التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحج (08)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد} [ سورة الحج: 53].

قوله تعالى: ‏{‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً‏}‏ أي ضلالة‏، ‏{‏ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ‏} أي شرك ونفاق‏،‏ ‏{‏ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله تعالى‏،‏ قال الثعلبي‏:‏ وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبَّه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله: ‏{‏ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ}[ سورة الحج: 52]‏‏، ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم‏:‏ تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرًا ويقول‏:‏ غلطت وظننته قرآنًا.

{‏ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد‏} أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله -عز وجل- ولرسوله- صلى الله عليه وسلم‏-، وقد تقدم في ‏‏البقرة،‏ والحمد لله وحده‏".

قول المؤلف- رحمه الله- نقلاً عن الثعلبي أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط، كل هذه من مصلحة التشريع، لا قدح في التشريع يسهو ليسن، وكيف تعرف أحكام السهو إلا من خلال سهوه -عليه الصلاة والسلام- وصنيعه لمحو هذا السهو كما سها في صلاته -عليه الصلاة والسلام-، وينسى ليسن أيضًا فينبه ليعرف من ابتلي بالنسيان أحكام ذلك، ويغلط أيضًا في الحكم في الخصومات بعد أن استعمل الوسائل الشرعية التي ينبغي للقضاة بل يجب على القضاة أن يعملوا بها، استعمل الوسائل الشرعية، لا يلزم أن تكون النتيجة الصواب، لا يلزم أن تكون النتيجة الصواب، «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع»، مؤيد بالوحي -عليه الصلاة والسلام-.

 لكن هذا لحكمة عظيمة، كيف يعرف القضاة كيف يقضون إلا من خلال قضائه -عليه الصلاة والسلام-؟ ومن لازم ذلك الخطأ والنسيان على القضاة، وعدم مطابقة الواقع إذا تحروا في أحكامهم وسلكوا المسالك الشرعية فإنهم حينئذ لا إثم عليهم، بل لهم أجر على مثل هذه إذا قصدوا الحق والخير والصواب، ولم يصيبوه. إذا حكم الحاكم فأصاب، إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو باعتباره حاكمًا من الحكام -عليه الصلاة والسلام- يحصل له ما يحصل لغيره، «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها» لا يؤخذ هذا الكلام على إطلاقه، وأنه كغيره من البشر أبدًا، وإنما يسهو ليشرع ويسن، يغلط ليشرع للقضاة، ويسن لهم كيف يقضون، ولا يكون عليهم في قلوبهم حسرة أو ضيق أو أسى أو ألم إذا لم يصيبوا في قضائهم.

 وإلا لو لم يكن هذا منه -عليه الصلاة والسلام- لما جرأ أحد على القضاء، أي لو كانت أحكامه -عليه الصلاة والسلام- في هذا الباب كلها صائبة لما تقدم أحد، ولا قَبِل أحد القضاء؛ خشية أن يغلط. ففي هذا تسلية للقضاة، وفي الأول تسلية للعباد في الصلاة والصيام وغيرهما يحصل السهو والغلط، لكن هناك ما يمحو أثر هذا السهو والنسيان والغلط.

أما في مقام التبليغ، فهذا لا يجوز فيه مثل ذلك، وما يذكر من أن الشيطان أدخل في قراءته تلك الغرانيق العلا كما تقدم الدرس السابق على باطل، هذا محكوم بوضعه عند أهل العلم.

"قوله تعالى: ‏{‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏} أي من المؤمنين‏،‏ وقيل‏:‏ أهل الكتاب‏، {‏أنه}‏‏ أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو ‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي تخشع وتسكن‏،‏ وقيل‏:‏ تخلص‏، ‏{‏ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا‏} قرأ أبو حيوة: ‏{‏وإن الله لهاد الذين آمنوا‏} بالتنوين‏."

 بدون إضافة.

"{‏ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏} أي يثبتهم على الهداية‏".‏

مثل ما وقع أو بسبب ما وقع من سهوه -عليه الصلاة والسلام- ونسيانه صار فتنة للذين في قلوبهم مرض، صار فتنة للمنافقين، صار فتنة للكفار فقالوا ما قالوا لعبدالله بن عمرو: أنت تكتب عن محمد كل شيء، وهو بشر يعتريه ما يعتري البشر، يتكلم في الغضب والرضا، ويعتريه ما يعتري غيره، فذكر ذلك للنبي- عليه الصلاة والسلام- فقال: «اكتب، فوالله ما نطق هذا إلا بحق» أي ما نطق لسانه إلا بالحق، ما يجري على لسانه الغلط في غير هذه المقامات التي ذُكرت فمن أجل التشريع.

 "‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}‏.

قوله تعالى: ‏{‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ‏}‏ يعني: في شك من القرآن، قاله ابن جريج"‏.‏

فيه سؤال قبل درسين أو ثلاثة يقول: ما الفرق بين الريب والمرية والشك والظن؟

الريب هو الشك، وكذلك المرية كما هنا، فالشك والمرية والريب مترادفات، والظن مرتبة أعلى؛ لأن الشك مستوي الطرفين، والظن هو الجانب الأقوى والاحتمال الراجح، يقابله الوهم وهو الاحتمال المرجوح.

