التعليق على تفسير القرطبي - سورة الكهف (06)

"وأنه عادة الأولين في عذاب الاستئصال".

قد يرى العقلاء في الأمم المتقدمة والمتأخرة أن أسباب العذاب منعقدة، لكنهم لا يستطيعون أن يقدموا ولا يؤخروا، ولو تكلموا ما سمع لهم؛ لأن الله -جل وعلا- ممضٍ ما أراد، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [سورة الأنفال:42].

أسباب الهلاك قد تكون منعقدة وظاهرة للناس، ويجزم بها جميع من له أدنى مسكن من عقل، ومع ذلك لا يستطيعون أن يقدموا ولا يؤخروا؛ لأن السنن ماضية، السنن الإلهية لا تتبدل ولا تتغير، لكن إذا أراد الله بهم خيرًا عقلوا، وثابوا إلى رشدهم، وتركوا ما هم عليه من ضلال، إلى الحق، وتمسكوا بدينهم، ثم يُعفى عنهم.

لوجود ما يمنع من إيقاع العذاب بهم، أما إذا انعقدت الأسباب، ورؤيت البوادر، وبدأت المقدمات، فلا ينفع، ولم يستثنَ من ذلك إلا قوم يونس، قبل انعقاد الأسباب وبداية ما كتبه الله -جل وعلا- على خلقه، إذا رجعوا وثابوا، قبل ذلك لا شك أن هناك موانع من تنفيذ ما كتبه الله وقدَّره، ويكون هذا مانعًا، والله المستعان.

"وقيل: المعنى، وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، فحذف وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [سورة الأنفال:32].

أو {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [سورة الكهف: 55]، نُصب على  الحال، ومعناه عيانًا، قاله ابن عباس، وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر، وقال مقاتلٌ: فجأة، وقرأ أبو جعفر وعاصم، والأعمش وحمزة ويحيى، والكسائي: {قُبُلًا}، بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله، جمع قبيل نحو سبيلٍ وسُبُل.

قال النحاس: ومذهب الفراء أن قُبُلاً جمع قبيل، أي متفرقًا يتلوا بعضه بعضًا، ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانًا.

وقال الأعرج: وكانت قراءته: قُبُلًا، معناه جميعًا.

وقرأ أبو عمرو: وكانت قراءته قِبلاً، ومعناه عيانًا".

قِبلا هذه قراءة المؤلف؛ لأنها قراءة نافع.

"قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} [سورة الكهف:56]، أي بالجنة لمن آمن، ومنذرين أي مخوفين بالعذاب من كفر، وقد تقدم.

 {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة الكهف:56]. قيل: نزلت في المقتسمين، كانوا يجادلون في الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: ساحرٌ ومجنونٌ وشاعرٌ وكاهن، كما تقدم، ومعنى {يُدْحِضُوا} يزيلوا ويبطلوا، وأصل الدحض الزلق.

يقال: دحضت رجله، أي زلقت تدحض دحضًا، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت، ودحضت حجته دحوضًا، بطلت وأدحضها الله، والادحاض الازلاق.

وفي وصف الصراط: ويضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، فيقولون: اللهم سلم سلم، قيل يا رسول الله: «وما الجسر، قال: دحضٌ مزلقة».

أي تزلق فيه القدم؛ قال طرفة:

أبا منذر رمت الوفاء فهبته

 

 XE "08-فهرس القصائد العامة:ورأيت زوجك في الوغى *متقلدا سيفا ورمحا

"  وحدت كما حاد البعير عن الدحض

واتخذوا آياتي يعني القرآن.

وما أنذروا من الوعيد. هزوًا، و"ما" بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل: بمعنى الذي، أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوًا أي لعبًا وباطلاً، وقد تقدم في "البقرة" بيانه.

وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم، وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين.

وقالوا للرسول : {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [سورة الأنبياء: 3]، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف:31]، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [سورة المدثر: 31]".

لولا نزل هذا القرءان على رجلٍ من القريتين مكة والطائف، عظيم، هذا اقتراح من المشركين لما أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- قالوا: لولا أنزل على رجلٍ عظيم، بخلاف هذا اليتيم.

عظيم يعنون بذلك أبا جهل في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف، هؤلاء في عرفهم وفي وتقديرهم وظنهم.

وأما هذا اليتيم فليس بعظيمٍ عندهم، لكنه عظيم، عظيمٌ عند الله -جل وعلا-، وعظيمٌ عند خلقه بشمائله وأخلاقه، وما جُبل عليه من مكارم، لكن هذا كله على سبيل التعنّت، نسأل الله العافية.

"قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [سورة الكهف: 57]، أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها.

{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك.

وقيل: المعنى نسي ما قدَّم لنفسه".

كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة: 67]، يعني تركوا ما أمرهم به، فنسيهم في العذاب.

"وقيل: المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصّل من العذاب، والمعنى متقارب.

{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [سورة الكهف: 57]، بسبب كفرهم، أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم.

{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} أي إلى الإيمان . {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم، وقد تقدم معنى هذه الآية في سبحان وغيرها".

يرد على القدرية الذين يزعمون أن الإنسان بيده أمره، وأن مشيئته مستقلة، يخلق فعله والله -جل وعلا-  يقول: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}؛ لأن الأمر أولاً، وآخرًا بيد الله -جل وعلا- ومع ذلك فليس العبد مجبورًا، وإنما له مشيئة وله إرادة وله حرية وله اختيار، لكن كل هذا مقيد بمشيئة الله -جل وعلا-.

"قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [سورة الكهف: 58] أي للذنوب، وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه} [سورة النساء: 48].
ذو الرحمة فيه أربع تأويلات:

- أحدها: ذو العفو.

- والثاني: ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر.

- الثالث: ذو النعمة.

- والرابع: ذو الهدى، هو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان والكفر؛ لأنه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن، وقد أوضح هداه للكافر، كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر".

هداية الدلالة للجميع، {وهديناه النجدين} هذه للجميع، لكن هداية التوفيق والقبول فهذه خاصة للمؤمنين الذين قبلوا ما دلهم الله -جل وعلا- عليه.

الطالب: ذو الرحمة فيه أربعة تأويلات.

ذو العفو، على كل حال الله -جل وعلا-  موصوفٌ بالرحمة، على ما يليق بجلاله، وعظمته، له صفة الرحمة، هو الرحمن الرحيم على ما يليق بجلاله وعظمته.

طالب: .............

هذا إذا انتهوا، أما حال كفرهم فلا.

"ومعنى قوله: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [سورة الكهف: 58]، أي من الكفر والمعاصي {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}، ولكنه يمهل، {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} أي أجلٌ مقدرٌ يؤخرون إليه.

نظيره {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [سورة الأنعام: 67]،ا {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [سورة الرعد: 38]، أي إذا حل".

الله -جل وعلا-  يمهل، يمهل الكفار، ويمهل العصاة، ويمهل الظلمة، ولكن يؤخرهم، قد يؤاخذهم في الدنيا ولو بعد حين، قد يعجّل لهم العقوبة، وقد تتأخر في الآخرة، فلا يغتر الإنسان أنه إذا لم يعاقب في الدنيا عقوبة عاجلة أنه يسلم من العقوبات الآجلة، فكم من إنسانٍ حلت به المصيبة بعد عقود من مزاولته المعصية، وتُركت له مدة طويلة، لعله أن يتوب، ولعله أن يرجع، لعله يراجع نفسه، ولما لم يكن شيءٌ من ذلك حلت به العقوبة، وقد تُتدخر له في الآخرة، وهو أشد، نسأل الله العافية.

"أي إذا حلَّ لم يتأخر عنه إما في الدنيا، وإما في الآخرة، {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [سورة الكهف:58]، أي ملجأً.

قاله ابن عباسٌ وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح، قد وأل يئل وألا، ووءولا على فعولٍ أي لجأ، وواءل منه على فاعَل أي طلب النجاة.

وقال مجاهد: محرزًا، وقال قتادة: وليًا، وقال أبو عبيدة: منجى، وقيل: محيصًا، والمعنى واحد، والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت، ومنه قول الشاعر:

لا وألت نفسك خليتها

 

 XE "08-فهرس القصائد العامة:ورأيت زوجكِ في الوغى *متقلدا سيفا.........

" للعـامريين ولـم تكــلم

وقال الأعشى:

وقد أخالس رب البيت غفلته

 

 XE "08-فهرس القصائد العامة:ورأيت زوجكِ في الوغى *متقلدا سيفا.........

" وقد يحاذر مني ثم ما يئل"

طالب: .............

الموئل الملجأ نعم واضح.

"ثم ما يئل، أي ما ينجو".

بعد المحاذرة، وبعد اتخاذ كافة الأسباب، والاحتياطات مع ذلك لا ينجو، الله المستعان.

"قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} [سورة الكهف: 59]، تلك في موضع رفعٌ بالابتداء، القرى نعتٌ أو بدل".

لأن الذي يقع بعد الإشارة من المعارف، بدل أو بيان، بدل أو عطف بيان، من المعارف.

{أَهْلَكْنَاهُمْ} في موضع الخبر محمولٌ على المعنى؛ لأن المعنى أهل القرى، ويجوز أن تكون تلك في موضع نصب، على قول من قال:

زيدًا ضربته، أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عادٍ وثمود ومدين، قوم لوطٍ أهلكناهم لما ظلموا، وكفروا".

القرى، {تلك القرى أهلكناهم}، المراد أهل القرى بالدرجة الأولى ويتبعهم كل ما على ظهرها وعلى وجهها من عمارةٍ ونحوها.

حتى الحيوانات تتضرر بسبب معاصي بني آدم، وظلمهم، من لا إثم عليهم من الأطفال والمجانين وغيرهم ممن لا يُكتب عليه ذنب، كلهم يتضررون بسبب ظلم بني آدم، وما يرتكبونه من جرائم ومعاصٍ ومنكرات وإفساد في الأرض، والله المستعان.

طالب: .............

نعم.

طالب: .............

كيف؟

طالب: .............

أين؟ مر هنا؟

طالب: .............

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ}، ماذا فيه؟

طالب: .............

القرى: الأمم الخالية السابقة التي حلَّت بها العقوبات، والمثولات، أهلكناهم، كلها أُهلِكت بسبب ما ارتكب على ظهرها، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [سورة فاطر:45]، لكنه عذَّب أقوام، وأنذر آخرين، ولا شك أن عقوبات الدنيا أسهل من عقوبات الآخرة، والله المستعان.

