التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحج (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة الحج: 17]

قوله تعالى: إن الذين آمنوا أي بالله وبمحمد -صلى الله عليه وسلم-. والذين هادوا اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى- عليه السلام-. والصابئين: هم قوم يعبدون النجوم. والنصارى: هم المنتسبون إلى ملة عيسى. والمجوس: هم عبدة النيران القائلين إن للعالم أصلين: نور وظلمة، قال قتادة: الأديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن.

 وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات، والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين، وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفًى."

في قول قتادة: الأديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن، كأنه أخذها من الآية، لكن العدة في الآية كم؟ الذي آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، الصابئين، والمجوس، والذين أشركوا، كم صارت؟ ستة فكيف قال: خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن؟ قال منهم الذين آمنوا يعني بالله – جل وعلا- وهؤلاء هم الذين على الحق، ومن عداهم خمس الباقية لاشك أنهم بعد نسخ أديانهم للشيطان بعد نسخ ملة موسى- عليه السلام-، وعيسى-عليه السلام-، أما في وقته وقبل نسخها فما كان من أتباعه فهو من الذين آمنوا ممن يعبد الرحمن ممكن كان يقتدي بهما، فهل يمكن إدخال واحد في غيره؛ لتكون العدة منضبطة عند قتادة؟

 الصابئون الذين يعبدون النجوم ندخلهم في الذين أشركوا، والذين أشركوا الآن نقول: قوله والذين أشركوا من باب عطف العام على الخاص، فيدخل فيه ما تقدم سوى الذين آمنوا، فيكون الذين أشركوا في مقابل الذين آمنوا، فيدخل في الذين أشركوا الذين هادوا والصابئون والنصارى والمجوس، فهم على سبيل الإجمال مشركون، وعلى سبيل التفصيل يهود، ونصارى، وصابئون، ومجوس؛ لتكون العدة منضبطة على كلام قتادة، وهل يصلح أن يقال في الذين هادوا والنصارى: إنهم أشركوا؟ لا شك أن فيهم شركًا، وأشركوا بالله- جل وعلا- وعبدوا من دونه، فالنصارى عبدت المسيح، واليهود عبدوا عزيرًا، المقصود أنهم أشركوا وفيهم شرك، فهل يقال: إنهم مشركون كالصابئين والمجوس؟

فإذا قلنا: إنهم مشركون، فنحتاج إلى مخصص يخصصهم في حل نسائهم وأكل ذبائحهم، والمخصص موجود، وإذا قلنا: ليسوا مشركين، وإنما فيهم شرك، فلا نحتاج إلى مخصص؛ لأن الذبيحة المحرمة ذبيحة المشرك، والذي نصه الحافظ ابن رجب أنهم ليسوا مشركين، وإنما فيهم شرك، ولهذا لا يدخلون في الذين أشركوا ولو كان أشرك، فالفعل يصدق ولو بالشرك الجزئي، ولم يكن الشرك الكلي، ولكن الفرق بين فيه شرك ومشرك ظاهر، يكون الأصل عدم الشرك، لكن الشرك طرأ عليه، وهو في الأصل على الجادة، ثم طرأ عليه الشرك، يعني فرق بين أن يقال: زيد منافق وبين أن يقال: فيه نفاق، وبين أن يقال: أبو ذر جاهلي وبين أن يقال: فيه جاهلية، الفرق واضح.

الكلام في قول قتادة: الأديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن، ويورد في تفسير هذه الآية والعدة ستة على التفصيل، فإذا قلنا: إن الأربعة داخلة في الذين أشركوا تكون العدة خمسة، ويكون قوله: والذين أشركوا من باب عطف العام على الخاص، ويدخل فيه الأربعة، فهم إجمالاً مشركون، وعلى سبيل التفصيل: يهود ونصارى وصابئون ومجوس، ظاهر أم ليس بظاهر؟ نعم، ما وجه الخطأ فيه؟

طالب:.. النتيجة واحدة يا شيخ، إذا دخل فيهم الشرك أصبحوا مشركين.

لا، ما يلزم، دخل فيهم الشرك من جهة، دعنا من كونه مخلدًا في النار أو غير مخلد هو كافر، كافر إجماعًا، والذي يشك في كفر اليهود والنصارى عند أهل العلم يكفر اتفاقًا، هذا ما عندنا فيه إشكال ولا تردد، لكن هل هم بمنزلة المشركين من العرب وغيرهم والمجوس والصابئة وغيرهم، أو أنهم في الأصل على الجادة، ثم دخل فيهم الشرك، فهم لهم ديانتهم ومعتبرة في وقتهم، ثم بعد ذلك حصل فيهم الخلل؟ والشرك الذي عندهم الآن هو موجود في وقت التنزيل وفرّق بينهم وبين غيرهم من المشركين، فهناك فرق بين أهل الكتاب والمشركين، ما فيه فرق في المعاملة؟ فيه فرق.

