التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحجرات (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: ما رأيكم فيمن يقول: إذا ضاق صدرك فلا تقل يا رب لدي هم كبير، ولكن قل يا هم لدي رب كبير، هل في هذا الكلام محظور؟
الأول يخاطب الرب ويدعوه أن يكشف همه، والثاني يخاطب الهم، والمطلوب في مثل هذه الأحوال أن يدعو ربه أن يكشف ما أهمه وما أغمه.
نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على بينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [سورة الحجرات: 6]
فِيهِ سَبعُ مَسَائِلَ:
الأُولَى: قَولُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } [ سورة الحجرات: 6]، قِيلَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسَبَبُ ذَلِكّ مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} حَتَّى بَلَغَ {جَهَالَةٍ} وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، بَعَثَهُ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَدِّقًا إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَهَابَهُمْ، فِي رِوَايَةٍ لإِحْنَة كَانت بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ".
يعني عداوة بينه وبينهم.
"فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ، وَرَأَى صِحَةَ مَا قَالُوا، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فنزلت هذه الآية فَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ يَقُولُ: «التَأَنِي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان».
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَه إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمُ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَكِبُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ خالفهم".
خافهم.
"خَافَهُمْ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَمَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ قَدِمَ وَفْدُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ حِينَ بَعَثْتَهُ إِلَيْنَا، فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ، وَلِنُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَا قِبَلَنَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَاسْتَمَرَّ رَاجِعًا، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ يَزْعُمُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّا خَرَجْنَا إِلَيْهِ لِنُقَاتِلَهُ، وَاللَّه مَا خَرَجْنَا لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ".
هذا السبب ذكره أكثر المفسرين، وزعموا أن سبب نزول هذه الآية قصة الوليد بن عقبة مع بني المصطلق، ونفاها جمع منهم؛ بناءً على أن الوليد بن عقبة صحابي، ولا يمكن أن يوصف بالفسق وهو صحابي، وممن فندها القاضي أبو بكر بن العربي في العواصم، وقال: إنها لا تثبت.
ما تخريجه؟
طالب: قال: أخرجه الطبري عن قتادة بهذا اللفظ، وهو مرسل، وأسنده أحمد والواحدي والطبراني في الكبير في حديث الحارث بن ضرار وقال في .... رجال ثقات، وقال ابن كثير في تفسيره: قد روي في طرق كثيرة وأحسنها رواية أحمد.
كونه مرويًّا من طرق، وكون المفسرين يتتابعون على ذكره لا ينفي أن يكون فيه شيء من الضعف كما قال بذلك ابن العربي.
"وَسُمِيَ الْوَلِيدِ فَاسِقًا: أَي كَاذِبًا".
لكن لو بنى ذلك على غلبة ظنه، لما وصلهم هذا المصدق جاء بالزكاة، الذي بعثه النبي –عليه الصلاة والسلم- وصل إلى القوم، أو قارب منهم، فخرجوا إليه بخيلهم ورجلهم، فخاف على نفسه، وغلب على ظنه أنهم يريدون به سوءًا، وبناءً على غلبة هذا الظن أخبر النبي –عليه الصلاة والسلام- أو أخبر من أرسله كائنًا من كان بناءً على غلبة ظنه، هل يسوغ له أن يجزم بأنهم خرجوا لهذا الأمر، أو يقول: إن هذا الحاصل وأنا خفت على نفسي؟ يسوغ له أن يجزم بأنهم خرجوا لقتله؟ لا يسوغ له ذلك إلا بيقين، إما أن يقول: إنه خافهم، أو خشي على نفسه منهم، أو أصابه ما أصابهم من رعب لما أقبلوا عليه بخيلهم ورجلهم، له ذلك، له أن يقول ذلك، لكن ليس له أن يجزم حتى يتيقن.
"قَالَ اِبْن زَيْد وَمُقَاتِل وَسَهْل بْن عَبْد اللَّه: الْفَاسِق الْكَذَّاب، وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْوَرَّاق: هُوَ الْمُعْلِن بِالذَّنْبِ، وَقَالَ اِبْن طَاهِر: الَّذِي لَا يَسْتَحِي مِنْ اللَّه".
الفاسق عند عُرف أهل العلم: هو من ارتكب محذورًا أو ترك مأمورًا، خرج عن طاعة الله –جلَّ وعلا-؛ لأن الفسق: هو الخروج، خرج عن طاعة الله –عزَّ ووجلَّ- بترك مأمور أو بفعل محذور.
وهذا الفاسق لا تصح روايته، ولا تُقبل كما هو منطوق الآية، فلا بد من التثبت والتبين، ومفهومها أن الثقة يُقبل خبره مطلقًا.
"وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ "فَتَثَبَّتُوا" مِنْ التَّثَبُّت، والْبَاقُونَ "فَتَبَيَّنُوا" مِنْ التَّبْيِين، { أَنْ تُصِيبُوا } أَيْ لِئَلَّا تُصِيبُوا، فـ " أَنْ " فِي مَحَلّ نَصْب بِإِسْقَاطِ الْخَافِض".
طالب: نتثبت ما ورد عن النبي؟
هي قراءة سبعية، ما فيه إشكال.
"{قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [سورة الحجرات: 6] أَيْ بِخَطَإٍ {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَافَعَلْتُمْ نَادِمِين} [سورة الحجرات: 6] عَلَى الْعَجَلَة وَتَرْك التَّأَنِّي".
العجلة دائمًا أو غالبًا نتيجتها الندامة، بينما التريث والتبين محمود العاقبة، ولذا جاء في الخبر: «وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان»، وجاء أيضًا: «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه»، الرفق واللين والنبي– عليه الصلاة والسلام- وهو يبعث عليًّا إلى خيبر وهو جهاد وقتال، والأصل فيه اغتنام الفرص، النبي –عليه الصلاة والسلام- يقول لعلي: «انفذ على رسلك»، فالعجلة لا تأتي بخير، ورب عجلة تهب ريثًا، كما في المثل، وغالبًا أن المستعجل يصاحبه الزَّلل في القول والفعل، بخلاف التأني والتريث والتثبت.
"الثَانِية: فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى قَبُول خَبَر الْوَاحِد إِذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ عِنْد نَقْل خَبَر الْفَاسِق. وَمَنْ ثَبَتَ فِسْقه بَطَلَ قَوْله فِي الْأَخْبَار إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَر أَمَانَة وَالْفِسْق قَرِينَة يُبْطِلهَا".
الفسق لا يخلو إما أن يكون بفعل عملي بترك مأمور أو فعل محذور، أو يكون بسبب خلل في الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد منه ما هو مفسق، ومنها ما هو مخرج من الملة، لكن إذا كان الخبر لا يخرج من الملة يفسق الاعتقاد فكتب السنة طافحة بالرواية عن المبتدعة ما لم يكونوا دعاة إلى بدعهم أن يرووا ما يؤيد بدعهم، فمثل هؤلاء لا تُقبل روايتهم، ومن عاداهم تقبل روايتهم
"وَقَدْ اِسْتَثْنَى الْإِجْمَاع مِنْ جُمْلَة ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّق بِالدَّعْوَى وَالْجُحُود، وَإِثْبَات حَقّ مَقْصُود عَلَى الْغَيْر، مِثْل أَنْ يَقُول: هَذَا عَبْدِي، فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْله. وَإِذَا قَالَ: قَدْ أَنْفَذَ فُلَان هَذَا لَك هَدِيَّة".
يقول: هذا عبدي ما لم يكن ثم معارض، أما إذا وجد معارض فلا بد من البينة
"وَإِذَا قَالَ: قَدْ أَنْفَذَ فُلَان هَذَا لَك هَدِيَّة، فَإِنَّهُ يُقْبَل ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يُقْبَل فِي مِثْله خَبَر الْكَافِر. وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ عَلَى نَفْسه فَلَا يَبْطُل إِجْمَاعًا".
لأنه يُقبل قوله على نفسه، لكن لا يُقبل قوله لنفسه.
"وَأَمَّا فِي الْإِنْشَاء عَلَى غَيْره".
أي: في العقود.
"فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره: لَا يَكُون وَلِيًّا فِي النِّكَاح. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك: يَكُون وَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالهَا، فَيَلِي بُضْعهَا. كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينه إِلَّا أَنَّ غَيْرَته مُوَفَّرَة وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيم، وَقَدْ يَبْذُل الْمَال، وَيَصُون الْحُرْمَة، وَإِذَا وَلِيَ الْمَال فَالنِّكَاح أَولى".
كثير من الفساق مع ما يرتكبونه من معاصٍ ومنكرات، وقد يكون بعضها متعلقًا بالأعراض إلا أنه يغار على عرضه، كثير منهم يغار على عرضه، ولو لم يكن ذلك ديانة، وإنما هو من باب الحمية على عرضه الذي يُخدش به، فلا مانع من أن يكون وليًّا في النكاح، ما لم يؤثر فسقه في خصائص الولاية، إذا أثَّر فسقه في خصائص الولاية؛ كالعضل مثلاً أو تزويج الكفء من غير الكفء، أو تزويج الصيِّنة الديِّنة من فاسق، فإنه حينئذٍ لا يمكن من ذلك.
"الثالثة: قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: وَمِنْ الْعَجَب أَنْ يُجَوِّز الشَّافِعِيّ وَنُظَرَاؤُهُ إِمَامَة الْفَاسِق. وَمَنْ لَا يُؤْتَمَن عَلَى حَبَّة مَال كَيْف يَصِحّ أَنْ يُؤْتَمَن عَلَى قِنْطَار دِين".