"{وَجَعَلْنَا لِمُهْلكِهِمْ مَوْعِدًا} [سورة الكهف:59]، أي وقتًا معلومًا، لم تعده. "مهلك" من أهلكوا، وقرأ عاصم: "مَهْلَكِهم" بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك.

وأجاز الكسائي والفراء، لمهلكهم بكسر اللام وفتح الميم، قال النحاس: قال الكسائي: وهو أحب إلي؛ لأنه من هلك، وقال الزجاج: اسم للزمان، والتقدير لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على مضرِبها.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} [سورة الكهف:60]".

المهلِك، المفعِل يصلح لأن يكون اسمًا للزمان وقت الهلاك، واسم المكان الذي هو مكانه، كما أن المُقام يصلح أن يكون وقت القيام، وأن يكون محل القيام ومكانه، هذه الصيغة صالحة للأمرين.

"قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [سورة الكهف:60].

فيه أربع مسائل:

- الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ}، الجمهور من العلماء وأهل التاريخ، أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن، ليس فيه موسى غيره.

وقالت فرقةٌ منها نوف البكالي: أنه ليس ابن عمران، إنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب، وكان نبيًّا قبل موسى بن عمران، وقد ردّ هذا القول ابن عباسٍ في صحيح البخاري، وغيره".

القصة في الصحيح، في أوائل الصحيح، في رد ابن عباس على نوف البكالي، حينما زعم أن موسى ليس موسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فرد عليه كما في الصحيح.

"وفتاه هو يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة وآخر يوسف، ومن قال: هو ابن منشا، فليس الفتى يوشع بن نون.

لا أبرح، أي لا أزال أسير، قال الشاعر:

وأبرح ما أدام الله قومي

 

 XE "08-فهرس القصائد العامة:ورأيت زوجكِ في الوغى *متقلدا سيفا.........

" بحمــد لله منتتطــقًا مجــيدًا

وقيل: لا أبرح، لا أفارقك.

{حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}، أي ملتقاهما، قال قتادة: وهو بحر فارس والروم، وقاله مجاهد، وقال ابن عطية: هو ذراعٌ يخرج من البحر المحيط من شمالٍ إلى جنوب، في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين، مما يلي بر الشام، هو مجمع البحرين على هذا القول، وقيل: هو بحر الأردن، وبحر القلزم، وقيل: مجمع البحرين".

البحر الأحمر، بحر القلزم هو البحر الأحمر.

"وقيل: مجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد بن كعب، وروي عن أبي كعبٍ أنه بأفريقيا، وقال السدي: الكر والرس بأرمينية.

وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط، حكاه النقاش، وهذا مما يذكر كثيرًا، وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر، وهذا قولٌ ضعيف".

أن مجمع البحرين موسى والخضر، حتى يجتمع البحران، موسى والخضر، وهما بحران في العلم على هذا التأويل، لكنه ضعيف، والسياق يدل على أن مجمع البحرين بعيد وليس بقريب لمكان نزول موسى، {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، يعني أستمر في المشي، حتى يتم له ما كتب الله له ومبتغاه فدل على أن الغاية بعيدة، فكونه مجمع البحرين الذي من وراء أذربيجان، أو ملتقى البحر الأبيض في نهايته مع المحيط، فيكون هناك في أقصى المغرب، بدليل قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، يعني أمضي عقودًا سنين متطاولة.

فدل على أنه لا يريد المجمع القريب، من مكان نزوله.

"وقالت فرقةٌ: إنما هما موسى والخضر، وهذا قولٌ ضعيف، وحكي عن ابن عباسٍ ولا يصح، فإن الأمر بَيِّن من الأحاديث، أنه إنما وُسِم له بحر ماء.

وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان، عن أبي بن كعبٍ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن موسى - عليه السلام - قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم، فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه: إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به، قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَم» وذكر الحديث، واللفظ للبخاري.

وقال ابن عباس: لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر، أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكِّرهم بأيام الله، فخطب قومه، "فذكَّرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة، إذ نجاهم من آل فرعون وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال: وكلَّم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاه لنفسه وألقى عليَّ محبةً منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العز بعد الذل والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالاً، فقال له رجلٌ من بني إسرائيل:

عرفنا الذي تقول، فهل على وجمه الأرض أحدٌ أعلم منك يا نبي الله؟، قال: لا، فعتب الله عليه، حين لم يرد العلم إليه، فبعث الله جبريل، أي يا موسى، وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن لي عبدًا، بمجمع البحرين أعلم منك". وذكر الحديث.

 قال علماؤنا: قوله في الحديث هو أعلم منك، أي بأحكام وقائع مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقًا، بدليل قول الخضر لموسى: إنك على علمٍ علَّمكه الله، لا أعلمه أنا، وأنا على علمٍ علَّمنيه، لا تعلمه أنت، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما، أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحدٍ منهما، ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا".

لكن السياق يدل على أن الخضر أعلم من موسى، ولا يلزم أن يكون أعلم في كل قضية، إنما يدل على أنه في الجملة على علمٍ يمتاز به على موسى -عليه السلام-، كما إذا قيل: فلان أعلم من فلان، لا يعني أنه في كل مسألةٍ مسألة أعلم من فلان.

فقد يكون علم المفضول كاملًا بالنسبة لهذه المسألة، وعلم الفاضل في هذه المسألة، ناقص إلا أنه في الجملة جميع ما يتصف به من هذا الوصف هو أعلم وأكمل من الآخر.

