية عن شخص، أنهما حفظا عنه على درجة واحدة.

"إلا أن البون بنيهما، الفرق بينهما وبين هذين بعيد. بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوفٌ وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم، وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي -يعني خفي- عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه".

يعني هؤلاء مجرد أمثلة، فيقاس عليهم من يوازيهم، فيقاس على أهل القسم الأول من يوازيهم في الحفظ والضبط والإتقان، يعني لا ينحصر أهل الحفظ والضبط والإتقان بمن ذكر، إنما يقاس عليهم من يوازيهم ومن يشابههم في هذا وهم كثير، ويقاس على أهل القسم الثاني من هم في مقاربتهم ومداناتهم في الحفظ في قلة الحفظ دون الأولى، وإن كانوا يشاركونهم في أصل الحفظ.

"ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته".

هذه قاعدة شرعية، مستندة إلى الحديث الذي أورده الإمام مسلم: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم" تقول عائشة: "أمرنا أن ننزِّل الناس منازلهم" في رواية: ((أنزلوا الناس منازلهم)) وتجد بعض الطلاب -طلاب العلم- بعضهم لا أقول كلهم، متردد بين الغلو والجفاء، فتجده إذا أعجب بشخص أنزله فوق منزلته بمراحل هذا موجود، وإذا كره من شخص خلقاً أو عابه في شيء أو انتقده في رأي تجده يجعله في أسفل سافلين، وتجده يخفي جميع ما يعرفه من مثالبه، بالعكس الأول الذي يخفي جميع ما عند الرجل من محاسن ومناقب، وهذا المنهج لا شك أنه مجانبٌ للصواب، بعيدٌ جداً عن الإنصاف، بعيدٌ عن العدل.

فالإنسان مطالبٌ بالعدل، والعدل واجب {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء]، وعلى الإنسان أن يحفظ نفسه، وأن لا يهدي ما يجمعه ويتعب عليه من حسنات إلى غيره، ولذا يقول:

"فلا يُقصَّر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته -بل ينزل الناس منازلهم- ويعطى كل ذي حقٍ فيه حقه، وينزل منزلته، وقد ذكر عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم -هذا تعليق بصيغة التمريض، وذكر عن عائشة، والحديث رواه أبو داود بلفظ: ((أنزلوا الناس منازلهم)) والحديث عند أبي داود أيضاً ضعيف، للانقطاع بين ميمون بن أبي شبيب وعائشة، فقد صرح أبو داود في سننه بأنه لم يدركها، وذكره الحاكم في علوم الحديث دون إسناد وصححه، وذكره النووي في رياض الصالحين جازماً به، وحسنه السخاوي في المقاصد، المقصود أن الحديث كثرة طرقه تدل على أن له أصلاً، وإن ضعفت مفرداتها.

"أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننزِّل الناس منازلهم" ورواية أبي داود: ((أنزلوا الناس منازلهم)) فدل على أن قول الصحابي: "أمرنا رسول الله" بمنزلة قوله -عليه الصلاة والسلام-: (افعلوا) خلافاً لمن يقول: إنه لا يحتج بقوله: (أمرنا) حتى يذكر اللفظ النبوي، لاحتمال أن يسمع كلاما يظنه أمرا، وفي الحقيقة ليس بأمر، يسمع كلاما يظنه نهيا، وفي الحقيقة ليس بنهي، لكن هذا الكلام مردود، لا شك أن هذا الكلام مردود؛ لأن الصحابة إذا خفيت عليهم مدلولات الألفاظ الشرعية إذاً تبين وتتضح لمن؟ من يعرف مدلولات الألفاظ الشرعية إذا لم يعرفها الصحابة؟ هذا القول لا شك أنه مردود.

"مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [(76) سورة يوسف]، وعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألتَ من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما ما كان منها عن قومٍ هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم -هؤلاء هم الطبقة الرابعة عند القاضي عياض، وهم الطبقة الثالثة عند النووي.

طالب: الثالثة عند مسلم أو عند النووي؟

الثالثة عند مسلم، النووي أخذه من كلام مسلم.

"فأما ما كان عند قومٍ هم عند أهل الحديث متهمون -النووي نظر إلى صريح كلامه في المقدمة، وعياض نظر إلى واقع الكتاب، والنووي نظر إلى أنهم ثلاثة أقسام كما نطق بذلك، والقاضي عياض جعلهم أربعة أقسام من فهمه للمقدمة ومن واقع الكتاب؛ لأنه جعل الرواة على أربعة أقسام واقعهم على أربعة أقسام، فمثلاً: منصور بن معتمر ومن معه ممن هو الغاية في الحفظ والضبط والإتقان، وقل مثلهم: ابن عون وأيوب السختياني طبقة، دونهم عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني، ودونهم عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد والليث بن أبي سيلم، ودونهم طبقة رابعة هم المتهمون: كعبد الله بن مسور المدائني، وإلى من ذكرهم.

لكن النووي جعل مثل أيوب وابن عون مع عوف بن أبي جميلة طبقة واحدة، وإن كان دونهم في المنزلة، وجعل عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم طبقة وجعل هؤلاء المتركون طبقة فصاروا ثلاثا، ولا شك أن كلام النووي محتمل باعتبار أنه مزج الطبقتين الأولى والثانية فجعلهما طبقة واحدة، وأما الثالثة أفردها وهي دونهم، وفيهم كلام، وأما الطبقة الرابعة جعلها ثالثة وهم من أكثر أهل الحديث على اتهماهم.

