الموقظة في علم مصطلح الحديث (10)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبي الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والسامعين.

قال المصنف الإمام الذهبي -رحمه الله-:

آداب المحدِّث تصحيح النية من طالب العلم متعيِّن، فمن طلب الحديث للمكاثرة أو للمفاخرة، أو ليروي، أو ليتناول الوظائف، أو ليُثنى عليه وعلى معرفته، فقد خسر، وإن طلبه لله وللعمل به وللقربة بكثرة الصلاة على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولنفع الناس فقد فاز، وإن كانت النية ممزوجة بالأمرين فالحكم للغالب، وإن كان طلبه لفرط المحبَّة فيه مع قطع النظر عن الأجر وعن بني آدم فهذا كثيرًا ما يعتري طلبة العلوم، فلعل النية أن يرزقها الله بعد، وأيضًا فمن طلب العلم للآخرة كساه العلمُ خشيةً لله واستكان وتواضع، ومن طلبه للدنيا تكبَّر به وتكثَّر وتجبر، وازدرى بالمسلمين العامة، وكان عاقبته أمره إلى سفال وحقارة، فليحتسب المحدث بحديثه؛ رجاء الدخول في قوله -صلى الله عليه وسلم- «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها» وليبذل نفسه للطلبة الأخيار، لاسيما إذا تفرَّد.

 وليمتنع مع الهرم وتغير الذهن، وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته أنكم متى رأيتموني تغيرت فامنعوني من الرواية، فمن تغيَّر بسوء حفظ وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره، ولا بأس بأن يجيز مروياته حال تغيره، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت، وهو فقد وعى ما أجاز، فإن اختلط وخرِف امتُنع من أخذ الإجازة منه. ومن الأدب ألا يحدِّث مع وجود من هو أولى منه لسنه وإتقانه، وألا يحدِّث بشيء يرويه غيره أعلى منه، وألا يغش المبتدئين، بل يدلهم على المهم، فالدين النصيحة، فإن دلهم على معمَّر عامي، وعلم قصورهم في إقامة مرويات العامي نصحهم ودلهم على عارف يسمعون بقراءته، أو حضر مع العامي، وروى بنزول؛ جمعًا بين الفوائد.

 وروي أن مالكًا- رحمه الله- كان يغتسل للتحديث ويتبخر ويتطيب، ويلبس ثيابه الحسنة، ويلزم الوقار والسكينة، ويزبر من يرفع صوته، ويرتل الحديث، وقد تسمح الناس في هذه الأعصار بالإسراع المذموم الذي يخفى معه بعض الألفاظ، والسماع هكذا لا ميزة له على الإجازة، بل الإجازة صدق، وقولك: سمعت أو قرأت هذا الجزء كله مع التمتمة ودمج بعض الكلمات كذب، وقد قال النسائي في عدة أماكن من صحيحه وذكر كلمة معناها كذا وكذا، وكان الحفاظ يعقدون مجالس للإملاء، وهذا قد عُدم اليوم، والسماع بالإملاء يكون محققًا ببيان الألفاظ للمسمع والسامع. وليجتنب رواية المشكلات مما لا تحمله قلوب العامة، فإن روى ذلك فليكن في مجالس خاصة، ويحرم عليه رواية الموضوع ورواية المطروح إلا أن يبينه للناس؛ ليحذروه."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جرت عادة أهل العلم من المحدثين وغيرهم أن يذكوا ويعنوا بالآداب التي على طالب العلم أن يتحلى بها، فالعلم بلا أدب يحرم صاحبه من الانتفاع منه وبه، الأدب الذي يمكن تحصيله وهو التخلُّق، أما إذا جبل الإنسان على شيء وجاهد نفسه لمخالفته من سرعة غضب، المقصود أنه إذا جبل على سوء خلق ينبغي له أن يتخلق ويتأدب بالأدب الشرعي، وأن يلتزم النصائح والتوجيهات الشرعية بأن لا يغضب، لكن إذا وجد مثلاً من عالم الناس بأمس الحاجة إلى علمه فطالب العلم يوصى بأن يصبر على جفا شيخه، وألا يضجره؛ لأن بعض الناس يسمع مثل هذه الآداب، ويظن أن العالم لا بد أن يكون ملكًا من الملائكة لا يغضب ولا يضجر ولا.. هو بشر من البشر يغضب كما يغضبون، وله حاجاته، وله مطالبه، وله ظروفه التي تنبي عليه أحيانًا أن يتصرف تصرفًا غير مرضي في حال السعة، لكن كما يؤثر عن حذيفة- رضي الله عنه- أنه سريع الغضب، نعم جبلة وخلقة، لكنه أوصي بكثرة الاستغفار، فمثل هذا يوصى بكثرة الاستغفار، وعلى الطالب ألا يضجر الشيخ، وأن يتحين الفرص المناسبة للأخذ عنه وسؤاله؛ لأن بعض الطلاب- هداهم الله- يحرج المشايخ، يحتاج إلى وقت طويل، ويأتي في أوقات غير مناسبة للأخذ والسماع، ويأتي للأسئلة في أوقات الشيخ بأمس الحاجة إلى راحة مثلاً.

 على كل حال على الطالب أن يلاحظ حال الشيخ، وعلى الشيخ أن يرفق بالطالب، وأن يحرص على نفعه بقدر الإمكان، هذا في الجملة.

 لكن الآداب التي ذكروها آداب شرعية جاءت بها النصوص، وهي أمور لا بد منها، لكن هناك أمور جبلية يشترك فيها العالم والعامي وغيره، جُبل مثلاً على حدة الطبع، نعم عليه أن يتخلق بالآداب الصالحة والحسنة، وعليه أن يحمل نفسه على الأدب الشرعي، لكن هناك أمور قد تفلت في وقت ضجر مثلاً الطالب أحرجه وألجأه إلى مثل هذا، وأحلم الناس قد يثور في بعض الأوقات والظروف، فعلى الطالب أن يتحيَّن الفرصة المناسبة للأخذ وللسؤال، يعني يأتي طالب والشيخ معه مصحف أو يقرأ ورده اليومي يقول: يا شيخ أنا معي كتاب أريد أن أقرأ،  فيقول له: ائت مع الناس في الدرس غير هذا الوقت يقول: لا يا شيخ أنا ما يكفيني ما يكفي الناس، أنا أريد درسًا خاصًّا، تقول: يا أخي أنا مشغول الآن، شف المصحف بيدي، يروح يقول: الشيخ مشغول، يقول مشغول وهو قاعد يقرأ القرآن، يقوله بعض الطلاب، يعني مثل هذا طالب علم يقول مثل هذا الكلام؟ القرآن ما هو شغل؟!

يعني مما يؤسف له أن بعض الطلاب الذين عليهم الشرهة يقولون مثل هذا الكلام، فخير ما ينشغل به العالم والمتعلم القرآن، فعلينا أن نعنى بكتاب الله- جل وعلا-، وما تعلمنا السنة إلا لنفهم القرآن؛ لأن السنة مفسِّرة للقرآن، وينبغي أن يربى طلاب العلم على الاهتمام بالقرآن ومدارسة القرآن.

