شرح كتاب الأربعين النووية (09) - حديث: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه...))
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأربعين النووية (9)
شرح حديث: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه...))
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث التاسع: "التكليف بما يستطاع".
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.
قال الإمام العلامة الحافظ النووي -رحمه الله تعالى-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) رواه البخاري ومسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ونسمع بعض طلاب العلم وهم يقرؤون في الكتب على الشيوخ, يقولون للمؤلف كبيراً كان أو صغيراً, تابعاً أو متبوعاً، يقولون: الإمام. والإمامة إذا كان هذا العالم متبوعاً, فلا شك في كونه إمامًا، وإذا كان له أثر في العلم والدين يتبعه على ذلك الأثر طلاب العلم فهو إمام، وما عدا ذلك إن كان أثره ضعيفا فالإمامة لا تطلق عليه.
النووي - رحمه الله تعالى- له أثر في العلم وفي طلابه فهو من هذه الحيثية يمكن أن يطلق عليه إمام؛ لأنه ألف كتباً صارت هذه الكتب نبراساً لطلاب العلم, كالمجموع لا سيما طلاب العلم من الشافعية، وله أيضاً رياض الصالحين, الذي لا يخلو مسجد من مساجد المسلمين من قراءة فيه، وله أيضاً الأذكار الذي بالغ الأئمة من عصره إلى يومنا هذا في مدحه والثناء عليه, ومنها: هذه الأحاديث الجوامع وشرح مسلم وغيرها من الكتب فلا مانع من هذه الجهة أن يقال: إمام، لكن باعتباره ليس من الأئمة المتبوعين الذين لهم تبع. الإمامة يمكن يتحفظ عليها بعض الناس لا سيما وأن عنده شيء من الخلل في مسائل الاعتقاد، أن ندعو له ونترحم عليه ومع ذلك الخلل موجود، يعني: التأويل في الصفات موجود في كتبه وشرحه لمسلم واضح فيه أن كونه أشعرياً -رحمه الله- وعفا عنا وعنه، على كل حال هذا لا يخرجه عن دائرة الإسلام التي تجعلنا ندعو له؛ مكافأةً له على صنيعه وعلى نفعه للأمة، وعلى كل حال من أطلق له وجه ومن امتنع منها وجه.
يقول -رحمه الله تعالى- من الحديث التاسع من الأربعين: "عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر -رضي الله عنه-". أبو هريرة هذه الكنية ليست بولد لا ذكر ولا أنثى، وإنما هي من باب الملابسة والمصاحبة, والإنسان قد ينسب وقد يكنى بشيء له به أدنى ملابسة. وأبو هريرة -رضي الله عنه- كني بهذه الهرة المصغرة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، على كل حال هي هريرة. كني بها؛ لأنها لزمته وصارت تلاعبه ويحسن إليها، وبعضهم يقول: "إنه يحملها في كمه", على كل حال هذه الكنية وجدت وهذه الملابسة وهذه المناسبة بينه وبين هذه الهرة جعلت من رآه على هذا العمل يكنيه بها.
وقد اختُلِف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كبيراً, قالوا على نحو من ثلاثين قولاً. وهذه هي العادة أن من اشتهر بالكنية فإنه يضيع اسمه، كما أن من اشتهر بالاسم تضيع الكنية. فمن اشتهر بالكنية يضيع الاسم، أبو قتادة، أبو هريرة، إلى غير ذلك من الأسماء التي أبو حنيفة كثير من طلاب العلم ما يعرف اسمه, فهو أبو حنيفة النعمان بن ثابت، قتادة اشتهر بالاسم فكثير من طلاب العلم لا يعرفون كنيته.
هذه العادة, يعني: الناس إذا ألفوا شيئا لم يسمعوا غيره اعتادوا عليه. لو قيل: "إن بعض المسلمين ما يعرف اسم أبي بكر", يستغرب أو ما يستغرب منه؟
ما يستغرب باعتبار واقع المسلمين, فهم لا يسمعون إلا "قال أبو بكر", "فعل أبو بكر"، فباعتبار الواقع ما يستغرب كثير من المسلمين ما سمع عن اسمه، لكنه بالنسبة لطلاب العلم مستغرب، يعني: أفضل الأمة بعد نبيه لا يُعرف اسمه، هذه سبة، والتقصير في معرفة الأعلام، أعلام هذه الأمة القدوات, حتى أن ناشئة المسلمين يعرفون من أعلام اليهود والنصارى أكثر مما يعرفون من فضلاء الأمة وخيارها لا سيما المعاصرين. تجدهم في الأخبار تردد هذه الأسماء ويحفظونها وإذا سأل أحدهم عن خيار الأمة من الصحابة والتابعين قد يقف, فما يجيب فضلاً عن ما يسمون النجوم سواء كان في الفن أو في الكرة أو في غيرها. ناشئة المسلمين يعرفونهم ولو تقول لطالب في الثانوية أو في الجامعة: "عدِّدْ لي الفقهاء السبعة من التابعين" ما عرفهم, أو "العبادلة" لا يعرفهم، ويعرف أعضاء النادي الفلاني فرداً فرداً، وهذا كله سببه الاهتمام، ومن الناشئة بل من الكبار من يعدد السيارات, ومميزاتها, وموديلاتها, ولا يعرف كثيرا مما يتعلق بما أوجب الله عليه.
أبو هريرة اختُلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً، والذي اختاره المؤلف أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي يختاره كثير من أهل العلم وهو المتجه المرجح، وإن كان لا يجزم به. عبد الرحمن بن صخر الدوسي حافظ الأمة على الإطلاق، والذي لا يحبه بعد دعوة النبي - عليه الصلاة والسلام - لا شك أن في قلبه شعبة من شعب النفاق, وفي إيمانه خلل؛ لأنه بواسطته نقل لنا الدين, أو على الأقل نصف الدين. ولذلك تتجه السهام من أعداء الملة إلى أبي هريرة أكثر من غيره، لماذا؟ لأنه بالقضاء عليه -على حد زعمهم- يقضون على نصف الدين، تجد الطعون في أبي هريرة من الفِرق الضالة من القديم، ولكل قوم وارث، ما زال الكلام فيه والمؤلفات تصدر في القدح فيه، والطعن فيه، وليس الهدف شخص أبي هريرة إنما الهدف الطعن في الدين، والمستشرقون لهم كلام طويل والطوائف والفرق الضالة لهم أيضاً كلام يقدحون في دينه، وفي أخلاقه ووصل الأمر أن قدح في جميع ما يتعلق به، وليس المراد شخص أبي هريرة أبداً, إنما المراد الدين. ولذا لا تجدون مثل هؤلاء يقدحون في المقلين من الصحابة, أبيض بن حمال لم يطعن فيه أحد، لماذا؟ لأنه ما يروي إلا حديثا واحدا فيحتاج الطاعن أن يطعن في خمسة آلاف صحابي مثل أبيض بن حمال ليكون مساوياً لأبي هريرة. فالطعن في أبي هريرة طعنٌ في الدين.