 وابن رجب يستروح إلى أنهم لا يوصفون  بأنهم مشركون، وإنما فيهم شرك، أما كونهم كفارًا فما يختلف فيه أحد، فلا يختلف في هذا أحد، كفر أكبر، بل نص أهل العلم على أن من شك في كفرهم كفر إجماعًا، لا يظن أن هذا الكلام يهون من شأن مخالفتهم أبدًا، {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}؛ لأن العطف في الأصل يقتضي المغايرة، والكفر يشمل الجميع، لكن هل يقال: هم مشركون أو فيهم شرك، كما يقال: فلان منافق، وفلان فيه نفاق، ويختلف الحكم بين هذا وذاك، ويقال: فلان جاهلي وفلان فيه جاهلية، فرق، نحتاج لمثل هذا الكلام لندخل الديانات الأربعة اليهود والصابئين والنصارى والمجوس في الذين أشركوا ليكون من باب عطف العام على الخاص، فتكون الديانات خمسًا، لكن ألا يوجد شرك عند غير هؤلاء الديانات الأربع؟

وعلى كل حال فالأديان إما أن يقال اثنان أو لا حصر لها، صحيح أم لا؟ إما أن يقال اثنان حق وباطل لله ولغيره، ويدخل فيما لغير الله- جل وعلا- كل الأديان المخالفة، أو يقال: إن الحق واحد، وأما ما كان للشيطان فهو غير منحصر، وعلى كل حال فكلام قتادة لا يسلم من انتقاد.

"والذين أشركوا هم العرب عبدة الأوثان."

إذا خصصناهم بهذا، وفسرناهم بأنهم هم العرب قلنا: هم طائفة سادسة.

 "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة، وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال."

يعني فرق بين المعرفتين بين المعرفتين المعرفة الضرورية وبين المعرفة الناشئة عن النظر والاستدلال؛ لأن النظرية قطعية، فالمعرفة الضرورية قطعية لا مجال فيها للنظر والشك، يعني الكافر إذا بُعث ورأى مآله، فهل يتردد في أن الدين حق؟ لا، ما يتردد، فتكون معرفته ضرورية، لكن الآن بإمكانه أن ينظر ويستدل على صحة هذا الدين فيعرف فتكون معرفته ناشئة عن نظر واستدلال.

"{إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة الحج: 17] أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها سبحانه، وقوله: إن الله يفصل بينهم خبر إن في قوله: إن الذين آمنوا كما تقول: إن زيدًا إن الخير عنده، وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام إن زيدًا إن أخاه منطلق، وزعم أنه إنما جاز في الآية؛ لأن في الكلام معنى المجازاة أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله- عز وجل-، ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدًا إن أخاه منطلق، قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و إن تدخل على كل مبتدأ فتقول: إن زيدًا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدًا إنه منطلق."

نعم؛ ليكون خبر الثاني متعلق بالأول، بخلاف المثال الذي أورده الأول الذي أورده الفراء خبر الثاني لا علاقة له بالأول، فكيف يخبر به عنه؟ فرق ظاهر أم غير ظاهر؟ في المثال الذي أورده يقول: إن زيدًا إن أخاه منطلق، إذ إن حرف توكيد ونصب، وزيد اسمها منصوب، وإن الثانية كذلك وأخاه اسمها منصوب، ومنطلق خبر للأخ، والجملة من إن وما دخلت عليه خبر إن الأولى، لكن ما فيه ارتباط بين منطلق وبين زيد ليخبر به عنه، هذا وجه استقباح الزجاج.

 "وقال الشاعر:

إن الخليفة إن الله سربله

 

سربال عز به ترجى الخواتيم

لكن إن الله سربله يعود إلى الخليفة، ففيه ارتباط بين إن الثانية واسم إن الأولى.

"قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [ سورة الحج:18] هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك، وتقدم معنى السجود في البقرة، وسجود الجماد في النحل. والشمس معطوفة على من، وكذا والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس.

 ثم قال: وكثير حق عليه العذاب، وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل {والظالمين أعد لهم عذابا أليما}؟ فزعم الكسائي، والفراء أنه لو نصب لكان حسنًا، ولكن اختير الرفع؛ لأن المعنى وكثير أبى السجود، فيكون ابتداءً وخبرًا."

يكون استئنافًا، لا سيما وأن إن استوفت يعني في الآية- نعود إليها- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [ سورة الحج: 18] وكثير من الناس، يعني هل العطف في قوله: وكثير حق عليه العذاب معطوف على كثير من الناس؟ لا لو عطفناه على كثير من الناس لقلنا كثير حق عليه العذاب ممن يسجد، ممن يسجد، ولو كان ممن يسجد ما حق عليه العذاب، إذًا الواو استئنافية وكثير مبتدأ مستأنف، وهذا جائز أن تعطف على معمول إن بالرفع بعد الاستكمال، يعني بعد أن تستكمل خبرها، أما لو لم يرد الخبر فلا يجوز العطف بالرفع تقول: إن زيدًا منطلق وعمرًا يجوز، لكن ما يجوز أن تقول إن زيدًا وعمرًا منطلق؛ لأن إن ما استكملت الخبر في هذه الصورة.       

وجائز رفعك معطوفًا على     

 

معمول إن بعد أن تستكملا

 يعني بعد الاستكمال يجوز الرفع بالعطف، لكن قبل الاستكمال ما يجوز.

"وتم الكلام عند قوله: وكثير من الناس، ويجوز أن يكون معطوفًا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله- عز وجل- من ضعف وقوة، وصحة وسقم، وحسن وقبح.."

فحينئذ يسجد هذا السجود الذي هو التذلل والانقياد الإجباري، يجوز أن يعطف على الذين سجدوا في الآية؛ لأنه يسجد إجباري؛ لأنه ذليل ومنقاد لله- جل وعلا- شاء أو أبى، فهو ساجد رغم أنفه، فيكون معطوفًا على من سجد لله- عز وجل- باختياره، لكن أولئك ناجون وهذا حق عليه العذاب- نسأل الله العافية-.