 تصحيح آداب المحدِّث يقول: عليه تصحيح النية من طالب علم متعين «إنما الأعمال بالنيات» {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [سورة البينة:5]، وطلب العلم من أفضل أبواب العبادة، بل هو أفضل من نوافل العبادة كلها عند أهل العلم؛ لما يترتب عليه من نفع خاص وعام؛ لأنه هو المورث للخشية، لخشية الله- جل وعلا-، تصحيح النية من طالب العلم متعين، فمن طلب الحديث للمكاثرة، طلب الحديث للمكاثرة؛ من أجل أن يقال: فلان يحفظ مائة ألف حديث، يكفيه أن يقال مثل هذا، يتصور من طالب علم أو من عالم أن يكون هذا هدفًا؟ نعم يتصور، يكفيه أن يقال: والله فلان حافظ الدنيا، كما أنه يكفي بعض المجاهدين الذين يقدمون أنفسهم للقتل في سبيل الله أن يقال: شجاع، ويكتفي بعض المتصدقين الذين ينفقون الأموال الطائلة ليقال: جواد، وهؤلاء الثلاثة الذي يطلب العلم ليقال: عالم، والذي يقدم نفسه ليقتل في سبيل الله ليقال: شجاع، والذي يتصدق ليقال: جواد هم الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار.

على طالب العلم أن يصحح النية، وأن تكون نيته خالصة لله- جل وعلا- في طلبه العلم، وينوي بذلك أن يعبد الله على بصيرة؛ ليحقق الهدف الشرعي من وجوده، وهو وجد للعبادة، فليعبد الله على مراد الله على بصيرة، كيف يعبد الله على بصيرة؟ يطلب العلم، ثم بعد ذلك ينشر هذا لغيره؛ ليكون متعلِّمًا عالمًا معلمًا، وبهذا يستحق الوصف بكونه ربانيًّا، يعبد الله على بصيرة، يسعى في تصحيح عبادات الناس في عقائدهم في عباداتهم في معاملاتهم، فمن طلب الحديث للمكاثرة أو المفاخرة، أو ليروي، يجلس يوضع له المكان المناسب المريح، من أجل أن يكثر الجمع حوله، ويروِّي الناس الحديث، يروون عنه وينقلون عنه ويقولون كلهم: حدثنا الشيخ فلان، إذا كان هذا هدفًا، هذه حقيقة مرة، ومثل هذا ما هو مثل غيره من العلوم التي يُبتغى بها الدنيا، هذا مما يبتغى به وجه الله من أمور الآخرة المحضة التي لا تقبل التشريك، أو ليتناول الوظائف، طلب العلم الشرعي، دخل الكليات الشرعية؛ ليتوظف، يصير قاضيًا، يصير موظفًا من أجل الراتب، من أجل تأمين المستقبل، من أجل أن يتناول به الوظائف، هذا أيضًا من طلب علمًا مما يبتغى وجه الله لا يطلبه إلا لينال به غرضًا من الدنيا لم يرَح رائحة الجنة، نسأل الله العافية، أو ليثنى عليه وعلى معرفته، والله حضرنا الدرس الفلاني إلا والشيخ الفلاني ما له نظير، أو يقرأ في تراجم أهل العلم ويوصفون بالأوصاف وتضفى عليهم الألقاب الكبيرة، ويطلب العلم ليسطَّر معهم في الكتب، ويخلَّد ذكره، أو ليثنى عليه وعلى معرفته فقد خسر؛ لأن ما هنا سلامة، هذه عبادة.

 وإن طلبه لله وللعمل ،به طلبه لله مخلصًا لله- جل وعلا- مبتغيًا ثواب الله وللعمل به؛ ليعبد الله على بصيرة، وللقربة بكثرة الصلاة على نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأوفر الناس حظًّا من الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- أهل الحديث، قد يقول قائل: أهل التفسير، طيب أهل التفسير لهم عناية بكتاب الله، لكن إن كانت عنايتهم لتوضيح كتاب الله من خلال سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهم أهل الحديث، وإن كان أهل التفسير المراد العناية به بالأقوال والتفسير بالرأي بأقوال الناس فهؤلاء نصيبهم أقل، فضلاً عن العلوم الأخرى، واحد سبر كتابًا من أكبر كتب الفقه اثني عشر مجلدًا يقول: ما وجدت -صلى الله عليه وسلم- إلا أربع مرات، كتب الحديث في كل سطر -صلى الله عليه وسلم-، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، فيستحضر هذه النية أنه يصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لينال بذلك الأجر والثواب، ويمتثل الأمر في قوله- جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة الأحزاب:56]، ولا يتم الامتثال إلا بالجمع بين الصلاة والسلام، فإن أفرد الصلاة ما تم امتثاله، وإن أفرد السلام ما تم امتثاله، وأطلق النووي الكراهة كراهة من يقتصر على الصلاة دون السلام، وابن حجر يقول: لا تطلق الكراهة إلا من كان ديدنه ذلك، يعني عادته عمره كله يصلي ولا يسلِّم، أو يسلِّم ولا يصلي، لكن من كان يجمع بينهما أحيانًا ويصلي أحيانًا ويقول: عليه السلام أحيانًا هذا لا يتناوله الكراهة.

وعلى كل حال امتثال الأمر لا يتم إلا بالجمع بينهما، وإن عطف عليه -عليه الصلاة والسلام- غيره فأولى الناس بذلك آله الذين هم وصيته -عليه الصلاة والسلام-، ثم صحابته الذين بواسطتهم وصل إلينا الدين، فإذا عطفنا عليه لا بد أن نقول: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإفراد الآل دون الصحب يعني في غير التشهد المتعبد بلفظه هذا من شعائر بعض المبتدعة، كما أن إفراد الصحب دون الآل شعار لمبتدعة آخرين، أما اللفظ المتعبَّد به في الصلاة يفرد الآل، وما عدا ذلك فالآل لهم حق، والصحب لهم حق.

 ولنفع الناس يسعى جاهدًا أن ينفع الناس، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، حتى الحيتان تستغفر له، ولنفع الناس فقد فاز؛ لأن هذه نية صالحة اشترك فيها أمور مطلوبة شرعًا لا يقال: هذا تشريك، هذا طلبه لله وحده، طيب للعمل به هذا تشريك للعمل به لوجه الله -جل وعلا-، وللقربة بكثرة الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- التي طلبها الله -جل وعلا- ما يقال هذا تشريك، أنت تطلب لله وللصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- لا، ليس هذا تشريكًا، كما أن العمل والتعبد مع الإخلاص؛ رجاء ثواب الله ودخول جنته والعتق من النار هذا ليس بتشريك؛ لأن بعضهم قال في آخر آية من سورة الكهف: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف:110] قال: من نظر إلى الجنة والنار أشرك، إنما ينبغي أن تكون العبادة خالصة لله- جل وعلا-، نعم خالصة لله- جل وعلا-، أنت حينما تفر من النار أو تطلب الجنة أن ترجو ثواب مَن؟ ثواب الله- جل وعلا- أنت إذا وجدت إنسانًا بيده عصا، خوفك من العصا أو من الشخص الذي يحمل العصا؟ من الشخص؛ لأن العصا بمفردها ما تفعل شيئًا، النار بمفردها لولا أن الله- جل وعلا- أعدها لمن عصاه ما صارت شيئًا، لكن الله -جل وعلا- هو المخوف، وهو المرجو، فإذا طلبنا وسألنا الله- جل وعلا- الجنة فإنما نرجو ثوابه، وإذا استعذنا به من النار فإنما نخشى عقابه، ولو لم يكن ذلك مرادًا ل-له جل وعلا- لما وصف لنا الجنة، ولما وصف لنا النار، إنما وصف لنا الجنة لنطلبها، ووصف لنا النار لنهرب منها، فلا يقول قائل: إن هذه الأمور مجتمعة فيها تشريك أبدًا، ليس فيها تشريك.