"يعني: في شك من القرآن، قاله ابن جريج‏ وغيره‏:‏ من الدين؛ وهو الصراط المستقيم‏، وقيل‏:‏ مما ألقى الشيطان على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويقولون‏:‏ ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها‏؟ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏‏{في مُرية‏} بضم الميم‏.‏ والكسر أعرف، ذكره النحاس"‏.‏

أعرف يعني هو المعروف، أعرف صيغة أفعل تفضيل هنا، يعني هذا وإن عرف عن بعض الناس كأبي عبدالرحمن السلمي، لكن الكسر مرية أعرف، يعني أكثر معرفة عند الناس، يعرفها الناس أكثر من هذا، والتفسير الذي ذكر ما ألقى الشيطان على لسانه -عليه الصلاة والسلام- ويقول: ما باله ذكر الاصنام ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها، هذا على القول بثبوت القصة.

"والكسر أعرف، ذكره النحاس‏،‏ ‏{‏ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً‏} أي القيامة‏،‏ ‏{‏ بَغْتَةً‏} أي فجأة‏.‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة‏، قال النحاس‏:‏ سمي يوم القيامة عقيمًا؛ لأنه ليس يعقب بعده يومًا مثله؛ وهو معنى قول الضحاك‏.‏ والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد، ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم،‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ لأنهم لم يُنظَروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء، فصار يومًا لا ليلة له‏، وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له‏، وقيل‏:‏ لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيمًا من كل خير؛ ومنه قوله تعالى:‏{‏ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } [سورة ‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة‏.‏

 قوله تعالى: ‏{‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ‏} يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع‏".‏

‏{‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} يعني في يوم القيامة والملك لله- جلا وعلا- في الدنيا والآخرة، لكن لما وجدت صورة الملك، وإن كان لا حقيقة له في الدنيا وادعى من ادعى أنه ملك، وادعاه الناس وهو حقيقة عرفية عند الناس، وفيه شوب ونوع ملك إلا أن الملك المطلق لله- جلا وعلا- في الدنيا والآخرة، لكن في الآخرة لا يدعي ذلك أحد، في الدنيا يدعون أنهم ملوك، فخص الملك ليوم القيامة.

"والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور‏،‏ ثم بيَّن حكمه فقال: ‏{ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏} [سورة الحج: 56-57].‏

قلت‏:‏ وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ يومئذ‏‏ ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن، وقد قال -عليه السلام- لعمر‏:‏ «‏‏وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم‏».‏

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}.

أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا؛ تفضيلاً لهم وتشريفًا على سائر الموتى‏.‏

وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس‏:‏ من قُتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقًا حسنًا‏.‏ وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل‏.‏ وقد قال بعض أهل العلم‏:‏ إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله‏، وقال بعضهم‏:‏ هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى: ‏{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏} [سورة ‏النساء‏:‏ 100‏]‏".

المقصود أنه يموت في سبيل الله سواء قتل خلال قتال العدو أو مات حتف أنفه، لكنه في سبيل الله هؤلاء أجرهم سواء، إن شاء الله، من يموت في بيته، في بلده من غير جهاد ومن غير نية للجهاد، فمثل هذا لا يكتب له أجر مثل ما يكتب في سبيل الله.

"وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «‏أنت من الأولين» ‏، وبقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث عبدالله بن عتيك‏:‏ «من خرج من بيته مهاجرًا في سبيل الله فخر عن دابته فمات، أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله، ومن مات قعصًا فقد استوجب المآب»‏‏. وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات، والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له‏:‏ تركت الشهيد ولم تجلس عنده‏؟‏ فقال‏:‏ ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، ثم تلا قوله تعالى:‏ {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا‏} الآية كلها‏.

 وقال سليمان بن عامر‏:‏ كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل، والآخر متوفى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال‏:‏ أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل‏!‏ فوالذي نفسي بيده، ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا‏}‏‏، كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه سئل‏:‏ أي الجهاد أفضل‏؟‏ قال‏:‏ «من أهريق دمه، وعقر جواده»‏‏‏،‏ وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول‏.

 قرأ ابن عامر وأهل الشام: ‏‏قتلوا‏‏ بالتشديد على التكثير‏، الباقون بالتخفيف"‏.‏

يعني استواء من مات أو قتل في أصل الثواب لا يعني استواءه من كل وجه، لا يعني الاستواء من كل وجه، من قتل ثبت له الشهادة في الدنيا والآخرة، ومن مات ثبت له الأجر- إن شاء الله تعالى- وإن لم تثبت له الشهادة لاسيما في الدنيا. والشهداء عند أهل العلم يقسمون إلى أقسام  منهم شهيد في الدنيا والآخرة، ومن قتل في سبيل الله مخلصًا في ذلك لله- جلا وعلا-  قاصدًا بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا، وقتل مقبلاً غير مدبر مثل هذا شهيد في الدنيا والآخرة، إن شاء الله تعالي، مع أنه لا يجزم جزمًا قاطعًا بأن فلانًا شهيد، فضلاً عمن لا تتوافر فيه هذه الشروط.