"وهذا يدخل فيه كل شيء، ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرًا حق عليه العذاب، ونحوه، وقيل: تم الكلام عند قوله: والدواب ثم ابتدأ فقال: وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب."

يعني كما جاء في الآية الأخرى: {فريق في الجنة وفريق في السعير}.

 "وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب، ذكره ابن الأنباري، وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدًا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه، قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس."

في صحيح مسلم: الشمس إذا غابت تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأذن هل ترجع؟ فتطلع من المشرق أو من المغرب فيؤذن لها.

"فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.

قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة يس عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [ سورة يس: 38]"

لا شك أنه سجود حقيقي؛ لأنه جاء به النص، والأصل في النصوص الحقيقة، لكن كيفية هذا السجود وما يحتف به مما يخالف ويعارض قول أصحاب الهيئة والفلك أنها لا تغيب، وإنما دائرة في الفلك باستمرار الله أعلم به، يعني ما تدرك العقول مثل هذا.

"وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.

قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [ سورة الحج: 18] أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، وقال ابن عباس: إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار.

{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [ سورة الحج: 18] يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه، وحكى الأخفش، والكسائي، والفراء: {ومن يهن الله فما له من مكرم} أي إكرام.

 قوله تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [ سورة الحج: 19] خرج مسلم، عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسمًا إن هذان خصمان اختصموا في ربهم إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث- رضي الله عنهم- وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم -رحمه الله- كتابه، وقال ابن عباس: نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين، وسماهم، كما ذكر أبو ذر.

 وقال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه، ذكره البخاري، وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف، وعطاء بن يسار، وغيرهما، وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة والنار، اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني لرحمته."

لكن الحرف في ربهم يبعد التأويل الأخير؛ لأن اختصام الجنة والنار إلى الرب- جل وعلا- لا فيه، وإنما من اختصم فيه فريق المسلمين ممثلًا بعلي ومن معه، وفريق المشركين وفيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة من الكفار، فهؤلاء الذين يحصل بينهم فالمسلم والكافر هم اللذان يحصل فيهم الاختصام في الله- جل وعلا- هم اللذان يختصمان، وهذان خصمان، المقصود فئتان تختصمان في الله- جل وعلا-.

"قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «احتجت الجنة والنار، فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله تعالى لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها». أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

 وقال ابن عباس أيضًا: هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابًا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا، وتركتموه، وكفرتم به حسدًا، فكانت هذه خصومتهم، وأنزلت فيهم هذه الآية، وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح، رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر {هذان خصمان اختصموا في ربهم} إلى قوله: {عذاب الحريق}."

هذا نص في تأويل الآية، نص، وهذا سبب نزولها، ولا يمتنع أن يكثر أطراف هذه الخصومة من قبل هؤلاء ومن قبل من يأتي بعدهم ممن يخاصم في الله، ويناظر، فريق على الحق وفريق على الباطل، فهم يختصمون في الله هل وجوده حق؟ هل عبادته حق؟ فريق يجادل ويناظر في الحق وآخر يدفعه بالباطل، فيصدق عليه أن يدخل في الآية، لكن دخول سبب النزول قطعي بلا شك، فهو حديث صحيح مخرج في مسلم، فهم داخلون بلا ريب، ويقاس عليهم من جاء بعدهم ممن يشملهم عموم الآية.

"وقرأ ابن كثير: {هذانّ خصمان} بتشديد النون من هذان، وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون، والآخر اليهود، والنصارى اختصموا في دين ربهم، قال: فقال اختصموا؛ لأنهم جمع، قال: ولو قال: اختصما لجاز. قال النحاس: وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث، ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري، وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسمًا إن هذه الآية نزلت في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس.

 وفيه قول رابع: أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، قاله مجاهد، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعاصم بن أبي النجود، والكلبي، وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم.

 وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم، وأنكره قوم."

هذه الخصومة لاشك أنها تنطلق وتنطبق على كل من يدافع عن الدين ومن يدفع الدين، يعني خصومة بين اثنين يتخاصمان أحدهما يدافع عن الحق، والآخر يدافع عن الباطل، فهذه خصومة، وسواء كانت الخصومة بين اثنين أو بين فئتين لا حصر لأفرادهما يصلح أن يقال: خصمان، ولذا أعاد الضمير بالجمع اختصموا {وإنْ طَائِفَتانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقْتَتَلوا فأصلِحُوا بَيْنَهُما} [ سورة الحجرات:8] مثلها يعني الطائفة تطلق على الواحد، وتطلق على اثنين، وتطلق على الجمع الغفير كله طائفة.

"{فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} أي خيطت وسويت، وشبهت النار بالثياب؛ لأنها لباس لهم كالثياب."

لأنها تحيط بأبدانهم من كل جانب كالثياب.

"وقوله: قطعت أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار."

فالثياب لا يمكن خياطته إلا بعد تقطيعها وتفصيلها.

"وذُكر بلفظ الماضي؛ لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق."

نعم يعبر عنه بالماضي؛ لتحقق الوقوع، وإن كان مستقبلاً، يعني كما جاء في قول الله -جل وعلا-: {أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} يأتي، لكن إتيانه محقق فصح التعبير عنه بالماضي.