 يقول وإن كانت النية ممزوجة بالأمرين فالحكم للغالب، طلب العلم؛ لينال به ثواب الله -جل وعلا-، وأيضًا عرضًا من عروض الدنيا يستعين به على ثواب الله، يستعين به على تحقيق العبودية، النية ممزوجة كثيرًا ما تأتي النية والإنسان يسول له الشيطان يقول: أنت تدخل كلية الشريعة مثلاً، فتكون قاضيًا ينفع الله بك المسلمين، ويهجم عليه خاطر أن القضاة مثلاً وظائف كبيرة واحترام بين الناس وتقدير وجاه ورواتب، ويُظهِر للناس أنه إنما دخل كلية الشريعة من أجل أن يتولى القضاء، صحيح، لكن يتولى القضاء لماذا؟ لينفع الناس، ليصلح بين الناس، ليفض المنازعات والخصومات. هذه نية صالحة، لكن يبقى أن الحكم للغالب، يعني إذا طلب العلم؛ ليكون قاضيًا، وفي نيته هذه النية الصالحة، في قرارة نفسه النية الصالحة، وفي قرارة نفسه أيضًا ما يعين على تحقيق هذه النية من رواتب ومن.. هذه النية ممزوجة، والحكم للغالب.

 وإن كان طلبه لفرط المحبة فيه؛ لأنه أحيانًا يهجم على الإنسان وله بالعلم، ويشغَف بحب العلم، وينسى النية، طيب ماسك كتابًا تقرأ من أجل ماذا؟ والله كتاب يعجبه، نعم فيه علم، كتاب البخاري هو كتاب الدين بعد كتاب الله- جل وعلا-، لكن أحيانًا تعزب عنك أنك تطلب علمًا، إنما أنت معجب بتصرفات البخاري، فتغفل عن تحقيق هذه النية، ولذا قال: وإن كان لفرط المحبة فيه يعني غفلت عن النية الأصلية؛ لفرط المحبة فيه مع قطع النظر عن الأجر وعن بني آدم فهذا كثيرًا ما يعتري طلبة العلوم، بعض الناس يقرأ الحديث، يطلب الحديث، وينسى أنه يطلبه لله، يعني مع طول المدة يومًا يذكر ويومًا ينسى، وكذلك قل في العلوم الأخرى التفسير والفقه؛ لأن العلم له نشوة إذا عوَّد الإنسان النفس عليه وعلى القراءة قد لا يستطيع أن يترك القراءة، عنده استعداد أن يترك الطعام والشراب، يترك الغداء إلى العشاء أو العشاء إلى الغداء، ما عنده وقت، يقرأ منهومًا بالقراءة، ولذا جاء في الخبر: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال»، ما ينتهي، وأحيانًا في غضون هذا النهم في خضم هذا الشغف ينسى النية، مثل هذا إذا غفل عن النية استصحاب النية الأولى يؤجر عليه، النية الأولى الأصلية يؤجر عليها أنه يطلب العلم لله، ثم بعد ذلك عليه أن يتعاهد هذه النية.

 مثال ذلك شخص استحضر أن النفقة على الأولاد واجب عليه النفقة على الزوجة واجبة عليه، ومع ذلك يؤجر على ما يضعه فيْ فيِّ امرأته، هو في نهاية الشهر يستلم الراتب، ويذهب لمحلات الأطعمة والأغذية ويشتري ما يحتاجه طول الشهر ويجيء به أحيانًا بدون نية، لكن لو نوى وهو يشتري هذه المواد الغذائية، نوى أنه يحقق مثل هذا الهدف الشرعي من النفقة على من أوجب الله النفقة عليه، ويضع هذه الأمور التي يشتريها فيْ فيِّ امرأته وفيْ فيِّ أولاده، وفي فيه أيضًا يستعين بذلك كله على طاعة الله أُجِر على هذه النية العامة، أجرًا عظيمًا. لكن ما يلزم أن يستحضر هذه النية في كل لقمة ترفعها المرأة، أو يرفعها الولد، أو يرفعها هو، النية العامة تكفيه، وإن استحضر النيات الخاصة فالأجر أعظم.

وإن كان لفرط المحبة فيه مع قطع النظر عن الأجر وعن.. فكثيرًا ما يعتري طلبة العلوم، فلعل النية أن يرزقها الله بعد يعني هذا إذا غفل مدة طويلة عن النية، وبعض الناس يدخل الجامعة ويطلع ما استحضر النية أصلاً، تخرج من الثانوي، أو دخل الابتدائي، أدخله أبوه ما له نية أصلاً، ثم تابع دراسته، انتهى من الثانوي، دخل الجامعة، يتخرج مثل الناس، يتعيش ويؤمن مستقبله، ما هنا نية، ويقرأ العلوم، يقرأ قال الله، ويقرأ آيات الإخلاص وأحاديث الإخلاص، ومع ذلك سادر، هذا الذي يقال: عسى الله - جل وعلا- أن يأتي بالنية، فلعل النية أن يرزقها الله بعد.

 وأيضًا فمن طلب العلم للآخرة، وهنا المحكّ، من طلب العلم للآخرة كساه العلم خشية لله، ولهذا نرى بعض من يطلب العلم لا تظهر عليه آثار الخشية، ولا تترتب عليه الآثار التي رتبت على طلب العلم الشرعي ما نجد ازديادًا من الخير وحب للخير وبعد عن.. نجد بعض من يطلب العلم لا فرق عنده من أن يجلس مع شخص عادي، وبأن يجلس مع عالم، يجلس مع عابد، المسألة كلها تمشية، هذا في الأصل النية في الأصل مدخولة، لكن من طلب العلم للآخرة يعني من البداية كساه العلم خشية لله، والعلم الذي يورث الخشية هو العلم الشرعي هو المطلوب في النصوص، يعني المرغَّب فيه في النصوص هو الذي يورث الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر:28] واستكان وتواضع، ومن طلبه للدنيا تكبَّر به وتكثَّر وتجبَّر، صحيح إن طلبت العلم ماذا صنعت يا فلان؟ في حديث الثلاثة، طلبت العلم وعلَّمْت الناس قال: كذبت، إنما طلبت ليقال: عالم وقد قيل في الدنيا ما شاء الله كل يقول: هذا عالم، جاء العالم الفلاني، راح العالم الفلاني، لكن هذا نصيبك، والإنسان وهو يقرأ هذا الكلام وغيره من كلام أهل العلم والله يخشى أن يُمكَر به وهو لا يشعر؛ لأن النية شأنها عظيم، شأنها عظيم، والعلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة، ما تقبل تشريكًا مثل الصلاة مثل الصلاة، فإذا كان الأساس من الأصل مبنيًّا على نية فيها شيء من التشريك، أو طلب العلم لغير الله، ثم استمر على ذلك، ثم جاءه الجاه، وبدأ كلام الناس والمدح والثناء وغيره يضيع، ثم صار مآله إلى ما قاله المؤلف- رحمه الله تعالى-: ومن طلبه للدنيا تكبَّر به وتكثر وتجبر، تجدون بعض العلماء تصرفاته مثل تصرفات السلاطين إذا مشى فكمشية أمير، وإذا تكلم فككلام ملك، وإذا أمر، وإذا نهى، وإذا تعامل وإذا.. ما يرى الناس شيئًا؛ هذا لأن النية ليست خالصة لله -جل وعلا-، وازدرى بالمسلمين العامة المساكين، هؤلاء أوادم؟ الواحد ما يعرف كوعه من كرسوعه، هذا مرده إلى الكبر، نسأل الله العافية.