 وهناك شهيد في الدنيا فقط وهو من قتل في الجهاد في سبيل الله، وإن كان في نيته شيء من الخلل، أو حصل له خلل ظاهر في غير النية من غلول أو شبهه، مقصد مثل هذا في أحكام الدنيا شهيد لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، أحكام الشهيد تثبت له في الدنيا، وفي الآخرة يتولاه الله- جلا وعلا-، ومنهم شهيد الآخرة فقط، وهو من مات بسبب ثبتت له الشهادة بالنص، ولم يكن مقتولاً في سبيل الله  مثل الغريق والحريق والمبطون وما أشبههم ممن جاء النص عليه.

‏ "قرأ ابن عامر وأهل الشام: ‏‏قتِّلوا‏ بالتشديد على التكثير‏.‏ والباقون بالتخفيف‏.‏ {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ‏}‏ أي الجنان،‏ قراءة أهل المدينة: ‏‏مَدخلاً‏ بفتح الميم؛ أي دخولاً، وضمها الباقون، وقد مضى في الإسراء‏.‏ ‏{‏ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} قال ابن عباس‏:‏ عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ‏}‏ ‏‏ذلك‏‏ في موضع رفع؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك‏، قال مقاتل‏:‏ نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا‏:‏ إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد، فعاقبهم رسول الله بمثله‏.‏ فمعنى {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [ سورة ‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏،‏ ومثل ‏{‏ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ‏}‏ [ سورة البقرة‏:‏ 194‏]‏‏".‏

أي من بعد المشاكلة في التعبير والمجانسة، معاقبة الجاني ليس بسيئة، معاقبة الجاني ليس بالسيئة، وإن كانت الجناية سيئة، لكن معاقبته حسنة، سُميت سيئة من باب المجانسة والمشاكلة في التعبير لا أكثر، مثله من اعتدى عليكم هذا معتدٍ، البادي معتدٍ، لكن من يرد العدوان بمثل ما اعتدي عليه فهذا ليس بمعتدي، مأذون له بأن يدفع عن نفسه، وقوله في السابق القتل بالمثل ليس هو المُثلة التي نُهي عنها، جاء النهي عن المثلة، فكونه يعاقب بمثل ما عوقب به ليست هذه هي المُثلة المنهي عنها، وإنما هي مماثلة، مماثلة في القتل وفي الاقتصاص، وليست من المُثلة بشيء.

‏"{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ‏} أي بالكلام والإزعاج من وطنه؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم‏.‏ ‏{‏لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ‏} أي لينصرن الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ فإن الكفار بغوا عليهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر‏.‏

قوله تعالى: ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ‏}‏ أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار، فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده‏، وقد مضى في ‏‏آل عمران‏‏ معنى يولج الليل في النهار"‏.‏

أي يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل، فيدخل الليل في النهار إذا طال النهار، ويدخل النهار في الليل إذا طال الليل، إذا طال الليل أدخل جزءًا منه في النهار والعكس.

‏"{‏وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏} يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها‏".‏

فيها إثبات للسمع والبصر على ما يليق بجلاله- سبحانه وتعالى-.

"قوله تعالى:‏ {‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذو الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق‏، والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق. ‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ‏} أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات‏، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر: "‏‏وأن ما تدعون"‏‏ بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم‏، الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان، واختاره أبو عبيد‏.‏

{‏وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدَّس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله‏.‏ ‏{‏ الْكَبِيرُ} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن‏، وقيل‏:‏ الكبير ذو الكبرياء‏، والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدًا وأزلاً، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه"‏.‏

له العلو المطلق بأنواعه؛ علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر.

"قوله تعالى:‏ {‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} دليل على كمال قدرته؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت، كما قال الله- عز وجل- ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ‏}‏ [ سورة فصلت‏:‏ 39‏]‏‏ ومثله كثير‏.‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ‏}‏ ليس بجواب فيكون منصوبًا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه‏، قال الخليل‏:‏ المعنى انتبه‏!‏ أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال‏:‏           

ألم تسأل الربع القواء فينطق  

 

وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه قد سألته فنطق‏.‏ وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح‏!‏ أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل‏، وقال الفراء‏ ‏ألم تر‏ خبر، كما تقول في الكلام‏:‏ اعلم أن الله -عز وجل- ينزل من السماء ماء‏،‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}‏ أي ذات خضرة؛ كما تقول‏:‏ مقلة ومسبعة".