الطالب: هل ثبت أنه الخضر؟

نعم؟

طالب: .............

 نعم،  جاء في الحديث الصحيح.

"فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة، وهمته العالية لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه أنه أعلم منك، فعزم فسأل سؤال الذليل، بكيف السبيل فأمر بالارتحال على كل حال، وقيل له: احمل معك حوتًا مالحًا في مكتل، وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده، فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدًا".

وهكذا ينبغي لطالب العلم الذي يسمع أنه في بلد كذا أو في محل كذا، أو في حي كذا، فلان أعلم من غيره بعلم كذا، عليه يقصده ليأخذ عنه هذا العلم؛ لأن المطلوب الأخذ عن الأعلم والأكمل، فالأمر لا يستوعب أن يأخذ علم هذا بالكلية، ثم ينتقل إلى هذا ثم إلى ذاك، على كل حال إذا مُدح أحد العلماء بعلم أو بفن، أو بالمجموع يحرص عليه.

"فانطلق مع فتاه، لما واتاه، مجتهدًا طلبًا قائلاً: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، بضم الحاء والقاف، وهو الدهر والجمع أحقاب، وقد تسكن قافه فيقال: حقب، وهو ثمانون سنة، ويقال: أكثر من ذلك، والجمع حقاب، والحقبة بكثر الحاء، واحدة الحقب وهي السنون.

الثانية: في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب".

الرحلة سنة، عند أهل العلم معروفة في جميع العصور بدءً من الصحابة- رضوان الله عليهم-، رحلوا لطلب العلم، منهم من رحل الشهر لطلب حديثٍ واحد، ورحلات المحدثين، وغيرهم من أهل العلم المحققين؛ للازدياد من العلوم التي لا توجد في بلدانهم معروفة، وألفت فيها الكتب، وما من عالمٍ إلا يذكر بترجمته أنه رحل إلى بلد كذا، وكذا، وكثيرٌ منهم لهم مدونات ورحلات.

مدونات يدونونها؛ لينتفع بها من يجيء بعدهم؛ لأنه يحصل في هذه الرحلات من الطرف والنكات وغرائب العلوم ما لا يحصل في غيرها.

وكتب الرحلات كثيرة، منها رحلات أهل العلم المفيدة، النافعة التي فيها بحث بعض المسائل التي لا توجد في غيرها، كرحلة ابن الرشيد مثلاً، لا نظير لها، لاسيما ما يتعلق بدقائق علوم الحديث، ملء العيبة، اسمه (ملء العيبة مما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى مكة وطيبة).

هذه خمسة مجلدات، من أنفس ما كتب في الرحلات، هناك رحلات كثر فيها متعة، وفيها استجمام لطالب العلم لذهنه وفكره، ولا تخلو من فائدة، لكن رحلات أهل العلم ماتعة ونفيسة.

وبعض الرحلات- لا سيما أن بعض الناس عندهم الفضول- فيها غثٌ كثير، ونفعها قليل، لكن على كل حال لا تخلو من فائدة.

 فيها أيضًا تحريف الحقائق في بعضها، وعدم ثقة أصحابها، وكم في رحلة ابن بطوطة من تحريف وصرفٍ للحقائق، وفيها أيضًا من تخريف ومزاولةٍ لما يضاد التوحيد، أمور كثيرة حصلت له ولغيره ممن رآه من الشيوخ، على كل حال الرحلات متفاوتة، ومن أنفع الرحلات رحلة ابن الرشيد التي ذكرناها.

هناك أيضًا رحلات للعلماء المتقدمين، والمتأخرين، ومن آخرها رحلة الشنقيطي -رحمه الله تعالى- سواءٌ كانت المطبوعة أو المسجلة، فيها طرائف، فيها فوائد.

 هناك رحلات لأناسٍ يهتمون بالأدب، وناس يهتمون بالمخطوطات، ورحلات كثيرة جدًّا فيها فوائد، يحرص عليها طالب العلم، لكنها ليست من متين العلم، بل هي في الغالب من ملح العلم، وليست من متينه، تُقرأ في أوقات الفراغ، أو في أوقات انتظار أو ما أشبه ذلك، يفاد منها.

فالرحلات والذكريات أيضًا فيها فوائد يكتب أهل العلم ذكرياتهم، وما مر بهم من غرائب، وتشجع الطالب، ونفائس أيضًا تمر أثنائها، فيحرص عليها بقدر الحاجة.

وتكون الاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب؛ لكي يهيء له ما يحتاجه في طريقه في وقت نزوله في البلدان وغيرها؛ ليتفرغ إلى ما هو بصدده من علم.

"والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقدارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام.

قال البخاري: ورحل جابرٌ بن عبد الله مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس، في الحديث".

في حديث، يعني في حديثٍ واحد.

"الثالثة: قوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [سورة الكهف:60]، للعلماء فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان معه يخدمه، والفتى في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدَمة أكثر ما يكونون فتيانًا، قيل للخادم: فتىً على جهة حسن الأدب، وندبت الشرعية إلى ذلك في قول النبي".

ولو كان كبيرًا في السن يقال له: فتى، كما قال أنس عن ابن مسعود، وهو كبير: كنت أحمل أنا وغلامٌ نحوي، يعني نحوي في الخدمة لا في السن، بينهما زمنٌ طويل، أكثر من ثلاثين سنة بينهما في السن، فكل خادمٍ يقال له: غلام، وكل خادم يقال له: فتى، بناءً على أن أكثر من يتولى الخدمة الفتيان والغلمان.