طيب التكبر بعض طلاب العلم يتكبر على زميله؛ لأنه أقوى منه حافظة، أو أسرع منه فهمًا، أو وجد قبولاً عند الناس أكثر منه يتكبر عليه، والكبر يورِث الحرمان {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} [سورة الأعراف:146] مَن؟ {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [سورة الأعراف:146] فعلى الإنسان أن يلزم التواضع، وأن يعرف قدر نفسه، وكان عاقبة أمره إلى سفال وحقارة، نعم في النهاية يتبين ويتكشف، وتبين حقيقته للناس ثم يحتقرونه ويزدرونه؛ لأن الذي يتكبر على الناس كما قيل: سئل شخص: كيف ترى الناس؟ قال: أرى الناس مثل الجُعلان أو غيره، قال: هم يرونك مثل الذر أصغر، والثاني يراهم مثل الجبال يرونه أكبر، فالمسألة مردها إلى معرفة حقيقة الذات، وأنه مهما بلغ من العلم، ولو وصف بأنه بحر من بحور العلم لن يخرج عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء:85].

 فليحتسب المحدث بحديثه يحتسب الانتفاع ونفع الناس؛ رجاء دخوله في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع»، «بلِّغوا عني ولو آية» فالتبليغ هذه وظيفة أهل العلم وطلاب العلم، وهم مأمورون بهذا.

 وليبذل نفسه للطلبة الأخيار وليبذل نفسه للطلبة الأخيار لاسيما إذا تفرد، طيب قد يقول قائل: والله جاءني طالب آثار المعاصي عليه، ونيته الظاهر ما هي بصالحة، بدليل أنه مسبل، وعليه آثار، ولذا يقول: وليبذل نفسه للطلبة الأخيار، نعم نقول: أنت تؤدي ما عليك تعلم، وعل الله- جل وعلا- أن تكون سببًا لهدايته؛ لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم، هذا احرص عليه أكثر من غيره فابذل نفسك للطلاب لاسيما مع التفرُّد، يعني إذا كان البلد ما فيه أحد غيرك هذا يتعين عليك أن تبذل، إذا كان البلد بحاجة إلى علمك، يعني فيه مجموعة لكن ما يكفون، ابذل لاسيما إذا تفرد.

 وليمتنع مع الهرم وتغير الذهن، يعني الإنسان يطلب العلم عشرين، ثلاثين سنة، ثم بعد ذلك يجلس للتدريس يستمر عشرًا، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين سنة، ثم يحس بالتغير مع الكِبَر، يبدأ ينسى، أو يدب إليه الهرم والخرف، فإذا أحس بهذا يمتنع، وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته يقول: هاه اذكروا افطنوا لي إذا أحسستم بشيء امنعوني؛ لأنه قد لا يحس بنفسه، هو لا يحس، ومن نِعَم الله -جل وعلا- على الإنسان أن يحفظ جوارحه، وأن ينتقل من هذه الدنيا بكامل قواه، بعض الناس وجوده مثل عدمه، بل عدمه أفضل من وجوده، لما وصل سبعين، خمسًا وسبعين خرف، وصار لا يفقه شيئًا، ولا يعرف أحدًا، بل قد تكون مهمته في آخر حياته نشر أسراره السابقة، وهذا موجود، هذا عدمه أفضل من وجوده، لكن بعض الناس ما يحس أنه تغير، فليوصِ إخوانه وأولاده وأقرانه بأنه متى ما لاحظوا عليه شيئًا من التغير يمنعوه.

 وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته أنكم متى رأيتموني تغيرت فامنعوني من الرواية، فمن تغير بسوء حفظ، وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره؛ لأن بعض الناس تحس أنه متغير ما يضبط، فمن تغير بسوء حفظ وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره؛ لأن بعض الناس من كبار السن تحس أنه يفوِّت، يجيء لك بكلام مضبوط وكلام يعني جمل مفيدة وجمل غير مفيدة، ويكرر بعض القصص في المجلس الواحد مرتين، ثلاثًا خمسًا، ابن آدم ضعيف، يعني من أراد أن يعرف حقيقة الإنسان فليطلع على أحوال هؤلاء، لكن هناك قصص ووقائع حفرت في قلوبهم ورددوها وضبطوها وأتقنوها، بحيث كان حفظهم لها بعد التغيُّر كحفظهم لها قبل التغير، هذا عنده عشرة أحاديث عشرون حديثًا ضبطها وأتقنها، إذا كان لم يؤثر عليه هذا التغير فلا مانع من أن يحدِّث بها، ولا بأس بأن يجيز مروياته حال تغيره، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت، الإشكال في أن يحدث من حفظه، التغير في حفظه لا في كتابه، كتاب مضبوط ومتقن، فإذا أجاز رواية ما في كتابه، الكتاب ما طرأ عليه تغيير، لكن التغيير في حفظه، فلا يروى عنه من حفظه، يروى عنه من كتابه، فيجوز من كتابه لا بأس، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت، وهو فقد وعى ما أجاز يجيز، يعني يعرف أن هذا صحيح البخاري يقول: أجزتك بأن تروي عني صحيح البخاري من نسخته المضبوطة المتقنة التي ما طرأ عليها تغيير، فمثل هذا يتسمَّح فيه.

 فإن اختلط وخرِف امتُنع من أخذ الإجازة منه؛ لأنه الآن في حكم العدم، الآن هو في حكم العدم، إذا خرف وصار لا يعرف ما يجيز، ولا يعرف من يجيز، ولا يعرف كيف يجيز، ولا يعرف كيف يلفظ بالإجازة، هذا وجوده مثل عدمه.

 ومن الأدب ألا يحدِّث مع وجود من هو أولى منه لسنه وإتقانه، أنت في بلد عندك شيء من العلم بالتفسير بالحديث بالفقه بالعقيدة بالعربية بغيرها من الفنون، جاء طالب علم قال: أريد أن أقرأ عليك كتاب كذا بالعقيدة التدمرية مثلاً، وأنت تعرف أن في البلد فلانًا من الناس من أقرانك، من شيوخك، وقد يكون من طلابك من اعتنى بهذا الكتاب وضبطه وأتقنه وأحاط به، النصيحة أن تدل الناس عليه؛ لأن بعض الناس عنده شره، يحمله هذا الشره على أن يقرئ الناس كل شيء، ولا يترك فرصة لغيره، هذا ليس من النصيحة، بل الدين النصيحة، ومن نصيحة طالب العلم أنه إذا جاءك يطلب منك قراءة كتاب تدله على من له عناية بهذا الكتاب، لا يلزم أن تقرئ الناس كل شيء، لكن بعض الناس يحسن بك الظن مثلاً، تقول: والله رح لفلان عندك الشيخ الفلاني يتقن الكتاب.. يقول: والله أنا ما أريد إلا أنت، هذا يوجد، مثل هذا إذا دللته وما قبل أنت برئت من العهدة.

 وألا يحدِّث بشيء يرويه غيره أعلى منه؛ لأن العلو مرغوب فيه، والنزول مرغوب عنه، فمن النصيحة أنه إذا جاء طالب يروي عنك صحيح البخاري وأنت عندك الوسائط بينك وبين البخاري عشرون نفسًا، وواحد من شيوخك موجود بينه وبين البخاري ثمانية عشر نفسًا، يعني سنده أعلى منك، تدل هذا الطالب عليه، أو حتى من أقرانك، أحيانًا واحد من أقرانك اجتهد وحصل على إجازة من شيخ لم تدركه أنت تدل عليه.

