التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأنبياء (03)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:59] الْمَعْنَى لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ وَرَأَوْا مَا أُحْدِثَ بِآلِهَتِهِمْ، قَالُوا عَلَى جِهَةِ الْبَحْثِ وَالْإِنْكَارِ: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:59]. وَقِيلَ: {مَنْ} لَيْسَ اسْتِفْهَامًا، بَلْ هُوَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:59].

تكون موصولة الذي {فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:59].

 أَيْ فَاعِلُ هَذَا ظَالِمٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:60] وَهَذَا هُوَ جَوَابُ {مَنْ فَعَلَ هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:59]. وَالضَّمِيرُ فِي {قالُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:59] لِلْقَوْمِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ سَمِعُوا إِبْرَاهِيمَ، أَوِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَى" يَذْكُرُهُمْ" يَعِيبُهُمْ وَيَسُبُّهُمْ فَلَعَلَّهُ الَّذِي صَنَعَ هَذَا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَجْهِ رَفْعِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَرْتَفِعُ عَلَى مَعْنَى يُقَالُ لَهُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.

نعم يذكرهم، أي يذكرهم بالسب ويعيبهم، ومن لازم ذلك أن يفعل بهم هذا الفعل، إذ لا يتصور أن من يعظمهم ويؤلههم أن يفعل بهم هذا، ولا يوجد في البلد إلا إبراهيم عليه السلام.

فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى النِّدَاءِ وَضَمُّهُ بِنَاءٌ، وَقَامَ لَهُ مَقَامَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.

ويجوز أن يكون رفعًا على النداء وضمه بناء، الأصل في المنادى أنه منصوب، المنادى منصوب، لأن ياء النداء بمنزلة أدعو وأنادي، فالذي بعدها منصوب، لكن هو له أحوال إن كان مضافًا نصب، وإن كان مفردًا في مقابل المضاف بني على الضم في محل نصب، فهو مبني على النصب إذا قلت: يا إبراهيمُ تبنيه على الضم وهو في الأصل منصوب، لكن لو قلت: يا عبد الله لأنه مضاف نصبته على الأصل، وهنا يقول: ويجوز أن يكون رفعًا على النداء وضمه بناء، المقصود أنه منادى مبني على الضم؛ لأنه مفرد.

وَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، عَلَى أَنْ يُجْعَلَ إِبْرَاهِيمُ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى الشَّخْصِ، بَلْ يُجْعَلُ النُّطْقُ به دَالًّا عَلَى بِنَاءِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَيْ يُقَالُ لَهُ هَذَا القول وهذا اللفظ، وهذا كما تقول: زَيْدٌ وَزْنُ فَعْلٍ، أَوْ زَيْدٌ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ، فَلَمْ تَدُلَّ بِوَجْهِ الشَّخْصِ، بَلْ دَلَّلْتَ بِنُطْقِكَ عَلَى نَفْسِ اللَّفْظَةِ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَقُولُ: قُلْتُ إِبْرَاهِيمُ.

قلت: هذا اللفظ ويقال له بهذا اللفظ، وعلى هذا يكون المراد الاسم أو المسمى؟ الاسم، يراد بهذا الاسم لا المسمى، إذا قلت: إبراهيم هل تريد بذلك المسمى؟ وهل المسمى يقال، أو المراد الاسم الذي ينطق به ويقال؟ الاسم دون مسمى.

 وَيَكُونُ مَفْعُولًا صَحِيحًا نَزَّلْتَهُ مَنْزِلَةَ قَوْلٍ وَكَلَامٍ، فَلَا يَتَعَذَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبْنَى الْفِعْلُ فِيهِ لِلْمَفْعُولِ. هَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي رَفْعِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَشْبِيلِيُّ الْأَعْلَمُ: هُوَ رُفِعَ عَلَى الْإِهْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا رَأَى وُجُوهَ الرَّفْعِ كَأَنَّهَا لَا تُوَضِّحُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ، ذَهَبَ إِلَى رفعه بغير شيء، كَمَا قَدْ يَرْفَعُ التَّجَرُّدُ وَالْعُرُوُّ عَنِ الْعَوَامِلِ الِابْتِدَاءَ.

نعم؛ لأنهم يرون أن الرفع هو الأصل إذا لا يوجد ما يقتضي غيره رجعوا إليه؛ ولذلك إذا قلت: يذهب زيدٌ، يذهب فعل مضارع مرفوع لماذا؟ لتجرده عن الناقل عن الأصل، وهو الرفع عن الناصب والجازم، وهنا إذا تجرد عن العوامل عاد إلى الأصل الذي هو الرفع.

 وَالْفَتَى الشَّابُّ، وَالْفَتَاةُ الشَّابَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:60].

شابًا أي قويًّا قادرًا على تحمل الأعباء وأما كونه شابًّا المعنى اللغوي، الذي ينتهي فيه الشباب إلى الثالثة والثلاثين عندهم، أو الأربعين على قول، فليس من هذا؛ لأن الأنبياء يبعثون على الأربعين.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:61] فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ نمرود وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ، كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقَالُوا: ائْتُوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَرَوْهُ {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:61] عَلَيْهِ بِمَا قَالَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَقِيلَ: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:61] عِقَابَهُ فَلَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ. أَوْ لَعَلَّ قَوْمًا" يَشْهَدُونَ" بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُكَسِّرُ الْأَصْنَامَ.

العقوبات سواءٌ كانت بحق أو بغير حق، كونها بمرأى من الناس، لا شك أنه أردع له ولغيره؛ ولذا يقول الله -جل وعلا-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [سورة النور:2] وهذا منه وإن كان بغير حق.

أَوْ لَعَلَّ قَوْمًا" يَشْهَدُونَ" بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُكَسِّرُ الْأَصْنَامَ. أَوْ {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:61] طَعْنَهُ عَلَى آلِهَتِهِمْ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِدَعْوَى أَحَدٍ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:61] وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي شَرْعِنَا وَلَا خِلَافَ فيه.

هم أخذوه بالقرينة، هم أخذوه بالقرينة، كونه يسب الألهة استدلوا بهذا على أنه كسر الأصنام؛ ولذا القرائن إذا قويت قد تنزل عند بعض أهل العلم منزلة البينات، وإن كان هذا كله باطل، صنيعهم كله باطل؛ لأنه بغير حق، لكن يبقى أن المسألة شرعية كون الإنسان لا يؤاخذ إلا بما دلت البينات على أنه قام به، أو قامت القرائن القوية التي تقرب من البينة، أما أخذ الناس بالشكوك، والظنون، والأوهام، والوشايات، والظنون فهذه لا أصل لها في الشرع، بل هي ظلم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:62] فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: لَمَّا لَمْ يَكُنِ السَّمَاعُ عَامًا وَلَا ثَبَتَتِ الشَّهَادَةُ، اسْتَفْهَمُوهُ هَلْ فَعَلَ أَمْ لَا؟ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ أَتَى بِهِ فَقَالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِالْآلِهَةِ؟ فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:63] أَيْ إِنَّهُ غَارَ وَغَضِبَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ وَيُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ فَفَعَلَ هَذَا بِهَا لِذَلِكَ، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ. فَعَلَّقَ فِعْلَ الْكَبِيرِ بِنُطْقِ الْآخَرِينَ، تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ هُوَ الْفَاعِلُ إِنْ نَطَقَ هَؤُلَاءِ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ في قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:63].

وَقِيلَ: أَرَادَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا يتكلم ولا يعلم ولا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. وَكَانَ قَوْلُهُ مِنَ الْمَعَارِيضِ، وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ. أَيْ سَلُوهُمْ إِنْ نَطَقُوا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يَنْطِقُونَ فَلَيْسَ هُوَ الْفَاعِلَ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِر} [مريم:42] الْآيَةَ.

لأن العمى والصمم نقص وعيب، يزري بمن اتصف به، فلا يستحق العبادة.

 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:63] لِيَقُولُوا إِنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، فَيَقُولُ لَهُمْ فَلِمَ تَعْبُدُونَهُمْ؟ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأُمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ.

إنما على سبيل الافتراض، وعلى سبيل التنزل يقال مثل هذا.

 وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: {هَذَا رَبِّي} [سورة الأنعام:78]، وهذه أختي، و {إِنِّي سَقِيمٌ} [سورة الصافات:89] وَ{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:63] وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ" بَلْ (فَعَلَّهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى فَلَعَلَّ الْفَاعِلَ كَبِيرُهُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَه} [سورة الْأَنْبِيَاء:63] أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ {كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:63]. وَقِيلَ: أَيْ لَمْ ينكرون أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ؟ فَهَذَا إِلْزَامٌ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. أَيْ مَنِ اعْتَقَدَ عِبَادَتَهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ لَهَا فِعْلًا، وَالْمَعْنَى: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فِيمَا يَلْزَمُكُمْ.

فيما تدعون أنه يعقل، يستحق العبادة، هذا على سبيل التنزل، إذا كان يستحق العبادة، فلما يرضى أن يعبد غيره وهو الكبير؟ لا شك أنه هو الذي فعل هذا، كل هذا على سبيل التنزل.

 الثَّانِيَةُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النبي في شي قط إلا في ثلاث: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وَقَوْلُهُ: لِسَارَةَ أُخْتِي، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}» [سورة الْأَنْبِيَاء:63] (لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَوَقَعَ فِي الْإِسْرَاءِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: {هَذَا رَبِّي} [سورة الأنعام:78]. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَذِبَاتُ أَرْبَعًا إِلَّا أن الرسول-عليه السلام- قَدْ نَفَى تِلْكَ بِقَوْلِهِ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثِ كَذِبَاتٍ ثِنْتَيْنِ في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:63] وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سارة» الحديث لفظ مسلم، وإنما لم يَعُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:78] كَذِبَةً وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَانَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ الطفولة، وَلَيْسَتْ حَالَةَ تَكْلِيفٍ.