المراد قنطار دين، قنطار دين، معروفة الخلاف في إمامة الفاسق، معروف عند الحنابلة وجمع من العلماء أن الصلاة لا تصح خلف الفاسق، والشافعية يصحِّحونها، ويرجح كثير من المحققين قالوا: من صحَّت صلاته صحَّت إمامته، إن أحسن فله ولكم، وإن أساء فعليه، وليس عليكم من إساءته شيء، والشافعي يصحِّح إمامة الفاسق، ومعه جمع من أهل العلم، والحنابلة لا يصححونها، فلا يؤتمن على حبة مال، كما يفرط، يسرق، أو يتصرف في هذا المال الذي أؤتمن عليه في غير وجه تصرف صحيح، فكيف يؤتمن على الصلاة التي هي أعظم الدين، والله المستعان؟
"وَمَن لَا يُؤْتَمَن عَلَى حَبَّة مَال كَيْف يَصِحّ أَنْ يُؤْتَمَن عَلَى قِنْطَار دِين، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ أَصْله أَنَّ الْوُلَاة الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ".
يعني استدلال الشافعية وغيرهم في صحة إمامة الفاسق، مما جاء من النصوص، وما حصل من الصحابة - رضوان الله عليهم – من الصلاة خلف الولاة الفساق الظلمة، قالوا: يصح خلف هذا، ويصح خلف غيرهم؛ لأن الإمامة ليست بوصف مؤثر في الصلاة، نعم الإمامة فيها الولاية يجب الاجتماع والالتفاف حولها، ولا يؤثر فيها مثل هذا، على خلاف بين أهل العلم، هل تعاد الصلاة أو لا تعاد؟ كلٌّ على مذهبه.
لكن هل المراد بذلك الفاسق من الولاة الذي يجب الانضمام حوله، والالتفاف حوله، ما لم يدعُ إلي منكر، فإذا دعا إلى منكر فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن هو فاسق في نفسه وظالم في نفسه، دعا الناس إلى الحج، دعا الناس إلى الجهاد، صلى بالناس، صلى بيوم الجمعة والأعياد يجب؛ لأنه يدعو إلى خير في مثل هذا، ومنهم من يقول: يصلى معهم، ثم يعيد الصلاة، أو يصلى إذا كان يؤخر الصلوات عن وقتها كما في الحديث الصحيح: يصلي لنفسه كما كان أنس وغيره يفعلون، ثم يأتون ليصلوا مع هؤلاء الولاة.
وقد يقول قائل: إن الصلاة من أنفسهم في بيوتهم وهي الفريضة التي يسقط بها الطلب، ثم يأتون يصلون وراء هؤلاء؟
قد يقول قائل: إنهم بهذا العمل يغررون بالعامة، العامة ماذا يدريهم أنه صلى هذا في بيته ثم جاء ليصلي مع هذا الإمام الفاسق الذي يؤخِّر الصلاة عن وقتها، نقول في مثل هذه الصور: لا بد من البيان.
"إِنَّمَا كَانَ أَصْله أَنَّ الْوُلَاة الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ لمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانهمْ وَلَمْ يُمْكِن تَرْك الصَّلَاة وَرَاءَهُمْ، وَلَا اُسْتُطِيعَتْ إِزَالَتهمْ صُلِّيَ مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَان: الصَّلَاة أَحْسَن مَا يَفْعَل النَّاس، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتهمْ. ثُمَّ كَانَ مِنْ النَّاس مَنْ إِذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّة أَعَادُوا الصَّلَاة لِلَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلهَا صَلَاته. وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَة أَقُول".
وهذا مقتضى قول الحنابلة الذين لا يصحِّحون الصلاة، وإن كان عندهم تفريق بين أن يكون هذا الفاسق الذي يصلي بالناس إمامًا عاديًّا لا مزية له، ولا وصف له زائد، وبين أن يكون إمامًا سلطان ذا قهر وذا بأس، فيختلفون في هذا.
"فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُك الصَّلَاة مَعَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنْ الْأَئِمَّة، وَلَكِنْ يُعِيد سِرًّا فِي نَفْسه، وَلَا يُؤْثِر ذَلِكَ عِنْد غَيْره.
الرابعة: وَأَمَّا أَحْكَامه إِنْ كَانَ وَالِيًا فَيُنَفَّذ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقّ، وَيُرَدّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا يُنْقَض حُكْمه الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْر هَذَا الْقَوْل مِنْ رِوَايَة تُؤْثَر أَوْ قَوْل يُحْكَى، فَإِنَّ الْكَلَام كَثِير، وَالْحَقّ ظَاهِر".