"عبد الرحمن بن صخر الدوسي", هل أبو هريرة يعد من المهاجرين أو من الأنصار أو لا؟
هو دوسي من اليمن من جهة الجنوب، يعني: هل الصحابة ينقسمون إلى قسمين فقط مهاجرين وأنصار، وأبو هريرة إما من المهاجرين أو من الأنصار أو هناك قسيم ثالث؟ لأننا نسمع من يقول بعد الصلاة على النبي - عليه الصلاة و السلام- : "اللهم صلِّ على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وعلى صحابته من المهاجرين والأنصار", فإذا قلنا: إن أبا هريرة ليس من المهاجرين ولا من الأنصار بقي عندنا جمع غفير من الصحابة لا يدخلون في هذا الدعاء، وإذا قلنا: إن الصحابة ينقسمون إلى القسمين فقط، دخل جميعهم في المهاجرين أو الأنصار. ولا شك أن أبا هريرة هاجر من بلده إلى المدينة ولزم النبي - عليه الصلاة والسلام- فهو بالمعنى الأعم مهاجر، وقد نصر النبي - عليه الصلاة و السلام - ونصر دينه فهو بالمعنى الأعم من الأنصار. ولكن إذا أطلق "المهاجرون" فيراد بهم من هاجر مع النبي -عليه الصلاة و السلام- من مكة إلى المدينة، وإذا أطلق "الأنصار" انصرف إلى من نصره من أهل هذه المدينة من الأوس والخزرج ولا يراد بالإطلاق الخاص عموم النصرة, وإلا دخل فيها المهاجرون؛ لأنهم نصروا النبي - عليه الصلاة والسلام-. وإذا أردنا بالهجرة المعنى الأعم وهي الهجرة إلى الله ورسوله دخل فيها كل مسلم إلى قيام الساعة، فعلى هذا الدعاء بهذا الصيغة صحيح أو غير صحيح؟ الداعي يحتاج إلى أن يدعو لجميع الصحابة، هل يريد أن يخصص بعض الصحابة دون بعض؟ لا، لا يريد أن يخصص, لكن الوصف بالهجرة والنصرة, هل تتحقق لجميع من هاجر إلى النبي - عليه الصلاة والسلام- من أي جهة هاجر إلى المدينة والنصرة تتحقق بجميع من نصره من اتصف بهذا الوصف، ولو لم يكن من أهل المدينة؟ لا شك أنها بالمعنى الأعم تشمل الجميع، من هاجر إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - من الجنوب من اليمن من نجد من الشمال هذا المهاجر يشمل وإن كان العرف خص الهجرة بمن هاجر معه من مكة إلى المدينة، وكذلك الأنصار. جاء تخصيص الذين مع النبي - عليه الصلاة والسلام - في ساعة العسرة بأنهم المهاجرون, والأنصار، من المهاجرين والأنصار, ولا يراد به تخصيص المهاجر من مكة دون من هاجر غيرها, ولا من نصر النبي - عليه الصلاة والسلام- من أهل المدينة دون غيرهم، إنما جميع من خرج معه بنية صادقة طلباً لإعلاء كلمة الله دخل في هذا الوصف.
"قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه))", هذا يدل على أن النهي يقتضي التحريم، وأنه لا خيار فيه. "((وما أمرتكم به فافعلوا أو فأتوا منه ما استطعتم))"، النواهي لا بد من الكف عنها، دون تقييد بالاستطاعة، والأوامر لا بد من فعلها بشرط الاستطاعة، والسبب في ذلك أن النواهي كف، والكف لا يعجز عنه أحد، والأمر إيجاد فعل قد يستطاع هذا الفعل, وقد لا يستطاع, ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)).
امتثال الأوامر واجتناب النواهي هو التقوى، والله -جل وعلا- يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن:16] الحديث ليس فيه تقييد بالنسبة لاجتناب النواهي بالاستطاعة، فهل هناك النواهي ما لا يستطاع؟ لأن من الناس من لا يستطيع الثبات أمام بعض المعاصي، هل نقول: إن هذا مثل ما جاء من قيد في اتباع الأوامر؟ الحديث ليس فيه قيد, بل فيه جزم: ((فاجتنبوه)) من غير تقييد بالاستطاعة. لكن التقوى وهي فعل الأوامر واجتناب النواهي {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآن الآية فيها معارضة مع الحديث أو ليس فيها معارضة؟ يعني عموم التقوى يشمل فعل الأوامر وترك النواهي, وكلاهما المعبر عنه بالتقوى معلق بالاستطاعة, والحديث ليس فيه التقييد بالاستطاعة بالنسبة لاجتناب النواهي, فهل نقول: إنه لا يعذر أحد في ارتكاب المحرم؟ اللهم إلا مع الإكراه, والمراد بالإكراه الإكراه الخارجي, وإلا قد يوجد إكراه داخلي تكرهه نفسه الأمارة بالسوء وشيطانه يلجئانه إلى ارتكاب هذا المحرم، لكن ليس هذا هو الإكراه المنصوص عليه بما استكرهوا عليه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سورة النحل:106] هذا لا بد أن يكون المكره أمر خارجي. القيد بالاستطاعة والتفريق بين الأوامر والنواهي ظاهر, باعتبار أن النواهي مطلوبة الترك، والترك لا يحتاج إلى أن يقيد بالاستطاعة لا يعجز عنه أحد، وإن كان فيه عسر على كثير من الناس, لكن ليس فيه عدم استطاعة. منهي عن شرب الخمر يستطيع أن يترك الخمر, ليس هناك أحد يقول: "إنه لا يستطيع أن يترك الخمر"، مأمور بترك الزنا, أو منهي عن مباشرة الزنا، ولا أحد يقول: "إنه مكره على الزنا بغير إكراه خارجي" على الخلاف بين أهل العلم في إمكان الإكراه على الزنا بالنسبة للرجل. فما يطلب تركه هذا لا يعجز عنه، وما يطلب إيجاده وفعله هذا يتصور العجز عنه؛ ولذا قال: ((فافعلوا منه ما استطعتم)).
وإن كان العموم النواهي والأوامر داخلة في مسمى التقوى، والتقوى معلقة بالاستطاعة، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن:16]. لو تذرع شخص قال: "أنا لم أستطع أن أملك نفسي عن هذه المعصية والله -جل وعلا- يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن:16]".
هل كلامه صحيح, أو غير صحيح؟
نقول: الآية فيها إجمال، التقوى تشمل الأوامر والنواهي لكنها على سبيل الإجمال الذي بينه حديث أبي هريرة. وعلى هذا لا يقبل من أحد كائناً من كان أنه قتل إنسانا قال: ما استطعت أن أرى قاتل أبي ولا أقتله، هل يعذر؟ نقول: لا, لا يقال: "ما استطعت" بالنسبة للمحرمات. أو يقول: "رأيت هذه المرأة متبرجة متبذلة ما استطعت أن أملك نفسي"، نقول: "ما قيد بالاستطاعة", أو واحد اعتاد وأدمن الخمر وتعوَّد عليه ثم تاب وتركه لما رأى الشراب قال: "والله ما استطعت", يعذر أو لا يعذر؟ في كل هذا لا يعذر لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)).
هذا الحديث عمدة من يقول: "إن ترك المحرمات أعظم وأولى من فعل الواجبات"، بمعنى أنه إذا أوجب عليك الشرع شيئا ولا يمكن تحقيقه إلا بارتكاب محرم, فترك المحرمات أوجب من فعل الواجبات، وهذا يقول به الإمام أحمد وغيره, والحديث يدل عليه؛ لأنه ليس في ترك المحرمات مثنوية، بينما فعل المأمورات مربوط بالاستطاعة, وهذا قول الإمام أحمد بل هو قول أكثر العلماء. ويرى جمع من أهل العلم العكس, وهذا ما يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: "إن فعل الواجبات أولى" وهذا عند التعارض، وعند الموازنة في الأعمال ففعل المأمورات أولى من ترك المحظورات لأمور, منها:
الأمر الأول: أن معصية آدم بارتكاب محظور, ومعصية إبليس بترك مأمور، ولا شك أن معصية إبليس أشد من معصية آدم.
الأمر الثاني: أن فعل المأمور الجزاء عليه مضاعف، فالحسنة بعشر أمثالها, وفعل السيئة سيئة واحدة, هذا ما قرره أهل العلم في هذه المسألة.