هذا القول على أساس أنه قاله لا على سبيل الإلزام لقومه، لا على أنه يريد أن يتدرج بهم {هـذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ} [الأنعام:77]. هنا على سبيل الاعتقاد لما رأى هذا {قالَ هـذا رَبّي} [الأنعام:78] ما يوجد أكبر منه في الكون هذه قراره نفسه على هذا، وهذا محمولٌ على أنه في حال طفولة، باعتبار أنه شيءٌ مرتفع لا تناله الأيدي، ولا تناله القوى، هو أيضًا شيءٌ كبير، وغريب أيضًا، فلا يتصور في الوجود غيره أن يعبد {فَلَمّا أَفَلَ} [الأنعام:77] عرف النقص فيه، وأنه لا يستحق العبادة، هذا قول، لكن القول الآخر عند أكثر أهل العلم أنه لم يقل ذلك على سبيل الاعتقاد، وإنما قاله مثل ما قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:63]. يريد أن يستدرجهم {قالَ هـذا رَبّي} [الأنعام:78] قالوا: نعم هذا الرب، يريد أن يقولوا هذا، ثم بعد ذلك إذا أفل قال: أين ربكم؟

مثل ما يفعل بعض المبتدعة، ومثل ما يفعل بعض...لكن هذا على سبيل التدريج، الآن بعض الكفار في حال ضعف المسلمين، يستدرجون المسلمين لأمور فمثلاً: يأتي اليهود ويتبرؤون من دم المسيح، فيأتي السذج من ينتسب إلى الإسلام يقول: لا، لا، هم قتلوه، هذا من باب الاستدراج، وهذه معروفة في باب المناظرة عند جميع الطوائف، وهي طريقةٌ سليمة؛ لإيقاع الخصم، لإيقاع الخصم، فإبراهيم-عليه السلام- قال هذا؛ لإلزامهم أنه مادام تعتقدون أنه رب فلماذا أفل؟ أين راح؟ والمفترض في الرب أن يكون رقيبًا على عباده، فإذا اعترفوا بأن هذا ربهم، وهذا لا يصلح للربوبية إذًا ربكم خالق هذا وخالق غيره. المقصود أن الاستدراج معروف في المناظرة.

أَوْ قَالَ لِقَوْمِهِ مُسْتَفْهِمًا لهم على جهة التوبيخ والإنكار، وَحُذِفَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. أَوْ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى قَوْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي [الْأَنْعَامِ] مُبَيَّنَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ-عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا فِي ثَلَاثِ كَذِبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مَا حَل بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهُمَا قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}» [سورة الْأَنْبِيَاء:63]، ولم يعد قوله: هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ-عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَذَاتِهِ إِلَّا الْعَمَلُ الْخَاص...

العمل الخالص.

 وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَذَاتِهِ إِلَّا الْعَمَلُ الْخَالصُ مِنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا، وَالْمَعَارِيضُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى النَّفْسِ إِذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، كَمَا قَالَ: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} [الزمر:3]. وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، لَكِنْ مَنْزِلَةُ إِبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

لو صدر منا مثلاً جاء أحد يراود شخصًا على زوجته، فخرج من الحيلة بالمعاريض، والملحوظ أمران: أمر النفس وحظوظها، وأمر أن هذه معصية لله -جل وعلا- يعني لو فعله إنسان غير إبراهيم وغير منزلة إبراهيم، لكان الملحوظ فيها ما كان لله أقوى؛ لأن هذا الشخص وهو يلحظ مصلحته الخاصة، ويلحظ أيضًا أن هذه معصية لله -جل وعلا- فهذه باعتبار منزلة شخص غير معصوم يليق به مثل هذا الكلام، لكن مثل منزلة إبراهيم -عليه السلام- وقد شرك فيما لله -جل وعلا- فيما يخص بذاته وفراشه، وإن كان أيضًا هذا ينقلب لله -جل وعلا- لكن المنزلة منزلة عظمى، لا ينبغي أن يلحظ حظ نفسه من قريب ولا من بعيد مثل إبراهيم، على ما يقول أهل العلم: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، تختلف منازل الناس.

 الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ مِنَ الْمَعَارِيضِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ وَحُجَجًا فِي الْخَلْقِ وَدَلَالَاتٍ، لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ، وَخَفَضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمَنْزِلَةَ، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا، عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُشْفِقُونَ مِمَّا لَا يُشْفِقُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِجْلَالًا لِلَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ، وَيُصَرِّحَ بالحق لأمر كَيْفَمَا كَانَ، وَلَكِنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ فكان ما كان من هذه القصة، والقصة وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «إِنَّمَا اتَّخَذْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ» بِنَصْبِ وَرَاءَ فِيهِمَا على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا: جَارِي بَيْتَ بَيْتَ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ «مِنْ وَرَاءُ مِنْ وَرَاءُ» بِإِعَادَةِ مِنْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ وَنُوِيَ الْمُضَافُ كَقَبْلُ وَبَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يُنْوَ الْمُضَافُ أُعْرِبَ وَنُوِّنَ غَيْرَ أَنَّ وَرَاءَ لَا يَنْصَرِفُ؛ لِأَنَّ أَلِفَهُ لِلتَّأْنِيثِ، لأنهم قالوا في تصغيرها ورية، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهِيَ شَاذَّةٌ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الْفَتْحُ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ «مِنْ» فِيهِمَا.

وَالْمَعْنَى إِنِّي كُنْتُ خَلِيلًا مُتَأَخِّرًا عَنْ غَيْرِي. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخُلَّةَ لَمْ تَصِحَّ بِكَمَالِهَا إِلَّا لِمَنْ صَحَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:64] أَيْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ رُجُوعَ الْمُنْقَطِعِ عَنْ حُجَّتِهِ، الْمُتَفَطِّنِ لِصِحَّةِ حُجَّةِ خَصْمِهِ. {فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:64] أَيْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يَنْطِقُ بِلَفْظَةٍ، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ لَحْظَةً، وَكَيْفَ يَنْفَعُ عَابِدِيهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْبَأْسَ، مَنْ لَا يَرُدُّ عَنْ رَأْسِهِ الْفَأْسَ.

مثل ما قال الشاعر العربي:

ربٌ يبول الثعلبان برأسه

 

لقد هان من بالت عليه الثعالب

هل مثل هذا يستحق عبادة؟ من لا يرد عن رأسه الفأس، هذا يستحق أن يعبد! كيف يدفع عن عابديه؟!

 قَوْلُهُ تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِم} [سورة الْأَنْبِيَاء:65] أَيْ عَادُوا إِلَى جَهْلِهِمْ وَعِناَدِهمْ فَقَالُوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:65] ف{قالَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:66]  قَاطِعًا لِمَا بِهِ يَهْذُونَ، وَمُفْحِمًا لَهُمْ فِيمَا يَتَقَوَّلُونَ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:66]. {أُفٍّ لَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:67] (أَيِ النَّتَنُ لَكُمْ( {وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

وقيل {نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِم} [سورة الْأَنْبِيَاء:65] أي طأطئوا رؤوسهم خَجَلًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف، بل قال: {نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِم} [سورة الْأَنْبِيَاء:65] أَيْ رُدُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالُوا حَرِّقُوهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:68] لَمَّا انْقَطَعُوا بِالْحُجَّةِ أَخَذَتْهُمْ عِزَّةٌ بِإِثْمٍ وَانْصَرَفُوا إِلَى طَرِيقِ الْغَشْمِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالُوا حَرِّقُوهُ. رُوِيَ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ أَعْرَابِ فارس، أي من باديتها، قاله ابن عمر وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَيُقَالُ: اسْمُهُ هيزرُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: بَلْ قَالَهُ مَلِكُهُمْ نُمْرُودُ.

{وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:68]  بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهُ يَسُبُّهَا وَيَعِيبُهَا. وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: أَنَّ نُمْرُودَ بَنَى صَرْحًا طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَمَعُوا الْحَطَبَ شَهْرًا ثُمَّ أَوْقَدُوهَا، وَاشْتَعَلَتْ وَاشْتَدَّتْ، حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّائِرُ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهَا فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا. ثُمَّ قَيَّدُوا إِبْرَاهِيمَ وَوَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ مَغْلُولًا. وَيُقَالُ: إِنَّ إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ضَجَّةً وَاحِدَةً: رَبَّنَا! إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرَهُ يُحَرَّقُ فِيكَ، فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنِ اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ أَوْ دَعَاهُ فَلْيَنْصُرْهُ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ"، فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ، أَتَاهُ خُزَّانِ الْمَاءِ- وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ- فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنْ أَرَدْتَ أَخْمَدْنَا النَّارَ بِالْمَاءِ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمْ. وَأَتَاهُ مَلَكُ الرِّيحِ فَقَالَ: لَوْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ. فَقَالَ: لَا. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".

وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَيَّدُوهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ قَالَ: ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيقِ مِنْ مَضْرِبٍ شَاسِعٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ. فَقَالَ: حَسْبِي مِنْ سؤالي علمه بحالي. فقال اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:69] ».

 قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا بَرْدًا يَرْفَعُ حَرَّهَا، وَحَرًّا يَرْفَعُ بَرْدَهَا، فَصَارَتْ سَلَامًا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: {بَرْداً وَسَلاماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:69] لَكَانَ بَرْدُهَا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَرِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ {عَلى إِبْراهِيمَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:69] لَكَانَ بَرْدُهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَبَدِ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ زِرْبِيَّةً مِنَ الْجَنَّةِ فَبَسَطَهَا فِي الْجَحِيمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ مَلَائِكَةً: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَلَكَ البرد وملك السلامة. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، وَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ ظَنَّتْ أَنَّهَا تُعْنَى. قَالَ السُّدِّيُّ: وَأَمَرَ اللَّهُ كُلَّ عُودٍ مِنْ شَجَرَةٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى شَجَرِهِ وَيَطْرَحَ ثَمَرَتَهُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَقَتَادَةُ: لَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وِثَاقَهُ. فَأَقَامَ فِي النَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَقْرَبَ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ جَاؤوا فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي.

وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ إِبْرَاهِيمُ: "مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ". وَقَالَ كَعْبٌ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الْوَزَغُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بِقَتْلِهَا وَسَمَّاهَا فُوَيْسِقَةٌ. وَقَالَ شُعَيْبٌ الْحِمَّانِيُّ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً. ذَكَرَ الْأَوَّلَ الثَّعْلَبِيُّ، وَالثَّانِي الْمَاوَرْدِيُّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَرَدَتْ نِيرَانُ الأرض جميعا فما أنضجت كراعًا، فرآه نمرود من الصرح وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى السَّرِيرِ يُؤْنِسُهُ مَلَكُ الظِّلِّ. فَقَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ! لَأُقَرِّبَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ آلاف بقرة وكف عنه.

{وَما تُغنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لا يُؤمِنونَ} [سورة يونس:101] وإلا ما أعظم من هذا لو أراد الله هدايتهم، لكن لما كتبت عليهم الشقاء ما نفعهم، مثل هذه الأمور مع وجود العقل الذي ركب في بني آدم لولا أن الله كتب عليهم الشقاوة، والله المستعان، تقرب بأربعة ألاف بقرة؛ لأنه نِعم الرب، نَعم نِعم الرب، لكن تتقرب له وأنت تعبد غيره؟! {هَبَاءً مَّنثُورًا} [سورة الفرقان:23] لا ينفعه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً} [سورة الْأَنْبِيَاء:70] أَيْ أَرَادَ نمرود وقومه

 وأصحابه عندك؟ أم قومه؟

قومه.

عندنا أصحابه.

أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به {فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:70] في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليطنا أَضْعَفِ خَلْقِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلَّطَ اللَّهُ عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حَتَّى رَأَى عِظَامَ أَصْحَابِهِ وَخَيْلهِ تَلُوحُ، أَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ فِي مِنْخَرِهِ فَلَمْ تَزَلْ تَأْكُلُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ دِمَاغَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ الَّذِي يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِمِرْزَبةٍ مِنْ حَدِيدٍ. فَأَقَامَ بِهَذَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:71]  يُرِيدُ نَجَّيْنَا إبراهيم ولوطًا إلى أرض الشام، وكانا بالعراق. وكان إبراهيم -عليه السلام- عمه  قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: لَهَا مُبَارَكَةٌ؛ لِكَثْرَةِ خِصْبِهَا وَثِمَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَلِأَنَّهَا مَعَادِنُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْبَرَكَةُ ثُبُوتُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ إِذَا لَزِمَ مَكَانَهُ فَلَمْ يَبْرَحْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ مَكَّةُ. وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا بَعَثَ اللَّهُ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةُ الْخِصْبِ وَالنُّمُوِّ، عَذْبَةُ الْمَاءِ.

{المَسجِدِ الأَقصَى الَّذي بارَكنا حَولَهُ} [سورة الإسراء:1]، البركة هناك.

وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةُ الْخِصْبِ وَالنُّمُوِّ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَمِنْهَا يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَيْسَ مَاءٌ عَذْبٌ إِلَّا يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ. وَنَحْوُهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ مِصْرُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:72] أَيْ زِيَادَةً؛ لِأَنَّهُ دَعَا فِي إِسْحَاقَ، وَزِيدَ في يَعْقُوبَ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ نَافِلَةً، أَيْ زِيَادَةً عَلَى مَا سَأَلَ؛ إِذْ قَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ: نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ. {وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:72] أَيْ وَكُلًّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ جَعَلْنَاهُ صَالِحًا عَامِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَجَعْلُهُمْ صَالِحِينَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِخَلْقِ الصَّلَاحِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ، وَبِخَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، ثُمَّ مَا يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

جعلهم صالحين بتوفيقهم من قبل الله -جل وعلا-، وكتابة ذلك لهم، وأنهم من أهل السعادة، أما خلق الصلاح والطاعة، لا شك أن أفعال العباد مخلوقة، لكن هي مخلوقة ومقدرة، قبل ذلك خلق القدرة على الطاعة، عند الأشاعرة أن القدرة والاستطاعة لا يملكها العبد قبل الفعل، وإنما تخلق مع الفعل، تخلق مع الفعل، الإنسان لا يستطيع أن يفعل حتى تخلق له هذه القدرة، مع شروعه في الفعل، هذا لا شك أنه ضلال.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:73] أَيْ رُؤَسَاءَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ. وَمَعْنَى {بِأَمْرِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:73] أَيْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَهْدُونَ بِكِتَابِنَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَهْدُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ بِإِرْشَادِ الْخَلْقِ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ. {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:73] أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ. {وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:73] أي مطيعين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:74] {لُوطاً} مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الثَّانِي، أَيْ وآتينا لوطًا آتَيْنَاهُ. وَقِيلَ: أَيْ وَاذْكُرْ لُوطًا. وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ، وَالْعِلْمُ الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَقِيلَ: {عِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:74] فَهْمًا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

{وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:74] يُرِيدُ سَدُومَ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ سَبْعَ قُرَى، قَلَبَ جِبْرِيلُ-عَلَيْهِ السَّلَام- سِتَّةً وَأَبْقَى وَاحِدَةً لِلُوطٍ وَعِيَالِهِ، وَهِيَ زُغَرُ الَّتِي فِيهَا الثمر من كورة فلسطين إلى حد الشراة، وَلَهَا قُرَى كَثِيرَةٌ إِلَى حَدِّ بَحْرِ الْحِجَازِ. وَفِي الْخَبَائِثِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اللِّوَاطُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

إلى حد الشراة بالشين، وهي موجودة في ثلاث نسخ، وهو جبلٌ بنجد لطيء، والسراة بالمهملة جبلٌ من عرفات إلى حد نجران.

وَفِي الْخَبَائِثِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اللِّوَاطُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: الضُّرَاطُ، أَيْ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي نَادِيهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ. وَقِيلَ: الضُّرَاطُ وخذف الْحَصَى وَسَيَأْتِي. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:74] أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفُسُوقُ الْخُرُوجُ، وقد تقدم. {وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:75] أي فِي النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: عَنَى بِالرَّحْمَةِ إِنْجَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:75].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:76] أَيْ وَاذْكُرْ نُوحًا إِذْ نَادَى، أَيْ دَعَا. {مِنْ قَبْلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:76] أَيْ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ عَلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] وقال لما كذبوه: {أني مغلوب فانتصر} [القمر:10]. {فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:76] أَيْ مِنَ الْغَرَقِ. وَالْكَرْبُ الْغَمُّ الشَّدِيدُ، {وَأَهْلَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:76] أَيِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ.

{وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:77] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {مِنَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:77] بِمَعْنَى عَلَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَانْتَقَمْنَا لَهُ {مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:77]. {فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:77] أَيِ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ وَالْكَبِيرَ.

في قوله: {فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:76] الأهل يشمل الأولاد، ويشمل الزوجة، ويشمل الذرية والأزواج، لكن زوجه مستثناء؛ لأنه مضروب مثل للكفار.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78،79] فِيهِ سِتٌّ وَعِشْرينَ مَسْأَلَةً:

وعشرون.

فِيهِ سِتٌّ وَعِشْرونَ مَسْأَلَةً:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] أَيْ وَاذْكُرْهُمَا إِذْ يَحْكُمَانِ، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {إِذْ يَحْكُمانِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] الِاجْتِمَاعَ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ حُكْمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ. وَإِنَّمَا حكم كل واحد منهما على انْفِرَادُهُ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ الْفَاهِمَ لَهَا بِتَفْهِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، {فِي الْحَرْثِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: كَانَ زَرْعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: كرمًا نبتت عناقيده، قال ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ. وَ{الْحَرْثِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] يُقَالُ فِيهِمَا، وَهُوَ فِي الزَّرْعِ أَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ.

لأن احتياج الزرع إلى الحرث أكثر من الكرم، أكثر من العنب، الزرع يحتاج إلى أن تحرث الأرض كلها، أما الكرم فيحرث شيءٍ يسيرٌ منها بقدر أصوله.

 الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] أَيْ رَعَتْ فِيهِ لَيْلًا، وَالنَّفْشُ الرَّعْيُ بِاللَّيْلِ. يُقَالُ: نَفَشَتْ بِاللَّيْلِ، وَهَمَلَتْ بِالنَّهَارِ، إِذَا رَعَتْ بِلَا رَاعٍ. وَأَنْفَشَهَا صَاحِبُهَا. وَإِبِلٌ نُفَّاشٌ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الْحَبَّةُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَ كَرِشِ الْبَعِيرِ يَبِيتُ نَافِشًا، أَيْ رَاعِيًا، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: لَا يُقَالُ الْهَمَلُ فِي الْغَنَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِبِلِ: الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَاكِمَانِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: {لِحُكْمِهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78].

أقل الجمع اثنان عند كثير من أهل العلم، والأكثر على أن أقل الجمع ثلاثة، والجماعة تقوم باثنين، هذا جمعٌ حقيقة شرعية الجماعة فوق اثنتين، في آي الكلالة {يَسْتَفْتُونَكَ} [سورة النساء:176] {فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا} [سورة النساء:11] {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [سورة النساء:176] وكلمة فوق هنا ماذا يراد بها؟ أي مثل قوله- جل و علا-: {فَوقَ الأَعناقِ} [سورة الأنفال:12] يعني من حيث اللفظ زائدة، من حيث اللفظ يسمونها صلة {فَاضرِبوا فَوقَ الأَعناقِ} [سورة الأنفال:12] أي واضربوا الأعناق.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] أَيْ فَهَّمْنَاهُ الْقَضِيَّةَ وَالْحُكُومَةَ. فَكَنَّى عَنْهَا؛ إِذْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَفَضَلَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ حُكْمَ أَبِيهِ في أنه أحرز أن يبقي كُلّ...

أن يبقي ملك كل واحد.