الأصل أن الوالي والسلطان هو الحاكم، هو الذي يقضى بين الناس، فإذا حكم وهو ظالم جائر فاسق، والأصل في الوالي أن يكون عدلًا عادلًا مقصطًا، هذا الأصل فيه. لكن إذا كان وصفه خلاف ذلك ثم حكم إن حكم بما يوافق الحق ينفذ، وإن حكم بما يخالفه فإنه يرد.
طالب: كيف يعيد بنفسه؟ يعنى إذا صلي أعاد بنفسه؟
إن صلى معهم في المسجد ذهب إلى بيته وأعاد الصلاة.
طالب: هل يجوز في هذه الحالة أن يصلي معهم، يعني أن يوافقهم في الحركات وهو يصلي بنفسه؟
نعم هل يجوز أن يوافقهم في الظاهر بأنه مؤتم بهذا الإمام الفاسق وهو في الباطن يصلي بنية الانفراد؟
حتى ما يعيد، ما له داعٍ أن يعيد
طالب:......أنه يصلي السنة ثم أعاد الصلاة؟
لا، هو في الحديث الصحيح أنكم تصلون الصلاة في وقتها، ثم تأتون تصلون معه، يعنى هل للمصلي وراء هؤلاء الفساق الذين يخشى سطوتهم أن ينوي الانفراد ويصلي بمفرده ويتابعهم في الظاهر؛ من أجل أن لا يعيد؟ هو غاية ما في الأمر أنه صلاة فذ.
طالب:..........
لا ينقص الصورة، الصورة ما تؤثر مع النية، ما لها أثر، لكنه إذا صلى معهم وحصل له أجر الجماعة هذا ما يستطيع، هذا وسعه، حصل له أجر الجماعة السبعة والعشرين، ثم أعاد بناءً على أن هذه الصلاة لا تصح، أو نقول: إن الصلاة غير الصحيحة لا تحصل أجر الجماعة.
طالب: أدرك السبع والعشرين......؟
لا، هو مأمور بالصلاة وراءه، ولو لم يؤمر خشي على نفسه منهم، فلان ما يصلي وراءك، هذا ليس بالأمر السهل على هذا الظالم.
طالب: ما يقطع الصلاة..... ؟
يواصل الصلاة ما فيها شيء
طالب: الأصل لماذا أعاد الصلاة؟
أعاد الصلاة؛ لأنه يرى أن الصلاة خلف هذا الفاسق باطلة.
طالب: باطلة؟ كيف يدرك السبع والعشرين...؟
هذا الكلام انتهينا منه، قلت لك: إن الصلاة الباطلة لا تحصل أجر الجماعة، هذا انتهينا منه؛ فسبب الإعادة وبوجوب الإعادة أقول: سببها أنه فاسق، ولا تصح الصلاة خلفه، وهذا مقتضى قول الحنابلة، لكن الحنابلة وجمعًا من العلم يفرِّقون بين ما إذا كان الإمام ليس له وصف زائد، فاسق من عامة الناس، أو فاسق سلطان، السلطان له أحكام تختلف عن آحاد الناس.
طالب: نقول بأن هذا يفتح بابًا لأهل البدع أنهم يصلون خلف الأئمة يقولون: ننوي الانفراد الرافضة والإسماعيلية وغيرهم.
هذا يفعلونه، هم يصلون بنية الانفراد، أو يصلون بغير طهارة، تقية.
طالب: لو قيل: إنهم يحتجون بهذا القول، ثم الرافضة يحتجون ما دامكم تقولون بالتقية في هذا الأمر، فلماذا لا توافقون؟
هذا ما عندنا إشكال إذا كانت التقية تصحح العمل، ولا يترتب عليها محظور، ولكن تقيتهم من أجل التنصّل من العمل الصحيح. فرق بين من يتقي ليتنصل من عمل باطل، ومن يتقي ليتنصل من عمل صحيح، لكن قوله هنا: (ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكي فإن الكلام كثير والحق ظاهر)، لا تلتفتوا، يعنى فيه أقوال لأهل العلم كونه يأطر الناس على رأيه ويأمرهم بالانصراف عن قول غيره فهذا غير مناسب، لكن قوله صحيح بلا شك.
طالب:........
أو صليت في مسجد فيه قبر وأنت لا تدري نفس الشيء، كُلٌّ على مذهبه؛ الذي يبطل الصلاة خلف فاسق يقول: تعيد، والذي يبطل الصلاة في المسجد الذي فيه قبر يقول: تعيد، سواء علمت أو جهلت؛ لأن العبرة بما طابق الواقع، إذا علمت في الوقت فلا شك، وإذا علمت فيما بعد مدة متطاولة أو ما علمت من الأصل فما عليك منهم، إن شاء الله.