"وندبت الشريعة إلى ذلك، في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقل أحدكم: عبدي، ولا أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، فهذا ندبٌ إلى التواضع»، وقد تقدم هذا في يوسف".

وإن كان عبدًا له في الرق، وأمة له في الرق، لكن إذا تحدث الإنسان عن نفسه يتواضع، لكن لا يمنع أن يقال: هذا عبد فلان، وفتاة فلان، أو أمة فلان، لكن كون الإنسان يقول: هذا عبدي والأصل في العبودية أنها لله -جل وعلا-  لا شك أن هذا يوحي بالترفع، فمثل هذا إذا تحدث الإنسان عن نفسه يلزم الأدب.

"والفتى في الآية هو الخادم، وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف -عليه السلام- ويقال: هو ابن أخت موسى -عليه السلام- وقيل: إنما سمي فتى موسى؛ لأنه لزمه؛ ليتعلم منه وإن كان حرًّا.

وهذا معنى الأول، وقيل: إنما سماه فتىً؛ لأنه قام مقام الفتى، وهو العبد، قال الله تعالى:

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [سورة يوسف:62]، وقال: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [سورة يوسف:30].

قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد، وفي الحديث أنه كان يوشع بن نون، وفي التفسير أنه ابن أخته، وهذا كله مما لا يقطع به، والتوقف فيه أسلم".

ليس على سبيل الجزم، بأنه فلان أو فلان؛ لأن التسمية لم ترد في دليلٍ ملزم.

"الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، قال عبد الله بن عمر: الحقب ثمانون سنة، قال مجاهد: سبعون خريفًا، وقال قتادة: زمان، وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمانٌ من الدهر مبهمٌ غير محدود، كما أن رهطًا وقومًا مبهم غير محدود، وجمعه أحقاب.

قوله تعالى"

دليله قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [سورة النبأ:23]، {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، والحقب الواحد على ما قيل ثمانون أو سبعون سنة، وأحقاب جمع، لا يدرى ما نهاية هذا الجمع، وكل واحدٍ من أفراد هذا الجمع ثمانون سنة، لا شك أن مثل هذا وإن كان يفهم منه أنه له أمد ينتهي، إلا أنه بهذا الإطلاق، إطلاق الأحقاب من غير تقييد بعدةٍ معينة، إلا أنه أسلوبٌ فيه من التيأيس ما يدل على صحة القول بأنه لا أمد للنار، ولا لأهلها.

"قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [سورة الكهف:61].

الضمير في قوله: بينهما للبحرين، قاله مجاهد، والسرب المسلك، قاله مجاهد، وقال قتادة: جمد الماء، فسار كالسرب، وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغًا.

وأن موسى مشى عليه متبعًا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات والكتاب، أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر، وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا}، وإنما كان النسيان من الفتى وحده، فقيل المعنى: نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله، فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [سورة الرحمن:22]. وإنما يخرج من الملح، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [سورة الأنعام: 130]، وإنما الرسل من الإنس لا من الجن، وفي البخاري: فقال لفتاه: لا أكلفك إلا ان تخبرني؛ بحيث يفارفقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرًا، فذلك قوله -عز وجل-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ}، يوشع بن نون ليست عن سعيد، قال: فينما هو في ظل ضخرة في مكان سريان".

يعني هذه التسمية ليوشع بن نون ليست عن سعيد بن جبير، راوي الحديث.

"فبين هو في ظل صخرةٍ في مكانٍ ثرَيان".

ثرْيان.

"في مكان ثرْيان، إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك لله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر- قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما-.

وفي رواية:

وأمسك الله عن الحوث جرية الماء، فسار مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما، وليلتهما، حتى إذا كان إلى الغد، قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [سورة الكهف:62]، ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [سورة الكهف:63]، وقيل: إن النسيان كان منهما؛ لقوله تعالى: نَسِيَا، فنسب النسيان إليهما، وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى؛ لأنه الذي أمر به.

فلما مضيا كان فتاه هو الحامل له، حتى أويا إلى الصخرة نزلا، فلما جاوزا، يعني الحوت، هناك منسيًّا أي متروكًا، فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه، عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين، وهو الصخرة".

النسيان من الطرفين، فالفتى نسى أن يخبر موسى، وموسى أيضًا نسى أن يسأل الفتى، فالنسيان من الطرفين.

"فقد كان موسى شريكًا في النسيان؛ لأن النسيان التأخير، من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلك، فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما، عن حمله فلم يحمله واحدٌ منهما، فجاز أن ينسب إليها؛ لأنهما مضيا، وتركا الحوت".

النسيان التأخير ومنه النسيئة، ربا النسيئة يعني ربا التأخير، من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له أثره أي يؤخر أجله، فليصل رحمه.

"قوله تعالى: {آتِنَا غَدَاءَنَا}، فيه مسألةٌ واحدة، وهو:

- اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو ردٌّ على الصوفية الجهلة الغمار، الذين يقتحمون المهامة".

المهامه.

"الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعمًا منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار.

هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض، قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد".

نعم، لا بد من فعل الأسباب المأمور بها، وترك الأسباب خلل في العقل، كما أن الاعتماد عليها من اتخذ السبب يجزم بنجاته، ويجزم بأنه لا يحتاج إلى غيره، أيضًا هذا خلل في الديانة.