 وألا يغش المبتدئين، بل يدلهم على المهم، يجيئك طالب مبتدئ يقول: والله ودي أقرأ عليك بالحديث تقول: تعال اقرأ بالبخاري؛ لأنك أنت محتاج للبخاري، الطالب سيضيع إذا قرأ البخاري، أنت محتاج للبخاري يا شيخ لا يا أخي هذا غش للطالب، يا أخي قل: أنت طالب مبتدئ هات الأربعين، يجيء طالب مبتدئ في المتوسط لشيخ كبير قال: إنه محتاج إلى كتاب يعينه في القضاء، هات جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، طيب ما مصلحة هذا الطالب بهذا الكتاب، لكن الشيخ محتاج لهذا الكتاب، الشيخ يدرِّس عقيدة، ويدرس التدمرية، وبحاجة إلى قراءة العقل والنقل لشيخ الإسلام، هات يا ولد، هات درء تعارض العقل والنقل ما سمعت كلام ابن القيم:

يروح الطالب مبسوطًا، ويحضر الكتاب يقرأ صفحة ما يفهم شيئًا، صفحتين، عشرًا، مجلَّدًا، الشيخ يفوته الملازم ما فهم منها شيئًا، أقول: من النصيحة أن يختبَر الطالب ويعطى على قدر مستواه، لا يحمل أكثر مما يطيق، ولتكن مصلحة الطالب مقدَّمة على مصلحة الشيخ، فالدين النصيحة، الطالب هذا مسكين يضيع عمره، بهذا يمكن تصير سببًا في صرفه عن العلم، والله أشوف واحدًا من أهل الحديث أتقن الكتب التي يحتاجها طلاب العلم، بل قرأ الكتب والستة وغيرها، ثم يجيء طالب مبتدئ يقول: هات علل الدارقطني، هذا غش للطالب، الطالب إذا قرأ بعلل الدارقطني مجلدًا فلن يُقبِل على العلم أصلاً وهو ما يعرف شيئًا.

 وألا يغش المبتدئين، بل يدلهم على المهم، فالدين النصيحة، فإن دلهم على معمَّر عامي شخص عالي الأسانيد، لكن بلغ مائة سنة يقرؤون عليه ويجيزهم، لكنه لا يستطيع أن يحل لهم أدنى إشكال، وعلم قصورهم في إقامة مرويات العامي نصحهم ودلهم على عارف يسمعون بقراءته، نعم لأنه ليس المقصود، العلو مقصود ومطلوب عند أهل العلم ومرغوب، لكن هل العلو يعادل الثمرة العظمى من هذه النصوص التي هي الاستنباط؟ ما يعادل، فإذا عرفت أن هذا يفيدهم أكثر من مسألة علو؛ لأن مسألة العلو والنزول تكميلي تحسيني، فإذا وجد علو مع ضبط وإتقان نور على نور، وإلا فالثمرة العظمى من النصوص الاستنباط والعمل، نصحهم ودلهم على عارف يسمعون بقراءته، أو حضر مع العامي، وروى بنزول؛ جمعًا بين الفوائد، حضر مع العامي، ذهب إلى الحافظ الضابط المتقن ولو كان سنده نازلًا، وقرأ على العامي؛ ليدرك مصلحة وفائدة العلو، يقرأ على هذا وعلى هذا، هذا يستفيد منه العلو، وهذا يستفيد منه الضبط والإتقان وحل المشكلات.

 وروي أن مالكًا -رحمه الله- كان يغتسل للتحديث، يهتم للتحديث، ولا يحدِّث إلا على أكمل هيئة؛ هيبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- وهيبة لكلامه، كان يغتسل للتحديث ويتبخر ويتطيب ويلبس ثيابه الحسنة؛ لأنه يلفظ بكلام مَن؟ كلام أشرف الخلق، ويلزم الوقار والسكينة، ويزبر من يرفع صوته، إذا رفع صوته في مجلس التحديث زبره، زجره، نهاه، نهره، لماذا؟ لأنه يرفع صوته فوق صوت النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجاء النهي عن ذلك في سورة الحجرات، والذي يرفع صوته فوق صوت النبي يُخشى من حبوط عمله، فمثل هذا النبي مات- عليه الصلاة والسلام-، لكن هذا كلامه وينزَّل منزلة لفظه، وهذا من احتياط الإمام مالك وتحري الإمام مالك.

 ويرتِّل الحديث، يعني للاهتمام به وللعناية بشأنه، ليس معنى يرتل الحديث يظهر ويدغم ويقلب ويخفي يعامله معاملة القرآن لا، لكن مع ذلك يترسل في قراءة الحديث كلمة كلمة؛ ليفهم عنه، ولا يهذرم بحيث يخفى بعض الكلمات وبعض الجمل، ويأكل بعض الحروف لا. يقول: وقد تسمح الناس في هذه الأعصار بالإسراع المذموم الذي يخفى معه بعض الألفاظ، تسمحوا لماذا؟ لأن السنة دونت في الكتب، يعني إذا ما سمعت من لفظ الشيخ وأنت معك كتاب، إذا ما سمعت الكلمة من لفظ الشيخ واضحة، وأكل بعض الحروف، الشيخ، أنت معك كتاب تكمِّل، فأنت تسمع وتراجع ما فاتك من الشيخ فتسمَّحوا؛ لأنه ليست ليس المعوَّل على السماع من لفظ الشيخ، إنما المعوَّل على ما في الكتب؛ لأنها ضبطت وأتقنت وحررت، والسماع هكذا لا ميزة له على الإجازة، يعني مجرد ما تسمع من الشيخ كلامًا أسرع فيه وهذرم، وأكل بعض الحروف إذا قال: اروِ عني صحيح البخاري وأنت في بيتك، فلا تتعب، هذا السماع لا ميزة له على الإجازة، وإذا أردنا أن نقارن؛ لأنهم يقولون: الإجازة على وجهها خير من السماع الرديء، وأنتم في دراساتكم هذه الموجودة الآن، أيهم أفضل منتسب معتني مدرِك مهتم أو طالب منتظم ينام بالفصل أو معه كتاب ثانٍ يقرأ أو جريدة أو ي؟ أيهم أفضل؟ الانتساب أفضل من مثل هذا الانتظام فالإجازة على وجهها خير من السماع الرديء، وهنا سماع رديء، بل الإجازة صدق نعم صدق، أنت تصدق حينما تقول: أجازني أذن لي أن أروي عنه صحيح البخاري أنت صادق لكن لما تقول: سمعت ما أنت بصادق؛ لأنك ما سمعت كل شيء، أكل بعض الكلمات وقمز بعض الحروف وهذرم شيئًا ما سمعته، فهي أصدق وقولك: سمعت أو قرأت هذا الجزء كله مع التمتمة ودمج بعض الكلمات كذب كذب يعني وأنا أقول مثل هذا فيمن يقول: ختمت المصحف، حتمت القرآن وقراءته فيها أكل بعض الحروف وقمز بعض الكلمات؛ لأن السرعة تجعل الإنسان قد لا يبين بعض الحروف، أو لا يخرج بعض الحروف، هذا ما ختم، والله المستعان، وقد قال النسائي في عدة أماكن من صحيحه صحيح النسائي هو سننه، وأطلق عليه كابن السَّكَن بعضهم كابن السَّكَن الصحيح صحيح النسائي، ولذا يقول الحافظ العراقي:

وذكر كلمة معناها كذا وكذا، وهذا من تحريه وهذا من تحري النسائي- رحمه الله تعالى- ولذلكم تجدونه يقول: الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع، لا يقول: حدثنا الحارث، ولا يقول: أخبرنا الحارث لماذا؟ لأنه يتحرى الألفاظ، الحارث بن مسكين طرد النسائي من الدرس، فصار النسائي يتخبأ ويسمع، الحارث بن مسكين ثقة إمام من أئمة المسلمين، فالإمام النسائي لا يفرِّط في مرويات هذا الإمام، يروي عنه، لكن ما يقول: حدثنا؛ لأنه مطرود من الدرس غير مقصود ولا أخبرنا، فيقول بدون صيغة الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع، وهذا من تحريه- رحمه الله-، لكن لو قال: سمعت، هو سمع، لكن قد يظن القارئ أنه مقصود بالسماع، وهو غير مقصود، مطرود من الدرس، وعلى كل حال هذا من شدة تحريه وضبطه وإتقانه، النسخ المطبوعة على الجادة فيها أخبرنا الحارث بن مسكين على الجادة، لكن هذا الواقع.

