التعليق على تفسير القرطبي - سورة طه (04)

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك: خبر بمعنى مخبوز.

خبز.

خبز بمعنى مخبوز. وأكل بمعنى مأكول.

أُكل.

وأُكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37] أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك..

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، أجاب الله دعاءه، وحقق له طلبته، والغالب على دعوات الأنبياء أنها مجابة، لكن ليس بالضرورة أن يجاب كل شيء كما في دعوات النبي- صلى الله عليه وسلم- بعضها مجاب، وبعضها منع من إجابته لأمر يريده الله – جل وعلا -.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37] أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم .

حينما قتل نفسًا، حفظه الله وصانه، فلم يتمكن أعداؤه منه.

والمن ]ص:115[ الإحسان والإفضال.

وقوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:38]

قيل: أوحينا ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه:39] قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت..

يلزم على المؤلف نظير ما قال بنبوة مريم أن يقول بنبوة أم موسى؛ لأنه أوحي إليها، يلزمه أن يقول بنبوتها، قد رجح المؤلف أن مريم نبية، وعامة أهل العلم على أن النبوة خاصة بالرجال، وأن الوحي لا يلزم منه البعث ولا النبوة ولا الإرسال، وابن حزم يرى أن من النسوة جمع نبيات أوصلهن إلى ست كلهن أنبياء.

قال مقاتل :مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره، وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز .

جميز ما علق عليه؟

طالب: لا.

طين؟

طالب: .........

طالب: بالضم أم بالكسر؟

طالب: ............

لا لا طين.

طالب: .............

أول الثاني...

جمز الإنسان والبعير وغيره جمزًا، والجميز الخبيط، والجميز التين الذكر، وهو حلو وألوان.

كيف يتخذ؟

طالب: من خشبة.

يعني من جزوعه؟ احتمال.

الطين إذا كان يمكن صناعة الفخار منه، يصنع منه الفخار ويسمى أيضًا ذكرًا، وهي لغة دارجة في تغسيل الميت، إذا لم ينقطع الخارج قالوا: يوضع على المخرج طين، خرقة أو طين، المهم أنه طين من هذا النوع الذي يستمسك، وأردفوها بكلمة ذكر، والمعلق قال: حر، لأن في عرفهم الطين حر، فأشكل على بعض القراء أنه ذكر حر، تشكل على كثير من القراء الذين لا يفهمون ملابسات التركيب، نقول: يشكل على بعض القراء، إذا علق على بعض كتب الفقه بهذا، لكنها غير دارجة، غير مألوفة عند الناس، فتشكل على القاريء، كيف؟ هو أصله طين، لكن ذكر حر مشكلة بعد، فأشكلت على القاريء واستدرك وما يفهم المقصود. إذا أراد شخص أن يعلق بمثل هذه العبارات التي قد تفهم على غير مراد المؤلف ينبغي أن يبسط التعليق؛ فيزيل اللبس.

{فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:39] أي اطرحيه في البحر: نهر النيل {فليلقه} قال الفراء: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:39] أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم.

فيكون يلقه جواب الطلب.

وكذا قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]. {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ} [طه:39] يعني فرعون؛ فاتخذت تابوتًا، وجعلت فيه نطعًا، ووضعت فيه موسى، وغيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه، ثم ألقته في النيل.

طلته بالقار؛ لئلا يدخل عليه الماء، ولولا أنه امتثال للأمر الإلهي، لقلنا إن طليه بالقار يعرضه لانقطاع الأكسجين عنه، إذا طلي بالقار؛ لئلا يدخل الماء، يمكن أن يدخل الهواء؟ ما يمكن أن يدخل الهواء، فهذا لولا أنه امتثال للأمر، والله – جل وعلا - لما أمر بهذا لابد أن يحفظه.

وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبًّا شديدًا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل ، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم.

 وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورًا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنًا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم .

مثل هذه الأخبار تحتاج إلى نقل صحيح، مثلها لا يصدق ولا يكذب؛ لأنها منطبقة على أهل الكتاب.

وقيل: وجدته جوارٍ لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيًّا من أصبح الناس وجهًا، فأحبه فرعون فذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت فيك حسنًا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى وألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك.

{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني..

تتصل المحبة بالرحمة، لا شك أن المحبة تولد الرحمة، لكن ليست هي الرحمة.

قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون، فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئًا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري، فذهبن بالتابوت إليها مغلقًا، فلما فتحته رأت صبيًّا لم يرَ مثله قط، وألقي عليها محبته، فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]: قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لو أن فرعون قال: نعم، هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق». فقالت: هبه لي ولا تقتله، فوهبه لها.