والحق في هذه المسألة أنه لا يقال بإطلاق: "إن ترك المأمور أعظم أو فعل المحظور أشد"، بل المأمورات والمحظورات متفاوتة، فينظر في المعارض هل هو أقوى، أو أضعف؟
يعني: عند التعارض ولا بد أن ترتكب أحد الأمرين، أنظر، إذا كان في طريقك إلى المسجد بغي, وعندها ظالم يجبر على الوقع عليها كل من أراد الصلاة في المسجد، هل نستطيع أن نقول: ترك المأمور وهو الصلاة في الجماعة أعظم من فعل المحظور وهو الوقوع في البغي؟ هل يمكن أن يقول شيخ الإسلام مثل هذا؟ لا يمكن أن يقوله لا شيخ الإسلام ولا غيره. وإذا كان في طريقك إلى المسجد منكر لا تستطيع تغييره بيدك، قد لا تستطيع بلسانك، والعلماء يقررون أنه إذا كان ثم منكر إجابة الدعوة في وليمة العرس وهي في الأصل واجبة لا تجب ولا تجاب هذه الدعوة, إذا كان ثم منكر لتعارض الواجب مع المنكر. لكن إذا كان هناك منكر لا تستطيع إزالته في طريقك إلى المسجد كصورة لا تستطيع تغييرها, صورة مثلا امرأة عارية أو ما أشبه ذلك، هل نقول: "اترك صلاة الجماعة من أجل هذه الصورة؟" لا شك أن الأوامر متفاوتة, والنواهي متفاوتة فينظر في المأمور والمحظور أيهما أقوى. يعني: لو كان في طريقك إلى فعل الصلاة -لا فعلها مع الجماعة- فعل الصلاة التي تركها كفر، ومن عظائم الأمور محرم من المحرمات، تتجاوز هذا المحرم الذي أكرهت عليه في سبيل تحصيل الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام. وقد يقول قائل: إن مثل هذه الصلاة التي تكره بسببها على الوقوع في المحرم أنت عاجز عن أدائها, فعلى هذا تترك المحظور ولو منعت من الصلاة. وهنا سؤال يسأله بعض النساء اللواتي أصبن بالمس - نسأل الله لنا ولهن العافية - تسأل واحدة تقول: إن الجني لا يمكنني من الصلاة حتى يقع علي، يقال لها: لا تمكنيه من الوقوع وحاولي جاهدةً أن تصلي، فإذا عجزتي فأنت معذورة "فأتوا منه ما استطعتم".
على كل حال مثل هذه الأمور ينظر في كل مسألة والتعارض فيها بين المأمور والمحظور على حدة، يعني: لو قال قائل: شخص يحلق لحيته وقد نهي عن ذلك، وشخص لحيته بيضاء لا يسبغها وقد أمر بالصبغ بتغيير الشيب، هذا مأمور وهذا محظور، أيهما أشد؟ الذي يحلق أو الذي لا يصبغ؟ لا يتردد أحد في هذا، ومقتضى الإطلاق أن ترك المأمور أعظم من فعل المحظور, مقتضى الإطلاق يقتضي أن عدم الصبغ أشد من حلق اللحية, وهذا لا يمكن أن يقول به عالم، أي: حتى من يرجح هذا القول من المعاصرين واقع في شيء من هذا لا يصبغ لحيته, هل نقول: إنك أنت مأمور بالتغيير وأنت أشد ممن حلق لحيته؟ لا يمكن أن يقال هذا، وعلى هذا لا يمكن القول بإطلاق أن فعل المحظور أشد من ترك المأمور أو العكس، بل ينظر إلى كل مسألة على حدها، في المأمور وما يعارضه، في المحظور وما يعارضه.
((وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم))، يندرج تحت هذا مسائل كثيرة جداً, قد لا يستطيع المأمور فعل ما أمر به جملة وتفصيلاً, هذا يسقط بكامله، قد يستطيع البعض ولا يستطيع البعض. وجد ماء للوضوء أو الغسل لكنه لا يكفي جميع البدن أو أعضاء الوضوء نقول: افعل ما استطعت, توضأ واغسل وجهك ويديك وامسح رأسك وإذا بقي الرجلان تيمم لهما، إذا انتهى الوَضوء الذي هو الماء قبل غسل الرجلين تيمم من أجل الرجلين، لقول الله -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن:16] وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((واتوا منه ما استطعتم)). إذا وجد نصف صاع ولا يجد تكملة الصاع في زكاة الفطر, فيدفع نصف صاع، لقول الله -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. لكن وجد نصف رقبة وعليه عتق رقبة يعتق نصف أو يعدل إلى البدل؟
يعدل إلى البدل، وجد نصف نفقة حج نقول له: اذهب بهذا النصف من بلدك إلى أن ينتهي هذا المال ثم ارجع ولو ما أكملت الحج؟ لا، هذا لا يتبعض فالذي يمكن تبعيضه يبعض والذي لا يمكن تبعيضه لا يبعض. وبالمقابل إذا وجد أكثر من الواجب عليه وأخرجه كمن عليه صاع زكاة الفطر فأخرج صاعين، عليه نصف دينار زكاة فأخرج دينار كاملا، الزيادة على الواجب, هل داخلة في حيز الواجب أو في حيز المندوب؟ يعني: هذه مقابل المسألة الأولى، في المسائل الأولى لا يجد إلا البعض وهذا يجد الكل وزيادة، يعني: من أدى ديناراً عن عشرين وهذا مَثل من أمثلة المسألة التي نص عليها في كتب الأصول، من أدى ديناراً عن عشرين يلزمه عن العشرين نصف دينار، أدى صاعين أو ثلاثة آصع عن نفس واحدة زكاة فطر، هل الكل واجب؟ أو الواجب ما أوجبه الشرع والقدر الزائد على ذلك مندوب؟ مسألة خلافية بين أهل العلم.
وأما بالنسبة للمتميز فالقدر الزائد مندوب اتفاقاً. يجب عليه صاع زكاة فطر، فدفع هذا الصاع إلى فقير ثم دفع صاع ثاني إلى فقير ثاني، هذا واجب وهذا مندوب.
وهذا لا يدخل في الخلاف، الزيادة المتميزة لا تدخل في الخلاف. لكن جاء في الصاعين وخلطهما في كيس واحد ودفعهما إلى شخص واحد, هذا الذي يختلف فيه، هل الكمية كلها هي الواجبة أو النصف واجب، والباقي مستحب؟ يترتب على ذلك مسائل كثيرة، يعني يظن بعض الناس. ما الفائدة من هذا الخلاف وما الفائدة من المسائل التي تصل إلى ها الحد؟ الواجب في الركوع تسبيحه واحدة, لكن إذا سبح سبعًا، هل نقول: إن التسبيحة الأولى هي الواجبة والباقي هي ندب؟ نقول مثل ذلك في الإمام إذا أطال الركوع، ولحق به من لحق بعد أداء الواجب لحقه في القسم المستحب من الركوع، عند من يقول: لا تصح إمامة المفترض بالمتنفل، هل نقول: إن الكل صار في حكم الواجب؛ لأنه غير متميز, أو نقول يبقى القدر الواجب واجبًا, وما عداه سنة.
هذه مسألة كثيرة الفروع وطويلة الذيول تراجع في كتب الأصول، ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)), الذين من قبلنا هم الأمم السابقة, والمدرك منهم بالنسبة لمن نزل عليهم القرآن في وقت التشريع هم اليهود والنصارى، وإن كان "الذين" من صيغ العموم يشمل جميع الأمم السابقة، لكن كثر العناء وكثرة السؤال وجدت في اليهود والنصارى, وهي في اليهود أكثر. هل هذا السبب هو الذي أهلكهم، بينما ورد أمور نص على أنهم هلكوا بسببها، فيكون من ضمن الأمور التي هلكوا بسببها كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، كثرة مضاف، ومسائلهم مضاف إليه, ومسائل مضاف والضمير مضاف إليه. واختلافُهم أو واختلافِهم؟
بالضم، يعني: عطفاً على المضاف، وبالكسر عطفاً على المضاف إليه, وأيهما أولى؟
هل هناك من قاعدة مضطردة في تابع المتضايفين، هل يتبع المضاف أو يتبع المضاف إليه أو السياق والمعنى هو الذي يحدد؟ قال الله -تعالى-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو} [سورة الرحمن:27] فالوصف تابع للمضاف، وقال -تعالى-: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي} [سورة الرحمن:78] الوصف تابع للمضاف إليه. تقول: "مررت بغلام زيد الفاضل"، فالفاضل هو زيد أو غلامه؟
حسب السياق وحسب مراد المتكلم، لا سيما إذا كان الإعراب إما مشتركا بين المضاف والمضاف إليه كما في المثل، مررت بغلام زيد كلاهما مجروران الفاضلِ يصلح أن يكون وصفاً لغلام ويصلح أن يكون وصفاً لسيده زيد، أما في قول الله -تعالى-: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (ذو) و(ذي) وهذا واضح يعني في الموضع الأول تابع للمضاف, وفي الموضع الثاني تابع للمضاف إليه, لأنه يعرب بالحروف، فالأول مرفوع, والثاني مجرور، والوصف في الموضع الأول مرفوع، وفي الموضع الثاني مجرور.