 وكان الحفاظ يعقدون مجالس للإملاء يحدثون، لكن هناك مجالس يعتنون بها يملونها إملاءً، ويضمنونها طرائف ونكتًا تشجع الطالب، وتنشط الطالب، وفيها يهتم الشيخ والطالب بالمجالس، الإملاء يقول: وكان الحفاظ يعقدون مجالس الإملاء، وهذا قد عدم اليوم، انقرض الإملاء، ثم أحيا هذه السنة الحافظ العراقي- رحمه الله تعالى- أحيا مجالس الإملاء، فأملى مجالس كثيرة جدًّا، ثم ولده أبو زرعة ابن الحافظ العراقي أملى مجالس، الحافظ ابن حجر أملى مجالس، السخاوي أملى، والسيوطي أملى مجالس، فهي سنة اندثرت أحياها الحافظ العراقي، وهي سنة يعني مطلوب إحياؤها بالنسبة لأهل العلم، يعتني الشيخ بضبط بعض الأمور وبعض الطرائف وبعض الأحاديث التي ينبغي أن يعتنى بها، وتدعم بالنكت والطرائف وما يعين على حضور الدرس.

 لكن مع الأسف أن مثل هذه الأمور قد لا يوجد لها طلاب، لماذا؟ أول إذا عرف الشيخ بأنه يعتني ويحرر ويحضر وكذا ويملي قالوا: سهل، مسألة إملاء لو يقعد واحد ينقل معه أو مسجل يسجل، ونحن نفرغ وتصور للطلاب كلهم؛ لأنه إملاء مجرد، ما فيه تعليق من الشيخ، لكن قبل إن ما حضرت الشيخ ونقلت أنت ونسخت أنت راح عليك، لكن الآن هذه الآلات يقولون: الإملاء ما له قيمة، صار الذي يملي يكتب ونحن نصور، والله المستعان.

 وهذا قد عدم اليوم، والسماع بالإملاء قد يكون محقَّقًا ببيان الألفاظ والمسمع، ولذا صار الإملاء أعلى طرق التحمل، لماذا؟ لما يلزم عليه من تحرّز الشيخ والطالب، يعني فرق بين شيخ يحدث على الطلاب من حفظه حدثنا فلان قال حدثنا فلان، وبين أن يكون معه كتابه معتني بتسطير هذه الكلمات وهذه الأحاديث وهذه الفوائد، ثم يمليها إملاءً على طلابه، والسماع بالإملاء يكون محققًا ببيان الألفاظ للمسمع والسامع؛ لأن الفائدة من الإملاء أن يكتب الطالب، فلا تأتي معه هذرمة، إذا كانت هذرمة قال الطالب: أعد، وإلا فما الفائدة من الإملاء؟ المدرسون ما يعانون من هذا من كثرة ما يقول الطلاب: أعد؟ يعانون معاناة، يعني إذا صار الشيخ ما يوضح الكلام يقال له: أعد، ولذا يكون السماع بالإملاء يكون محققًا ببيان الألفاظ من المسمع والسامع.

 وليجتنب رواية المشكلات عما لا تحتمله قلوب العامة، يعني الأمور المتشابهة التي توقع عوام الناس في حرج، ما فائدة إلقاء الشبه على الناس التي تربكهم وتؤثر في عقائدهم، مثل هذه لا يجوز إلقاؤها على العامة، وليجتنب رواية المشكلات مما لا تحتمله قلوب العامة، فإن روى ذلك فليكن في مجالس خاصة، يعني مع طلاب علم يفقهون ويفهمون، وتحتمل عقولهم لا بأس، لكن في درس بالمسجد بين الأذان والصلاة في شرح حديث النزول لشيخ الإسلام؟! ممكن؟! العوام يحتملون مثل هذا؟! ما يمكن، فالذي لا تحتمله قلوب العامة يجتنبه العالم وطالب العلم.

 ويحرم عليه رواية الموضوع الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي -عليه الصلاة والسلام- يحرم أن يرويها للناس إلا مقرونة ببيان وضعها، وأنها موضوعة، ولا بد أن يبيِّن معنى الموضوع، لأن بعض الناس ما يفهم معنى الموضوع، المعدة بيت الداء حديث موضوع، ثم يطلع العامي يحدث ما شاء الله هذا موضوع، طيب تحدث عنه الشيخ المعدة بيت الداء فما معنى موضوع؟! العامي ما يفهم معنى الكلمة.. تقول: هذا مكذوب النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قاله، هذا زور وبهتان على النبي -عليه الصلاة والسلام- تقول: هذا موضوع، الحافظ العراقي لما سئل عن حديث قال: هذا كذب لا أصل له، فجاء شخص من العجم ينتسب إلى العلم وطلب العلم وقال: يا شيخ كيف تقول موضوع وهو مروي في كتب السنة بالأسانيد قال: جزاك الله خيرًا أحضره لنا نشوف الأسانيد، فجاء به من الغد من كتاب الموضوعات لابن الجوزي فتعجبوا من كونه لا يعرف الموضوع، الموضوع هذا في القرن التاسع، بل في الثامن، كيف الآن؟ كيف يفهمون الموضوع؟ ما يفهمون شيئًا، فلا بد من بيان وضعه، وأنه مكذوب على النبي -عليه الصلاة والسلام-. ومثله المطروح الذي لا يصل إلى درجة الوضع، ولكنه شديد الضعف إلا أن يبينه للناس؛ ليحذروه.

"الثقة تشترط العدالة في الراوي كالشاهد، ويمتاز الثقة بالضبط والإتقان، فإن ضاف إلى ذلك المعرفة والإكثار فهو حافظ."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: الثقة، والثقة من جمع بين وصفي العدالة والضبط، من جمع بين وصفي العدالة والضبط.

إلى آخره .. المقصود أن شرط قبول الراوي لا بد أن يكون عدلاً ضابطًا، والعدالة والضبط سبق شرحهما في تعريف الحديث الصحيح، ولا يمنع من أن يعاد باختصار، العدالة ملكة يقولون: ملكة تحتمل على ملازمة التقوى والمروءة، ملازمة التقوى والمروءة. والضبط الحفظ سواء كان في ضبط الصدر أو ضبط الكتاب، وضبط الصدر له شروط، وضبط الكتاب له شروط، وتقدم الحديث عنه، وتشترط العدالة في الراوي كالشاهد {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [سورة الطلاق:2]. ويمتاز الثقة بالضبط والإتقان، لا بد أن يكون عدلاً ضابطًا متقنًا ليكون ثقة، فلو توافر فيه شرط العدالة ولم يكن حافظًا ولا ضابطًا لا يقبل خبره، وإذا كان حافظًا ضابطًا متقنًا، لكن العدالة عنده أقل الديانة عنده لم تتوافر هذا لا يقبل؛ لأنه لا يؤمَن على الحديث، فإن انضاف إلى ذلك المعرفة والإكثار فهو حافظ يعني إذا كان مع كونه حافظًا ضابطًا متقنًا عدلاً ثقة إذا كان مكثرًا من الرواية وعارفًا وخبيرًا فهو حافظ.