"وفي صحيح البخاري: أن ناسًا من أهل اليمن كانوا يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} [سورة البقرة:197]، وقد مضى هذا في البقرة، واختلف في زاد موسى ما كان.

فقال ابن عباس: كان حوتًا مملوحًا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداءً، وعشاءً، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت جري البحر، فتحرك الحوت، في المكتل، فقلب المكتل، وانصرف الحوت، ونسي الفتي أن يذكر قصة الحوت لموسى.

وقيل: إنما كان الحوت دليلاً على موضع الخضر؛ لقوله في الحديث: احمل معك حوتًا في مكتل، فحيث فقدت الحوت، فهو ثم على هذا".

يعني هو أمارة، أمارة وعلامة، حمل الحوت للعلامة، والدلالة على الوصول إلى هدف، وليس من أجل التزود منه، وليس من أجل وبقصد التزود منه.

"على هذا فيكون تزودا شيئًا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره".

شيخه أبو العباس القرطبي، صاحب المفهم.

"وقال ابن عطية: قال أبي -رضي الله عنه-: سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه:

مشى موسى إلى المناجاة، فبقي أربعين يومًا، لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشرٍ لحقه الجوع في بعض يوم.

وقوله: {نَصَبًا} أي تعبًا، والنصب التعب والمشقة.

وقيل: عنا به هنا الجوع، وفي هذا دليلٌ على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجرٍ ولا سخط.

وفي قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ}".

إذا كان لمجرد الإخبار، فالمريض يجوز أن يخبر عن مرضه، المحتاج يجوز أن يخبر عن حاجته، لكن هو إذا رضي، وسلم، واعتمد على ربه، فهذا أكمل لا شك، لكن مجرد الإخبار لا يقدح.

"وفي قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوبٌ بدل اشتمالٍ من الضمير في قوله: {أَنْسَانِيهُ}، وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان.

وفي مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار، لقول موسى لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فقال: ما كلفت كثيرًا، فاعتذر بذلك القول".

يعني مع أن هذا التكليف خفيف جدًّا، ونسيه، يعني لو كلف بأمور كثيرة، كلف بعشرة أشياء فنسيها، نسي واحدًا منها، وذكر منها تسعًا ما يلام، كذا لو نسي اثنين، لكن ما كلف إلا بأمرٍ واحد وينسى، فلا بد أن يعتذر.

"قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [سورة الكهف:63]، يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجبًا للناس، ويحتمل أن يكون قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْر} تمام الخبر.

ثم استأنف التعجيب، فقال من نفسه: {عَجَبًا} لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوتٌ قد مات فأكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك".

يعني كأنه يرى أن هذا الحوت الذي هو الدلالة والعلامة، هو الزاد أيضًا أُكل نصفه الأيسر، ونصفه الثاني بعد أن أكل منه، ذهب في الماء، اتخذ سبيله في البحر.

"وموضع العجب أن يكون حوتٌ قد مات، فأُكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك، قال أبو شجاعٍ في كتاب الطبري: رأيته ـ أوتيت به ـ فإذا هو شق حوتٍ وعينٌ واحدة، وشقٌ آخر ليس فيه شيء.

قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء، عليه قشرةٌ رقيقة، ليست تحتها شوكة، ويحتمل أن يكون قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ}".

كأنه بقي بعد موسى قرونًا حتى رآه من رآه، ابن عطية يقول: أنا رأيته، قد يوجد في بعض المتاحف أشياء من القدم موجودة، لكن لا شك أن دون إثباتها خرط قتاد، يعني هذه مجرد مزاعم يزعمها أهل المتاحف، المرتزقة حتى زعم بعضهم أنه عنده مصحف النبي -عليه الصلاة والسلام- ويجيئه الزوار، ويأخذ عليهم دراهم، مصحف النبي، هذا المصحف الذي كان يقرأ فيه.

وعندهم طرق التزوير، من أجل الكسب، من السهل أن يجد سيفًا قديمًا أن يكتب عليه ذو الفقار مثلاً، أو يكتب عليه سيف علي، أو يكتب عليه سيف عمر، سهل، لكن إثبات هذه الأمور دونها خرط القتاد، وكثير من هؤلاء وغالبهم في الغالب مرتزقة، ومخرفة، كثيرٌ منهم يثبت هذه بمنامات ورؤى ومكاشفات يدعونها ويزعمونها، ويثبتون في القرن الأول ما يرى في رؤية في القرن العاشر مثلاً.

السيف الذي مكانه فلان الفلاني، الذنبيل الذي في كذا، المنديل الذي في كذا إلى آخره، وكل هذا لا يعول عليه، ولا يثبت به شيء.

"ويحتمل أن يكون  قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} إخبارٌ من الله تعالى، وذلك على وجهين:

- إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبًا، أي تعجب منه.

- وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبًا للناس.

ومن غريب ما روي في البخاري، عن ابن عباس عن قصاص هذه الآية: أن الحوت إنما حيي؛ لأنه مسه ماء عينٍ هناك، تدعى عين الحياة، ما مست قد شيئًا إلا حيي.

وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيى الحوت، فقيل: لما نزل موسى بعدما أجهده السفر على صخرةٍ إلى جنبها ماء الحياة، أصاب الحوت شيءٌ من ذلك الماء، فحيي.