 "قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] أَيْ يَقُولُ اللَّهُ تعالى، ويحتمل أن يقال: قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار."

يعني ما فيه ما يمنع من إرادة الحقيقة في الماضي، قطعت وجهزت، الآن هي مقطعة ومجهزة وكل ثياب معروف صاحبه- نسأل الله السلامة-.

 "وقال سعيد بن جبير: من نار من نحاس فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت، وهي السرابيل المذكورة في قطران، وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرًّا منه."

يعني من النحاس.

"وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم."

لا شك أن المواد تختلف في شدة حرارتها وضعفها فحرارة الماء ولو غلى ليس مثل حرارة الزيت إذا غلى، والزيت إذا غلى ليس مثل القار إذا غلى، فدرجة الحرارة متفاوتة بين مادة وأخرى.

 "وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا؛ لأنها بالإحاطة كالثياب مثل {وجعلنا الليل لباسا}."

 والأرض فالأرض أيضًا مهاد الأرض مهاد؛ لأن الإنسان يلازمها كملازمة الصبي لمهده.

"{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي الماء الحار المغلى بنار جهنم، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» قال: حديث حسن صحيح غريب.

يُصْهَر: يذاب، {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [ سورة الحج:20] والصهر إذابة الشحم، والصهارة ما ذاب منه يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير.

 قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة: 

تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ

 

تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ فَمَا يَنْصَهِر

أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك، وَالْجُلُودُ أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب، ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدًا إي والله ولبنًا قارصًا أي وسقاني لبنًا."

لأن اللبن لا يطعم، فلابد من تقدير ما يليق به.

" وقال الشاعر:

علَّفتها تبنًا وماءً باردًا"

يعني وسقيتها ماءً باردًا.

"{‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ‏‏{ [ سورة الحج:21] أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضًا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل،‏ وقد قمعته إذا ضربتَه بها‏، وقمعته وأقمعته بمعنى أي قهرته وأذللته فانقمع‏،‏ وقال ابن السكيت‏:‏ أقمعت الرجل عني إقماعًا إذا طلع عليك فرددته عنك‏،‏ وقيل‏:‏ المقامع المطارق، وهي المرازب أيضًا‏،‏ وفي الحديث:« بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفًا‏». وقيل‏:‏ المقامع سياط من نار، وسميت بذلك؛ لأنها تقمع المضروب، أي تذلله‏.‏

‏ قوله تعالى:‏ {‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} أي من النار‏.‏ ‏{‏أُعِيدُوا فِيهَا} بالضرب بالمقامع‏، وقال أبو ظبيان‏:‏ ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم، وتفور فتلقِي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزّان إليها بالمقامع‏.‏ وقيل‏:‏ إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق مثل الأليم والوجيع‏.‏

 وقيل‏:‏ الحريق الاسم من الاحتراق‏، تحرّق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق‏،‏ والذوق‏:‏ مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم‏.‏"

كيف يفلت من أراد الهرب؟ لا يستطيع، يعني إذا كان في الدنيا في سجونها وفي أماكن التعذيب فيها فنسمع أحيانًا في بعض الأخبار سجن في بلد كذا قتلوا الحارس وهربوا، أو تسوروا الجدران وشردوا، هذا في الدنيا واقع، لكن كيف يفلت من في النار؟ نسأل الله السلامة والعافية.

"قوله تعالى: ‏{‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر، ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن‏، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}‏ ‏من‏‏ صلة‏."‏

هذه هي العادة مطردة في القرآن أنه إذا ذكر ووصف حال ترف تردفه بحال أو خبر الثاني، وهذا من الأوجه التي قيلت في سبب تسمية القرآن مثاني.

 "والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار، وفيه ثلاث لغات‏:‏ ضم السين وكسرها وإسوار‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة‏:‏ سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ‏.‏ قال هنا وفي فاطر: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤ} [ سورة ‏فاطر‏:‏ 33‏]،‏ وقال في سورة الإنسان: { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ‏{ [ سورة الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: سمعت خليلي -صلى الله عليه وسلم- يقول‏: « ‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏». وقيل‏:‏ تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة‏.‏ وفيه نظر، والقرآن يرده‏.‏" ‏‏

يعني يحلون لجمع المؤنث أم لجمع المذكر؟ الجمع مذكر، فدخول الذكور أولى، فدخول الذكور في يحلون أقوى من دخول الإناث فيه، ودخول الإناث فيه يدخلن تبعًا.

طالب: .............

 كذلك، لكن ظهوره في الآية لا يحتاج إلى أن ينازع فيه.

"ولؤلؤًا‏.‏ قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة: ‏{‏لؤلؤا‏} بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤًا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف‏.‏"

سورة الملائكة هي سورة ماذا؟ سورة فاطر، تقدمت الإشارة إليها.

 "وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في ‏‏فاطر‏ اتباعًا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف‏، وقرأ الباقون بالخفض في الموضعين‏.‏ وكان أبو بكر لا يهمز ‏‏اللؤلؤ‏ في كل القرآن، وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف‏.‏ قال القشيري‏:‏ والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر القرآن، بل نصه،‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ ‏لؤلؤ‏ بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب‏.‏"

من قرأها‏ بالخفض ظاهر العطف على لفظ ذهب، من ذهب ولؤلؤ، فظاهر العطف على اللفظ، وأما من قرأها لؤلؤًا اعتبر من هذه زائدة، اعتبروها زائدة، والعطف على محل ذهب، فمحلها النصب، وإن اشتغل اللفظ بحركة الحرف الزائد الناتجة عن الحرف الزائد، ومعلوم أنه لو حذفت من استقام، وليس معنى زائد أن وجوده كعدمه لا أبدًا، لا يوجد من هذا النوع في القرآن شيء، لكن إذا استقام الكلام بدونه وفهم المعنى ولو كان مرجوحًا؛ لوجود الحرف الزائد هذا أرجح وأفصح.