"الخامسة: لَا خِلَاف فِي أَنَّهُ يَصِحّ أَنْ يَكُون رَسُولًا عَنْ غَيْره فِي قَوْل يُبَلِّغهُ أَوْ شَيْء يُوَصِّلهُ، أَوْ إِذْن يُعْلِمهُ، إِذَا لَمْ يَخْرُج عَنْ حَقّ الْمُرْسِل، وَالْمُبَلَّغ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَل قَوْله. وَهَذَا جَائِز لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَة إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّف بَيْن الْخَلْق فِيهَذِهِ الْمَعَانِي إِلَّا الْعُدُول لَمْ يَحْصُل مِنْهَا شَيْء لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم".
لاسيما إذا كثر الفُسّاق في زمان أو في مكان، وتعذر أن يقوم بهذه الأعمال العدول الأخيار، فإن الحاجة تكون داعية إلى ذلك، والحاجات تُقدر بقدرها كما هو حاصل في وقتنا هذا، كثير من الولايات وكثير من الأعمال والوظائف يشغلها أناس عندهم شيء من التفريط، ولو اشترطنا العدالة في كل شيء ممكن ما نحصل من يسد حاجات المسلمين.
"السادسة: وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى فَسَاد مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلّهمْ عُدُول حَتَّى تَثْبُت الْجُرْحَة؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ قَبْل الْقَبُول، وَلَا مَعْنَى لِلتَّثَبُّتِ بَعْد إِنْفَاذ الْحُكْم، فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِم قَبْل التَّثَبُّت فَقَدْ أَصَابَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِجَهَالَةٍ".
أما بالنسبة لمن ظهر فسقه وبان فهذا لا إشكال ولا خلاف في أنه لا يُقبل خبره، الإشكال في المجهول الذي لا يُعرف أعدل هو أم فاسق؟ هذا الذي يختلفون فيه، والجهالة متفاوتة، منهم من هو مجهول الذات يعني أنه لا يعرف اسمه، ومنهم من هو مجهول العين الذي يعرف اسمه، ولكنه غير مشتهر بين أهل العلم، فلم يروِ عنه إلا شخص واحد، ومنهم من هو مجهول الحال، روى عنه جمع، ولكنه لم يثبت فيه جرح ولا تعديل، هو مستور عند أهل العلم أو بعض أهل العلم، هذا الذي يختلفون فيه، يعني ظاهره الاستقامة، وهو معروف بين الرواة، روى عنه أكثر من واحد، لكنه ما نُص على عدالته التي هي التزكية المطلوبة، هذا الذي يرد فيه هذا القول، وأنه يُقبل قوله ما لم يحصل منه خلاف ذلك عند جمع من أهل العلم، وأن الأصل السلامة من القوادح، ومنهم من يقول: الأصل التثبت، فلا يُقبل إلا من عُرِفت عدالته.
طالب:..........
حتى تثبت عدالته.
طالب:......
في الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول، منهم من ينحو إلي هذا، والأصل في المسلم العدالة؛ لأنه مسلم، ينطق بالشهادتين، ويصوم ويصلي مع الناس، والأصل فيه العدالة حتى يثبت خلاف ذلك، ومنهم من يقول: إن الأصل في الإنسان بما فيه المسلم أنه ظلوم جهول
طالب:.......... هذا يقال في حق الفاسق؟
التثبت في حق الفاسق أو المجهول الذي لا يعرف حاله؛ لأن الجهالة عند أهل العلم هل هي جرح يُرد به مباشرة، أو هي عدم علم بحال الراوي؟ فرق بين الأمرين، هل الجهالة جرح؟ بمعنى أنه بمجرد ما يقال: فلان مجهول فمعناه مردود الرواية، أو هي عدم علم بحاله، فيكون أمره على التثبت بحيث لا يرد ولا يقبل حتى تثبت عدالته، إذا قلنا: إن الجهالة جرح مجرد ما يقال: إن فلانًا مذكور فحديثه مردود؛ لأنه فيه فلان وهو مجهول، يعنى ضعيف، وإذا قلنا: عدم علم بحاله ننتظر حتى نجد من وثقّه، يعنى ما نردّه مباشرة، ولكل من الاحتمالين ما يؤيِّده.
العلماء في مراتب الجرح والتعديل جعلوا المجهول في مراتب الجرح، ومن ذلك ابن حجر في التقريب وغيره جعلوه في مراتب الجرح، فالمجهول ضعيف مردود الرواية، ومنهم من يقول: إن الجهالة عدم علم بحال الراوي؛ فلا تقتضي الرد مباشرة، وهذه طريقة أبي حاتم، كذلك ما يكون مجهولًا أي لا أعرفه، ويؤيده قول ابن حجر في النخبة، ومن المهم معرفة أحوال الرواة تعديلًا أو تجريحًا أو جهالة، فجعل الجهالة قسيمًا للتجريح، وليست قسمًا منها.
طالب:.........