"فأما ما كان عن قومٍ هم عند أهل الحديث متهمون أوعند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم، كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصروب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو بن أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتُهمَ بوضع الحديث وتوليد الأخبار -فالمتهم بوضع الأحاديث، وتوليد الأخبار هؤلاء ضعفهم شديد، فلا يعرج عليهم الإمام مسلم، ومفهوم هذا الكلام أنه قد يخرِّج لمن ضُعِّف بما دون ذلك، وهو محل الخلاف بين النووي والقاضي عياض، النووي فهم أنه لا يخرج لمن ضعّف، ولو لم يكن تضعيفه إلى حد الاتهام، والقاضي عياض يقول: قد يخرّج، فنظر إلى هذا الكلام وجعله له مفهوم، جعل له مفهوم أنه يخرج من دون هؤلاء في الضعف.

أولاً: الاتهام بالكذب إنما ينشأ عن تفرد الراوي الذي يأتي بما يخالف عليه، بحيث يتفرد به، ولا يعرف إلا من طريقه، حينئذٍ يتهم به، إذا خالف من هو أوثق منه، أو يكون معروفاً بالكذب في حديثه العادي، ولا يعرف بالكذب في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لو كذب في حديث النبي ما يقال متهم بالكذب إنما يقال كذاب.

"ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضاً عن حديثهم".

ثم قال -رحمه الله تعالى-:

"وعلامة المنكر في حديث المحدث أن تعرض روايته أو رواياته على روايات الحفاظ، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها -يعني خالفتها بالكلية، أو كانت المخالفة غالبة، فالطريق إلى معرفة ضبط الراوي أن تعرض رواياته على روايات الحفاظ، فإن وافقهم فهو ضابط، إن خالفهم يسيراً أيضاً ضابط، إن خالفهم كثيراً أو لم يوافقهم في شيء فهذا ليس بضابط.                 

ومن يوافق غالباً بالضبطِ

 

فضابطٌ أو نادراً فمخطيء

فمن تكون موافقته لهم نادرة فهذا يصنف على أن غير ضابط، أو غير حافظ، مخالفة الثقات هي أحد أوجه الطعن في الراوي المتعلقة بانتفاء الضبط، وهي خمسة: فحش الغلط وكثرة الغفلة وسوء الحفظ والفهم ومخالفة الثقات.

"فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك -يعني المخالفة- كان مهجور الحديث -هذا حكم رواية من كثرت المخالفة في حديثه، راوي المنكر حديثه مهجور- غير مقبوله، ولا مستعمله، فمن هذا الضرب من المحدثين، عبد الله بن محرر -الجزري القاضي متروك- ويحيى بن أبي عنيسة -أيضاً أبو يزيد الجزري ضعيف- والجراح ابن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضُميْرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث".

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "فلسنا نعرج على حديثهم، ولا نتشاغل به -يعني لا نلتفت إليه، ولا نتشاغل بروايته، وفي القاموس وشرحه عرج البناء تعريجاً: ميِّل، فلا يميِّل على حديث مثل هؤلاء، ولا يعرج عليه، وعرّج النهر: أماله، وعرّج عليه: عطف، فمعنى كلام مسلم أننا لا نعطف على حديثهم، ولا نتوجه إليه، ولا نميل إليه، ولا نتشاغل به- لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث -هناك إذا خالف وهنا في مجرد التفرد- أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك -البعض هذه: يريد الإمام مسلم بها الأكثر- في بعض ما رووا -يعني في أكثر ما رووا، في أكثر روايته، بدليل قوله: "وأمعن في ذلك" يعني بالغ في ذلك وجد في ذلك.

"وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه" أولاً: إذا وجدناه وافق الحفاظ، وأمعن في موافقتهم حكمنا عليه بأنه ضابط أو مخطئ؟ ضابط، إذاً هو ثقة زيادته، (ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته).

وهذا الإطلاق من مسلم -رحمه الله- يوافق قول من يقول: بقبول زيادة الثقات مطلقاً (قبلت زيادته) وعرفنا أن الحكم للقرائن، قد تقبل بالقرائن وقد ترد بالقرائن، وهذا قول: الكبار من الحفاظ، وعليه صنيعهم، وجروا على ذلك.

"قبلت زيادته، فأما من تراه يعمد -أي يروي- عن مثل الإمام الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك -أي يشترك الجميع في معرفته، منشور بين الناس، ليس فيه خفاء لكونهم مكثرين من الرواية، حديثهم مبسوط منشور، يشترك الجميع في معرفته، يعني حديث الزهري أو حديث هشام بن عروة يخلو ديوان من دواوين الإسلام؟ حديث الزهري أو حديث هشام بن عروة لا يخلو ديوان من دواوين الإسلام المعروفة إلا وفيه من حديث الزهري وحديث هشام بن عروة، هذا مشهور، أحاديثهم مبسوطة في كتب العلم، (مشتركٌ) يشترك الجميع في معرفته- قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابهما -يعني أصحاب الزهري والآخذون عنهم فيهم كثرة، وفيهم حفاظ ضابطون متقنون، يأتي شخص فيروي عن الزهري ما لا يعرفه أصحابه ويقبل مثل هذا؟ أبداً- فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابهما وليس مما قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس. والله أعلم".

"قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله -يعني وضحنا طريقة أهل الحديث في قبول رواية الراوي وردها- بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم -يعني من أراد أن يقلد القوم، من أراد أن يحاكي القوم، من أراد أن يسلك مسلك القوم، من أراد أن يعبر طريقهم وسبيلهم- ووفق لها -يعني يفهم ما ذكرناه ويطبق عليه، فإنه حينئذٍ يوفق؛ لأنه سلك السبيل الصحيح، والطريق الصحيح، والسبيل والطريق بمعنىً واحد، وهما يذكران ويؤنثان. (ووفق) يعني هدي لها، ثم قال:

"وسنزيد -إن شاء الله تعالى- شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح -إن شاء الله تعالى- والله أعلم".

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"