 "وقال السجستاني‏:‏ من نصب ‏‏اللؤلؤ‏ فالوقف الكافي ‏‏من ذهب‏؛ لأن المعنى: ويحلون لؤلؤًا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وليس كما قال؛ لأنا إذا خفضنا ‏اللؤلؤ‏ نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا‏:‏ يحلون فيها أساور ولؤلؤًا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول‏.‏

قوله تعالى: ‏{‏ولباسهم فيها حرير‏} أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير، وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏« ‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة‏». فإن قيل‏:‏ قد سوى النبي- صلى الله عليه وسلم- بين هذه الأشياء الثلاثة، وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم‏!‏ إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا‏."‏

{جَزَاءً وِفَاقًا} [ سورة النبأ:26] فالجزاء من جنس العمل، كما أن من يستمع إلى الغناء في الدنيا لا يسمع غناء الحور العين في الجنة، ولو دخلها؛ لأن استعمال هذه الأمور ليس بمقتضٍ الخلود في النار، يستحق العذاب، لكن مآله إلى الجنة إن لم يرتكب مكفرًا.

 "لا يقال‏:‏ إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة، والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه‏.‏ فإن نقول‏:‏ ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه‏، وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: «‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة»."

ويكون هذا من نوع الرتب في الجنة منازل متفاوتة، والمنازل فيها ما يناسب كل منزلة من أنواع النعيم، فالذي يدخل الجنة وفي أدنى منزلة منها ولو لم يشرب الخمر ولو لم يسمع الغناء ولو أتيحت له هذه الأشياء، لكن لاشك أنه محروم من أمور أخرى يتمتع بها من فوقه، ومن هذه الحيثية هو متجه.

 "والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو»،‏ وهذا نص صريح وإسناده صحيح‏.‏

 فإن كان قوله: «‏‏وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو» من قول النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذُكر فهو أعلى بالمقال وأبعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم‏."

قد يقول قائل إن وجود مثل هذه الفروق توجد نوع من الغل والحقد في النفوس على من أتيحت له والله تعالى يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [ سورة الحجر:47] فمثل هذا الذي يوجد منزوع، فيقال: إنه لا يوجد مثل هذا التفاوت نقول: هو منزوع وإن تباينت منازلهم، هو منزوع وإن تباينت منازله، ولا يقول قائل: كلهم يكونون في مكان واحد وفي منزلة واحدة ومقام واحد، لا، أبدًا.

طالب:....

لذلك ما يوفق لتمني هذه الأمور، ما يوفق لتمنيها.

طالب:...

نعم، يعني من عمل شيئًا من المحرمات في الدنيا مما يكون لأهل الجنة في الآخرة يحرم منه، الجزاء من جنس العمل.

طالب:.....

الأصل أنه {جَزَاءً وِفَاقًا} [ سورة النبأ:26]، {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ سورة فصلت: 47] فيجازي كل عامل بعمله، ورحمة أرحم الراحمين فوق ذلك كله، ورحمة الله لا يحجرها أحد.

طالب......

هذا مقتضى الأحاديث المذكورة.

 "وكذلك ‏‏من شرب الخمر ولم يتب،‏ و‏من استعمل آنية الذهب والفضة‏، وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة‏.

‏ وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى- والحمد لله،- وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف‏.‏

 قوله تعالى:‏ {‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [ سورة الحج: 24] أي أرشدوا إلى ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏يريد لا إله إلا الله والحمد لله‏‏‏،‏ وقيل‏:‏ القرآن، ثم قيل‏:‏ هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن‏.‏ ‏

{‏ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [ سورة الحج: 24] أي إلى صراط الله‏،‏ وصراط الله‏:‏ دينه وهو الإسلام‏، وقيل‏:‏ هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول،‏ وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله‏،‏ وقيل‏:‏ الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة‏، ‏{‏وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [ سورة الحج: 24]  أي إلى طريق الجنة‏.‏

قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ سورة الحج: 25]."

يعني هذا السياق ما يدل على أن الآية الأخيرة هذه في الآخرة فظنوا أنه فعل بهم ذلك؛ لأن ديدنهم في الدنيا أنهم {هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [ سورة الحج: 24] الذي هو الصراط المستقيم فكان ذلك جزاؤهم، يعني وهدوا قبل ذلك إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.

‏ "قوله تعالى‏: {‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [ سورة الحج:25] فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث‏.‏ والصد‏:‏ المنع أي وهم يصدون‏.‏

 وبهذا حسُن عطف المستقبل على الماضي‏."

 الذين كفروا ويصدون، كفروا في الماضي ويصدون في المستقبل.