"والحفاظ طبقات في ذروتها أبو هريرة- رضي الله عنه-، وفي التابعين كابن المسيَّب، وفي صغارهم كالزهري، وفي أتباعهم كسفيان وشعبة ومالك ثم ابن المبارك ويحيى بن سعيد ووكيع وابن مهدي، ثم كأصحاب هؤلاء كابن المديني وابن معين وأحمد وإسحاق وخلق، ثم البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم، ثم النسائي وموسى بن هارون وصالح جزرة وابن خزيمة، ثم ابن الشرقي.

 وممن يوصف بالحفظ والإتقان جماعة من الصحابة والتابعين، ثم عبيد الله بن عمر وابن عَون ومسعَر، ثم زائدة والليث وحماد بن زيد، ثم يزيد بن هارون وأبو أسامة وابن وهب، ثم أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأحمد بن صالح، ثم عباس الدوري وابن وارة والترمذي وأحمد بن أبي خيثمة وعبد الله بن أحمد، ثم ابن صاعد وابن زياد النيسابوري وابن جوصى وابن الأخرم، ثم أبو بكر الإسماعيلي وأبن عدي وأبو أحمد الحاكم، ثم ابن منده ونحوه، ثم البرقاني وأبو حازم العبدوي، ثم البيهقي وابن عبد البر، ثم الحميدي وابن طاهر، ثم السِّلَفي وابن السمعاني، ثم عبد القادر والحازمي، ثم الحافظ والضياء وابن سيد الناس خطيب تونس، ثم حفيده حافظ وقته أبو الفتح، وممن يعد من الحفاظ في الطبقة الثالثة عدد من الصحابة، وخلق من التابعين وتابعيهم وهلم جرا إلى اليوم.

 فمثل يحيى القطان يقال فيه: إمام وحجة وثبت وجهبذ وثقة ثقة، ثم ثقة حافظ، ثم ثقة متقن، ثم ثقة عارف، وحافظ صدوق، ونحو ذلك فهؤلاء الحفاظ الثقات إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين، ثلاثة، ومن كان بعدهم فأينما ينفرد به ما علمتهم وقد يوجَد، ثم ننتقل إلى اليقظة الثقة المتوسط المعرفة والطلب فهو الذي يطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال الصحيحين فتابعيهم إذا انفرد بالمتن خرج حديثه ذلك في الصحاح، وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض، وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرًا فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به مثل عثمان بن أبي شيبة وأبي سلمة التبوذكي وقالوا: هذا منكر، فإن روى أحاديث من الأفراد المنكرة غمزوه ولينوا حديثه، وتوقفوا في توثيقه، فإن رجع عنها وامتنع من روايته وجوز على نفسه الوهم فهو خير له وأرجح لعدالته، وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ، فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يُقر على خطأ."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: بعد أن عرَّف الثقة والحافظ قال: الحفاظ طبقات، طبقات باعتبارات؛ طبقات باعتبار الزمن، وطبقات باعتبار القوة، فباعتبار الزمن في ذروتها أبو هريرة- رضي الله عنه- الذي هو حافظ الصحابة حافظ الصحابة، الذي لم يحفظ أحد من الصحابة مثله ولا ما يقاربه ويدانيه؛ بسبب ملازمته للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وبسبب الدعوة النبوية لما بسط رداءه فدعا النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم ضمه فلم ينس شيئًا كما في الصحيح. في التابعين يعني في طبقة التابعين ابن المسيب إمام من أئمة المسلمين وحفاظهم هو أفضل التابعين عند الإمام أحمد، وإن كان بعضهم ينازعه في أويس القرَني، المقصود أنه بالنسبة للعلم هو مقدمهم، وفي صغارهم كالزهري، هذا في صغار التابعين محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الذي جمع السنة في عهد عمر بن عبد العزيز، وفي أتباعهم أتباع التابعين أتباع الأتباع كسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وسفيان قيل فيه ذلك ومالك نجم السنن هؤلاء متميزون، ثم طبقة تليهم كابن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي، ثم تلاميذهم كعلي بن المديني ويحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وخلق، هذه مجرد أمثلة على هذه الطبقات، ثم بعد ذلك الأئمة البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم، ومسلم أخَّر مسلم عن أبي داود وعن أبي زرعة وعن أبي حاتم؛ لأن كلامهم في العلل أكثر، وأبو داود يحفظ مئات الألوف من الأحاديث. ثم النسائي طبقة تليهم وموسى بن هارون الحمال وصالح بن محمد جزرة وإمام الأئمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة، ثم ابن الشرقي وهو أبو حامد أبو حامد ابن الشرقي. وممن يوصف بالحفظ والإتقان جماعة من الصحابة والتابعين أولئك حفاظ وهؤلاء يوصفون بالحفظ والإتقان يعني منزلتهم أقل، جماعة من الصحابة والتابعين ثم عبيد الله بن عمر وابن عون ومسعر عبد الله بن عون ومسعر بن كِدام ثم زائدة بن قدامة والليث بن سعد وحماد بن زيد، ثم يزيد بن هارون وأبو أسامة حماد بن أسامة وابن وهب عبد الله الإمام المصري المعروف، ثم يليهم طبقة أبي خيثمة زهير بن حرب شيخ الأئمة وأبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأحمد بن صالح المصري، ثم عباس الدوري الذي يروي عن الأئمة لاسيما ابن معين، وابن وارة إمام معلِّل من كبار أئمة الحديث، لكن يتبين بهذا فضل التصنيف، ابن وارة يعادل أحمد، يعادل ابن معين يعادل الأئمة الكبار، لكن ما حفظ علمه، ينقل عنه بعض الأشياء، لكن هذا يبين لنا أهمية التأليف، يقول: كثير من طلاب العلم تقول له: ابن وارة، من ابن وارة هذا؟ ما يدري من هو؟ لماذا؟

 لأنه ما له مؤلفات متداولة بين الناس كالأئمة والترمذي وأحمد بن أبي خيثمة وعبد الله بن أحمد ثم ابن صاعد يحيى بن صاعد وابن زياد عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري صاحب الزوائد وابن جوصى، ابن جوصى هذا شيخ ابن خزيمة الراوي عن ابن خزيمة يروي عنه ابن خزيمة، ويروي عن ابن خزيمة، يعني هم من الأقران، وابن الأخرم محمد بن العباس بن الأخرم تنقل عنه بعض الأقوال وإن كانت ليست كثيرة، وهو شيخ من شيوخ الحاكم وغيره ثم أبو بكر الإسماعيلي، أبو بكر الإسماعيلي إمام من أئمة المسلمين يقول الذهبي في تذكرة الحفاظ: من عرف حال هذا الرجل جزم يقينًا أن المتأخرين على يأس تام من لحاق المتقدمين وابن عدي أبو أحمد بن عدي صاحب الكامل وأبو أحمد الحاكم صاحب الكنى وغيره، ثم ابن منده محمد بن إسحاق، ثم البرقاني، ثم أبو حازم وأبو حازم العبدوي، ثم البيهقي وابن عبد البر طبقة تليهم، وفي طبقة ابن عبد البر الخطيب البغدادي ثم الحميدي، الحميدي شيخ البخاري عبد الله بن الزبير أو صاحب الجمع بين الصحيحين محمد بن أبي نصر فتُّوح صاحب الجمع بين الصحيحين وابن طاهر أبو الفضل بن طاهر، ثم الحافظ السلفي وابن السمعاني، المقصود أنه مجرد تعداد هذا، ثم عبد القادر الرهاوي صاحب الأربعين والحازمي صاحب الناسخ والمنسوخ أئمة الكبار، ثم الحافظ الضياء المقدسي صاحب المختارة وابن سيد الناس أبو الفتح اليعمري خطيب تونس، ثم حفيده الجد هذا الجد خطيب تونس، ثم حفيده حافظ الوقت أبو الفتح اليعمري، هذا ابن سيد الناس المعروف شارح الترمذي، وله السيرة المشهورة عيون الأثر وفنون المغازي والشمائل والسِّيَر.