خرجه الحديث؟ خرج؟

طالب: خرجه، قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. ذكر في الحاشية قال: وبعد الخبر في المطول، أخرجه الطبري عن ابن عباس في المطول، وهذا المرفوع جعله الطبري أيضٍا من قول ابن عباس، وجعله غيره مرفوعٍا، انظر الدر، ويأتي في سورة القصص، انظر تخريجه من تفسير الشوكاني في ذكر الحديث 1600 التخريج.

وقيل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي تربى وتغذى على مرأى مني، قاله قتادة . قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، يقال: صنعت الفرس وأصنعته إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} [طه:40] على التقديم والتأخير، ف (إذ) ظرف لتصنع. وقيل: الواو في ولتصنع زائدة. وقرأ ابن القعقاع: (ولتصنع) بإسكان اللام على الأمر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب.

الفرق بين اللامين المكسورة والساكنة؛ أن المكسورة للتعليل، والساكنة للأمر.

وقرأ أبو نهيك (ولتصنع) بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي وعلى عين مني. ذكره المهدوي. {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} [طه:40] العامل في {إِذْ تَمْشِي} [طه:40] ألقيت أو (تصنع). ويجوز أن يكون بدلاً من {إِذْ أَوْحَيْنَا} [طه:38] وأخته اسمها مريم، {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40] وذلك أنها خرجت متعرفة خبره.

اسمها مريم، ويقول بعضهم: إنها هي أم موسى، لكن بينهم مفاوز، قرون، بين أم موسى وعيسى، كم سنة؟ كم بينهم؟

طالب: ..........

الآن عيسى له ألفان وكم؟ من سنيهم ألفان وخمسة، لكن من سنينا؟ كل مائة يضاف لها 3 سنين، 3 في 20 ستين، 2065 أو 2066 سنة، كم يكون بينه وبين أم موسى؟ وفي حديث: «مثلكم ومثل من قبلكم، كمثل من استأجر أجيرًا، فعمل له إلى نصف النهار بدينار، ثم استأجر أجيرًا إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيرًا ثالثًا من العصر إلى آخر النهار بدينارين»، فيجعلون مدة عيسى مع مدة محمد تعادل مدة موسى؛ لأنه نصف النهار، ومدة عيسى مع مدة محمد –عليه الصلاة والسلام- النصف الثاني، ويستدلون بهذا على أن مدة محمد 1400 سنة مع الـ600 مدة عيسى يكون المجموع 2000، لكن هذا بعيد، هم أخذوه من هذا الحديث، أخذوا هذه المدد من هذا الحديث، واستروحوا إلى أن الـ 1400 هي نهاية هذه الأمَّة، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، ولا يعني أن التمثيل يطابق المشبه به من كل وجه، وإلا كون اليهود عملوا نصف النهار يعني أن مدتهم تعادل مدة النصارى والمسلمين، هذا بمقتضى كونهم عملوا إلى نصف النهار، لكن لا يمنع أن يكون المراد به أن عملهم أشق، والتشديد عليهم أكثر والتكليف عليهم أعظم، بما يعادل عمل النصارى وعمل المسلمين؛ لأن الواقع يرد هذا القول، لو كان نظرنا إلى تقدير الزمان، وجدنا أيضًا أنه حتى في الحديث، إذا افترضنا هذا، في الحديث أن مدة النصارى أطول من مدة المسلمين؛ لأن وقت الظهر أطول من وقت العصر في كل زمان وفي كل مكان، والواقع يشهد بخلاف ذلك، فدل على أن مثل هذا غير مقصود، يعني وقت الظهر أطول من وقت العصر، هذا في كل وقت وفي كل بلد، هذا هو المقرر، وإن استدل الحنفية على أن وقت الظهر، من هذا الحديث استدلوا على أن وقت الظهر يستمر إلى أن يكون ظل الشيء مثليه، لماذا؟ الجمهور على أن وقت الظهر إلى مصير ظل الشيء مثل واحد، وعلى ذلك وعلى قول الجمهور يكون الظهر أطول من العصر في كل زمان ومكان كما قرر الأئمة، والواقع يشهد به، والتقويم ماشٍ على هذا، أن وقت الظهر أطول، حتى على قول الجمهور بأن مصير الظل مثله هو نهاية وقت صلاة الظهر، والاستدلال بمثل هذه الأمور التي فيها شيء من البعد، الخبر سيق لأمر من الأمور ويقرر شيئًا لا يلزم منه الاستدلال بجميع أجزائه، لا يلزم الاستدلال بجميع أجزائه وكل ما يفهم منه.

كما صنع بعضهم في حديث «افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» قال: الحائض لا تقرأ القرآن، من هذا الحديث؛ لأن الحاج يقرأ القرآن، الحاج يصلي، فتصلي؟ لا تصلي، فمثل أن الانتزاع من هذه العمومات التي لم يرد سياقها لبيان هذه الأمور، والاستدلال بها مع وجود النصوص التي سيقت في خصوص هذه المسائل، لا شك أنه إبعاد في النجعة، يعني نترك الحديث المحكم حديث عبد الله بن عمر، وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، نترك هذا المحكم ونأتي إلى مثل هذا الحديث الذي لم يسق لكل الأوقات، وهم استدلوا به.