وهنا من حيث المعنى: ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم)), هذا إذا قلنا: إن مجرد الاختلاف على الأنبياء ولو كان قليلاً صار سبباً في هلاكهم, وإذا قلنا: إن السبب في هلاكهم كثرة اختلافهم على أنبيائهم, قلنا: واختلافهم والعطف على نية تكرار العامل فكأنه قال: كثرة مسائلهم وكثرة اختلافهم. ويقولون: إن ضم الفاء والعطف على المضاف أولى؛ لأن الاختلاف على الأنبياء شر، قليله وكثيره.
هل من الاختلاف على الأنبياء الاختلاف في فهم كلامهم؟
الأئمة قاطبة يختلفون تختلف أفهامهم في فهم كلام نبيهم، أو المراد به النزاع والشقاق المورث للفشل, الذي لا يستند إلى أصل ولا يقصد به وجه الله والوصول إلى الحق؟ هل هذا المقصود به، أو أن مجرد اختلاف الفهوم في فهم النصوص يدخل في عموم اختلافهم على أنبيائهم؟
المقصود: أن من فهم من النص غير ما فهمه غيره لا لهوى يتبعه ولا لتعصب لفلان أو لعلان أو لرأي أو لنفس، ومع ذلك له أصل يرجع إليه من شرع أو لغة فإن هذا لا يدخل, ورب مبلغ أوعى من سامع، قد يفهم الراوي شيئًا والذي يروي عنه يفهم منه شيئًا آخر، ولا يدخل في المذموم، بل هو من الاجتهاد المطلوب الذي يرتب عليه الأجر سواء كان المجتهد مصيباً وحينئذ يكون له أجران, أو يكون مخطئًا فيكون له أجرٌ واحد.
((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم)) من المسائل ما أمر به، ومنها ما نهي عنه. وقال الله -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل:43, الأنبياء:7] هل يدخل في هذا أو لا يدخل؟ يعني: من أراد أن يسأل عن مسألة شرعية يحتاج إليها يدخل أو لا يدخل في قوله -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}؟ نعم يدخل في المأمور به السؤال عما لم يقع، أو السؤال في وقت التشريع الذي يتسبب في التضييق على المسلمين، في الحديث الصحيح: ((إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟)) هذا السؤال داخل لماذا؟ لأنه لو قال: نعم. ولذلك جاء في الحديث: ((ذروني ما تركتكم)) ثم ذكر شطر الحديث: ((فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم))، فجعلوا الحديث, والسؤال عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ جعلوه سبباً لحديث الباب، قد جاء في بعض الروايات ما يدل عليه فإذا خشي -لا سيما في وقت التشريع من السؤال أن يشدد على الأمة بسبب هذا السؤال، أو يفرض عليها ما ليس بفرض- فإن هذا من السؤال المنهي عنه، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم بسببه))، يعني: ضُيِّقَ على الأمة بسببه.
((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم))، يعني: ظاهر بالنسبة لليهود حينما أمرهم موسى بأمر الله -جل وعلا- أن يذبحوا بقرة في قوله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [سورة البقرة:67] لو قالوا: سمعنا وأطعنا، وذهبوا إلى السوق وأول بقرة صادفوها اشتروها فذبحوها ما صار شيئًا، وتم الامتثال، وما كلفوا ما تكلفوا فيما بعد، لكنهم سألوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ} [سورة البقرة:68] ثم جاء بسِنّها: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} [سورة البقرة:68]، قالوا: {مَا لَوْنُهَا} [سورة البقرة:69] لما سأل عن السِّن ضاقت الدائرة, يعني طلب سن معين, يعني في الأول لو ذبحوا فارضًا وإلا بكرًا أجزأ، لكن هذا الآن لا يجوز أن يذبحوا فارضًا ولا بِكرًا بسبب السؤال الأول. السؤال الثاني: {مَا لَوْنُهَا} فبين لهم أنها صفراء، ولو ذبحوا أي لون من الألوان أجزأ, لكن بعد السؤال لا يجوز أن يذبح غير الصفراء، ثم بعد ذلك قالوا: {يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة:70]. أصبحت محددة بالسن واللون وتشابه، وكل هذا من طبعهم، وعنادهم الذي جبلوا عليه، فهم جبلوا على الشقاق والعناد فضيق عليهم أكثر بسبب مسائلهم. وكل هذا تبرم بالتكليف وعدم طِيْبِ نفس بامتثال الأمر. فأمة كاملة يؤمرون بذبح بقرة ومع ذلك قال فيهم: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [سورة البقرة:71]. هم يتصورون أن الله -جل وعلا- مع كثرة الأسئلة - تعالى الله عما يعتقدون - أنه مثل بعض الناس إذا أكثرت عليه قال: ما أريد منك شيئًا، إذا طلب منك شيئًا ترد عليه كذا, وإلا كذا, وإلا كذا, ثم ترجع ثم تروح ثم تأتي كذا أو كذا؟ حتى يمل ويقول: ما أريد منك شيئًا.
هم يتبرمون بكثرة هذه الأسئلة من أجل أن يتنصلوا عن الامتثال {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}. وفي المقابل شخص واحد يؤمر بذبح ولده الوحيد الذي جاءه بعد أن هرم وكبر سنه، لما أمر بذبح ابنه تله للجبين، ما يحتاج أن يراجع، يعني: فرق بين امتثال وامتثال. يعني زيد وعمرو من المسلمين يصلون مع المسلمين, لكن هذا إذا سمع الأذان شمر وتجهز وخرج للمسجد، وهذا إذا سمع الأذان اضطجع, وتلين قليلا كأنه يريد أن ينقل صخرة أو شيئا من هذا القبيل, إلى أن تفوته الصلاة كحال المنافقين {قَامُواْ كُسَالَى} [سورة النساء:142]. فرق بين هذا وهذا وإن كان الكل منهم يصلي, لكن فرق بين أن يمتثل يأخذ ما أمر به بقوة وبين من يأخذ ما أمر به على التراخي.
كثرة المسائل لا شك أنها تضيق على هذا السائل وإلا لو امتثل من أول الأمر لكفى ما يقع عليه المسمى، امتثل بما يقع عليه المسمى.
عرف عن سلف هذه الأمة الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا لا يسألون النبي - عليه الصلاة و السلام -؛ لأنه جاء النهي عن كثرة المسائل، كما جاء في الحديث: ((قيل وقال، وكثرة السؤال)) فصاروا لا يسألون، إلا في مسائل يسيرة نُص عليها في القرآن, ونقلت في السنة. لكن بالنسبة لطول الزمان وكثرة العدد تعتبر أسئلة نادرة, وكانوا يحبون أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل النبي - عليه الصلاة والسلام - فيجيبه فيستفيدون من الجواب.