أن يبقي ملك كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَتَاعِهِ وَتَبْقَى نَفْسُهُ طَيِّبَةً بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَأَى أَنْ يَدْفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ دَفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيُشْبِهُ عَلَى الْقَوْلِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ رَأَى الْغَنَمَ تُقَاوِمُ الْغَلَّةَ الَّتِي أُفْسِدَتْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: رَآهَا تُقَاوِمُ الْحَرْثَ وَالْغَلَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْخَصْمَانِ عَلَى سُلَيْمَانَ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُصُومُ، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ إِلَى دَاوُدَ مِنْ بَابٍ آخَرَ فَقَالَ: بِمَ قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ؟ فَقَالَا: قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ: فَقَالَ لَعَلَّ الْحُكْمَ غَيْرَ هَذَا انْصَرِفَا مَعِي: فَأَتَى أَبَاهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ حَكَمْتَ بِكَذَا وَكَذَا وَإِنِّي رَأَيْتُ مَا هُوَ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ. فقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَدْفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَيَنْتَفِعَ بِأَلْبَانِهَا وَسُمُونِهَا وَأَصْوَافِهَا، وَتَدْفَعَ الْحَرْثَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ الزَّرْعُ إِلَى حَالِهِ الَّتِي أَصَابَتْهُ الغنم فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، رَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ إِلَى صَاحِبِهِ. فَقَالَ دَاوُدُ: وُفِّقْتَ يَا بُنَيَّ لَا يَقْطَعُ اللَّهُ فَهْمَكَ. وَقَضَى بِمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ.

 قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَوَّمَ دَاوُدَ الْغَنَمَ وَالْكَرْمَ الَّذِي أَفْسَدَتْهُ الْغَنَمُ فَكَانَتِ الْقِيمَتَانِ سَوَاءً، فَدَفَعَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ. وَهَكَذَا قَالَ النَّحَّاسُ، قَالَ: إِنَّمَا قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ. وَأَمَّا فِي حُكْمِ سُلَيْمَانَ فَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ قِيمَةُ مَا نَالَ مِنَ الْغَنَمِ وَقِيمَةُ مَا أَفْسَدَتِ الْغَنَمُ سَوَاءً أَيْضًا.

لكن لو حصل الآن قصة مثل هذه، دخلت غنم إلى مزرعة فأكلته، بمَ يحكم؟ يحكم بمثل هذا، حكم داود أو بحكم سليمان أو بحكمٍ آخر؟

طالب:.........

وصفه بالفهم ومن لازم الفهم الإصابة، فيكون حكمه هو الصواب، افترض أن صاحب الزرع قال: أنا لا أريد الغنم، تحتاج إلى رعي، وعلف، ماذا يقال له؟ يقال: ما لك إلا هذا، أو يقوَّم زرعه؟

طالب: يقوم ما أفسدته من الزرع.

نعم، يقوم زرعه الذي أفسدته، لكن لو رضي بالغنم؟ هل نقول: إن حكم شرع ما قبلنا مثل حكمه سارٍ علينا، شرعنا لم يرد بخلافه، أم نقول: إن هذا الشرع من قلبنا ولا علاقة لنا به؟ المسألة معروفة عند أهل العلم والخلاف فيها.

طالب: قد لا يرضى صاحب الغنم بالحرث.

يدفع قيمة الزرع والحرث؛ لأنه يتعب عليه سنة كاملة، وغنمه يستفاد منها سنة كاملة، والتقويم قد يكون أرفق بالجميع، أرفق بالطرفين.

طالب: إن كان صاحب الغنم من الرعاة يقول: لا أستطيع أقوم بالحرث.

والعكس، فالمزارع ما عنده استعدادٍ يرعى.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] تَأَوَّلَ قَوْمٌ دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-..

تَأَوَّلَ قَوْمٌ أَنَّ دَاوُدَ.

 تَأَوَّلَ قَوْمٌ أَنَّ دَاوُدَ -عليه السلام- لَمْ يُخْطِئْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بَلْ فِيهَا أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] عَلَى أَنَّهُ فَضِيلَةٌ لَهُ عَلَى دَاوُدَ وَفَضِيلَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى دَاوُدَ، وَالْوَالِدُ تَسُرُّهُ زِيَادَةُ وَلَدِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْعَيْنَ الْمَطْلُوبَةَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَإِنَّمَا مَدَحَهُ اللَّهُ بِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ النَّازِلَةِ.

إذا أصاب الحاكم، إذا حكم بالطريقة الشرعية، واجتهد في المسألة، واستعمل الوسائل الشرعية للإصابة، هذا حكم، وهذا علم، كونه يصيب الحق كما هو عند الله -جل وعلا- هذه مسألة أخرى ليست له، إنما عليه أن ينظر في الوسائل الموصلة إلى الحكم الشرعي، وبهذا يمدح ولو أخطأ، والنبي-عليه الصلاة والسلام- يقول: «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فإنما أقتطع له قطعةً من نار، فليأخذها أو يدعها» المقصود أن على القاضي والحاكم أن يستعمل الوسائل الشرعية، الوسائل الشرعية، كونه يصيب أو يخطأ هذه مسألة أخرى، اجتهد ونظر في الشهود أنهم عدول، قبل شهادتهم، وحكم بموجبها، وتبين أن الحكم خطأ؛ لأن الشهود ليسوا على ظاهرهم، ليس عليه من ذلك شيء، إنما الملوم «من قطع له من حق أخيه» كما جاء بالحديث.

 ويكون مثل هذا لو استعملوا الوسائل الشرعية في إثبات دخول الشهر أو عدم دخوله «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» ما رآه أحد، ولا تقدم أحد يدلي بشهادته أنه رآه، وما صام الناس أول يوم، ثم تبين أنه من رمضان، فلما صار ليلة تسع وعشرين رؤي هلال شوال، نعم أصبنا ما أخطأنا؛ لأنا استعملنا الوسائل المأمور بها شرعًا، وليس لنا ما وراء ذلك، ليس لنا ما وراء ذلك، وليس علينا من الإثم شيء، ونحن مأجورون على الاجتهاد وطلب الإصابة، أما أجر الإصابة فهذا شيءٌ آخر.

 ولذا حتى داود مُدح مع أن مفهوم قول: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] أن فهم هذه القضية خفي على داود -عليه السلام- ومع ذلك {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] لأن كلاًّ منهما حكم بما يدين الله به على الوجه المشروع وهو أهلٌ للحكم، لابد أن يكون أهلاً للحكم؛ ليؤجر على مجرد حكمه.

طالب:.........

من يقضي؟

طالب:.........

يقضي، يقضي، ثم تبين الشمس كما في حديث أسماء في البخاري، وهل من القضاء بد؟ يقضي.

طالب:.........

ما تحرى، الأصل بقاء النهار، كيف تحرى والوقت باقٍ؟ لكن هلى رأى الشمس تسقط؟ ما رأى الشمس.

وَإِنَّمَا مَدَحَهُ اللَّهُ بِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ فَأَصَابَ سُلَيْمَانُ وَأَخْطَأَ دَاوُدُ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَوُجُودِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

لأنهم يجتهدون، يجتهدون، لهم أن يجتهدوا، لكن لا يقرون على خطأ، وأكثر ما يقع منهم في هذا الباب خلاف الأولى، والنبي-عليه الصلاة والسلام- عوتب في فداء الآسرى.

 لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُقِرَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ. وَلَمَّا هَدَمَ الْوَلِيدُ كَنِيسَةَ دِمَشْقَ كَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ: إِنَّكَ هَدَمْتَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي رَأَى أَبُوكَ تَرْكَهَا، فَإِنْ كُنْتَ مُصِيبًا فَقَدْ أَخْطَأَ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَبُوكَ مُصِيبًا فَقَدْ أَخْطَأْتَ أَنْتَ، فَأَجَابَهُ الْوَلِيدُ {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:78،79].

وَقَالَ قَوْمٌ كَانَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- نَبِيَّيْنِ يَقْضِيَانِ بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِوَحْيٍ نَسَخَ اللَّهُ بِهِ حُكْمَ دَاوُدَ، وَعَلَى هَذَا {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] أَيْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ النَّاسِخِ لِمَا أوْحى إِلَى دَاوُدَ، وَأَمَرَ سُلَيْمَانَ أَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ دَاوُدَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الْأَنْبِيَاء:79]. هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ من العلماء ومنها ابْنُ فَوْرَكٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ.

لعل صوابه منهم، جماعة من العلماء ومنهم، عندنا ومنهما، (ومنهم) ومن هؤلاء الجماعة ابن فورك.

السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ.

لو أن حكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي، والسياق يدل على أن حكم سليمان أصوب من حكم داود، وأن سليمان فهم، وفهم الوحي غير الوحي، فلا شك أن هذا قول مرجوح.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَجَوَّزَهُ الْمُحَقِّقُونَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِحَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَلَا إِحَالَةَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، كما لو قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكِ كَذَا فَاقْطَعْ بِأَنَّ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ هُوَ حُكْمِي فَبَلِّغْهُ الْأُمَّةَ، فَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي الْعَقْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إِذَا عُدِمَ النَّصُّ، وَهُمْ لَا يُعْدَمُونَهُ. قُلْنَا: إِذَا لَمْ يَنْزِلِ الْمَلَكُ فَقَدْ عُدِمَ النَّصُّ عِنْدَهُمْ، وَصَارُوا فِي الْبَحْثِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ مَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي عِنْدَهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ، وَعَنِ الْغَلَطِ، وَعَنِ التَّقْصِيرِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ. كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فِي اجْتِهَادِهِمْ.

مقتضى قول الله-جل وعلا-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم: 3، 4] استدل بها من يرى أنهم لا يجتهدون، إنه لا ينطق إلا بوحي، منهم من يقول: ينطق بالوحي كما هو الأصل، وينطق بما يدل عليه الوحي وهو الاجتهاد.

كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ ابن أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخْصُوصٌ مِنْهُمْ فِي جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ من يَسْتَدِرْكُ غَلَطَهُ، وَلِذَلِكَ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَقَدْ بُعِثَ بَعْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَسْتَدِرْكُ غَلَطَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ نَبِيَّنَا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فِي تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى سَوَاءٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى إِمْضَائِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ اسْتِدْرَاكُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَنِ الْعِدَّةِ فَقَالَ لَهَا: «اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ» ثُمَّ قَالَ لَهَا: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبرًا محتسبًا، أيحجزني عن الجنة شي؟ فَقَالَ: «لَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: «إِلَّا الدَّيْنَ كَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ».

مخرج الحديث؟

ماذا يقول؟

الطالب: ............

نعم.

السَّابِعَةُ: قَالَ الحسن: لولا هذه الآية لرأيتُ الْقُضَاةَ هَلَكُوا..

لرأيتُ أن الْقُضَاةَ.

لرأيتُ أن الْقُضَاةَ هَلَكُوا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِصَوَابِهِ، وَعَذَرَ دَاوُدَ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إِذَا اخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَقُّ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ عند الله، وقد نَصَبَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً، وَحَمَلَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْبَحْثِ عَنْهَا، وَالنَّظَرِ فِيهَا، فَمَنْ صَادَفَ الْعَيْنَ الْمَطْلُوبَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ الْمُصِيبُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وله أجران أجرٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَأَجْرٌ فِي الْإِصَابَةِ، وَمَنْ لَمْ يُصَادِفْهَا فَهُوَ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْعَيْنَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ. وَهَذَا سُلَيْمَانُ قَدْ صَادَفَ الْعَيْنَ الْمَطْلُوبَةَ، وَهِيَ الَّتِي فَهِمَ.

وَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَنَّ العالم المخطئ لا إثم فِي خَطَئِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَقُّ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَنْصِبِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلَائِلَ، بَلْ وَكَّلَ الْأَمْرَ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ، وَمَنْ أخطأ فهو معذور مأجور، ولم يتعبد بإصابتة الْعَيْنَ، بَلْ تَعَبَّدَنَا بِالِاجْتِهَادِ فَقَطْ.

وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: إِنَّ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِ الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، والمطلوب إِنَّمَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِي ظَنِّهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ قَدْ أَدَّاهُ نَظَرُهُ إِلَى الْأَفْضَلِ فِي ظَنِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ قَرَّرَ بَعْضُهُمْ خِلَافَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقَعَ الِانْحِمَالُ عَلَى قَوْلِهِ دُونَ قَوْلِ مُخَالِفِهِ.

ما حمل الناس على قوله دون قول غيره، يدل على أن كلهم مصيبون، وهذا كلام ليس بصحيح، الصواب واحد، والحق لا يتعدد، نعم كلٌ منهم مصيبٌ نصيبه من الأجر لا بأس، أما أن الحق يتعدد، وهذا كلامه صحيح، وهذا كلامه صحيح لا.

 كونه لا يحمل غيره على اجتهاده؛ لأن قول الآخر محتمل، والمسألة مفترضة، مسألة اجتهادية لا نص فيها، وأما المسائل المنصوص من قبل الشارع  فلابد من الحمل عليه، إذا لم يوجد ما يعارضه.

وَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقَعَ الِانْحِمَالُ عَلَى قَوْلِهِ دُونَ قَوْلِ مُخَالِفِهِ. وَمِنْهُ رَدُّ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لِلْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى (الْمُوَطَّأِ)، فَإِذَا قَالَ عَالِمٌ فِي أَمْرٍ: حَلَالٌ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فِيمَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْعَالِمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِكُلِّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ، وَكَذَا فِي الْعَكْسِ.

قَالُوا: وَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ-عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهِمَ الْقَضِيَّةَ الْمُثْلَى، وَالَّتِي هي أَرْجَحُ فَالْأُولَى لَيْسَتْ بِخَطَأٍ، وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «إِذَا اجْتَهَدَ الْعَالِمُ فَأَخْطَأَ» أَيْ فَأَخْطَأَ الْأَفْضَلَ.

أخطأ الطريق الأفضل أي ضل عنه، فلا يعني أنه ضل إلى طريقٍ لا يوصل، بل كلها صحيحة، لكن هذا قولٌ مرجوح.

 الثَّامِنَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».

قوله: «ثُمَّ أَخْطَأَ» يدل على أن المصيب واحد.

طالب:.........

تحريم، لا شك، تقنين وإلزام الناس بقولٍ واحد هذا غير صحيح، لو كان خيرًا لسبقنا إليه خير القرون.

 هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: «إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ» فَبَدَأَ بِالْحُكْمِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ، كَمَا قال: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] فعند ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي النَّازِلَةِ. وَيُفِيدُ هَذَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ نَظَرًا عِنْدَ وُقُوعِ النَّازِلَةِ، وَلَا يَعْتَمِدَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ ثَانِيًا خِلَافُ مَا ظَهَرَ لَهُ أَوَّلًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِأَرْكَانِ اجْتِهَادِهِ، مَائِلًا إِلَيْهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ نَظَرٍ فِي أَمَارَةٍ أُخْرَى.

يلزم عليه أن كل من أراد أن يفتي في مسألة أو يحكم في مسألة أن ينظر في وسائل هذه المسألة من جديد وفي أدلتها، لكن إذا لم يتجدد له دليل أو تعليل، أو لاح له رجحان القول الثاني على الأول لا يلزم، مثل: القبلة اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن هذه الجهة في صلاة الظهر مثلاً هي القبلة، ثم تجدد له علامات أخرى غير الأولى، يصلي على ما صلى عليه أولاً، على اجتهاده الأول، لكن إن تجدد له شيء وطرأ له شيءٌ يغير اجتهاده الأول لزمه ذلك.

طالب:.........

من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين السلف، من المسائل التي وقع فيها الخلاف، فالخلاف سائر فيها، والاجتهاد حاصل، أما المسائل التي يتفق عليها السلف من مسائل الاعتقاد، فلا يجوز لأحدٍ أن ينظر فيها، يسعه ما وسع القوم.

طالب:.........

هذه مسائل تتفاوت، إن كان أثر هذا الخلاف يسري على المأموم، فيقتضي به، وإن كان الخلاف لا يسري عليه، مثلاً الإمام صلى بعد أن أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، صلاة المأموم لن تتأثر بهذا، لكن إمامًا لا يرى الطمأنينة مثلاً، فصلاة الإمام مؤثرة على صلاة المأموم، فلا يصلي خلفه، فالمسائل تتفاوت.

طالب:.........

تكلموا في مسائل أجمع عليها السلف، تكلموا في مسائل أجمع عليها السلف، إثبات الصفات مما أجمع علي سلف هذه الأمة في الجملة، وهم أولوا، لكن ما نفوا ولا حرفوا، أولوا، تحريف معنى، بخلاف غيرهم، المقصود أنهم ليسوا مجتهدين في هذا الباب، وإنما هم مقلدون، ليسوا من أهل النظر، ما هم مثلهم، أتظن مثلاً أن النووي مثل الرازي في هذا الباب، أو ابن حجر مثل الباقلاني أو غيره، يختلفون يتفاوتون، وعلى كل حال هو خطأ ترجى لهم المغفرة.

 التَّاسِعَةُ: إِنَّمَا يكون يَكُونُ الْأَجْرُ لِلْحَاكِمِ الْمُخْطِئِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ وَالسُّنَنِ وَالْقِيَاسِ، وَقَضَاءِ مَنْ مَضَى؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ يُوضَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ لَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ، بَلْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْوِزْرِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ». قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الصَّوَابِ لَا عَلَى الْخَطَأِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ: أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ.

الْعَاشِرَةُ: ذَكَرَ أَبُو التَّمَّامِ الْمَالِكِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ، وَلَيْسَ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ قِيلَ: هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ.

"وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ" كأنه يظهر محمد بن الحسن؛ لأنه من أقران مالك -رحمه الله- من أقران مالك، ولعله نقله عنه في موطأه؛ لأن محمد بن الحسن له موطأ.

عندك، راجعوه... موطأ محمد نعم.

 وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَفِي الْحَاكِمِينَ مُخْطِئًا وَمُصِيبًا، قَالُوا: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَلَالًا حَرَامًا، وَوَاجِبًا نَدْبًا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ انْصَرَفَ مِنَ الْأَحْزَابِ: «أَلَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.

 قَالُوا: فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُخْطِئًا لَعَيَّنَهُ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ تَعْيِينِ الْمُخْطِئِينَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ مَأْجُورٌ، فَاسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَسْأَلَةُ الِاجْتِهَادِ طَوِيلَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، وَهَذِهِ النُّبْذَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَافِيَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ.

الْحَادِيَةَ عشرة: وَيَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ فَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ رُجُوعُ الْحَاكِمِ بَعْدَ قَضَائِهِ مِنَ اجْتِهَادِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ آخَرَ أَرْجَحَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَعَلَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى-، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَمُطَرِّفٌ فِي (الْوَاضِحَةِ): ذَلِكَ لَهُ مَا دَامَ فِي وِلَايَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ وِلَايَةٌ أُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي (الْمُدَوَّنَةِ). وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي رُجُوعِهِ مِنَ اجْتِهَادٍ فِيهِ قَوْلٌ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا رَآهُ أَصْوَبَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

دائمًا يقررون الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، لكن إذا كان الاجتهاد الأول أورث من غلبة الظن رجحانًا يسيرًا، فترجح عنده بنسبة ستين بالمائة مثلاً أو خمسة وخمسين بالمائة، ثم تولّد عنده من القرائن لا من الأدلة؛ لأن المسألة ما زالت في دائرة الاجتهاد، من القرائن والعلل، ما يرجح القول الآخر بنسبة سبعين بالمائة، رأى أن الصواب مع هذا بنسبة ستين في الجلسة الأولى، واتجه إلى هذا وحكم به، ثم في الجلسة الأخرى أحضر مثلاً الخصم الثاني وأورد أدلة وليست نصوصًا ولا بينات، إنما هي قرائن تجعل قوله راجحًا، فالأول اجتهاد، والثاني اجتهاد ينقض ولا ما ينقض، بنسبة سبعين بالمائة زائد على الاجتهاد الأول؟

نقول مثل هذا فيما لو أفتى، يعني كان يرى أن الطلاق في الحيض لا يقع، بحث المسألة بأدلتها، وأورثه بحثه رجحان أن الطلاق لا يقع في الحيض، ثم بحث المسألة مرةً أخرى، وترجح عنده الأول بنسبة ستين بالمائة، والثاني بنسبة سبعين بالمائة أن الطلاق في الحيض يقع، وأفتى من طلق على ضوء الاجتهاد الأول بأن هذه الطلقة لا تحسب عليه، هل يخبر من أفتاه قبل ذلك بأن الطلاق يقع، وأن اجتهاده تغير، أو ذاك على ما أفتى والاجتهاد الثاني له من يستفتيه؟

طالب:.........