‏ "وقيل‏:‏ الواو زائدة، ويصدون‏‏ خبر ‏‏إن‏‏‏.‏ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله: "‏والباد‏" تقديره‏:‏ خسروا إذا هلكوا‏.‏ وجاء ‏"‏ويصدون‏" مستقبلاً إذ هو فعل يديمونه، كما جاء قوله تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ}‏ [سورة الرعد‏:‏ 28‏]‏؛ فكأنه قال‏:‏ إن الذين كفروا من شأنهم الصد، ولو قال: إن الذين كفروا وصدروا لجاز‏."

لأنهم اتصفوا بها، اتصفوا بالصد فإن كان صدهم ينقطع حسن الماضي، وإن كان نيتهم الاستمرار في الصد جاء الفعل المستقبل مضارعًا.

‏ "قال النحاس‏:‏ وفي كتابي عن أبي إسحاق قال: وجائز أن يكون- وهو الوجه- الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال أبو جعفر‏:‏ وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر ‏‏إن‏ جزمًا، وأيضًا فإنه جواب الشرط."

 جواب من يرد، جواب الشرط مجزوم، كيف يكون خبر إن مجزومًا؟

"ولو كان خبر ‏إن‏‏ لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل، فلا بد له من جواب‏.‏

الثانية: قوله تعالى: ‏{‏ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ‏} قيل‏:‏ إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره‏.‏ وقيل‏:‏ الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجًا عنه؛ قال الله تعالى: { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ‏[‏ سورة الفتح‏:‏ 25‏]‏ وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[ سورة الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏، وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك‏."‏

إطلاق المسجد الحرام وإرادة المسجد نفسه أو الحرم بحدوده المعروفة خارج البيت مسألة خلافية بين أهل العلم يترتب على ذلك المضاعفات هل هي خاصة بالمسجد مسجد الكعبة أو عامة في أنحاء العلم؟ مسألة فيها خلاف؛ يرى الجمهور: على أنه عام فالتضعيف يشمل ما كان داخل حدود الحرم وإن كان خارج المسجد، ومن أهل العلم من يقف عند لفظ المسجد، ولا يراه متعديًا إلى غيره، لكن الجمهور يستدل هنا بأدلة المسجد الحرام وإخراج أهله منه، إخراج أهله يعني إخراجهم من مكة ما أخرجوهم من المسجد، ولهم أدلة أخرى مذكورة في مكانها، وتقدمت.

"الثالثة: قوله: ‏{‏ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ}‏ أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى‏: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [ سورة آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏

{‏ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف‏:‏ المقيم الملازم‏.‏ والبادي‏:‏ أهل البادية ومن يقدم عليهم‏.

‏ يقول‏:‏ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه، الحاضر والذي يأتيه من البلاد فليس أهل مكة أحق من النازح إليه‏.‏"

 نعم يستوي في ذلك المقيم في المسجد المجاور فيه، المعتكف فيه، الساكن فيه، ومن يأتي من البادية ليؤدي فرضًا واحدًا، فمن سبق إلى ما لم يسبق إليه في هذا المكان الذي يستوي فيه هذا وهذا، فمن سبق إليه فهو أحق به، فإن أراد المقيم أو الساكن أو المعتكف أن يعتدي على حق هذا السابق، وإن كان جاء لأداء فرض واحد صدق عليه أنه أراد فيه بالحاد، فليس هذا بأحق من البادي الذي يأتي لأداء فريضة واحدة، فمن سبق إلى شيء لم يسبق إليه من المباحات والمشاعر كلها مباحة للناس جميعًا فهو أحق به، ومن منعه فهو مريد للإلحاد في الحرم، ولا يعني الإلحاد أنه الخروج من الدين بالكلية كما هو متعارف عليه إذا قيل: فلان ملحد أو زنديق أو كذا لا، وإنما الإلحاد الميل عن الصراط المستقيم، هذا لاشك أنه مخالف ومائل عن الصراط المستقيم، لكن جزاءه في الحرم أشد من جزائه خارج الحرم؛ ولذلك قال: نذقه، فليحذر هؤلاء الذين يأتون بنية طيبة وصالحة؛ لمجاورة البيت والاعتكاف فيه ثم يحجزون أماكن يذودون عنها الناس، فليسوا بأحق ممن يأتي لأداء فريضة واحدة.

طالب:.....

نعم قال أهل العلم: إن هذا خاص بالحرم بالمسجد، الحرم عمومًا أنه مجرد الإرادة يؤاخذ عليها، مجرد الإرادة يؤاخذ عليها.

"وقيل‏:‏ إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها‏.‏ وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم‏.‏ وروي عن عمر وابن عباس وجماعة: أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى‏، وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابًا فأنكر عليه عمر وقال‏:‏ أتغلق بابًا في وجه حاج بيت الله‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب‏."‏

وهذا مبني على مسألة وهي أن مكة فتحت صلحًا أو فتحت عنوة؛ فالذي يقول: فتحت صلحًا يقول: تملك بيوتها ودورها وتباع وتؤجر، والذي يقول فتحت عنوة يقول: لا هي للمسلمين عمومًا، فلا يختص بها أحد دون أحد، وليس أحد أحق ببيته من غيره، وذكر عن السلف أنه ليس لهم أبواب ولا غلق ولا شيء، يأتي الحاج فيسكن في أي بيت حيث شاء بناءً على أن مكة فُتحت عنوة، والقول الوسط في هذه المسألة أن مكة فتحت عنوة كما هو معروف نكلت  بالسيف، حدث فيها قتل في الساعة التي أُحلت للنبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك منّ النبي- عليه الصلاة والسلام- على أهلها بما في أيديهم، فمنّ عليهم برقابهم ومنّ عليهم بما في أيديهم، وتكون حينئذ ملكًا لهم، ويختصون بها دون غيرهم، أما كون بيوتهم ليس لها أبواب لا يعني أنها ملك غيرهم، لا، وإنما كما كان بحال السلف لا يظن الرجل أن ديناره ودرهمه هو أحق به من أخيه، وذلك قبل أن يلقى الشح في أنفس الناس.