وجرى على ذلك الصدر الأول, إذا سأل الواحد منهم قال: هل وقعت هذه المسألة أو ما وقعت؟ فإن قال: واقعة اجتهد أو دفع السؤال إلى غيره، وإن كانت المسألة غير واقعة قال: اذهب حتى تقع, ثم بعد ذلك نتكلف لك الجواب، نتجشم لك الجواب. والآن نسمع من يُسأل فلا نسمع في كلامه "الله أعلم"، بل نسمع بعض من يجيب قبل أن يتم السؤال، وقد يقع خلل في الجواب بسبب ذلك. وكثيراً ما يُسأل النبي - عليه الصلاة والسلام – فيسكت, وفي هذا يقول أهل العلم من شراح الحديث: إنه يسكت أحيانا انتظاراً للوحي، وقد يكون من فوائد هذا السكوت تربية لمن يتولى الأمر بعده بالتوقيع عن الله -جل وعلا- أن يتريث ويسكت ويتأمل السؤال, وينظر في الجواب ويستفهم, ويستفصل من السائل, ليكون الجواب مطابقاً للسؤال.
((كثرة مسائلهم)), يعني: كانوا في الصدر الأول يكرهون الأسئلة, بل يمنعون الأسئلة التي جاء النهي عنها من الأغلوطات, وعضل المسائل التي يقصد منها إظهار التعالم, أو تعجيز المسئول, هذا لا يجوز بحال، هذا خلل في القصد، خلل في النية.
أما كثرة المسائل التي يقصد منها التفقه، لكن مع ذلك فيها تشقيق, وإبعاد في النظر، إبعاد عن الواقع, فتشقيق المسائل عند سلف هذه الأمة ممنوع، ولذا تجدون كلامهم قليلاً جداً وبركته كثيرة، وبيّن ذلك ابن رجب – رحمه الله - في فضل علم السلف على الخلف, وقال: "إن علمهم وكلامهم قليل, لكنه مبارك"، وتجد الواحد في العصور المتأخرة يتكلم على المسألة في مجلد يمكن تلخيصه كله بجملة, أو سطر, أو سطرين, أو ما أشبه ذلك. وأُلف كتب يسمونها "كتب فكرية", كتاب كامل يدور حول فكرة واحدة يمكن الإفصاح عنها بجملة تعوق عن تحصيل العلم, وإن استفاد منها القارئ كثرة كلام وإنشاء واستطاعة في التحدث في كل مجال يريده سواء كان يأوي إلى دليل, أو لا يأوي إلى دليل, المقصود أن مثل هذا لا يفيد طالب العلم شيئاً، فكل خير في اتباع من سلف.
ولذا يقول الحافظ بن رجب -رحمه الله تعالى- في فضل علم السلف: "إن من فضل عالماً على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة", وكانوا مما يكرهونه تشقيق المسائل، وكانوا يرون أن الشخص المتحري لألفاظه -الذي ألفاظه قليلة ويتحرى فيها- هذا هو الذي يوفق في الغالب للإصابة بخلاف من كثر كلامه، وفي المثل: "من كثر كلامه كثر سقطه وزلَله". وهذه مسألة قد تشكك على كثير من المعلمين والمتعلمين، والمعلمون في هذه العصور متورطون فيها، يعني: مثل صنيعنا الآن ساعة ونصف في حديث واحد وتجد من يستطيع أن يتكلم على الحديث بخمس دقائق، فهل هذا مما يمدح أو مما يذم؟ يعني: صنيعنا واقع في الممدوح أو في المذموم؟ هل نقول: هذا تشقيق مسائل لا فائدة منها وتضييع أوقات وتضييع جهود، وبدلاً من أن تشرح الأربعين في دورة واحدة تحتاج إلى دورات؟ ونسمع من يشرح الأربعين في يومين، يعني: وضعت دورة لبعض المشايخ الأربعين لمدة خمسة أيام شرحها في ثلاثة أيام واعتذر عن يومين وانتهى. يعني: هل نقول: إن هذه القلة مطلقا هي صنيع السلف والإسهاب والتطويل هو صنيع الخلف، يعني إذا قارنا كلام الإمام أحمد بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، الإمام أحمد يجيب عن المسألة بجملة, وقد يجيب بكلمة "يعجبني" أو "لا يعجبني"، وشيخ الإسلام يجيب عن فتوى بمائتين وثلاثين صفحة، يقول: "كتبت الجواب وصاحب السؤال مستوفز يريده", يعني: ما جلس على الأرض فكتب هذا الجواب طبع بمائتين وثلاثين صفحة من الفتاوى, فكتاب الحموية جواب، والتدمرية جواب، والواسطية جواب. هل نقول: إن هذا من التطويل الذي لا ينفع ومن تشقيق المسائل؟ أو نقول: لما احتاج الناس إلى التفصيل ألجأ أهل العلم إلى التفصيل وكانوا يذعنون لمجرد الكلام من العالم في السابق العالم الموثوق به إذا قال: يعجبني أو لا يعجبني انتهى الإشكال ، لكن الآن إذا قال: يعجبني، يكفي؟ ما يكفي، فاحتاج الناس إلى التفصيل، فاضطر أهل العلم إلى التفصيل.
هل يقال: إن شيخ الإسلام ليس على طريقة السلف؟ طريقة السلف هذه قد يتذرع بها من لا يكلف نفسه عناء المراجعة أو عناء البحث في الكتب، أو يستطيع أن ينهي الكتب أو يسمع أكبر قدر من الكتب ويعلق على هذه القراءات بكلمة أو كلمتين، ويقول: إنه على طريقة السلف. يعني قد يتذرع بمثل هذا الكلام الكسول، يعني: لا يظن بشخص بعينه، فإذا نظرنا إلى العلم المبارك مثلاً علم الشيخ ابن باز مثلا، يقرأ عليه حديث يعلق عليه بخمس دقائق، حديث ثاني وثلاثة وأربعة وخمسة في جلسة واحدة ولا تستغرق شيئاً بعد صلاة العصر ربع ساعة يعلق على خمسة أحاديث, ولا شك أن هذه طريقة السلف, وعلم مبارك ومعوله على الكتاب والسنة، لا أحد يشك في هذا. لكن إذا احتاج طلاب العلم إلى التفصيل والتنظير في المسائل وتوضيح المسائل بكثرة الأمثلة, هل نقول: إن هذا من تشقيق المسائل الداخل في الحديث؟ مثال ذلك شيخ الإسلام احتاج في وقته إلى بسط المسائل، الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يبسط المسائل، هل نقول: إن هذا من البسط وتشقيق المسائل المذموم، أو من التوضيح المطلوب لما احتاج طلاب العلم إلى مثل هذا التوضيح؟
ولذلك الإنسان قد تراوده أحيانا الفكرة أنه يجمل في كثير من المسائل ويرجع الطلاب إلى المصادر, ويقول: اقرؤوا في شروح الأربعين وتستفيدون, ونتكلم عليها الحديث في خمس دقائق وننتهي من الأربعين بسرعة، والنفس لا شك أنها توجس ريبة من بعض التصرفات التي نرتكبها والإبعاد في النجعة والأمثلة والاستطرادات قد تكون عائقاً عن تحصيل بعض العلم، لكن الله -جل وعلا- يعلم أن الباعث لذلك هو إفادة طلاب العلم لا أكثر ولا أقل.
لكن مع ذلك نجد في كلام ابن رجب – رحمه الله - سواء كان في فضل علم السلف أو في شرح الأربعين ما نقع في مخالفته أحياناً، ونسأل الله -جل وعلا- العفو.
إذا نظرنا إلى كتب الفقه والمسائل والفروع والاستطرادات الكثيرة, هل نقول: إن هذا مما جاء ذمه في هذا الحديث؟ أو نقول: إن المقصود منه إيقاع مسائل والكلام على نظائر ولو لم تقع لكن احتمال أنها تقع؟ يعني: بعضهم ذكر من المسائل أن مسافة القصر يومين قاصدين ولو قطعها في ساعة، هذا من الفقهاء المتقدمين, هل يمكن أن تقطع في ساعة في وقته؟ مستحيل أن يقطع ثمانين كيلو في ساعة، هل نقول: إن هذا من ضرب الأمثلة الخيالية التي لا يمكن أن تقع؟ وقعت تقطع في ساعة الآن، بل يمكن أن تقطع بأقل بكثير، بعضهم ذكر مثال" لو رمى الجمرة فالتقمها طائر فوضعها في الحوض، وبعضهم قال: لو قرأ حيوان آية سجدة فسجد, هل يسجد السامع أو لا يسجد؟ هذه مسائل موجودة في كتب أهل العلم ولا شك أن منها ما يمكن وقوعه, ومنها ما يستحيل وقوعه فلا شك أن الواقع والنوازل لا بد من الكلام فيها، وما يمكن أن يقع إذا كان وقوعه متصوراً ومحتملاً لا مانع من الكلام فيه، أما ما يستحيل وقوعه فلا.