ما لم تر، هذا وإن كان بصيغة الاستفهام إلا أنه خبر بخلاف أرأيت في الماضي فهو طلب يعني أخبرني، وبالنسبة للخبر، وإن يكن مشاهدًا إلا باعتباره في حكم المشاهد، عبر عنه بالرؤية هو خبر، لكن باعتباره في حكم المشاهد في قوته وقوة ثبوته وقطعيته عُبر عنه بالرؤية { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [ سورة الفجر: 6]، والنبي- عليه الصلاة والسلام- ما رأي، ولكن بلغه بخبر مقطوع به كالمشاهد بالقطعية فعبر عنه بالرؤية، ومثله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [ سورة الفيل:1] ما رأى -عليه الصلاة والسلام-، ولكنه بلغه الخبر بطريق قطعي في حكم المشاهد في القطعية فعبر عنه بالرؤية.

‏"{‏فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}‏ أي ذات خضرة؛ كما تقول‏:‏ مقلة ومسبعة أي ذات بقل وسباع‏.‏ وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة‏،‏ قال ابن عطية‏:‏ وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أنه أخذ قوله ‏‏فتصبح‏ مقصودًا به صباح ليلة المطر، وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا ‏‏في‏‏ السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق"‏.‏

أخذه من قوله: فتصبح، ما معني فتصبح؟ أي في الصباح، ليس فتصبح يعني فتكون في المستقبل، تصبح يعني في الصباح في أول صباح بعد المطر، يقول: رأيت هذا بسوس، سوس بلد، يقول: رأيت هذا، أمطرت بالليل واخضرت في الصباح، وفي كثير من البلدان يتأخر من بعد المطر، يمكث أيامًا ثم تخضر الأرض.

 ‏"{‏إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس‏:‏ ‏‏‏خبير‏‏ بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر‏، ‏لطيف‏ بأرزاق عباده‏، وقيل‏:‏ لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم‏.‏

 قوله تعالى:‏ { لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ خلقًا وملكًا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏} فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار‏.‏ ‏{وَالْفُلْكَ‏} أي وسخر لكم الفلك في حال جريها‏،‏ وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج: "‏‏والفلكُ"‏ رفعًا على الابتداء وما بعده خبره‏،‏ الباقون بالنصب نسقًا على قوله: ‏{‏ما في الأرض}..."

سخر لكم ما في الأرض، وسخر لكم الفلك هذا على النصب، {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض} سخر ما.. هذه مسخرة، عطف عليها الفلك فهي منصوبة، وعلي القراءة تكون الواو استئنافية، والفلك مبتدأ، وتجري خبرها.

‏"{‏وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ‏} أي كراهية أن تقع"‏.‏

أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لأجله.

"وقال الكوفيون‏:‏ لئلا تقع‏، وإمساكه لها خلق السكون فيها حالاً بعد حال. ‏{‏إِلَّا بِإِذْنِهِ‏} أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وتخليته‏".‏

يعني لو تركها فلم يمسكها وقعت.

"{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم‏.‏

 قوله تعالى: ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ‏}‏ أي بعد أن كنتم نُطَفًا‏.‏ ‏{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي للحساب والثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ‏}‏ أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته‏،‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال ذلك؛ لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى: {‏وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏} [ سورة ‏سبأ‏:‏ 13‏]"‏‏.‏

نعم هذه إذا جعلنا ال في الإنسان جنسية تشمل الناس كلهم بما فيهم المسلم والكافر، فيكون جنس الإنسان كفورًا؛ كفورًا للنعم، لا يلزم أن يكون كافرًا بالله- جلا وعلا-، ولذا كثير من الناس يخطئ في فهم قول الله- جلا وعلا-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ سورة إبراهيم: 7] يقولون: نحن ما كفرنا، نحن مسلمون نصوم ونصلي، لكن المراد بهذا كفر النعم في مقابلة الشكر، في مقابلة الشكر، فلا يغتر الإنسان بأنه يصوم ويصلي، ولكن كفر النعمة يستحق هذا العذاب.

"قوله تعالى:‏ {‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا‏}‏ أي شرعًا‏.‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ أي عاملون به‏.‏ ‏{‏فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر‏".‏

الشرائع موجودة في كل عصر، الشرائع موجودة في كل عصر، بعث الله- جل وعلا- الأنبياء  بالشرائع.

"وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين‏:‏ تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة‏".‏

احتجوا بحجة قد تمشي وتنطلي على بعض الجهال، يقول: ما ذبحته أنت بسكينك تأكله، وما ذبحه الله- جل وعلا- ما تأكله، ذبح الله ميتة خرجت روحها رغم أنفها أولي بالأكل مما ذبحته أنت؟ لكن هذا كلام مشاقة ومنازعة لحكم الله- جل وعلا-.