 "وروى عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أيضًا: أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور‏، وروي عن مالك: أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم‏.‏ وبهذا قال جمهور من الأمة‏.‏

وهذا الخلاف بُني على أصلين‏:‏

 أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس‏.

‏ وللخلاف سببان‏:‏ أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يقسمها، وأقرّها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر- رضي الله عنه- بأرض السواد، وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانًا إليهم دون سائر الكفار، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به‏، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي‏.‏

 أو كان فتحها صلحًا، وإليه ذهب الشافعي، فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا‏، وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنًا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ‏‏المائدة‏‏‏.‏ وقد روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حبس في تهمة‏، وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول‏:‏ لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فُتحت عنوة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد،‏ وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال‏:‏ تُوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن‏.‏ وزاد في رواية‏:‏ وعثمان‏، وروي أيضًا عن علقمة بن نضلة الكناني قال‏:‏ كانت تُدعى بيوت مكة على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- السوائب، لا تباع، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.‏"

لكن ما الذي نسخ هذا، يعني على قول الشافعي حتى في وقته بيوت مكة ورباعها يختص بها أصحابها وليس كما كانت عليه في عهد النبي والصحابة أبي بكر وعمر، فهل هذا نُسخ؟ أو ارتكب الناس هذه المخالفة، واغتصبوا ما في أيديهم وصاروا أحق بها؟ أو نقول: إنها فُتحت عنوة ومنّ بها النبي على أربابها كما منّ لهم بأنفسهم وأموالهم، وأن لهم خصيصة في ذلك، وأما كونهم في عهد النبي وفي عهد أبي بكر وعمر لا يرون أنهم أحق من غيرهم، هذا مضطرد عندهم في عهدهم الرجل لا يرى أنه أحق بمتاعه من غيره، ولا أحق بداره وبماله من غيره.

طالب:....

نعم، يعني الذي دخله خالد، والذي دخله النبي عليه الصلاة والسلام؟

طالب: ..........

 كل هذا بعيد وإن قيل به، لكن بعيد؛ لأن حكم البعض حكم الكل.

طالب:....

هذا في العراق، لما فتحت العراق فعل بهم عمر ما فعل.

"وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا».‏

قال الدارقطني‏:‏ كذا رواه أبو حنيفة مرفوعًا ووهم فيه، ووهم أيضًا في قوله: عبيدالله بن أبي يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضًا عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله‏:‏ «مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها»، وروى أبو داود عن عائشة- رضي الله عنها- قالت‏:‏ « قلت: يا رسول الله، ألا أبني لك بمنى بيتًا أو بناءً يظلك من الشمس‏؟‏ فقال‏:‏ ‏لا، إنما هو مناخ من سبق إليه»، وتمسك الشافعي- رضي الله عنه-بقوله تعالى: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم‏} [سورة الحج‏:‏ 40‏]‏ فأضافها إليهم‏، وقال -عليه السلام- يوم الفتح‏:‏ «‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».‏‏

قرأ جمهور الناس: ‏‏سواء‏ بالرفع، وهو على الابتداء، و‏العاكف‏ خبره‏، وقيل‏:‏ الخبر ‏‏سواء‏ وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى‏:‏ الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدًا العاكف فيه والبادي سواء‏، وقرأ حفص عن عاصم: "‏سواء‏‏" بالنصب، وهي قراءة الأعمش، وذلك يحتمل أيضًا وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مفعولاً ثانيًا لجعل، ويرتفع ‏العاكف‏ به؛ لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل؛ لأنه في معنى مستوٍ‏."

واسم الفاعل كذلك المصدر يعمل عمل فعله، فكأن السياق يستوي فيه العاكف والبادي.

‏ "والوجه الثاني‏:‏ أن يكون حالاً من الضمير في جعلناه‏.‏ وقرأت فرقة ‏‏سواء‏‏ بالنصب."

 يعني حال كونه مستويًا.

‏"العاكف‏ بالخفض، و‏‏البادي ‏عطفًا على الناس، والتقدير‏:‏ الذي جعلناه للناس العاكف والبادي‏.‏ وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء‏، وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف‏."

البادي أو الباد، سواء العاكف فيه والباد.

 "وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ‏} شرط، وجوابه ‏{‏ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}،‏ والإلحاد في اللغة‏:‏ الميل؛ إلا أن الله تعالى بيَّن أن الميل بالظلم هو المراد‏،‏ واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ‏{‏ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ‏} قال‏:‏ الشرك‏، وقال عطاء‏:‏ الشرك والقتل‏، وقيل‏:‏ معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخوله غير محرم‏، وقال ابن عمر‏:‏ ‏‏كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان‏:‏ لا والله‏!‏ وبلى والله‏!‏ وكلا والله‏!‏ ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل، والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم."

من أجل المضاعفة يدخل فسطاط الحرم من أجل المضاعفة.

 "وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل."

 لئلا تُعظم أعماله نتائج أعماله مما يترتب عليه مخالفة يرتكبها في الحل، والعبادات والصلوات يجعلها في الحرم.