((كثرة مسائلهم واختلافهم)) المؤلف النووي في قاموس الألفاظ الغريبة التي شرح بها الألفاظ الغريبة في آخر الأربعين قال: هو بضم الفاء لا بكسرها. لماذا؟ ليكون العطف على المضاف، فمجرد الاختلاف على الأنبياء سبب للهلاك، وإذا قلنا: واختلافِهم صار كثرة الاختلاف سبب الهلاك لا مجرد الاختلاف.
((واختلافهم على أنبيائهم))، اختلفوا على الأنبياء عارضوهم بآرائهم, وبأفهامهم وكل يدلي برأيه غير مستند لنص أو لما يمكن أن يستند إليه في فهم النصوص ويوجد الآن مع الأسف من يشبه هؤلاء, فتجده يتكلم في القرآن والسنة برأيه المجرد وبفهمه الضعيف الذي لا يستند إلى عقل ولا نقل، فلا شك أن هذا طريق من طرق الهلاك إذا تكلم في الدين وفي العلم تكلم في الكتاب والسنة من ليس بأهل, فلا شك أن هذا من أسباب الهلاك. وجاء التحذير والتشديد في الكلام في كتاب الله وفي كلامه وكلام رسوله - عليه الصلاة و السلام - بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى نقل ولا إلى عقل فإن مثل هذا لا شك أنه من المحرمات. تجد من لا ناقة له ولا جمل, ولا يعرف مبادئ العلوم يتكلم في عضل المسائل التي يسمونها المسائل المصِيرِيَّة. بمجرد أنه تابع الأحداث من خلال قنوات أو وسائل إعلام تجده يتكلم في الأمور المستقبلة التي فيها نصوص يحلل برأيه وكثيراً ما يتكلم من يسمى المحلل السياسي, أو الكاتب الفلاني، فيتكلمون في أمور مصيرية هي ليست لهم قد تهلك الأمة بسببهم من تحليلاتهم. وقد يتجرؤون فيذكرون بعض النتائج الغيبية، والأمر في هذا مرده إلى كتاب الله وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وإلى حملة الكتاب والسنة، لا لهؤلاء الذي يتخبطون في آرائهم ويتكلمون في مسائل الدين باجتهاداتهم التي لا تستند إلى أصول ثابتة.
أهل العلم يتوقون ويتحرون من أن يتكلم الواحد منهم برأيه في آيةٍ أو في حديث؛ لورود التشديد في الكلام بالقرآن بالرأي أو في السنة, والكلام في كلام الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا بد له من الجمع بين معرفة السنة, مع معرفة اللغة، لا يكفي أن يتكلم لغوي في السنة، ولا يكفي أن يتكلم محدث لا علم له بلغة العرب بالسنة.
سأل الأصمعي عن السقب في الحديث: ((الجار أحق بسقبه)) فقال: أنا لا أفسر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولكن العرب تزعم أن السقب اللصيق. فهذا الأصمعي يحفظ ستة عشر ألف قصيدة, منها ما عدد أبياته بالمئين, يعني: يحفظ كمًّا هائلاً، الملايين من الأبيات، ومع ذلك -والشعر ديوان العرب-, ومع ذلك لا يجرؤ أن يفسر الحديث: ((الجار أحق بسقبه)). وتجد من أيسر الأمور على صغار الطلاب أو على العامة أو على أشباه العامة, وإن كانوا يكتبون ويقرؤون هم في ميزان الشرع عامة، من صحفيين ومن يدعون محللين وغيرهم, تجدهم من أيسر الأمور إذا ذكرت الآية باشر بتفسيرها, أو ذكر الحديث بادر بتأويله، ولا شك أن هذا مهلكة ومزلة قدم. وما الذي يلجئك أن تقحم نفسك فيما لا تحسنه؟ يعني لو احتاج ولدك إلى عملية بسيطة سهلة عميلة زائدة ليست معقدة, هل تجرؤ أن تقول: "هذه عملية سهلة آتي بالسكين وأشق البطن وأزيلها وأخيط وانتهى الإشكال"؟ أو لو احتجت إلى قطرة تقطر بها في عينك, وتذهب إلى الصيدلي وعنده خبرة وينظر إلى عينك ما تثق به حتى تذهب إلى طبيب ما يكفي طبيب عام ولا أخصائي، تحتاج إلى استشاري؛ لأن هذا خطر يقطر بالعين. حتى كان من وصايا بعضهم أنه لو أعطاك الاستشاري قطرة لا تقطر بالعينين معا قطر بواحدة، جرب ثم إذا سلمت قطر، يعني يحتاطون لأبدانهم، والدين أعظم ومن أجله خلقوا لتحقيق العبودية ومع ذلك يتجرؤون على كلام الله وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - بالهوى، والرأي المجرد الذي لا يستند إلى عقل صريح ولا إلى نقل صحيح، لا شك أن مثل هذا مؤدي إلى الهلاك ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) [رواه البخاري ومسلم]، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نقول: هذا التخصص ما دام موجودًا في بلاد المسلمين فلا يجوز السفر من أجله إلى بلاد الكفار.
الذي قرره أهل العلم أن هذه من العادات, والألبسة تخضع للأعراف، فإذا كان العرف في البلد في المكان، في الزمان, يعتمد العمامة فالخروج عن هذا المألوف شهرة ممنوعة، وإذا اعتادوا الشماغ فالأمر كذلك، على كل حال الألبسة ما لم يرد فيه نص بخصوصة منعه أو الحث عليه، يخضع للعرف, إذا سلم من التشبه.
الشرح نافع, ومفيد، والمؤلف والشارح كلاهما من علماء المسلمين المقتدى بهم، وليسا بالمعصومين, العصمة ليست متوقعة من أحد كائناً من كان سوى الرسول - عليه الصلاة والسلام-، والخطأ يقع ممن دونه -عليه الصلاة والسلام-.
بعد الدخول وايش معنى الدخول؟ معنى معروف أن الدخول مع الزوجة وكل على رأيه في المراد بالدخول, وعلى كل حال أم الزوجة محرمة عليه تحريماً مؤبدا، فهو مَحرم لها؛ لأن المحرم هو الزوج, أو من تحرم عليه على التأبيد وهذا منه.
وهذه من السعودية تقول: نود من فضيلتكم أن تبينوا لنا طريقة الاستفادة من قراءة الكتاب، هل يكون التلخيص بعد الانتهاء من قراءة الكتاب بأكمله أم بعد الانتهاء من الجزء المقرر من القراءة في اليوم، وكيف أختبر نفسي أنني استفدت، وكيف أستفيد من قراءة كتب ابن القيم؛ حيث عباراته سهلة وواضحة ومختصرة، فهل يكون بالتلخيص أيضاً؟
المنهجية في قراءة الكتب، المنهجية في قراءة الكتب، مسجلة بشريط متداول نرجو أن يكون فيه إجابة على هذا السؤال.