لا يروي إلا عن ثقة، إن كان الراوي عنه من أصحاب المذاهب المتبوعين كمالك مثلًا، فيلزم أتباعه أتباع مالك قبول رواية هذا الراوي، ولا يلزم غيره؛ لأنه ثقة عنده، قد يكن ثقة عند غيره هذا تقديري، حتى لو نص قال: حدثني الثقة ما يكفي، حتى يسمي إلا عند من يقلده، فلا بد أن يسمي وينص عليه أنه ثقة.
"السابعة: فَإِنْ قَضَى بِمَا يَغْلِب عَلَى الظَّنّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا بِجَهَالَةٍ، كَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْعَدْلِيَّيْنِ، وَقَبُول قَوْل الْعَالِم الْمُجْتَهِد. وَإِنَّمَا الْعَمَل بِالْجَهَالَةِ قَبُول قَوْل مَنْ لَا يَحْصُل غَلَبَة الظَّنّ بِقَبُولِهِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَة الْقُشَيْرِيّ، وَاَلَّتي قَبْلهَا الْمَهْدَوِيّ".
كل الأحكام مبنية على غلبة الظن، ولو طُلب القطع على كل مسألة؛ لتعطّلت الشريعة، لو طلب القطع في كل مسألة، الأدلة القطعية الملزمة التي لا يجوز خلافها، ومن خالفها يُخشى عليه أن يكون مكذبًا للشريعة، لا شك أنه فيه مسائل معروفة، لكن يبقى أن جُل المسائل الفرعية التي وقع فيها خلاف بين أهل العلم كلها ظنية، ولو كانت قطعية ما حصل الخلاف.
"{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ }، فَلَا تكَذِّبُوا؛ فَإِنَّ اللَّه يُعْلِمهُ أَنْبَاءَكُمْ فَتَفْتَضِحُونَ.
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ }، أَيْ لَوْ تَسَارَعَ إِلَى مَا أَرَدْتُمْ قَبْل وُضُوح الْأَمْر لَنَالَكُمْ مَشَقَّة وَإِثْم، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْقَوْم الَّذِينَ سَعَى بِهِمْ الْوَلِيد بْن عُقْبَة إِلَيْهِ لَكَانَ خَطَأً".
نعم، هذه مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة عملية نحتاج إليها في كل عصر وفي كل مصر، يأتي من يحمل الأخبار وهو ثقة، ويأتي من يحمل الأخبار وهو دونه في الثقة، ويأتي من يحمل الأخبار وهو فاسق، هذا الفاسق أمره معروف، لا بد من التثبت، لكن أحيانًا يأتي من يحمل الخبر وهو ثقة، لكنه لا يتثبت؛ فيكثر الخطأ في خبره، فيكون حينئذ غير ثقة؛ لكثرة الخلل في أخباره، يبني على إشاعات، ثم يأتي لينكر أو ليبلغ من ينكر، ثم في النهاية يكون الخبر غير صحيح، هذا يوقع في عنت وحرج شديد، وكم عانى أهل العلم من مثل هذا.
يأتي مجموعة من الشباب والدافع والحامل لهم الغيرة على دين الله، ولا شك في هذا، ثم يأتون يقولون: وقد حصل كذا وكذا بناءً على إشاعة أو إثارة؛ لأن بعض الأساليب الاستفزازية تحمل الغيورين على أن يصنعوا مثل هذا، وهي مجرد خبر أشيع لجس النبض، فلنكن على حرص واهتمام وتثبُّت وتبيُّن من هذه الأمور؛ لأن المسائل دخلها الكيد من بعض النواحي. تجد بعض الفسَّاق يشيع شائعة؛ من أجل أن يهرع طلاب العلم إلي علمائهم، ثم إن استجاب علماؤهم بسرعة واتصل بالمسؤولين قال المسئولون: لا شيء ولا حاجة، أنتم فقط تتعجلون. وكم وقع لأهل العلم من الحرج والعنت في هذه المسائل، فعلينا جميعنا أن نتثبت.
فهناك أيضًا أمور قد تكون إشاعات أشيعت، وبعضها أشيع من جهة مسؤولة؛ لجس النبض في ردة الفعل هل هي قوية أو ضعيفة؟ ثم يسارع أهل الغيرة ليبلغوا، ثم بعد ذلك، أنا أقول: في مثل هذه الحالة علينا أن نسارع ونبلغ، لكن لا على سبيل الجزم، وإنما على سبيل الاستفهام؟ إذا ذهب طلاب العلم أهل الغيرة وأهل الحسبة إلي العلماء، وناقشوهم في مثل هذه المسائل، العالم لا يضيره أن يرفع السماعة على ولي الأمر، وأن يقول: هل صحيح حصل هذا أو ما حصل؟ ولا يكون من التسرع أو من التعجل؛ من أجل أن يقطع الخط على مثل هؤلاء الذين يكيدون للدين وأهله؛ لأن بعض الناس يشيع إشاعة؛ من أجل أن يوقع الأخيار كما هو حاصل لكثير من الفساق بالنسبة لرجال الحسبة.