"وقد مضى هذا في ‏‏الأنعام‏‏، والحمد لله‏،‏ وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى: ‏{‏مَنسَكًا} [سورة ‏الحج‏:‏ 34‏]‏‏،‏ وقوله: ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه،‏ وقال الزجاج:‏ {‏فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ‏}‏ أي فلا يجادلنك؛ ودل على هذا ‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ‏}‏‏، ويقال‏:‏ قد نازعوه فكيف قال: فلا ينازعنك؟

 فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت‏.‏ نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول‏:‏ لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت، فيجري هذا في باب المفاعلة،‏ ولا يقال‏:‏ لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا‏،‏ وقرأ أبو مجلز: ‏"‏فلا ينزعنك في الأمر‏" أي لا يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك‏.‏ وقراءة الجماعة من المنازعة‏، ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي- صلى الله عليه وسلم‏".‏

إذا كان المقصود النبي- عليه الصلاة والسلام- بهذا النهي، فالمراد لا تتركهم فرصة للمنازعة هذا له ولمن يقوم مقامه من الدعاة إلى الحق لا يتركون فرصة للكفار أن يجادلوهم وينازعوهم أو يستدلوا ببعض أقوالهم وأفعالهم على بعض.

‏"{‏وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ أي إلى توحيده ودينه والإيمان به‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى‏}‏ أي دين‏ مستقيم أي قويم لا اعوجاج فيه.

 قوله تعالى:‏ {‏وَإِنْ جَادَلُوكَ‏}‏ أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة‏.‏ ‏{‏فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يريد من تكذيبهم محمدًا- صلى الله عليه وسلم- عن ابن عباس‏، وقال مقاتل‏:‏ ‏‏هذه الآية نزلت على النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى، فأوحى الله إليه‏،‏ ‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ‏}‏ بالباطل فدافعهم بقولك: ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الكفر والتكذيب، فأمره الله- تعالى- بالإعراض عن مماراتهم؛ صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد"‏.‏

يعني بعض الناس يظهر من سؤاله أنه يريد العناد، وإن كان ظاهر السؤال حقًّا، ولو ألقاه غير هذا الشخص لقبل منه وأُجيب عليه، ولكن بعض الناس يظهر من سؤاله ومن حاله ومن تصرفاته أنه يريد العناد، ولا يطرق الحق، فمثل هذا يعرض عنه.

‏"{‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏} يريد بين النبي- صلى الله عليه وسلم- وقومه‏.‏ ‏{‏فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل‏.‏

 مسألة‏:                                              

في هذه الآية أدب حسن علَّمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتًا ومراءً ألا يجاب ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: ‏{‏اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ‏}.‏

قوله تعالى:‏ {‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}‏ أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضًا ما أنتم مختلفون فيه، فهو يحكم بينكم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه استفهام تقرير للغير‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب‏.‏

 ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}‏ أي إن الفصل بين المختلفين على الله يسير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير"‏.‏

لا يتصور متصور أن هذه الأمور التي دُوِّنت في اللوح المحفوظ منذ بدء الخلق إلى قيام الساعة شيء يشق على الله تعالى، هو كثير وعظيم، لكن القدرة الإلهية أعظم، فهو على الله يسير، لكن لو أن الإنسان إذا كلف بكتابة ورقة أو بضع ورقات شق عليه وصعب عليه، فضلاً عن  كتابة مجلد أو مجلدات، لكن على الله- جل  وعلا- يسير؛ لأن قدرته فوق ذلك، ومثل هذه الأمور وإن  كان فيها مشقة على المخلوقين إلا أنها يسيرة على من يسره الله عليه، لذا تجدون بعض الناس كتب مجلدات أو عشرات المجلدات، يسر الله عليه هذا الأمر وهذا الشأن في جميع أمور الآخرة مما يرضي الله –عز وجل-. «ذلك لقد سألت عن عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه» ولكن يبقى أن قدرة الله- جل وعلا- فوق ذلك كله يقول للأمر كن فيكون.

"قوله تعالى:‏ {‏ وَيَعْبُدُونَ} يريد كفار قريش‏.‏{‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي حجة وبرهانًا‏،‏ وقد تقدم في ‏‏آل عمران‏‏‏.‏ ‏{‏ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ‏}‏.

 قوله تعالى:‏ {‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ‏} يعني القرآن‏.‏ ‏{‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}‏ أي الغضب والعبوس‏.‏ ‏{‏يَكَادُونَ يَسْطُونَ‏} أي يبطشون‏، والسطوة شدة البطش؛ يقال‏:‏ سطا به يسطو إذا بطش به، كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه‏.‏ {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا}‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏يسطون يبسطون إليهم أيديهم‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ أي يقعون بهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أي يأخذونهم أخذًا باليد، والمعنى واحد‏،‏ وأصل السطو القهر‏.‏ والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة‏.‏

{‏قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ‏} أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار،‏ فكأنهم قالوا‏:‏ ما الذي هو شر؟ فقيل هو النار،‏ وقيل‏:‏ أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدًا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن‏،‏ ويجوز في ‏‏النار‏‏ الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار‏، والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولاً على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار،‏ والخفض على البدل‏".‏

بدل من ذلكم، والمعرفة بعد اسم الإشارة ماذا تصير؟

طالب: بدل.