{فتقول: هل أدلكم على من يكفله} وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، وكان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا، فقالت: إنه لا لبن لي، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بثلاث. وقيل: بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل Kفرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها. قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديه. {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى} [طه:40] وفي مصحف أبي (فرددناك).

اللبن هو لبن موسى كما هو معروف، لبن أمه، ثاب عن حملها به وولادتها له، لكن لا تريد أن تبين أنه ولد فلانة مثلاً ليعرف أنه من بني إسرائيل الذين هم الخطر الذي يهدد فرعون فيقتل.

{كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40] وروى عبد الحميد عن ابن عامر {كَيْ تَقِرَّ عَيْنُهَا}  بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينًا وقررت به قرة وقرورًا فيهما. ورجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر، نقيض سخنت.

قرت يعني بردت، القر هو البرد، وهو نقيض سخنت، وعلى ما يقال: إن دمعة الفرح والسرور باردة، ودمعة الحزن حارة، فإذا قالوا: قرت عينه يعني بردت، لكونه مسرورًا أو الذي يكون مسرورًا فرحًا، بخلاف ما إن قالوا: حميت أو احترت، المقصود أنه هذا المراد منه، والقر يقابله الحر، كما يقال: ليتولى حاره من تولى قاره، يعني الذين يقومون بالحار والشدائد هم الذين على رأس هذا الأمر وقت برود الأمر وعدم وجود الشدائد فيه، فليتول حاره من تولى قاره.

وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في (مريم).

{وَلا تَحْزَنَ} [طه:40] أي على فقدك. {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} [طه:40] قال ابن عباس: قتل قبطيًّا كافرًا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ، على ما يأتي. {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40] أي آمناك من الخوف والقتل والحبس ]ص:117[ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] أي اختبرناك اختبارًا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاءً. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصًا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفًا يترقب، ثم رعايته الغنم؛ ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له: أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليمًا، وقد مضى في (النساء).

المفسرون يذكرون حديث الفتون، في هذه الآية، {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] ويذكرون فيه حديث الفتون. الثالث، أي هن؟

طالب:.....

ثالث، ثالث يبدأ من الإسراء، آية أربعين.

طالب:.....

لا، لا اقطعه.

طالب:.....

طويل. وقال الإمام أبو عبيدة الرحمن أحمد بن شعيب النسائي –رحمه الله- في كتاب التفسير‏:‏ من ‏(‏سننه‏)‏ قال: }وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً‏{ ‏[‏طه‏:‏40‏]‏ حديث الفتون‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، قال: حدثنا القاسم بن أبي أيوب، قال: أخبرني سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت عبد الله بن عباس عن قول الله –عز وجل-  لموسى، فسألته عن مساق الحديث بطوله، يقول هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه ابن عباس تلقاه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار وغيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا. الحديث بطوله.

قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ} [طه:40] يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان: يريد موافقًا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل: {عَلَى قَدَرٍ} [طه:40] على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا

 

كما أتى ربه موسى على قدر

ليكون مستحقًا لها، لاستيفاء قدره المناسب لها، وأهل العلم يختلفون في إيراد مثل هذه الآية، فيما يناسبها من الأحوال، يعني كما جاء شخص في الوقت المحدد، قال يجوز أن تقول له: جئت على قدر، يختلفون في استعمال الجمل القرآنية والتي جاءت لها مناسباتها في مناسبات تماثلها، منهم من يقول: إن هذا امتهان وابتذال للقرآن، ومنهم من يقول: إنه إذا كان المعنى ينطبق فلا مانع، وتركها أولى.

قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحيي ورسالتي. وقيل: اصطنعتك خلقتك، مأخوذ من الصنعة. وقيل: قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي. {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42] قال ابن عباس :يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]  قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة، وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر العجاج:

فما ونـى محمد مذ أن غفــــر

 

له الإله ما مضى وما غبر

والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس:..

وكله مراد في الآية.

طالب: وكله مراد؟

نعم، والونى والضعف والفتور، والكلال والإعياء، وكله مراد في الآية. عندك؟ كله مراد في الآية، هي من ثلاث نسخ.

طالب: خمس نسخ.

هم (ب) و(ج) و(ي) ثلاث نسخ.

طالب:.....

لا، لا على العطف، ثلاث نسخ، يعني التصوير الذي معك ما هو على الثانية؟

طالب:.....

لكن فيه إحالات؟

طالب: نعم فيه إحالات. لكن ما هي بواضحة.

نعم لأن الحادية عشر والثانية عشر وما قبلها، العشرة الأولى، يمكن طبع خمس مرات الأول.

طالب:.....

الصفحات متطابقة، الجزء الأول طبع يمكن خمس مرات، الثاني..