طالب:.....

ماذا فيه؟

طالب:...

لا لا لمن سبق، ولا يجزم بنوافله.

طالب:....

المقصود أن هذا هو الحكم الشرعي من سبق إلى شيء لم يسبق إليه من المباحات فهو أحق به لا سيما أماكن العبادة، أماكن العبادة والمشاعر لا يجوز التعدي فيها على أحد، ما دام سبق فلا يجوز لأحد أن ينقله من مكان إلى مكان، لكن إذا رأى ولي الأمر أن الترتيب والتنظيم فيه مصلحة، والناس دخل في قلوبهم الجشع والهلع وصاروا يأخذون أكثر مما يستحقون، ورأى الترتيب والتنظيم فهذا أمر يعود إلى الإمام نفسه على ألا يتعدى الإمام نفسه بأن يزيد وينقص فهذا معروف، لكن إذا توقّى المصلحة وعدل بين الناس في القسمة فالأمر إليه.

طالب:.....

أما الأماكن التي لا يستفاد منها ألبتة إلا بالبناء فهذه لا مانع من بنائها كسفوح الجبال مثلاً، لكن السهول التي يستفاد منها من غير بناء فالأصل عدم البناء.

طالب:....

ما يسكنون في منى والمزدلفة وعرفة، يسكنون في مكة.

طالب:.....

الحرم، لكن ليست من الحرم المشاع وهذه المسألة مبنية على كونها صلحًا أو عنوة، إنما أماكن العبادة التي تقام فيها الشعائر، فالتي تقام فيها الشعائر هذه لعموم الناس.

طالب:.....

نعم بلا شك.

طالب:....

لما أرادت عائشة أن تبني للرسول- عليه الصلاة والسلام- وقال: لا، والفتوى على هذا أنه لا يبنى فيه، وجود بعض البنايات الصغيرة ببعض المرافق فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم- رحمه الله- الأمر بإزالتها، ولاشك أن ولي الأمر إذا رأى أن المصلحة راجحة، والمفسدة كبيرة بتركها لا سيما حين دخل قلوب الناس الهلع والشح والجشع، كل إنسان يريد أن يستولي على ما لا يستحقه مما هو أكبر من حاجته، فولي الأمر له مدخل في الشرع.

طالب:....

كيف؟

طالب:....

على كل حال المفاسد تقدر بقدرها.

طالب:....

خارج المسجد في حدود الحرم الحكم واحد، إلا أن المسجد له القدم وكثرة الجماعة له من الخصائص كالقدم وكثرة الجنائز والجماعة تجعله أفضل من غيره.

"وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل صيانة للحرم عن قولهم: كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه،‏ وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم."

يعني مع وجود المضاعفة الصلاة بمائة ألف صلاة، يعني الصلاة مرة واحدة تعادل عبادة خمس وخمسين سنة، ليست سهلة ليست بالأمر اليسير، ومع ذلك الصحابة تفرقوا في الأمصار، مما يدل على أن التفرق من أجل الجهاد ومن أجل الدعوة ومن أجل تعليم الناس الخير أفضل من هذه المضاعفة.

 "فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات،"

المحقق أنها لا تضاعف، وإنما تُعظم.

 "فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة، والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر الحرم سواء‏، وقد تقدم‏.‏ وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏: ‏« احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه»، وهو قول عمر بن الخطاب‏،‏ والعموم يأتي على هذا كله‏.‏

السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله‏.‏ وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا‏:‏ لو همَّ رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ‏‏بعدن أبين‏‏ لعذبه الله‏.‏

قلت‏:‏ هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة ن والقلم [ سورة القلم‏:‏ 1‏]‏ مبينًا، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء الله تعالى‏."‏

موضع البيان في أصحاب الجنة الذين أضمروا في أنفسهم حرمان الفقراء، أضمروا في أنفسهم حرمان الفقراء فحرموا من ثمرة جنتهم؛ معاقبة لهم، وصاروا يستحقون العقاب بمجرد الإضمار مع أنهم تكلموا وأقسموا.

"السابعة: الباء في ‏‏بإلحاد‏ زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {تنبت بالدهن} [ سورة المؤمنون‏:‏20‏]‏؛ وعليه حملوا قول الشاعر‏:‏   

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج     

 

  نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد‏:‏ نرجو الفرج‏.‏

وقال الأعشى‏:‏

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

­

 

 

أي رزق‏:‏ وقال آخر‏:‏    

ألم يأتيك والأنباء تَنْمِي      

 

بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ سمعت أعرابيَّا وسألته عن شيء فقال‏:‏ أرجو بذاك، أي أرجو ذاك‏.‏

 وقال الشاعر‏:‏   

بواد يمان ينبت الشث صدرة

 

وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ‏.‏ وهو قول الأخفش، والمعنى عنده‏:‏ ومن يرد فيه إلحادًا بظلم‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ دخلت الباء؛ لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف‏، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ ومَن يُردِ الناسَ فيه بإلحاد،‏ وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه‏،‏ ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة‏."‏

يعني ما لم يتكلم ويعمل فحديث النفس معفو عنه، قبله الهاجس والخاطر من باب أولى، وأما الهم فكذلك عند الأكثر، وأما العزم فمؤاخذ به.

"هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم‏.‏ وقد ذكرناه آنفا‏."‏

اللهم صل على محمد.

"