نعم بدل أو عطف بيان.

 "‏{‏وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ في القيامة‏،‏ ‏{‏وَبِئْسَ الْمَصِير}‏ أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ هذا متصل بقوله: ‏{‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}‏‏، وإنما قال: ‏{‏ضُرِبَ مَثَلٌ‏}؛ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم‏".‏

لا شك أن المثال يوضح يقولون بالمثال يتضح المقال، قد يكون الكلام غير مفهوم عند بعض الناس، فإذا مُثل له وضربت له الأمثلة والوجوه والأشباه اتضح.

 "فإن قيل‏:‏ فأين المثل المضروب؟ ففيه وجهان‏:‏ الأول‏:‏ قال الأخفش‏:‏ ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلاً فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلاً بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال: جعلوا لي شبيهًا في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه‏."‏

استمعوا خبر هذا التشبيه.

"الثاني‏:‏ قول القتبي‏:‏ وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابًا، وإن سلبها الذباب شيئًا لم تستطع أن تستنقذه منه‏،‏ وقال النحاس‏:‏ المعنى ضرب الله -عز وجل- ما يعبد من دونه مثلاً، قال‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بيَّن الله لكم شبهًا ولمعبودكم‏.‏

{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ قراءة العامة ‏‏تدعون‏‏ بالتاء‏،‏ وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب: ‏‏يدعون‏‏ بالياء على الخبر‏، والمراد الأوثان".

والذين يدعونهم الكفار، إذا قلنا: تدعون والخطاب لمن؟ لمن يتأتى منه الخطاب بما فيهم الكفار يكون من العام الذي أراد به الخصوص.

 "والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنمًا‏،‏ وقيل‏:‏ السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله- عز وجل‏-، وقيل‏:‏ الشياطين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأول أصوب‏، ‏{‏لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا‏}‏ الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة".

والجمع  القليل هذا جمع القلة أذبة.

"والجمع القليل أذبة، والكثير ذبان، على مثل غراب وأغربة وغربان، وسمي به؛ لكثرة حركته‏.‏ الجوهري‏:‏ والذباب معروف الواحدة ذبابة".

يعني من التذبذب كثرة الحركة من التذبذب، ومنهم من يقول: إنه من قولهم: ذب فآب يعني طرد فرجع.

"ولا تقل ذبانة‏،‏ والمذبة ما يذب به الذباب‏،‏ وذباب أسنان الإبل حدها‏،‏ وذباب السيف طرفه الذي يضرب به‏،‏ وذباب العين إنسانها‏،‏ والذبابة البقية من الدين‏،‏ وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية‏، والتذبذب التحرك‏،‏ والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء‏،‏ والذبذب الذكر لتردده،‏ وفي الحديث: «‏من وقي شر ذبذبه»، وهذا مما لم يذكره- أعني- قوله‏:‏ وفي الحديث‏.‏ {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ الاستنقاذ والإنقاذ التخليص‏، قال ابن عباس‏:‏ ‏‏كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه"‏‏‏.

يعني يأتي الذباب فيختلس هذا الزعفران، يأخذ منه.

 "وقال السدي‏:‏ كانوا يجعلون للأصنام طعامًا فيقع عليه الذباب فيأكله‏.‏ ‏{‏ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ‏}".

يعني يتصور إنسان مكتمل القوى عاقل مدرك يتابع ذبابة ليأخذ منه ما أخذه منه؟ ضعف الطالب والمطلوب، ماذا أخذ حتى تتابعه؟ لكنك لن  تقدر على أخذ ما أخذه، لن تقدر على أخذ  ما أخذه؛ لأنهم يقولون: فيه مادة تذيب ما أخذه بسرعة، يفرز مادة تذيب ما يأخذه بسرعة، ولو اجتمعت قوة الدنيا لتأخذ ما أخذه الذباب ما استطاعوا، مع أنه يحمل أشياء لا يخطر عدده على البالغ، يحمل من الجراثيم ذكروا ملايين، يعني لا تظهر للعين المجردة، لكن من القدرة الإلهية هذه الحشرة التي في غاية الحقارة تحمل ما تحمل، ولو اجتمعت قوى العالم كلها لتأخذ ما تحمله ما استطاعوا، ما يأخذه، لكن كونهم يرشون مبيدًا فيموت وما معهم من جراثيم، لكن لا يستطيعون أن يأخذوا ما أخذه ويردوه إلى مكانه، - والله المستعان-.

 "قيل‏:‏ الطالب الآلهة والمطلوب الذباب‏.‏ وقيل بالعكس‏.‏ وقيل‏:‏ الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه‏.‏ وقد قيل...."

ضعف الطالب: الطالب الذي يطلب ما أخذه الذباب يجري وراءه؛ ليأخذ ما أخذه منه، والمطلوب الذباب وما معه، هذه الصورة الظاهرة من التركيب.