طالب:.....

لأن الطبعات تختلف عن بعضها، الأول فقط، الثاني إلى الثاني عشر طبع ثلاث مرات، ومن الثالث عشر إلى العشرين طبع مرتين فقط، أول وثانٍ فقط، بينما الأول طبع مرارًا، ثم طبع الأول والثاني والثالث أولى بدون إحالات وبدون آيات، ثم أعيد طبع الكتاب بعد ذلك بالإحالات وبعض التعاليق على الثاني عشر، ثم طبع الكتاب من أوله إلى آخره، طبعُ مقابلة على نسخ كثيرة، بعض الأجزاء على ثلاث عشرة نسخة، وبعضها على أقل، لكن أقل الأجزاء على ثلاث نسخ، فاعتني به وضبط وأتقن وذكرت الإحالات، فتأتي للجزء الأول مثلاً تجد الطبعة الأولى في صفحة 168 ما فيها ولا تعليقة، الطبعة الثانية التي تليها الثانية القديمة والثالثة فيها إحالتان فقط، تعليقان فقط، والطبعة الأخيرة فيها ثماني تعليقات على هذه الصفحة، فيحصل أحيانًا في الطبعة الأخيرة المعتنى بها شيء من الخلل، في مثل في صفحة 190 في الدرس الماضي، ذكروا إحالتين رقم 1 ورقم 2، ماذا عندك يا أبا عبد الله؟

طالب: صفحة كم؟

190، قبل 3 ورقات.

طالب: ما في شي.

ما فيه إحالات لكن في: قال: ويجوز أن يكون مصدرًا لمعنى سنعيده سنسيرها، عندك آخر السطر، لكن ما هي بموجودة، سقط السطر، وحطوا بداله حالتين، لا شك عمل البشر ليس بالدقة مثل هذا.

طالب:.....

نعم سقط، فيه سقط. فالذي يشتري الأولى كاملة والثانية كاملة يسلم له الكتاب، لكن متابعة هذه الأمور فيها مشقة. الإحالات على السابق واللاحق في كتاب مثل هذا 20 مجلدًا لابد منها، يقول لك راجع جزء كذا صفحة كذا، في كل إحالة تقدم أو تأخر، هذه تنفع، تيسر على القاريء.

وقال امرؤ القيس:

مُسَحٍ إذا ما السابحات على الونى

 

أثرن غبارًا بالكديد المركل

مِسَحٍ

 

مِسَحٍ إذا ما السابحات على الونى

 

أثرن غبارًا بالكديد المركل

 

ويقال: ونيت في الأمر أني ونى وونيًا أي ضعفت، فأنا وانٍ وناقة وانية وأونيتها أنا ]ص:118[ أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:

كأن القدور الراسيات أمامهم

 

قباب بنوها لا تني أبدا تغلي

وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود:) ولا تهنا في ذكري) وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي .

نعم لا تتأخرا ولا تضعفا ولا تفترا، والوناء من التأخر، ويسمى بهذا، قد يسمى بدل ما يقال فلان بطيء، يسمى أيضًا بطيء، ويسموه أيضًا وني، يعني متريث ليس بالعجل يتأخر، يسموه أنيان أيضًا، والمقصود أنها المعنى واضح منها.

قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43-44] فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: اذهبا قال في أول الآية: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42] وقال هنا اذهبا فقيل: أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفًا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل: بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون.

الثانية: في قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] و{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك؟ وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه، وهذا واضح.

لا شك أن الرفق واللين والحكمة مطلوبة في مثل هذه المواقف؛ لأن الهدف من الدعوة هو من الإنكار تغيير الحال، من الأسوأ إلى الأفضل، ومع الشدة لا يقبل الخصم، لكن مع اللين والرفق، لا شك أنه أدعى إلى القبول، اللهم إلا إذا أصر الخصم وعاند وظلم، فمثل هذا يسلك معه أسلوب يناسبه، قال: إني لا أظنك يا فرعون مثبورًا، هذا الكلام من اللين الذي أمر به؟ لا، لكن متى قيل هذا الكلام؟ لما أصر وعاند وكابر يناسبه مثل هذا الكلام.

الثالثة: واختلف الناس في معنى قوله: لينا فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقل أبو الوليد وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه .

كناه الله – جل وعلا - في كتابه، كنا أبا لهب، تبت يدا أبي لهب، فجاءت الكنية، لكن الكنية نفسها تشير إلى عدم الاحترام له والتقدير؛ لأنها مشتقة من اللهب، واللهب مذموم، فهي تحمل في طياتها الذم له، وإلا فالأصل أنها تكنية الرجل لا شك أنها من باب تقديره واحترامه بدلاً من أن يسمى باسمه الصريح.

وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه؛ لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملاً. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية.