أما المشاركة بالحضور هذه متاحة، ويدعى إليها جميع من يستطيع من طلاب العلم وهذا المتصور أن الطالب يشارك بالحضور والإفادة، وأما الالتحاق بالجامعة الإسلامية أو حضور الدروس, أو الجمع بينهما، المطلوب الجمع؛ لأن كلها خير وكلها من وسائل تحصيل وكسب العلم، وكونه مضى من عمرك أربعون سنة هذا لا يعوقك عن التحصيل, فمن برز في العلم وصار ممن يشار إليه من أهل العلم من طلب العلم وهو كبير، ابن قفال من أئمة الشافعية طلب العلم كبيراً، صالح بن كيسان من كبار الآخذين عن الزهري كبير، أكبر من الزهري، طلب العلم وهو كبير جداً، يعني: أقل ما قيل فيه خمسون سنة، وإلا قال بعضهم في ترجمته: أنه طلب العلم وهو ابن تسعين سنة وهو يعد من كبار الآخذين عن الزهري، ومن الحفاظ المعروفين المشهورين, فهذا لا يعوق عن التحصيل, إذا عوض ما فات بالحرص والدأب على التحصيل وصدقت النية وأخلص في قوله وعمله فإنه يدرك إن شاء الله.
لا يمنع أن يكن الطالب المبتدئ يسأل زميله عما استفاده، وزميله يسأله، ثم يراجعون الكتاب, يصححون ما أبدوه من معلومات هل هي صحيحة أم خاطئة.
إذا بان من عرض الرؤيا علامات وأمارات وقرائن تدل على الوقت، فيمكن تحديدها, مع ذلك لا يجزم به؛ لأنه أمر مستقبل، لكن قد تدل الأمارات والعلامات والقرائن من خلال ما يعرضه الرائي على العابر أنها في وقت كذا إما في العصر أو في الليل أو بالنهار أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك لا يلزم بشئ من هذا؛ لأن التعبير ليس بقطعي بل هو غلبة ظن.
أولاً: إذا كنت تطلب شيئاً فلا بد أن تعرف الثمرة والغاية من هذا الشيء، وإذا عرفت الثمرة من طلب العلم حرصت على المتابعة, وإذا حرصت على طلب العلم, ومنتك نفسك أن تكون عالماً عاملاً ربانياً فإنك حينئذ لا بد أن تأتي على العوائق عن التحصيل فتبرأ منها, وتجاهد نفسك في محاربتها والتنصل منها، فلا بد من بذل الأسباب, ولا بد من انتفاء الموانع، لا بد من هذا كله، وكونه في بداية الطلب إيمانه أقوى منه الآن لا شك أن هذه عقوبة لمعصية زاولها, فعليه أن يفتش عن نفسه, وعليه أن يصحح ويسعى في تكميل إيمانه, ومع ذلك يجد هذه اللذة وهذه الحلاوة, سواء كانت في العلم أو العمل، سم.
أظننا في الدرس الأول من العام الماضي ذكرنا بعضاً منها.
على كل حال هي زوجة من العقد, لكنها إذا سلمت نفسه لها والتزم بجميع متطلباتها, من سكن, ونفقة وغيرها, مما تحتاجه لزمها طاعته.
الألفاظ المتعبد بها لا يجوز أن تؤدى بغير العربية هذا بالنسبة لمن يعرف العربية أو يستطيع أن يتعلمها، أما الذي لا يستطيع أن يتعلم العربية ولا يعرف منها شيئاً، فهذا بالنسبة للقراءة -قراءة القرآن لا تجوز بغير العربية وحينئذٍ يعدل عنها, كمن يعجز عن حفظ الفاتحة يعدل إلى التسبيح والتحميد والتهليل، والتكبير بقدرها، هذا إذا كان لا يحسن من العربية شيئاً ولا يستطيع أن يتعلم، وله أن يدعو بلسانه, ويذكر الله بلغته، هذا إذا كان الأمر بالنسبة له مستغلقاً، لا يستطيع أن يتعلم, أما من استطاع أن يتعلم العربية لزمه أن يتعلم ما تصح به صلاته.
تأخذ ما دفعت، تأخذ ما دفعت، وترد الباقي.
إذا بذلت الأسباب بالرقية الشرعية بأن ترقي نفسها, أو تسعى لرقيتها من قبل من يوثق به، من أهل الدين والعلم والورع والمعرفة في هذه الأمور، فبذل السبب مطلوب, وإن صبرت واحتسبت، والصرع كما جاء في المرأة التي تصرع في عهده -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إن صبرتِ فلك الجنة)) قالت: "أصبر"، لكنها تصبر على الصرع ولا تصبر على التكشف فقالت: "ادع الله لي أن لا أتكشف"، هذا غاية ما تسمو إليه، ونحن في كمال العقل، في كمال الإدراك نسعى إلى التكشف بأيدينا وبطوعنا واختيارنا، - نسأل الله السلامة والعافية-.
على كل حال قال: أجبرها والدها وذهب بها إلى راقي يقرأ عليها، لكن لم تستمر لارتكابه بعض المنكرات؟
ولهذا ينص على أن يكون الراقي ثقة، ثقة؛ لأنه وجد يعني وإن كان نادرًا وقليلاً, لكنه وجد من بعض غير الثقات من يتصدى للرقية، فحصل منه ما حصل من بعض المنكرات كما ذكرت.
وقال لها والدها: بأنه سيذهب بها إلى السعودية ليبحث لها عن راقي وهي ترفض ذلك، فكيف تبر أباها؟
فلتطع أباها؛ لأنه لم يأمرها بمعصية, يذهب بها إلى راق موثوق سواء كان في بلده, أو في السعودية أو في غيرها شريطة أن يكون موثوقاً.
المنهجية معروفة أنها لا بد أن تكون على الجادة بحفظ المتون المؤلفة لطلاب الطبقة الأولى من المتعلمين, يبدأ بصغار العلم قبل كباره, ثم بعد ذلك يلزم شيخاً أو أكثر من شيخ, يرى أن الفائدة تحقق بلزومهم، بقراءة هذه المتون وحفظها عليهم, وتوضيحها من قِبَلهم, ثم بعد ذلك يترقى إلى كتب الطبقة الثانية, ثم الثالثة على ما بينه أهل العلم وفصلوه في كتب مناهج التعليم.
يقول: المدينة التي أسكن فيها مقسمة بين الكفار والمسلمين, ويتوسطها نهر جار, وأخي قد وجد عقداً من ذهب كان موجوداً في كيس في هذا النهر وهو يجري, فماذا يصنع هل يُعرّفه؟ علماً بأن التعريف قد يصعب، ولا ندري هل هذا العقد للمسلمين أو الكفار؟ وإذا وجب التعريف كيف يكون؟
إذا دلت القرائن على أنه لمسلم فلا بد من تعريفه، إذا دلت القرائن على أنه لمسلم فلا بد من تعريفه، وإذا دلت القرائن على أنه لكافر حربي فهو يملك بمجرد أخذه، وإذا كان لذمي أو معاهد فهو يرد إليه، وعلى كل حال إذا خفي الأمر يحتاط لنفسه، يذهب إلى من تبرأ الذمة بتقليده في بلده, ويذهب بهذا العقد ويستشيره، وما يذكره له هو الخير -إن شاء الله تعالى-.
العلماء يختلفون في المرأة تحت الغني غير المنفق، فإن نظرنا إلى حالها فهي محتاجة في حكم الفقراء، وإذا نظرنا إلى من تجب عليه النفقة وهو الزوج وهو غني فلا يجوز أن تصرف الزكاة، وحينئذ عليها أن تذهب إلى المحكمة وتطالبه بتقرير ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف فيؤخذ منه قهراً؛ لأن هذا مما يجب عليه، وإن تيسر لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف, ولو من غير علمه فلها ذلك كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لهند امرأة أبي سفيان لما جاءت وقالت له: "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفي ولدي ويكفيني وولدي بالمعروف"، قال: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
المسألة فيها الحديثان المشهوران، حديث أبي هريرة: "كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه"، وفي حديث أيضاً وائل: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه)) والحديث الثاني أرجح من الحديث الأول, وإن زعم ابن القيم - رحمه الله- وقرر أنه منقلب لكنه في الحقيقة ليس بمنقلب، بل آخره يشهد لأوله، المقصود: أن أول الحديث ينهى عن مشابهة البعير وجاء النهي عن مشابهة الحيوانات في نصوص كثيرة، ولمجرد وضع اليد قبل الركبة ليس فيه مشابهة للبعير، وإلا لقلنا: إن مجرد وضع الركبة قبل اليد فيه مشابهة للحمار وهو أسوأ من البعير، المسألة مسألة وضع وليست بروك؛ لأن البروك النزول بقوة، ولذا نزل عمر- رضي الله عنه- برك عمر - رضي الله عنه- على ركبتيه بين يدي النبي - عليه الصلاة والسلام- لما نزل بقوة قال: برك وهو على ركبتيه ليس على يديه فالبروك المراد به النزول بقوة على الأرض، يقال: برك البعير إذا أثار الغبار وفرق الحصى، فإذا وضع يديه قبل ركبتيه لا يقال: إنه برك كما يبرك البعير وإنما يقال: وضع يديه قبل ركبتيه فهذا هو الأرجح؛ لأن الحديث أرجح من الحديث الثاني كما قرره أهل العلم، وعلى كل حال المسألة فيها سعة، هذا من فعله - عليه الصلاة والسلام - وذاك من قوله.