تجد هذا الفاسق يخرج بزوجته، ويتحرش بها، ويفعل أعمالًا لا تليق في الظاهر، وإنما هي زوجته، ثم يتحرك حركات ويهرب؛ ليتبعه رجل الحسبة، ثم يوقعه إذا بانت أنها زوجته، فلا بد من الانتباه لهذه التصرفات.
أساليب الشيطان ومكر الشيطان من القديم هناك، هناك مسائل ذكرها من حيل الشيطان ومن حيل أتباع الشيطان؛ شياطين الأنس والجن، ذكرها ابن القيم في إغاثة اللهفان، وذكر لها صورًا منها ما يندرج فيما نقوله، كثير منها، وبعض الحيل ذكرها ابن القيم وأقسم أن الشيطان لا يعرف مثل هذه الحيلة، حتى جاء أمثال هؤلاء وعلموه إياها؛ لأن بعض شياطين الإنس -نسأل الله العافية- عندهم من الخبرة ومعرفة هذه الأساليب أكثر من شياطين الجن – نسأل الله العافية-.
"فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْقَوْم الَّذِينَ سَعَى بِهِمْ الْوَلِيد بْن عُقْبَة إِلَيْهِ لَكَانَ خَطَأ، وَلَعَنِتَ مَنْ أَرَادَ إِيقَاع الْهَلَاك بِأُولَئِكَ الْقَوْم لِعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنه وَبَيْنهمْ".
الآن، قد يوجد ردة فعل من بعض العلماء؛ بسبب كثرة الأخبار وكثرة المطالبة من الشباب في أمور مبنية على إشاعات، ومثل هذا لا يجوز أن يحصل، فالله –جل وعلا- أوقعك هذا الموقع لتكون واسطة بين هؤلاء الشباب وهؤلاء الغيورين الذين لا يصلون إلى ولاة الأمر، وأنت تصل، فعليك أن تسمع وتسدد، وقد يكون الخبر من أصله أن تعرف أنه ليس بصحيح، فلا يجوز أن تردهم ردًّا خشنًا، ولا تقول لهم: أنتم تتسرعون، يا أخي عليك أن تحتويهم، وتدعو لهم، وتقول لهم: أن ما جاء بك إلا الغيرة على دين الله، وتشكرهم على ذلك، ثم بعد ذلك أملِ عليهم ما شئت، أما أن يردوا من البداية كما يفعل بعض الناس فهذا ليس بعلاج، هذا يزيد الطين بلة، ويجعل هؤلاء الشباب يتصرفون تصرفات غير مدروسة، فنقع في العنت والحرج من جهة أخرى، فلا هذا ولا هذا.
"وَمَعْنَى طَاعَة الرَّسُول لَهُمْ: الِائْتِمَار بِمَا يَأْمُر بِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ النَّاس وَالسَّمَاع مِنْهُمْ. وَالْعَنَت الْإِثْم، يُقَال: عَنِتَ الرَّجُل. وَالْعَنَت أَيْضًا الْفُجُور وَالزِّنَى، كَمَا فِي سُورَة " النِّسَاء ". وَالْعَنَت أَيْضًا الْوُقُوع فِي أَمْر شَاقّ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِر " براءة " الْقَوْل فِي " عَنِتُّمْ " [سورة التَّوْبَة: 128 ] بِأَكْثَر مِنْ هَذَا.
{ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ } هَذَا خِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا يُخْبِرُونَ بِالْبَاطِلِ، أَيْ جَعَلَ الْإِيمَان أَحَبّ الْأَدْيَان إِلَيْكُمْ.
{ وَزَيَّنَهُ } بِتَوْفِيقِهِ. { فِي قُلُوبكُمْ } أَيْ حَسَّنَهُ إِلَيْكُمْ حَتَّى اِخْتَرْتُمُوهُ".
زيَّنه قبل الدخول فيه وزيَّنه بعد الدخول فيه والاستمرار فيه.
"وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَالْإِمَامِيَّة وَغَيْرهمْ، حَسَب مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع".
الذين يقولون بأن المخلوق له حرية الاختيار، حرية مستقلة، وهنا حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، لو لم يحببه فهل يختار الإنسان الإيمان؟ ولو لم يزينه في قلوبكم هل يختاره؟ لم يختره، ولو لم يكرِّه الكفر والفسوق والعصيان للمؤمنين فما الذي يمنعهم من ارتكابها إلا أن الله حبَّب إليهم الإيمان، وكرَّه إليهم الكفر؟
وهؤلاء القدرية النفاة من المعتزلة والإمامية مذهبهم مذهب المعتزلة، الإمامية الرافضة مذهبهم مذهب الاعتزال في هذا الباب يقولون: أبدًا له حرية الاختيار، ولا أحد يجبره على شيء، فالمؤمن اختار الإيمان من غير تقدير من الله –جلَّ وعلا-، حريته ومشيئته مستقلة، يقابلهم الجبرية، وقد يقال لهم: القدرية؛ لأنهم يبالغون في الإثبات، الجبرية هؤلاء يقولون: العبد مجبور، ولا تصرف له ولا حرية ولا اختيار، وحركته كحركة الورق في الشجر في مهب الريح، وأهل السنة: وسط بين الفريقين يقولون: له حرية ومشيئة واختيار، لكنها مربوطة بإرادة الله -جلَّ وعلا- ومشيئته واختياره.