لا شك أن التأليف هو المقرر في شريعتنا، وأنه إذا احتاج الموقف إلى تأليف القلب؛ طمعًا في إسلامه يؤلف قلبه، قد يعطى من الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام؛ لتأليفه ودعوته رجاء استجابته، فالتأليف معروف، وهو يعرف أيضًا بالمداراة، والنبي –عليه الصلاة والسلام- قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة»، لما دخل عليهم تبسط معهم في الكلام، وجعله يرتاح بالكلام اللين المقبول، كل هذا من باب اللين له في القول؛ لكي يقبل الدعوة، وأما المداهنة فلا تجوز بحال، مداهنة لا تجوز بحال، التي مؤداها إلى ترك واجب أو فعل محظور من أجل التأليف هذا لا يمكن أن يكون، لكن يبش في وجهه والقلب فيه ما فيه من أجل مداراته ليقبل ما يعرض عليه هذا ما وردت به النصوص، لكن المداهنة وهو أن يفعل محرم وأنت تنظر فتتركه ولا تنكر عليه، أو تداريه بترك واجب حين وقت الصلاة ثم بعد ذلك تسترسل معه، وتترك الصلاة مع الجماعة الواجبة من أجله أو من أجل ،لا ،لا، أو تضطر إلى ترك ارتكاب محرم، كل هذا مداهنة له، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، هذا ليس بمقبول أصلاً.

طالب:.....

تقي يعني نفاق، ضرب من النفاق.

وقد قال- صلى الله عليه وسلم -لصفوان بن أمية: انزل أبا وهب فكناه. وقال لسعد: ألم تسمع ما يقول أبو حباب، يعني عبد الله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى-عليه السلام- قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولاً يبلغ كلامًا حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين.

ربك أعلم بمن سيهتدي، لكن الإنسان عليه أن يبذل ما عليه، وليست النتيجة بيده، استجاب أم لم يستجب هذا ليس بيده.

وقيل: قال له موسى: تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين، على أن لك شبابًا لا يهرم إلى الموت، وملكًا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19]، وقد قيل: إن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم؛ لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.

لأن فرعون لقب، لقب من ملك مصر، ككسرى، قيصر، والنجاشي، تُبَّع، وغيرها من الألقاب التي شاعت في نواحيها.

طالب:....

ما أدري والله.

قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينًا، وشيء لين ولين مخفف منه، والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولاً لينًا، فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه، وقد قال تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. على ما تقدم في (البقرة) بيانه، والحمد لله.

لكن الفرق بين ليْن وليِّن، التخفيف والتشديد، يفرقون يمدحون بالتخفيف، وقد يذمون بالتشديد، إذا قالوا: فلان ليْن هين يمدحونه، وإذا قالوا: ليِّن أنه يوطأ، هذا عندهم عند العرب.

الرابعة: قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] معناه: على رجائكما وطمعكما، فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قاله كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم في أول (البقرة) قال الزجاج: (لعل) لفظة طمع وترجٍّ فخاطبهم بما يعقلون. وقيل: (لعل) هاهنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هي بمعنى كي. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع.

لذلك قلنا عن ابن عباس أن لعل وعسى من الله واجبة، لأنها متحققة الوقوع.

وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ولكن لم ينفعه ذلك، قاله أبو بكر الوراق وغيره، وقال يحيى بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟

يعني المسلم الذي يعترف بربوبية الله وإلوهيته، يفرده بالربوبية والإلوهية، لا شك أنه محل لرجائك.

وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل، بعد أن كنت مالكًا تصير مملوكًا، وبعد أن كنت ربًّا تصير مربوبًا. وقال له: أنا أردك شابًّا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.

يعني أن خضب اللحية تكفي لرده إلى الشباب! الله المستعان، ما فيه شك أن مثل هؤلاء المستشارين مثل هامان الذي يخيل إليه أن مصالحه تنقطع لو أسلم، مثل هذا لن يشير بما ينفع؛ استمرارًا لمصالحه ولنفاذ ما أراده الله –جل وعلا- وقدره عليهم.

قوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]. قال الضحاك: يفرط يعجل. قال: ويطغى يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، وقال الفراء: فرط منه أمر أي بدر، قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط ترك، وقراءة الجمهور: يفرط بفتح الياء وضم الراء، ومعناه: يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط مني أمر أي بدر، ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، قاله المبرد.

ومنه الفرط أيضًا الذي تقدم أهله.

وقرأت فرقة منهم ابن محيصن: (يفرط) بفتح الياء والراء، قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضًا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة: (يفرط) بضم الياء وكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضًا. ومعناه: يشطط في أذيتنا؛ قال الراجز:

قد أفرط العلج علينا وعجل

الإفراط والتفريط، أمران متقابلان، الإفراط الذي هو التشدد، والتفريط التساهل والضياع والتضييع، والحق بينهما.

قوله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. فيه مسألتان:

الأولى: قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف، والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم.