هذه عليها أن تكفر, عليها الدية لوالده إلا إذا سمح بذلك, وعليها الكفارة، تعتق رقبة إن وجدت, وإلا فتصوم شهرين متتابعين.
ابن القيم أطال في حديث أبي هريرة وقال: إنه مقلوب: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه)) يقول: إنه مقلوب باعتبار أن البعير يضع يديه قبل ركبتيه فيكون آخره معارض لأوله, ونقول: إنه ليس بمقلوب؛ لأن مجرد وضع اليدين على الأرض ليس ببروك، ولا يلزم من التشبيه أن يكون من كل وجه، والأمثلة على ذلك كثيرة, ونقول: مجرد وضع اليدين هذا ليس ببروك، وإنما البروك النزول على الأرض بقوة, سواء كان على اليدين أو على الركبتين، وفي صحيح البخاري: "فبرك عمر بين يدي النبي - عليه الصلاة و السلام - على ركبتيه" على ركبتيه, يعني: نزل على الأرض بقوة؛ فالذي ينزل على يديه بقوة هذا يبرك كما يبرك البعير، ونسمع من ينزل بقوة على ركبتيه هذا ممنوع، ومن ينزل بقوة على يديه هذا ممنوع، والمطلوب في الصلاة عدم مشابهة البهائم، فالبعير ينزل بقوة يثير الغبار يفرق الحصى, وإذا وضع يديه المصلي قبل ركبتيه هذا لا يسمى باركاً بروك البعير، بل ممتثلاً لقوله: ((وليضع يديه على ركبتيه)).
اللهم صل على محمد وعلى آله.
إن كان يقلبه على الأرض فلا شك أن هذا امتهان للقرآن, ولا يجوز بحال، وإن كان القصد منه أنه يقلبه بأن يجعل أعلى صفحة أسفل والأسفل أعلى فهذا أخف، أما كونه ينكسه على الأرض فهذا شر من أن يبقيه منشوراً, وقد نص أهل العلم على كراهية أن يفتح المصحف ويبقى منشوراً كما يفعله كثير من القراء إذا أرادوا سجود التلاوة، إذا سجد للتلاوة ترك المصحف منشورًا, وهذا فيه شيء من الامتهان، الحمد لله الآن هناك أشياء وضعت للدلالة على الموضع والموقف الذي وقف فيه, الخيط الموجود في المصاحف إنما وضع لهذا, فلا يبق منشوراً فضلاً عن أن ينكس، وتكون الصفحات إلى جهة الأرض، وكلام الله - جل وعلا- يباشر به الأرض، أما وضع المصحف على الأرض لعدم وجود شيء مرتفع يوضع عليه فهذا نص أهل العلم على أنه خلاف الأولى، خلاف الأولى يعني الأولى أن يجعل على شيء مرتفع ويبحث عن شيء مرتفع، لكن لا شيء فيه.
يقلب المصحف أو ينكسه فإذا أراد أن يفتح على نفسه نظر فيه, ثم يعود وينكسه فما حكم تنكيس المصحف؟ وذلك بأن يجعل أوراق القرآن وكتاباته على الأرض؟
هذا لا يجوز، هذا امتهان ظاهر, ومنعه ظاهر.
نعم, هذه الدورات المباركة سواء كانت في حفظ الكتاب أو في حفظ السنة من أنفع ما يقضي به طالب العلم وقته, فليحرص عليها.
الجرح والتعديل يحتاج إليه في مواطن, وهو من الغيبة المستثناة من النصوص المحرمة للغيبة؛ بل من النصيحة الواجبة، من النصيحة الواجبة، الجرح والتعديل عند الحاجة إليه، فرواة الحديث أطبق الأئمة على جرحهم وتعديلهم, وإن قال بعض من لا علم له ولا خبرة لديه ولم يحس بالحاجة الماسة إلى الجرح والتعديل قال: إنه غيبة، نعم, هو ذكر للراوي بما يكره لا سيما الجرح، لكنه مع ذلك المصلحة راجحة, ولولا الجرح والتعديل لما عرف الصحيح من الضعيف, والمقبول من المردود, وتبقى الحاجة إذا كانت راجحة فإنه حينئذٍ يباح الكلام في أعراض من يحتاج إلى جرحه حاجة ماسة, وإلا فالأصل المنع، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار -كما قال ابن دقيق العيد- وقف على شفيرها العلماء والحكام.
وهل يجوز إعمال الجرح والتعديل في هذا الزمان؟
نعم إذا قامت المصلحة، يعني هناك شخص مبتدع يخشى من انتشار بدعته وحذر من البدعة، بدأ في أول الأمر يحذر من البدعة ولا يذكر الأشخاص إلا إذا تعين ذكرهم بحيث استمر ضرره ولم يفهم المخاطب إلا بالتصريح باسمه يصرح باسمه، وكتب أهل العلم طافحة بالرد على المبتدعة.
أولاً: كانت الكلاب كما في صحيح البخاري:" تغدوا وتروح في مسجده - عليه الصلاة والسلام-"، فوجود الكلاب أمر مألوف، لكن المنهي عنه اقتناء الكلب، اقتناء الكلب وأنه ينقص من عمله كل يوم قيراطًا من عمل المقتني إلا ما استثني كلب صيد أو زرع أو ماشية، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز اقتناؤه، كونها تغدو وتروح في الأسواق وتخالط الناس, وتعاشرهم، فإذا كانت ببدنها والبدن يابس, فاليابس فلا ينجس اليابس وإن كانت رطبة أو كان ذلك بلعابها, فهي تنجس ما مسته من يد أو بدن، فلا بد من غسله، فإن كان من اللعاب فلا بد من التسبيع والتتريب، وما عدا ذلك يبقى على النجاسة الأصلية يغسل ثلاثاً.
الخلوة أن يخلو رجل بامرأة أجنبية عنه, سواء كان في بيت أو في ملاذ كسيارة ونحوها، هذه خلوة ولا يجوز أن تركب المرأة مع السائق بمفردها.
وهنا يقول: وهل يعتبر خروج بعض الطالبات مع السائق من الخلوة؟
الطالبة الأولى التي تركب مع السائق وليس معها غيرها هذه خلوة، وآخر من ينزل من السيارة وليس مع السائق أحد هذه خلوة، لكن مجموعة طالبات إذا لم يكن هناك سفر؛ لأن السفر محُرم بدون مَحرم ولو ارتفعت الخلوة، ولو كانت مع مجموعة نساء، لا بد من المحرم، أما إذا لم يوجد الوصف الذي هو السفر فالممنوع الخلوة, فإذا اجتمع مجموعة من النساء أو من الطالبات ارتفعت الخلوة, لكن معلوم أنه يوزع هذه الطالبات أو هذه المدرسات حتى لا يبقى إلا واحدة وحينئذ تكون في خلوة معه، إذا كانت آخر واحدة أو أول واحدة تركب معه هذه خلوة؛ لذلك يشترطون أن يكون معه محرم له كزوجته، أو أمه, أو أخته أو ما أشبه ذلك.