وقال الترمذي في حديثه: قال سفيان: يزعم أناسٌ أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئًا إلا عاش.

قال: وكان الحوت قد أكل منه، فلما قطر عليه الماء عاش، وذكر صاحب كتاب العروس: أن موسى -عليه السلام- توضأ من عين الحياة، فقطرت من لحيته على الحوت قطرةٌ فحيي، والله أعلم".

ويقول في الأول من غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية، أن الحوت، إنما حيي؛ لأنه مسه ماء عينٍ هناك، تدعى عين الحياة، ما مست شيئًا قط إلا حيي.

طالب: ...........

ماذا يقول؟

طالب: .............

نعم؟

طالب: .............

هذا هو الظاهر، وهو ما قاله ابن حجر في الفتح، هذا الذي يظهر.

طالب: .............

هذا الذي يظهر ماء الحياة كان يقصده الناس كلهم بموتاهم ومرضاهم، يقصدونها في حوائجهم، على كل حال فيها ما فيها.

طالب: ما رويت عن البخاري.

لا، هي في البخاري، لكنها مدرجة للخبر، مدرجة.

"قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [سورة الكهف: 64]، أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثم، فرجعا يقصان آثارهما؛ لئلا يخطئا طريقهما، وفي البخاري:

فوجدا خضرًا على طنفسةٍ خضراء على كبد البحر، مسجًا بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: وهل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟"

وبهذا يرد على نوف، الذي يزعم أنه غير موسى بني إسرائيل.

"قال: «جئت لتعلمني مما علمت رشدًا»، الحديث، وقال الثعلبي في كتاب العرائس: إن موسى وفتاه وجدا الخضر".

العرائس المسمى قصص الأنبياء للثعلبي، جله مأخوذٌ متلقى عن بني إسرائيل.

"إن موسى وفتاه وجدا الخضر، وهو نائمٌ على طنفسة خضراء على وجه الماء، وهو متشحٌ بثوبٍ أخضر، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، فقال: وأنى بأرضنا السلام! ثم رفع رأسه واستوى جالسًا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟، قال: الذي أدراك بي، ودلك علي، ثم قال يا موسى: لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك، ثم جلسا يتحدثان، فجاءت خطافةٌ وحملت بمنقارها من الماء، وذكر الحديث على ما يأتي.

قوله تعالى"

حملت بمنقارها من الماء، ثم قال: ما علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله -جل وعلا-  إلا بقدر ما نقص هذا الطائر من الماء.

الله -جل وعلا-  يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [سورة الإسراء:85]، العلماء الذين ملأت علومهم الكتب، وسُطّرت في أخبارهم ومناقبهم المجلد، ووصفوا بأنهم بحورٌ من العلم مع ذلك كلهم والبشر من أولهم إلى آخرهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، بالنسبة لعلم الله -جل وعلا-. من الذي أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟!

قال: الذي أدراك بي، ودلك علي، في آخر السورة يقول: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [سورة الكهف:82]، يستدل بهذا من يقول بنبوته، بنبوة الخضر، والجمهور على أنه رجلٌ صالح، ولي من أولياء الله.

وأما بالنسبة لوجوده وعدمه، وأنه مات أو لم يمت فأكثر أهل العلم على أنه موجود ولم يمت، وأهل التحقيق على أنه مات، والأدلة على ذلك كثيرة، يمكن أن يرد منها شيء في هذا الكتاب.

"قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الكهف:65].

العبد هو الخضر -عليه السلام- في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة، وخالف من لا يُعتد بقوله فقال: ليس صاحب موسى بالخضر، بل هو عالمٌ آخر، وحكى أيضًا هذا القول القشيري.

قال: وقال قومٌ: هو عبدٌ صالح، والصحيح أنه كان الخضر بذلك ورد الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال مجاهد: سمي الخضر؛ لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله.

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز تحته خضراء»، هذا حديثٌ صحيحٌ غريب، والفروة هنا وجه الأرض، قاله الخطابي وغيره.

والخضر نبيٌ عند الجمهور، وقيل: هو عبدٌ صالحٌ غير نبي، والآية تشهد بنبوته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي، وأيضًا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا مَن فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي، وقيل: كان ملكًا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن، والأول الصحيح، والله أعلم".

أما قوله: وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي، فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، النبي -عليه الصلاة والسلام- محمد أشرف الخلق، وأكمل الخلق أخذ حديث الجساسة عن تميم الداري، كما هو معروف في صحيح مسلم، فيجوز أن يأخذ النبي ممن هو دونه، ويكتسب ما أخذه عن غيره الشرعية بإقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-.

"قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [سورة الكهف:65]، الرحمة في هذه الآية النبوة، وقيل: النعمة. {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [سورة الكهف:65]، أي علم الغيب.

قال ابن عطية: كان علم الخضر، علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطى ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى علم الأحكام، والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم".

منهم من يستدل بأن الخضر أفضل من موسى؛ لأنه أعطي علم الباطن، يعني أفعال الخضر في عرف الناس، وفي ظاهر الشرع لا شك أنها لا تجد ما يؤيدها، تجد إنسانًا يقتل إنسانًا، ويخرق سفينة، ويفعل في الظاهر أفعالًا لا مبرر لها.