الخوف هذا جِبلِّي، جبل الله الناس عليه، فجميع المخلوقات تخاف، وخوف كل شيء بحسبه، ولا يعني أن الخوف فيه شيء من سوء الظن بالله –جل وعلا- الذي وعده وأمنه، لكن هذا جبلي لا يؤثر، جبل الله العباد عليه، فكل أمر يتوقع منه الضرر فهو مخوف، والنبي –عليه الصلاة والسلام- خاف، وعمر –رضي الله عنه- لما جاءه جاره الأنصاري ضرب عليه الباب بقوة خرج خائفًا؛ لأنهم ينتظرون عدوًّا يقدم عليهم من الشام فخاف، هذا لا يؤثر، الخوف لا شك أنه إذا اقترن به سوء الظن بالله –جل وعلا- فهو مذموم، لكن اقترن به سوء الظن بالنفس فهو ممدوح؛ لأن الإنسان لا يؤتى إلا من قبل نفسه، لا يلحقه مكروه ولا مخوف إلا بسبب ذنب ارتكبه، فإذا خاف من عقوبة ذنبه وتفريطه فهذا محمود، لكن متى يمدح الخوف، إذا بعث على عمل وعلى تغيير الحال، وقل مثل هذا في الرجاء.

ولقد أحسن البصري -رحمه الله- حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئًا سواه – قال: قد خاف من كان خيرًا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم- حين قال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20-21] وقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} [القصص:18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67-68]، ]ص:121[ قلت: ومنه حفر النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق حول المدينة تحصينًا للمسلمين وأموالهم،..

هذا من بذل الأسباب المأمور بها التي لا تنافي التوكل.

مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفًا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربًا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو أرض- البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله ورسول، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نؤذى ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم.

قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم كاذب؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.

كل هذا نقد لما قاله عامر بن عبد الله حينما ذهب ليستقي والأسد في طريقه، وقال: إنه لا يخاف غير الله –جل وعلا-، الله –جل وعلا- هو الذي ركب في هذه الحيوانات المفترسة ما ركب فيها، وهو الذي أيضًا جبل الإنسان على هذا الخوف، ولا ينافي شيئًا من اليقين والتوكل والثقة بالله –جل وعلا-.

الثانية: قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه.

وقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين .

هذه معية خاصة، الله –جل وعلا- مع خلقه مع جميع مخلوقاته بعلمه، وأما المعية الخاصة فلمثل هذا، لموسى وأخيه ومن في حكمهم، ممن كان مع الله فهو معهم بالنصر والتأييد والحفظ والتمكين.

طالب:......

هي حقيقية، لكن الله أعلم بكيفيتها، حقيقية ليست مجازية، لها معنى، وكيفيتها الله أعلم بها.

قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47] في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:47] أي خل عنهم.

أرسل يعني أطلقهم وخلهم واتركهم، كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام- لعمر: أرسله، اتركه أطلقه دعه حتى يتكلم ويبدي عن وجهة نظره، عمر آخذ بجيبه إذا يتكلم ما يمكن.

{وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47] أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه. {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47] قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس، فعجب منها، ولم يره العصا إلا يوم الزينة. {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47] قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله - عز وجل- وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.

ولا يجوز بدء الكافر بالتحية، النبي – صلى الله عليه وسلم- لما كتب لهرقل قال: السلام على من اتبع الهدى، الكافر لا تلقى إليه التحية.

طالب: يجوز إلقاؤها على المسلم؟ السلام على من اتبع الهدى؟

لا. هذه تحية غير المسلمين.

طالب:....

يعني مرحبًا، صباح الخير، صباح النور، والله إذا كان يرجى ويتألف بمثل هذا، لكن لا يؤتى باللفظ الممنوع شرعًا لا يسود، لا يقال له سيد، ولا يسلم عليه، وما عدا ذلك يدور مع المصلحة، اللفظ الذي ما يرد عليه نهي يدور مع المصلحة.

قال الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ} [طه:48] يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. {عَلَى مَنْ كَذَّبَ} [طه:48] أنبياء الله وتولى أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين؛ لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.

قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] ذكر فرعون موسى دون هارون لرءوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر؛ لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل: إنهما جميعًا بلغا الرسالة وإن كان ساكتًا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وآزره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال:  {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:43]، وقال: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوك} [طه:42] وقال: {فَقُولا لَهُ} [طه:44] فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} [طه:49] أنه كان حاضرًا مع موسى. قال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه:50] أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان، بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا، و خلقه أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي .

نعم، أعطى كل شيء خلقه، كل مخلوق له ما يناسبه، من الشكل والطباع والخلائق واللون، كل إنسان أعطاه ما يناسبه، وهؤلاء القوم كلهم من آدم إلى قيام الساعة لا تجد أحدًا يطابق غيره من كل وجه، نعم قد يتشابه بعض الناس، والنبي – صلى الله عليه وسلم- له من يشبهه، لكن مع ذلك لا تجد المشابهة تامة مطابقة من كل وجه، من أشبه الخلق اختلف في الخلق، أو العكس، من أشبه في جزئه الأعلى اختلف معه في جزئه الأسفل، أو العكس، المقصود أنه لا يوجد شخص يطابق غيره من كل وجه، فقد أعطى كل شيءٍ خلقه، والله المستعان.

{ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد :أعطى كل شيء صورة، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. وقال الشاعر:

وله في كل شيء خلقة

 

وكذاك الله ما شاء فعل

]ص:123[ يعني بالخلقة الصورة، وهو قول عطية ومقاتل. وقال الضحاك: أعطى كل شيء خلقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث، ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا: أعطى كل شيء مثل خلقه.

قلت: وهذا معنى قول ابن عباس. والآية بعمومها تتناول جميع الأقوال.

نعم جميع الأقوال متفقة والاختلاف بينها اختلاف تنوع، كل واحد يذكر فرضًا من أفراض ما يحتمله اللفظ، واللفظ يتناول الجميع بعمومه.

وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه:50] بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى .

قوله : {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51-52] فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ} [طه:51] البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم..

لا يعلم ما مضى مما لا يدرك، ما يدرك الإنسان أو ما سيأتي إلا الله –جل وعلا-، أو من أطلعه من عباده على شيء من ذلك؛ لأن هذا غيب، غيب لا يعرفه أحد من المخلوقين إلا من أطلع عليه من الله –جل وعلا-، وأفضل الخلق لا يعلم الغيب، إلا ما أطلعه الله على شيء منه.

وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى: فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأله عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدًا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة .

لكن القول الأول هو المعروف، أن جميع ما كان وما يكون مسطر باللوح المحفوظ.

الثانية: هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها؛ لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده؛ لئلا يذهب عنه.

والحفظ مهما كانت قوته إلا أنه قد يخون في وقت حاجة، فالكتابة لا شك أنها تضبط العلم، العلم صيد والكتابة قيده، يقول: قيد صيودك بالحبال الواثقة، يقول: إن من الحماقة أن تصيد غزالة وتتركها بين الخلائق طالقة، لكن لا يعني ذلك أن نعتمد على الكتابة ونهمل الحفظ؛ لأنه إذا اعتمدنا على الكتابة ضعف الحفظ، وضاع العلم بهذه الطريقة، إذا اعتمدنا على الكتاب قد نحتاج العلم في وقت ليس بأيدينا كتاب، وحينئذٍ لا نستطيع أن نتصرف مادام الكتاب مفقودًا، بعضهم يشبه المكتوب والمحفوظ بالطعام، فمثل من حفظه في جوفه مثل من طعامه التمر،  يأكل منه متى شاء، والذي علمه في الكتب طعامه مثل البر يحتاج إلى نخل، ويحتاج إلى طحن، ويحتاج إلى عجن وإلى طبخ ومعالجة، فيحتاج إلى مراجعة كتب، يحتاج إلى فهارس أحيانًا، لكن إذا كان العلم في الصدر أسعفك متى ما أردت.

طالب:......

لأنه هو الأصل، الأصل في الرواية السماع، والكتابة طارئة، حتى إنه جاء النهي عنها أول الأمر، «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن» ، كتب شيئًا غير القرآن فليمحوه، يذكر عن أبو حنيفة أنه لا يقرأ الرواية من الكتاب، لكن هذا قول فيه تشديد، المعتمد عند عامة أهل العلم اتفقوا على جواز الرواية من الكتاب، وبعضهم فضلها، فضلها على الحفظ؛ لأنها أضبط، وعلى كل حال يجب أن يتوارد الضبط على الأمرين الكتابة والحفظ.

وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي». وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «استعن بيمينك»، وأومأ إلى الخط. وهذا نص.

خرج هذا النص؟

طالب: أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ.

ناسخ الحديث أبي سعيد، لا تكتبوا شيئًا غير القرآن، هو أصح مما يصححه غيرهم من قوله–عليه الصلاة والسلام-: «اكتبوا لأبي شاه».

وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر -صلى الله عليه وسلم- بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن -لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم– قال: «قيدوا العلم بالكتابة». وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علمًا.

أي ما صار علمًا، ينساه.

وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب؛ فروى أبو نظرة قال:

أبو نضرة.

فروى أبو نضرة قال: قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنًا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء قال خالد ما كتبت شيئًا قط إلا حديثًا واحدًا، فلما حفظته محوته ، وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثًا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.