‏"{‏وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا‏}‏ راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها‏.‏ وخص الذباب؛ لأربعة أمور تخصه‏:‏ لمهانته وضعفه، ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله -عز وجل- على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابًا مطاعين؟‏ وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان‏.‏

قوله تعالى: ‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي ما عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له‏.‏ وقد مضى في ‏‏الأنعام. ‏{‏ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }‏ تقدم‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ختم السورة بأن الله اصطفى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدًا أمرًا بدعيًّا‏،‏ وقيل‏:‏ إن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية‏،‏ وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ‏} لأقوال عباده ‏{‏بَصِيرٌ} بمن يختاره من خلقه لرسالته‏.‏ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ يريد ما قدموا‏.‏ ‏{‏ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.

يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في يس {‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ‏} [ سورة ‏يس‏:‏ 12‏]‏ يريد ما بين أيديهم ‏{وَآثَارَهُمْ} يريد ما خلفوا‏.‏ {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}".

لأن الآثر يقع بعد التأثير، وأثر المشي يكون خلف الماشي، ومنهم من يرى- كما سيأتي في سورة يس- أن الآثار هي أماكن العبادات تكتب أماكن العبادات لتشهد لهم.

"قوله تعالى:‏ {‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك..."

لأنها محل خلاف وأما الأولى فليست محل خلاف.

"لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة‏.‏ وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في ‏‏البقرة،‏‏ والحمد لله وحده‏.

‏‏{‏ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي امتثلوا أمره‏.‏ ‏{‏ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} قيل‏:‏ عنى به جهاد الكفار‏، وقيل‏:‏ هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه."

وكل هذا يقتضي مجاهدة النفس.

 "أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقال مقاتل: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى:‏ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏} [ سورة ‏التغابن‏:‏ 16‏]"‏‏.

لأن حق الجهاد قد لا يستطيعه الناس، جاهدوا في الله حق الجهاد، يعني اعبدوا، وائتمروا أوامره، واجتنبوا نواهيه حق أمرها ونهيها، يعني بقدر ما  أمرتم به امتثلوه بحيث لا يتأخر الامتثال، ولا ينقص عن المطلوب، وهذا غير مقدور، ولذا ذهب من ذهب يقول هذه الآية منسوخة بقول الله-  جل وعلا-: ‏{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏} [ سورة ‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، أما الإتيان بالأوامر على وجهها، وأن توافق مراد الله- جل وعلا- من كل وجه فهذا قد لا يستطاع، ولذا قرنت إجابة الأمر بالاستطاعة ‏{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏} [ سورة ‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏، إذا أمرتكم بأمر فأتو منه ما استطعتم، وأما بالنسبة للنهي فلا خيرة فيه، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.

 ولذا يقول العلماء: إن ارتكاب المحظور أعظم من ترك المأمور؛ لأن المأمور مقرون بالاستطاعة، والمحظور ما فيه اقتران باستطاعة ولا غيرها، وإنما يجب تركه مطلقًا؛ لأن الترك ليس فيه عجز، فلا يعجز أحد عن الترك بخلاف إيجاد المفقود من الأوامر، يتصور العجز عن إيجادها.

 "وكذا قال هبة الله‏:‏ إن قوله: ‏{‏حَقَّ جِهَادِهِ}‏ وقوله في الآية الأخرى‏.‏ ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏} [ سورة ‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر‏، ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أول الحكم؛ لأن ‏‏حق جهاده‏‏ ما ارتفع عنه الحرج‏".‏

يعني ما يطاق هو حق الجهاد، ما يطاق هو حق الجهاد.

"وقد روى سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «‏‏خير دينكم أيسره‏‏‏»‏. وقال أبو جعفر النحاس‏: وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «‏المجاهد من جاهد نفسه لله -عز وجل-»‏‏، وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة أن رجلاً سأل- النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ « أي الجهاد أفضل‏؟‏ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏‏أين السائل‏؟‏ فقال‏:‏ أنا ذا. فقال -عليه السلام-‏:‏ ‏‏كلمة عدل عند سلطان جائر‏‏‏»‏."

لأنه من أشق الأمور على النفس، ويتصور فيها جهاد النفس ووضوحه بأجلى صوره.