ولذلك أنكرها موسى -عليه السلام- لكنه باعتبار أنه ما فعل هذا عن أمره، وإنما هو بأمر الله -جل وعلا-،  كما أمر إبراهيم -عليه السلام- أن يذبح ولده، بكره، هذا يختلف عن علم الظاهر الذي يُطالَب به الناس كلهم.

قالوا: إن الخضر عنده علم الباطن، وموسى عنده علم الظاهر، وعلم الباطن أفضل من علم الظاهر، فالخضر أفضل من موسى، لكن ليس بصحيح، فموسى من أولي العزم، فإذا كان الخضر إنما فعل هذه الأفعال بأمر الله -جل وعلا-  فموسى إنما تلقى أيضًا أحكامه وأفعاله وأقواله من عند الله -جل وعلا-، فالكل من عند الله.

لكن في هذه القصة تأديب لموسى -عليه السلام- يكل العلم إلى عالمه إذا كان لا يدري قال: الله أعلم، يرد العلم إلى عالمه.

"قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [سورة الكهف:66].

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ}، هذا سؤال الملاطف والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك، وهذا كما في الحديث، هل تستطيع؟".

يعني من غير إحراج، بعض الناس إذا أراد أن يذهب مع غيره وإن كان بقصد الإفادة منه، يعني يسمع أن الشيخ الفلاني عنده درس في المكان الفلاني، وفي البلد الفلاني، قد يركب من دون إذن باعتبار أن هذا أمرٌ سهل، والمكان جاهز وفارغ، ما فيه أحد، والسيارة فيها محل، لا بد من الاستئذان.

{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} يعني هل الظرف مناسب لأركب معكم وكذا؟ وبدون إحراج والشيخ يجيبه بما، تجدون بعض الطلاب يحرج بعض المشايخ، إذا رأى السيارة فيها محل، فتح الباب وركب، بعض المشايخ عنده مما لا يحتمله بعض الطلاب.

لأن بعض الطلاب ما يدرك حقائق بعض الأمور، فيصف الشيخ بالجفاء، وأنه قال له: لا ما تركب معنا، الظرف غير مناسب، هذه الأمور لا شك أن الأرواح جنود مجندة، يمكن لك مكان معه وتستفيد، ولا تثقلهم بشيء، لكن مع ذلك ما كل إنسان يصلح لمثل هذه الأسفار وسلك الطرق البعيدة، أو ما أشبه ذلك.

فلا بد من الإذن، ولهذا انظر الأدب، {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ}، مع أنه جاء من بعيد، جاء من مسافات بعيدة، تحمل المشقة ليتعلم منه، ومع ذلك قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}.

"وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ؟ وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى:

{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [سورة المائدة: 112]، حسب ما تقدم بيانه في المائدة".

أما عن {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}، لا شك أنه سؤال فيه من سوء الأدب ما فيه، وليس من هذا الأدب الذي يقرن بمثل قول موسى، {هَلْ أَتَّبِعُكَ}، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} يعني احتمال أنه لا يستطيع على حد زعمهم. ليس هذا من هذا.

"الثانية: في هذه الآية دليلٌ على أن المتعلم تبعٌ للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر، ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول.

والفضل لمن فضَّله الله، فالخضر وإن كان وليًّا فموسى أفضل منه؛ لأنه نبيٌ، والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيًّا، فموسى فضله بالرسالة، والله أعلم.

و{رُشْدًا} مفعولٌ بتعلمني.

قال الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [سورة الكهف: 67]، أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأً، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب، وهو معنى قوله:

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [سورة الكهف:68]، والأنبياء لا يُقَرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير".

يعني لا يجوز لهم أن يقروا غيرهم.

"ولا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريًا على عادتك وحكمك، وانتُصِب "خُبرًا" على التمييز المنقول عن الفاعل، وقيل: على المصدر الملاقي في المعنى؛ لأن قوله: لَمْ تُحِطْ معناه لم تخبر.

فكأنه قال: لم تخبره خبرًا، وإليه أشار مجاهد، والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها، وبما يختبر منها.

قوله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [سورة الكهف:69]، أي سأصبر بمشيئة الله، ولا أعصي لك أمرًا، أي قد ألزمت نفسي طاعتك، وقد اختلف في الاستثناء هل هو يشمل قوله: {لا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، أم لا؟

فقيل: يشمله كقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [سورة الأحزاب:35]، وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، فاعترض وسأل.

قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه؛ لأن الصبر أمرٌ مستقبل، ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزومٌ عليه حاصلٌ في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه، ويمكن أن يفرق بينهما، بأن الصبر ليس مكتسبًا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه، فإن ذلك كله مكتسبٌ لنا".

وأيضًا الصبر وإن كان الأصل الغريزي ليس مكتسبًا، لكن التصبر مكتسب، فلو التزم بالصبر، وصبَّر نفسه، أعين على ذلك، ولكن ليقضي الله ما كان مفعولاً، ولو صبر موسى -عليه السلام- لأخرج الله من العلوم التي عند الخضر مما لا يعلمه موسى، ولا غيره، لكن الله -جل وعلا- هو الذي قدَّر هذا.

"فإن ذلك كله مكتسبٌ لنا، والله أعلم،

قوله تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [سورة الكهف:70].

أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديبٌ وإرشادٌ لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، ولكنه أكثر من الاعتراض، فتعيَّن الفراق والإعراض".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

طالب: .........

نعم.

طالب: .........

الجو حار.

طالب: .............