نعم، حصل مسائل من هذا النوع، وأنه أفتي بمن طلق ثلاثًا أنه فاتت عليه زوجته، وأنه لا يجوز له أن يراجعها، حتى تنكح زوجًا غيره، ثم تغير الاجتهاد بعد أيام، فماذا يقال عن الزوجين، ومازالت المرأة ما تزوجت؟ أصر المفتي على أنه على ما قال، أنهم يقولون: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

طالب:.........

على هذا لا تحسب، مادامت في الحيض لا تحسب، واجتهاده أن الطلاق في الحيض لا يقع.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: فِي رُجُوعِهِ مِنَ اجْتِهَادٍ فِيهِ قَوْلٌ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا رَآهُ أَصْوَبَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. قَالَا: وَيَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ بِمَا قَوِيَ عِنْدَهُ. قَالَ سَحْنُونٌ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْأَقْوَى عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ وَهِمَ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ فَلَهُ نَقْضُهُ، وَأَمَّا إِنْ حَكَمَ بِحُكْمٍ هُوَ الْأَقْوَى عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ قَوِيَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَقْضِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُ إِلَى الْأَصْوَبِ فِي مَالٍ فَلَهُ نَقْضُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عِتْقٍ فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ.

قلت: رجوع القاضي عما حكم به إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ مَا دَامَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْلَى. وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ.

إذا خرجت القضية من مكتب القاضي، ووصلت مثلاً التمييز أو صلت التنفيذ باعتبار أنه لم يطلب التمييز، هل مازال في دائرة ولايته أو خرجت عن ولايته؟ خرجت عن المكتب وانتهت، إن طلب تمييزها وصلت إلى التمييز، ثم تبين له أن اجتهاده مرجوح، أو وصلت إلى الجهاد المنفذة، ثم تبين القاضي أن اجتهاده مرجوح، وما ترجح له غيره، له أن يرجع أو ليس له؟

طالب: قبل التنفيذ ممكن. أما بعده ...

قبل التنفيذ، بعد التنفيذ خلاص انتهى، يعني الآن هي في ولايته مادامت في مكتبه، وصلت إلى محكمة التمييز مثلاً، هي مازالت في ولايته؟

طالب: ينبه لها.

قد يتفاهم مع الشيوخ في التمييز إلى أنه كذا لعله ينقض.

طالب: قد يرجع في التمييز قبل التنفيذ يتبين له تعود قبل التنفيذ أما بعد.

معناه أن اجتهاده الأول نقض باجتهاده الثاني.

طالب: إذا تبين له أنه أصوب ولازالت في النظر.

أي حدود ولاية القاضي ما هو مكتبه؟ وأنه صدر الحكم وانتهي وخرجت إلى جهةٍ أخرى، خرجت عن ولايته.

طالب: لازالت قبل التنفيذ في ولايته، أما بعد التنفيذ فلا، لو نفذ وطلقت المرأة وانتهت فليس له أن يقول: أعيدوه، لكن لو رأى قبل التنفيذ رجع، والتمييز ما فيه إشكال؛ لأن الحكم لا يعتبر نافذًا.

حتي يقارن.

طالب: حتى يقارن التمييز.

طالب: ........

ماذا فيه؟

طالب:.........

هذا محمولٌ على أن اجتهاده عورض بنص، تبين له نص ينقض هذا الاجتهاد، أما اجتهاد مع اجتهاد، لا شك أن الاجتهاد مع الثاني بنسبةٍ واحدة هذا ما ينقض، اجتهاد الأول بنسبة سبعين بالمائة والثاني بنسبة سبعين هذا لا ينقض، لكن لو افترضنا أن اجتهاده الأول أورثه غلب الظن بنسبة ستين بالمائة، والثاني طلع عليه ثمانين بالمائة، وجدت من القرائن الأمور التي تدل على صدق الخصم أكثر مما حكم به الأول، هذا مثل محل النظر.

طالب:.........

بلغ زيادة علم، لكن يبقى أنه مازال في دائرة الاجتهاد، أما مع النص فلا إشكال.

 وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي [الْأَعْرَافِ] وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَهِيَ الْحُجَّةُ لِظَاهِرِ قَوْلِ مَالِكٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى تَجَوُّزًا وَبِخِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ.

مثل من حكم على من وطئ زوجته في رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين، وهو قادر على العتق، هذا خلاف، خلاف النص، وخلاف عامة أهل العلم، فمثل هذا ينقض بلا شك.

 فَأَمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ قَاضٍ حُكْمَ قَاضٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةً عُظْمَى مِنْ جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِنَقْضِ مَا رواه الْآخَرُ..

لِنَقْضِ مَا رآه الْآخَرُ.

لِنَقْضِ مَا رآه الْآخَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بما ظهر له.

الثانية عشرة: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ حُكْمًا وإنما كانت فتيا.

قلت: وهكذا تؤول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا- يَرْحَمُكَ اللَّهُ- هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى».

الكبرى أقرت، إن هذا واضح، واضح أنه ليس بولدها.

 قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُدَ فُتْيَا فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فَيَبْعُدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:78]  فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى» يَدُلُّ عَلَى إِنْفَاذِ الْقَضَاءِ وَإِنْجَازِهِ. وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَرْعِ دَاوُدَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْ حَيْثُ هِيَ كُبْرَى؛ لِأَنَّ الْكِبَرَ وَالصِّغَرَ طَرْدٌ مَحْضٌ عِنْدَ الدَّعَاوَى كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.

يعني لا أثر له في الحكم، يعني وصف غير مؤثر في الحكم، كالطول والقصر والسواد والبياض، هذا لا أثر في الحكم، يقول قائل: مادام إن هذا شرع داود -عليه السلام- فشرع سليمان أنه يقسم بينهما لو رضيت كلاهما بالقسمة، كأن شرع سليمان أن يقسم بينهما إذا قيل بهذا فهذا مقتضاه.

وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ حَتَّى يُحْكَمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَهُوَ مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ مَنْ فَهِمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِسَبَبٍ اقْتَضَى عِنْدَهُ تَرْجِيحَ قَوْلِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينَهُ؛ إِذْ لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَيُمْكِنُ أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ بِيَدِهَا، وَعَلِمَ عَجْزَ الْأُخْرَى عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَقَضَى بِهِ لَهَا؛ إِبْقَاءً لِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ قَاعِدَةُ الدَّعَاوَى الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَبْعُدُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهَا.

لكن تقديم بينة الداخل والخارج أيهما التي تقدم؟

طالب: الداخل.

الداخل أو الخارج عند الحنابلة؟

طالب: الداخل من بيده العين.

 الداخل من بيده العين، لكن عندهم البينة.

طالب: البينة على الخارج.

البينة على الخارج لا شك، لكن باعتبار أن هذا ما هو الأصل، الداخل الذي بيده العين، لكن تقديم بينة الخارج، يعني لو وجد داخل وخارج هذا بيده العين وهذا ليس بيده، هذا أحضر بينة وهذا أحضر بينة، فمن تقدم؟

طالب: العين تؤيد البينة التي معه.

لكن المشهور أن الحنابلة على العكس.

طالب: تقديم الخارج نعم.

تقديم بينة الخارج، لماذا؟

طالب: زيادة علم.

لا؛ لأنه هو المطالب بالبينة أصلاً؛ لأن الخارج هو المدعي، فهو المطالب بالبينة، والداخل غير مطالب بالبينة؛ لأن الأصل بيده، فأحضر بينة، هل نقول: إن كونه داخلًا مرجح على البينة؟ بمعنى أنهما بينتان تتقاومان، وكون العين بيده تقوي، مرجح، والمعروف عند الحنابلة أن بينة الخارج هي المقدمة باعتبار أنه هو المطالب البينة، ذاك ما طولب بالبينة، ونظير هذا رد اليمين، رد اليمين على المدعي، يعني عكس القضية، الآن المدعى عليه هو الذي يحلف، لكن نكل عن اليمين ترد على المدعي الذي لم يستطع إظهار بينة أو لا ترد؟

طالب: خلاف.

الخلاف معروف، والإمام مالك -رحمه الله- قال: لا أعلم أحدٌ قال برد اليمين، مع أن قضاة عصره ابن شبرمة وابن أبي ليلى كلهم يقولون برد اليمين، ولا شك أن اليمين مما تحصل به الحقوق، فإذا نكل المدعى عليه، لم يجد المدعي بينة، ونكل المدعى عليه عن اليمين، توجهت اليمين إلى المدعي، البينة ما أبان الحق في الأصل، واليمين مما يبينه.

 لَا يُقَالُ: فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ قَضَى بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ، فَكَيْفَ سَاغَ لِسُلَيْمَانَ نَقْضُ حُكْمِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَتَعَرَّضْ لِحُكْمِ أَبِيهِ بِالنَّقْضِ، وَإِنَّمَا احْتَالَ حِيلَةً لَطِيفَةً ظَهَرَ لَهُ بِسَبَبِهَا صِدْقُ الصُّغْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَاتِ السِّكِّينَ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، قَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرِينَةِ الشَّفَقَةِ فِي الصُّغْرَى، وَعَدَمِ ذَلِكَ فِي الْكُبْرَى، مَعَ مَا عَسَاهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِصِدْقِهَا فَحَكَمَ لَهَا. وَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ سوّغَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ (حُكْمُ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ).