"قوله تعالى:‏ {‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ‏}‏ أي اختاركم للذب عن دينه، والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا؛ لأن الله اختاركم له‏.‏

قوله تعالى: {‏ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏} فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى:‏ {‏مِنْ حَرَجٍ‏} أي من ضيق‏، وقد تقدم في ‏‏الأنعام‏‏‏، وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة‏، روى معمر عن قتادة قال‏:‏ أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم يعطها إلا نبي‏:‏ كان يقال للنبي: اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}، والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: ‏{‏وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}،‏‏‏ ويقال للنبي‏:‏ سل تعطه، وقيل لهذه الأمة: ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏} [سورة غافر: 60].‏

واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة‏:‏ هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك‏. وقيل‏:‏ المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم، ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل‏.‏ وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء"‏.‏

وغير ذلك مما يلحق الإنسان فيه حرج ومشقة مما جاءت النصوص به، يعني جاءت النصوص برفع الحرج الناتج عن السفر، واستمر التشريع ولو لم يكن هناك حرج، وجاء التخفيف في بعض العبادات لوجود المشقة والحرج، والصائم من حامل ومرضع ومريض كل هؤلاء لهم أن يفطروا؛ لوجود الحرج، لكن قد يوجد حرج هو في صورته وواقعه أشد من الحرج الذي رخص بسببه، رخص للمسافر أن يفطر وبعض المقيمين ينالهم من الحرج والمشقة أكثر مما يناله المسافر، فهل يطرد مثل هذا الأمر فيقال: لوجود الحرج تفطر؟ النبي جمع في المدينة؛ لئلا يحرج أمته، لئلا يوقعها في حرج، فدل على أن الجمع؛ لوجود الحرج والمشقة، لكن ما جاء به النص مما صاحبه الحرج يثبت، وأما القياس؛ لأن هذه رخصة على خلاف القياس، جاءت على خلاف الدليل الشرعي؛ لوجود هذا المعارض الراجح؛ لأن الدليل الذي أباحه معارض للتشريع في العزيمة الأصلية.

ومع ذلك لا يستطرد في هذا الأمر فيقال: من يشق عليه الصيام أكثر من مشقته على المسافر يفطر كما قال ذلك بعضهم، هذه الرخص جاءت بنصوص، فيقتصر فيها على مواردها؛ لأنها على خلاف الأصل، الأصل هو العزيمة، ويبقى أنه وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني الحرج الذي لحق الأمم السابقة من الآصال والأغلال والتكليف بالأمور الصعبة التي لا يطيقها الناس.

 وأما عندنا فتشريعنا –ولله الحمد- كلٌّ مقدور عليه وإن وجد بعض المشقة؛ لأن المشقة هي الأصل في التكليف، وما سُمي تكليفًا إلا لأنه شق؛ لأنه إذا ما كان فيه كلفة ومشقة، فكيف يسمى تكليفًا. ولا يطرد مثل هذا الأمر فيقول: ما جعل عليكم في الدين من حرج ويفطر وفي بيته يقول: أنا لا أتحمل الصيام، لا تتحمل شيئًا بعد ذلك، والأصل تكاليف والجنة حفت بالمكاره.

لأن الكلام في المشقة والمشقة والتيسير بدأ يكثر.

 "وروي عن ابن عباس والحسن البصري: ‏أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة، فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم‏‏، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس".

والحج يوم يحج الناس، فإذا وقفوا في العاشر غلطًا صح حجهم، لكن إذا وقفوا في الثامن خطأً يصح حجهم أم ما يصح أو يعيدون الوقوف غدًا؟ يعيدون الوقوف.

 "في شرح موطأ مالك بن أنس -رضي الله عنه-‏، وما ذكرناه هو الصحيح في الباب‏، وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون»‏‏ خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه‏،‏ والمعنى‏:‏ باجتهادكم من غير حرج يلحقكم‏، وقد روى الأئمة أنه -عليه السلام- سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها‏:‏ ‏افعل ولا حرج‏.‏

الثالثة: قال العلماء‏:‏ رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجًا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى".

يعني في المواجهة في الجهاد، إذا كان العدو ضعف المسلمين يجب عليهم أن يثبتوا، ولا يجوز لهم أن يفروا، لكن لو كانوا أكثر من ذلك جاز لهم، قد كانت المثابرة من واحد لعشرة ثم نسخت من واحد لاثنين.

"لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج‏.‏

قوله تعالى:‏ {‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ} قال الزجاج‏:‏ المعنى اتبعوا ملة أبيكم‏،‏ الفراء‏:‏ انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة‏،‏ وقيل‏:‏ المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة"‏.‏

ولو كانوا منصوبًا على الإغراء، الزموا ملة أبيكم كان له وجه آخر.

 "وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة‏، وقيل‏:‏ الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد‏، ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال ابن زيد والحسن:‏ ‏هو‏‏ راجع إلى إبراهيم، والمعنى‏:‏ هو سماكم المسلمين من قبل النبي- صلى الله عليه وسلم-‏.‏ ‏{‏وَفِي هَذَا} أي وفي حكمه أن من اتبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهو مسلم‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ وهو معنى قوله: ‏{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏} [ سورة ‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.

‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة‏.‏ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏‏سماكم الله -عز وجل- المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة، وفي هذا القرآن‏، قاله مجاهد وغيره‏.‏ { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ‏} أي بتبليغه إياكم‏.‏ ‏{‏ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلغتهم، كما تقدم في ‏البقرة‏‏‏.‏ ‏{‏ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏} قد تقدم مستوفًى، والحمد لله‏".‏

"