 وممن يعد من الحفاظ في الطبقة الثالثة؛ لأنه ذكر حفاظ ثم ثقات أثبات ثم طبقة ثالثة تليهم عدد من الصحابة وخلق من التابعين وتابيعهم وهلم جرا إلى اليوم.

 ثم بعد ذلك ذكر مراتب التعديل، مراتب التعديل عند أهل العلم أول من هذبها ورتبها ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل، وجعلها أربعًا أربعًا، أربع للتعديل وأربع للتجريح، وتبعه على ذلك ابن الصلاح، ومن اختصر كلام ابن الصلاح ثم الحافظ الذهبي والعراقي زادا مرتبة مرتبة، فصارت خمسًا للتعديل وخمسًا للتجريح، ثم جاء الحافظ ابن حجر فجعلها ستًّا وستًّا، فسرد المراتب في اثني عشر طبقة، ثم جاء السخاوي والسيوطي فزادا على ذلك.

 على كل حال يقول مثل يحيى القطان في أعلى المراتب يقال فيه: إمام، ويقال فيه: حجة، ويقال فيه: ثبت، ويقال فيه: جهبذ نقاد خبير، ويقال فيه: ثقة ثقة، فعنده هذه المرتبة الأولى من يقال فيه: إمام ويقال فيه: حجة ويقال فيه: ثبت ويقال فيه: جهبذ، ويقال: ثقة ثقة.

 ابن حجر جعل في تقريب التهذيب الطبقة الأولى الصحابة، وفي النخبة وشرحها جعل الطبقة الأولى مثل فلان لا يسأل عنه، إليه المنتهى في التثبت، ثم بعد ذلك ما كرر فيه لفظ التعديل ثقة ثقة، ثم المرتبة الثانية عند الحافظ الذهبي هنا ثم ثقة حافظ، وهي المرتبة الثالثة عند ابن حجر وغيره، ممن جعلوا المراتب ستًّا، ثم ثقة متقن هذه لا يبعد أن تكون في نفس المرتبة، ثم ثقة عارف وحافظ صدوق هذه لا تجري على قواعد المتأخرين؛ لأن المتأخرين ثقة عارف وثقة متقن وثقة حافظ ما تختلف، نعم بينها اختلاف يسير، لكن ما تختلف بحيث تكون هذه في مرتبة، وهذه في مرتبة، يعني حتى هو في مقدمة الميزان ما فعل هذا، جعل المرتبة الأولى ثقة ثقة، والثانية ثقة، والثالثة صدوق، والرابعة لا بأس به وما أشبه ذلك، فحافظ صدوق جعله في المرتبة الرابعة مع أن عنده في الميزان غير هذا الترتيب، فهؤلاء الحفاظ الثقات إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح إذا وصف بأنه ثقة متقن أو ثقة عارف أو ثقة حافظ أو ثقة ثقة، هؤلاء إذا انفرد الرجل منهم من التابعين حديثه صحيح لا يتردد في قبوله، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب للتفرد؛ لأن الغرابة تفرد الراوي، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، وإن كان راويه ثقة، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين ثلاثًا، يعني هؤلاء الحفاظ الأثبات، يعني كيف نختبر حفظ الراوي؟ نختبر حفظ الراوي بموافقة الآخرين، لكن إذا كثر تفرده عنهم لم يستحق أن يسمى حافظًا إذا كثر تفرد الراوي يعني كيف نختبر أن هذا حافظ؟ نختبره بعرض روايته على روايات الحفاظ، إذا كان يوافقهم قلنا: حافظ، إذا كان يخالفهم قلنا: ليس بحافظ.

ومن كان بعدهم فأين ما ينفرد به ما علمته وقد يوجَد، يقول: هكذا وقعت العبارة في الأصل فأين ما ينفرد، ولعل صوابها قل ما ينفرد به؟ نادر أين ما ينفرد به؟ نعم قد يطلق ويراد بها القلة وقد يوجَد، وضح ذلك بقوله: قد يوجد؛ لأن قد هنا للتقليل ثم ننتقل إلى اليقظة إلى اليقِظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب يعني ليس من الحفاظ الأثبات فهو الذي يطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال الصحيحين جمهور رجال الصحيحين، فتابعيهم إذا انفرد بالمتن خرج حديثه ذلك في الصحاح، وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة؛ لأن الغرابة مظنة للمخالفة، التفرد، ولذا جاء التحذير من تتبع الغرائب جاء التحذير من تتبع الغرائب؛ لأن تفرد الراوي بخبر الذي لا يوافقه عليه غيره يعني مظنة لأن يكون ما حفظه ولا ضبطه ولا أتقنه، مظنة لأن يخطئ، فإذا أخطأ ما يوجد من يصوبه؛ لأنه لا يوافق على روايته، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض، قد يوجد في كتب السنة حديث من هذه صفته.

 وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرًا، نعم يطلقون النكارة على تفرد من لا يحتمل تفرده، وقد يتجوَّزون فيطلقونه على مطلق التفرد كما هنا. فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به مثل عثمان بن أبي شيبة وأبي سلمة التبوذكي وقالوا: هذا منكر؛ لأنهم يطلقون النكارة بإزاء التفرد، فإن روى أحاديث من الأفراد المنكرة، يعني روى عدة أحاديث كلها مما ينكَر عليه غمزوه ولينوا حديثه، وأكثر من يهتم برواية منكرات الراوي ابن عدي في الكامل، وتوقفوا في توثيقه، فإن رجع عنها وامتنع من روايتها لما يناقَش يقال: أنت تفردت بهذا الحديث، خالفك فلان وفلان وفلان، ولم يوافقك أحد عليه، إن رجع عنها وامتنع من روايتها يعني صار عنده ثاني حال؛ لأن التفرد في الغالب يعني عدم موافقة الآخرين لا بد أن يكون عند الإنسان تردد، فإن رجع عنها وامتنع من روايتها حتى يوافَق عليها وجوَّز على نفسه الوهم فهو خير له وأرجح لعدالته، يدل على أنه متحرٍّ في روايته، هذا أرجح لعدالته، وليس من حد الثقة ألا يغلط ولا يخطئ، من الذي يعرى من الخطأ والنسيان؟!

 المسألة مفترضة في رجال غير معصومين، نعم يتفاوتون في مقدار الخطأ والضبط، مالك نجم السنن ضبط عليه بعض الأخطاء والأوهام، يعني ما يتصور أن الراوي ولو كان من الصحابة أنه معصوم، لا، يحصل الخطأ، لكن إذا نبه على هذا الخطأ يرجع، فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يُقَر على خطأ؟ لأن المعصوم إذا أخطأ جاء التوجيه الإلهي جاء الوحي بتنبيهه فلما اجتهد في مسألة الأسرى أسرى بدر وكان اجتهاده مرجوحًا وفعله خلاف الأولى -عليه الصلاة والسلام- جاء العتاب في سورة الأنفال، فهو لا يُقَر على الخطأ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.