عامة أهل العلم، جمهور على أن القاضي ليس له أن يحكم بعلمه، وكان شريح ممن يرى أن القاضي له أن يحكم بعلمه، كأنه أثبت حكمًا من كلام صاحبه، فلما حكم على المحكوم عليه، فقال: أين شهودك؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، شهد عليك ابن أخت خالتك، من شهد عليه؟ يعني نفسه، يعني أنت شهدت على نفسك، وهذا لا يمكن إلا على القول بأن القاضي له أن يحكم بعلمه، لكن هل يحكم القاضي بعلمه المتجدد في مجلس القضاء، أو بعلمه الذي قبل طرح القضية؟ يعرف أن هذا البيت لزيد من الناس، ثم أحضرت البينات على أنه لغيره، وهو يعرف، هل نقول: إن هذه مسألة الحكم بالعلم، أو نقول: العلم يشمل حتى ما يتجدد في حال الخصومة، ما يتجدد في حال الخصومة لا بد من رصده في القضية، وعلى هذا يمكن أن يحكم به، فيفرق بين ما كان العلم مبنيًّا على ما قبل الخصومة وما كان في أثناء الخصومة، الأصل كله، القضاء لابد له من علم.

طالب.........

كل الدنيا تعلم، كل الناس يعرفون، لكن قال بعضهم: إنه لم يصرح بالقذف، وإنما كان يستوشيه ويشيعه، ويقول: إن فلانًا قال، وفلانًا قال، ويشيعه في المجالس، هذا قيل به، لم يصرح بالقذف، المقصود أنه هو الذي تولى كبره، نسأل الله العافية.

طالب:.........

المقصود أنه درئ عنه الحد، درئ عنه الحد، وأوجه أهل العلم كثيرة، لكن منها أنه لم يصرح بالقذف، ما ضبط عليه أنه قال: إن فلانة فعلت كذا، وإنما كان يستوشيه، ويثير الشكوك والأوهام والقرائن، فلم يثبت عليه حد، وهو مستوجبٌ للقتل، أعظم من الحد، وتركه النبي-عليه الصلاة والسلام-؛ لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا السَّعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ: أَفْعَلُ لِيَسْتَبِينَ الْحَقُّ. وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا نَقْضُ الْحَاكِمِ لَا يَحْكُمُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَجَلُّ مِنْهُ. وَلَعَلَّ الْكُبْرَى اعْتَرَفَتْ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلصُّغْرَى عند ما رَأَتْ مِنْ سُلَيْمَانَ الْحَزْمَ وَالْجِدَّ فِي ذَلِكَ، فَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلصُّغْرَى، وَيَكُونُ هَذَا كَمَا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْيَمِينِ، فَلَمَّا مَضَى لِيَحْلِفَ حَضَرَ مَنِ اسْتَخْرَجَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَا أَوْجَبَ إِقْرَارُهُ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَبَعْدَهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ نَقْضِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، ولَكِنْ مِنْ بَابِ تَبَدُّلِ الْأَحْكَامِ بِحَسَبِ تَبَدُّلِ الْأَسْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ سُوِّغَ لَهُمُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

وَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ اسْتِعْمَالُ الْحُكَّامِ الْحِيَلَ الَّتِي تُسْتَخْرَجُ بِهَا الْحُقُوقُ.

الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى إقامة ما أوجب الله -جل وعلا- أو ترك ما حرم الله -جل وعلا- هذه حيل مطلوبة شرعية، يتوصل بها إلى فعل الواجب أو ترك المحرم، لكن الحيل الممنوعة والتي جاء النهي عنها، وهي الحيل اليهودية التي يتوصل بها إلى ترك الواجب أو فعل المحرم.                                                     

 وَذَلِكَ يَكُونُ عَنْ قُوَّةِ الذَّكَاءِ وَالْفطْنَةِ، وَمُمَارَسَةِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَهْلِ التَّقْوَى فِرَاسَةٌ دِينِيَّةٌ، وَتَوَسُّمَاتٌ نُورِيَّةٌ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَفِيهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأُمَّ تُسْتَلْحَقُ، وَلَيْسَ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَضَاءُ سُلَيْمَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَضَمَّنَهَا مَدْحُهُ تَعَالَى له بقوله: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79].

الثالثة عشرة: قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحَرْثِ وَالْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي شَرْعِنَا: أَنَّ عَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِطِ حِفْظَ حِيطَانِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ بِالنَّهَارِ، ثُمَّ الضَّمَانُ فِي الْمِثْلِ بِالْمِثْلِيَّاتِ، وَبِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْعِنَا مَا حكم به نَبِيُّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا. هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ مُرْسَلًا.

جميع الرواة، جميع رواة الموطأ.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، إِلَّا ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَحَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ نَاقَةً، فَذَكَرَ مِثْلَهُ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ سَوَاءً، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرَامَ بْنَ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ وَلَا غَيْرَهُ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يَصْنَعِ ابْنُ أَبِي ذئب شَيْئًا، إِلَّا أَنَّهُ أَفْسَدَ إِسْنَادَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يُتَابَعْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ نَاقَةً دَخَلَتْ فِي حَائِطِ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ، فَجَعَلَ الْحَدِيثَ لِابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ لِلْبَرَاءِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابن محيصة، وعن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَحَدَّثَ بِهِ عَمَّنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَا حَضَرَهُ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَدَّثَ بِهِ الثِّقَاتُ، وَاسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، وَجَرَى فِي الْمَدِينَةِ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَسْبُكَ بِاسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ لهذا الحديث.

سيذكر الخلاف

طالب:.........

نعم، عند مالك الاحتجاج بالمرسل، وأنه صحيح عنده، مالك وأصحابه، وأبو حنيفة وتابعوه كلهم يقولون بالاحتجاج بالمراسيل، وأن مقياسهم الصحيح.

طالب:.........

عندهم أبدًا ما يترددون.

احتج مالك وكذا النعمان           وبه وتابعوهما ودانوا

هذا رأيهم، والخلاف سيذكر في المسألة التي تليها.

 الرابعة عشرة: ذَهَبَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا أَفْسَدَتْ زَرْعًا فِي لَيْلٍ أَوْ نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء وَأُدْخِلَ فَسَادُهَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ»، فَقَاسَ جَمِيعَ أَعْمَالِهَا عَلَى جُرْحِهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَا تَقَدَّمَ أَبَا حَنِيفَةَ أَحَدٌ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا لِمَنِ اتَّبَعَهُ فِي حَدِيثِ الْعَجْمَاءِ، وَكَوْنِهِ نَاسِخًا لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ وَمُعَارِضًا لَهُ، فَإِنَّ النسخ شروطه معدومة.

نعم، إذا أمكن الجمع، فلا يصار إلى النسخ.

 والتعارض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أَحَدِهِمَا إِلَّا بِنَفْيِ الْآخَرِ، وَحَدِيثُ «الْعَجْمَاء جُرْحُها جُبَارٌ» عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ خُصَّ مِنْهُ الزَّرْعُ وَالْحَوَائِطُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوْ جَاءَ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ نَهَارًا لَا لَيْلًا وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ وَالْحَرْثِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا مُسْتَحِيلًا مِنَ الْقَوْلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا مُتَعَارِضٌ؟! وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ في الأصول.

الخامسة عشرة: إِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَفْرِيقِ الشَّارِعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُضَمَّنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كُلَّ مَا أَفْسَدَتْ، وَلَا يُضَمَّنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مَوَاشِيهِمْ تَرْعَى بِالنَّهَارِ، وَالْأَغْلَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ زَرْعٌ يَتَعَاهَدُهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْفَظُهُ عَمَّنْ أَرَادَهُ، فَجَعَلَ حِفْظَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِ الزُّرُوعِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعَاشِ، كَمَا قَالَ الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} [النبأ:11].

لأنه في الغالب أن صاحب الزرع في النهار يكون مستيقظًا، فيلزمه حفظ زرعه، والغالب أن أهل المواشي يرسلونها للرعي وهي لا تعقل، بينما في الليل في الغالب أن أهل المواشي يعقلونها، وتكف عن السير ليلاً؛ لئلا تضل، وأهل الزورع ينامون في الليل، فهذا الحكم عادل.

 فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَقَدْ جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يرجع كل شي إِلَى مَوْضِعِهِ وَسَكَنِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72]، وقال: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الانعام: 96] وَيَرُدُّ أَهْلُ الْمَوَاشِي مَوَاشِيهِمْ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ لِيَحْفَظُوهَا، فَإِذَا فَرَّطَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ فِي رَدِّهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي ضَبْطِهَا وَحَبْسِهَا عَنِ الِانْتِشَارِ بِاللَّيْلِ حَتَّى أَتْلَفَتْ شَيْئًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ الْأَسْمَحِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِالْفَرِيقَيْنِ وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَحْفَظَ لِلْمَالَيْنِ، وَقَدْ وَضحَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ لِسَلِيمِ الْحَاسَّتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ: لَا يُضَمَّنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ الْجَانِي لَا يَفْتَك بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا يَلْزَمُ سَيِّدُهُ فِي جِنَايَتِهِ أَكْثَرَ من قيمته، وهذا ضعيف الوجه، كذا قال في" التمهيد" وقال في" الِاسْتِذْكَارِ": فَخَالَفَ الْحَدِيثَ فِي «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» وَخَالَفَ نَاقَةَ الْبَرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ عَطَاءٌ. قَالَ ابْنُ جريج قلت لعطاء: الحرث تصيبه الْمَاشِيَةُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؟ قَالَ: يُضَمَّنُ صَاحِبُهَا وَيُغَرَّمُ. قُلْتُ: كَانَ عَلَيْهِ حَظِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ نَعَمْ! يُغَرَّمُ.

الحظر يعني الحائط، مسورة أوغير مسورة.