بهذا يضمن الحفظ بمحوه، والذي يحفظ ما يكتبه ويؤجل ويسوف يرجع إليه عند الحاجة وكذا في الغالب أنه يمضي العمر ما رجع إليه، ومثل هذا كثرة المصنفات وتزاحم الكتب في البيوت، مثل هذا لا شك أنه على حساب الحفظ؛ لأنه لو كانت الكتب قليلة وتعاهد الإنسان، وإذا احتاج شيئًا استعاره كتبه ونسخه، هذا لا شك أنه أثبت له، لكن الكتب موجودة كلها وعند الحاجة يرجع إلى ما يريد ويقول: الآن نبحث هذه المسألة أو غدًا، وتمضي الأيام وهو ما سوى شيئًا.

طالب:.....

يقول: الأعماق موضع من أطراف المدينة، ودابق اسم سوق بها.

قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق- أو بدابق-» الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ، منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ.

هما أمران، إما أن يكتب، فيردد ما كتبه حتى يحفظه، أو العكس، يحفظ ويتقن ثم يكتب ما حفظه؛ لئلا ينساه، وعلى كل حال إذا وجد الحفظ سواء كان أولاً أو آخرًا فهو المطلوب.

والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث، وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس - رضي الله عنهم -، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاووس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. وقال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [الأعراف:156]. وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53]. و {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه:52] إلى غير هذا من الآي.

وأيضًا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد..

خشية أن يختلط بالقرآن يكتب الحديث في صحيفة واحدة، ثم يختلط الأمر ويخفى على بعض الناس هل هو من كلام النبي – عليه الصلاة والسلام - أو مما يبلغه عن ربه من القرآن، أو خشية أن يعتمد الناس على الكتابة فيضيع العلم.

لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى، فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد..

من أهل العلم من فضل الرواية من الكتاب، عن الرواية من الحفظ، منهم من فضل الرواية؛ لأنها أفضل وأتقن وأضبط للوصول إليها عند الحاجة، أفضل من تطلب الحفظ مع بعد العهد.

فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه» خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدمًا؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضًا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضًا - حرصنا أن يأذن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتابة فأبى - إن كان محفوظًا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.

الثالثة: قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد؛ لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه، فقال لمَ تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة؛ لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوي فقال:

مداد المحابر طيب الرجال

 

وطيب النساء من الزعفران

فهذا يليق بأثواب ذا

 

وهذا يليق بثوب الحصان

وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكي..

(هذا) يعني الحبر، (يليق بأثواب ذا) من الرجال، و(هذا) يعني الزعفران (يليق بثوب الحصان) الممتنعة على غير ما تحل له، الرزان.

طالب:......

هو فرق، لكن ما أدري الفرق، لعل عندهم أنواع مما يستعملونه مما لا ندركه.

وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكي؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة، فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران، وأنشد: 

إنما الزعفران عطر العذارى

 

ومداد الدوي عطر الرجال

الرابعة: قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين، وقد كان الكلام تم في قوله: {فِي كِتَابٍ} [طه:52] وكذا قال الزجاج، وأن معنى لا يضل لا يهلك من قوله: {أَئِذَا ضَلَلْنَا} [السجدة:10]، {وَلا يَنسَى} [طه:52] شيئا؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني: لا يضل لا يخطئ؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث: لا يضل: لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة؛..

ومنهم إذا ضل في الطريق وغاب عن أعين الناس، لأنه لا يضل إلا من غاب عن أعين الناس وغابوا عنه، بحيث أنه لا يرونه ولا يراهم، يضل في الطريق ويتيه.

يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع: قاله الزجاج أيضًا وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى: أخبر الله -عز وجل- أنه لا يحتاج إلى كتاب، والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها. قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي.

 وقول خامس: إن {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] في موضع الصفة ل (كتاب) أي الكتاب غير ضال عن الله - عز وجل-؛ أي غير ذاهب عنه. {وَلا يَنسَى} [طه:52] أي غير ناسٍ له فهما نعتان ل "كتاب". وعلى هذا يكون الكلام متصلاً، ولا يوقف على كتاب. تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم أجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه: (لا يضل) بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ :{لا يضل ربي} [طه:52] أي لا يضيع، فهذا مذهب العرب.

لا شك أن النسيان منفي عن الله - جل وعلا-،  فالله – جل وعلا- ما كان نسيًّا، وما جاء من مثل قوله – جل وعلا-: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، لا شك أنه من باب المقابلة، فهم تركوا أوامر الله وتركوا امتثال ما خلقوا من أجله وهو عبودية الله – جل وعلا - فتركهم في العذاب، تركوه فتركوا، والله أعلم.

وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب:.....

الخلاف بين أهل العلم المعروف أنه يشترط التواتر أو يكفي لصحة الإسناد لإثبات القراءة، فيكون ما صح إسناده مما يقرأ به ماعده فهو شاذ تكون حينئذٍ ضعيفة، أما إذا كان من الشاذ ما هو صحيح الإسناد فمثل هذا لا يقرأ به ولا تصح به الصلاة، لكن يستفاد منه في التفسير. 

 

"