 قُلْتُ: مَا يُغَرَّمُ؟ قَالَ: قِيمَةَ مَا أَكَلَ حِمَارُهُ وَدَابَّتُهُ وَمَاشِيَتُهُ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: يُقَوَّمُ الزَّرْعُ عَلَى حَالِهِ الَّتِي أُصِيبَ عَلَيْهَا دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يُضَمَّنُ رَبُّ الْمَاشِيَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، مِنْ طُرُقٍ لَا تَصِحُّ.

السادسة عشرة: قَالَ مَالِكٌ: وَيُقَوَّمُ الزَّرْعُ الَّذِي أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. قَالَ: وَالْحَوَائِطُ الَّتِي تُحْرَسُ وَالَّتِي لَا تُحْرَسُ، وَالْمُحْظَرُ عَلَيْهَا وَغَيْرُ الْمُحْظَرِ سَوَاءٌ، يُغَرَّمُ أَهْلُهَا مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قيمتها. قال: وإذا انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِاللَّيْلِ فَوَطِئَتْ عَلَى رَجُلٍ نَائِمٍ لَمْ يُغَرَّمْ صَاحِبُهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْحَائِطِ وَالزَّرْعِ وَالْحَرْثِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.

لأن هذا داخل في عموم حديث «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ».

 وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بالليل فهو في مال ربها، وَإِنْ كَانَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ قِبَلِهِ إِذْ لَمْ يَرْبِطْهَا، وَلَيْسَتِ الْمَاشِيَةُ كَالْعَبِيدِ، حَكَاهُ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَأَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ القاسم.

لأن العبيد لا يربطون، فتقاس جناية الماشية في غير الزروع على الزروع.

 السابعة عشرة: وَلَا يُسْتَأْنَى بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يُفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ. وَقَالَ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: قِيمَتُهُ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ.

كما يفعل في السن الصغير الذي في الغالب أنه ينبت غيره، {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [سورة المائدة:45] فإذا قلع سن الصغير ما يقال: ينتظر حتي يطلع أو ما يطلع، يقاد منه.

وَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْهُ: وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ فَتُقَوَّمُ كَمَا يُقَوَّمُ كل متلف على صفته.

الثامنة عشرة: لَوْ لَمْ يُقْضَ لِلْمُفْسَدِ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ وَانْجَبَرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ رَعْيٍ أَوْ شَيْءٌ ضُمِّنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُضَمَّنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ به.

التاسعة عشرة- وَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِي أَمْثَالِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ حِيطَانٌ مُحْدِقَةٌ، وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي هِيَ زُرُوعٌ مُتَّصِلَةٌ غَيْرُ مُحْظَرَةٍ، وَبَسَاتِينُ كَذَلِكَ، فَيُضَمَّنُ أَرْبَابُ النَّعَمِ مَا أَفْسَدَتْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَرْكَ تَثْقِيفِ الْحَيَوَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ تَعَدٍّ؛ لِأَنَّهَا وَلَا بُدَّ تُفْسِدُ. وَهَذَا جُنُوحٌ إِلَى قَوْلِ اللَّيْثِ.

(تثقيفه) يعني ربطه.

الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ: قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَدِينَةِ: لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إِلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذوَّادٍ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعٍ، أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج.

حتى مواشي أهل الزروع الذي يحتاجونها يركبون عليها.

فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ فَصَاحِبُهَا ضَامِنٌ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الَّذِي حَرْثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ، وَلَا شيع عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي.

الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرُونَ:

الحاديةُ والعشرون؛ لأن الذي يبنى على فتح الجزئين ما بين أحد عشر إلى تسعة عشر.

 الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ: ضَوَارِي وَحَرِيسَةٌ، وَعَلَيْهِمَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ. فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ لِلزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ مَالِكٌ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ فِي إِفْسَادِ الزَّرْعِ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ. وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَاسُ منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَصْبَغُ: النَّحْلُ وَالْحَمَامُ وَالْإِوَزُّ وَالدَّجَاجُ كَالْمَاشِيَةِ، لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنَ اتِّخَاذِهَا وَإِنْ ضَرِيَتْ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زُرُوعِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يلتفت إليها.

لكن مثل هذه الأمور لا يمكن أن يحترس منها أبدًا، الطيور ما يمكن، لكن أيضًا هذه الطيور التي تأكل من زوع الناس مما تعارف الناس على تركه وعدم المؤاخذة به.

لَا يلتفت إليها من أراد أن يتخذ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. قَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَدِينَةِ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ. قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ إِذَا كَانَتْ ضَوَارِي.

هذه الضواري عن ابن القاسم لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم، يعني يكون لها سوابق وعرفت بهذا.

الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ شَاةً وَقَعَتْ فِي غَزْلٍ حَائِكٍ فَاخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: انْظُرُوهُ فَإِنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ لَيْلًا وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ نَهَارًا، فَفَعَلَ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ ضُمِّنَ وَإِنْ كَانَ بِالنَّهَارِ لَمْ يُضَمَّنْ، ثُمَّ قَرَأَ شُرَيْحٌ" إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ" قَالَ: وَالنَّفْشُ بِاللَّيْلِ، وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالْجُبَارُ الْهَدَرُ، وَالْعَجْمَاءُ الْبَهِيمَةُ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» أَنَّ مَا انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ مَعَهَا قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ أَوْ رَاكِبٌ فَحَمَلَهَا أَحَدُهُمْ عَلَى شي فَأَتْلَفَتْهُ لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُتْلِفِ.

نعم؛ لأنه متسبب؛ لأنه متسبب، والمباشر ليس من أهل التكليف، الراكب والسايس والقائد متسبب، والمباشر ليس من أهل التكليف، فيحمل المتسبب.

 فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةً مَضْمُونَةً بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَمْدًا كَانَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ كَالْآلَةِ.

مثل السيارة.

وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَفِي الْأَمْوَالِ الْغَرَامَةُ فِي مَالِ الْجَانِي. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَصَابَتْهُ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا، فَلَمْ يُضَمِّنْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ صَاحِبَهَا، وَضَمَّنَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّارِيَةِ فَجُمْهُورُهُمْ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا، وَمَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يُضَمِّنُونَهُ.

الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الرجل جبار»، قال الدارقطني: لم يروه غَيْرُ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَخَالَفَهُ الْحُفَّاظُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ وَلَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُهُمْ كُلُّهُمْ رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالُوا: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ» وَلَمْ يَذْكُرُوا الرِّجْلَ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَكَذَلِكَ رواه أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ «وَالرِّجْلُ جُبَارٌ» وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: «وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» قَدْ رُوِيَ مَوْضِعُهُ «وَالنَّارُ جبار» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ: حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَالنَّارُ جُبَار» لَيْسَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، بَاطِلٌ لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ.

طالب:.........

يقول: "ليس بشيء لم يكن في الكتاب" يعني لم يوجد في الكتاب الذي أروي منه، يعني هو حديثٌ باطل ليس بصحيح، ترادفات هذه كلها.

 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلد حدثنا أبو إسحاق إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: أَهْلُ الْيَمَنِ يَكْتُبُونَ: النَّارَ النِّيرَ، ويكتبون البير، يَعْنِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا لُقِّنَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «النَّارُ جُبَارٌ».

لأنه كبر فصار يلقن فيتلقن.

وَقَالَ الرَّمَادِيُّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: لَا أَرَاهُ إِلَّا وَهْمًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «النَّارُ جُبَارٌ»، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَصْلُهُ الْبِئْرُ، وَلَكِنَّ مَعْمَرًا صَحَّفَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يَأْتِ ابْنُ مَعِينٍ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ هَكَذَا تُرَدُّ أَحَادِيثُ الثِّقَاتِ. ذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيِّ قَالَ: أَحْرَقَ رَجُلٌ سَافِي قَرَاحٍ  لَهُ، فَخَرَجَتْ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ حَتَّى أَحْرَقَتْ شَيْئًا لِجَارِهِ. قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بن عبد العزيز ابْنُ حُصَيْنٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ»، وَأَرَى أَنَّ النَّارَ جُبَارٌ. وَقَدْ رُوِيَ «وَالسَّائِمَةُ جُبَارٌ» بَدَلَ الْعَجْمَاءِ، فَهَذَا مَا وَرَدَ فِي أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ صَحِيحٌ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ.

النار إذا انتقلت من المحل الذي أُشعلت فيه بعمد إلى محل آخر، مسألة تحتاج إلى تفصيل إن كانت انتقلت إلى المحل الآخر مع إمكان حفظها من قبل من أشعلها، يعني أشعل في بيته أوراقًا زائدة، ويغلب على ظنه أنها لا تنتقل إلى بيت جاره، وحفظها وحرص على ذلك واحتاط الاحتياطات، ثم انتقلت مثل هذا قد لا يغرم، لكن إذا فرط وجعلها تشتعل وتزداد وتطير بها الرياح، وتنتقل من مكان إلى مكان، ولم يحفظها قد يضمن في مثل هذه الصورة.

طالب:.........

مثله، مثله.

طالب:.........

على كل حال مثل هذه على صاحبها أن يحتاط لها، وإذا احتاط لها ولم يفرط، فلا ضمان.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] قَالَ وَهْبٌ: كَانَ دَاوُدُ يَمُرُّ بِالْجِبَالِ مُسَبِّحًا وَالْجِبَالُ تُجَاوِبُهُ بِالتَّسْبِيحِ، وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ. وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حَتَّى يَشْتَاقَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَسَخَّرْنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:79] أَيْ جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَيْرَهَا مَعَهُ تَسْبِيحُهَا، وَالتَّسْبِيحُ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّبَاحَةِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10]. وَقَالَ قَتَادَةُ: {يُسَبِّحْنَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:79]  يُصَلِّينَ مَعَهُ إِذَا صَلَّى، وَالتَّسْبِيحُ الصَّلَاةُ.

والصلاة سبحة لا سيما النافلة.

 وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ. وَذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِبَالَ لَا تَعْقِلُ فَتَسْبِيحُهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صفات العاجزين والمحدثين.

تسبيح كل شيءٍ بحسبه {وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ} [سورة الإسراء:44].

"