القدرية والإمامية الذين قالا: إن الإنسان حر يختار، وليست حريته ومشيئته خاضعة لإرادة الله ومشيئته قالوا: إنه يخلق فعله، فأثبتوا مع الله خالقًا؛ لذا قيل لهم: مجوس هذه الأمة، أولئك قالوا: إن العبد مجبور، فأثبتوا الظلم لله – جلَّ وعلا -، يجبره على الكفر، ثم يعذبه عليه، والله المستعان
"فَهُوَ سُبْحَانه الْمُنْفَرِد بِخَلْقِ ذَوَات الْخَلْق وَخَلْق أَفْعَالهمْ وَصِفَاتهمْ وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتهمْ وَأَلْوَانهمْ، لَا شَرِيك لَهُ.
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } قَالَ اِبْن عَبَّاس: يُرِيد بِهِ الْكَذِب خَاصَّة. وَقَالَهُ اِبْن زَيْد. وَقِيلَ: كُلّ مَا خَرَّجَ عَنْ الطَّاعَة، مُشْتَقّ مِنْ فَسَقَتْ الرُّطَبَة خَرَجَتْ مِنْ قِشْرهَا. وَالْفَأْرَة مِنْ جُحْرهَا. وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْفًى.
وَالْعِصْيَان جَمْع الْمَعَاصِي".
هو جمع معاصٍ أو مصدر؟ مصدر عصى يعصي عصيانا، مثل: الكفر والفسوق، كفر يكفر كفرًا، فسق يفسق فسوقًا، عصى يعصي عصيانًا.
طالب: ...........
مصدر.
طالب:...................
ماذا؟
طالب: ...........
المعصية جمعها معاصٍ، لكن العصيان مصدر عصى، مثل الكفر مصدر كفر.
طالب: يا شيخ الجبرية والقدرية أيهما أشر؟
كيف؟
كلهما شر، هؤلاء يثبتون مع الله خالقًا، وأولئك يثبتون الظلم لله – جلَّ وعلا-، نسأل الله العافية، ألقاه في اليم مكتوفًا ثم قال له إياك إياك أن تبتل بالماء.
"ثُمَّ اِنْتَقَلَ مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْخَبَر فَقَالَ: " أُولَئِكَ " يَعْنِي هُمْ الَّذِينَ وَفَّقَهُمْ اللَّه فَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ الْإِيمَان وَكَرَّهَ إِلَيْهِمْ الْكُفْر أَيْ قَبَّحَهُ عِنْدهمْ، { أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة تُرِيدُونَ وَجْه اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } [سورة الرُّوم: 39 ]. قَال َالنَّابِغَة:
يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَد |
|
أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِف الْأَمَد |
وَالرُّشْد الِاسْتِقَامَة عَلَى طَرِيق الْحَقّ مَعَ تَصَلُّب فِيهِ، مِنْ الرَّشَاد، وَهِيَ الصَّخْرَة".
نعم، مع تصلب فيه، يعني مع قوة وشدة في الأخذ به { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } [سورة البقرة:63].
ما يظن أنه مثل ما يشاع، الآن الناس يتشددون ويتصلبون هذا التعصب، والله المستعان، هل التعصب للدين مذموم أو ممدوح؟
طالب: ممدوح.
للدين لا للرأي ولا للهوى، هذا الأصل، الأصل أن نتعصّب لدين الإسلام، أن نستمسك به ولا نساوم عليه، مهما بلغ المقابل، فلان متعصّب متشدّد ومتطرف، والله المستعان.
طالب:...............
أي؟
طالب: ...........
يعنى ما فيه الرشد؟ هم الراشدون يعني كقوله: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة تُرِيدُونَ وَجْهاللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } [ الرُّوم: 39 ]
طالب: انتقال من الخطاب إلى الخبر.
إليكم، أولئك هم، التفات نعم.
"قَالَ أَبُو الْوَازِع: كُلّ صَخْرَة رَشَادَة. وَأَنْشَدَ:
الضَّوْء مِنْ صُمّ الرَّشَاد |
|
وَغَيْر مُقَلَّد وَمُوَشَّمَات صَلِينَ |
أَيْ فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ بِكُمْ فَضْلًا، أَيْ الْفَضْل وَالنِّعْمَة، فَهُوَ مَفْعُول لَهُ.
{فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [سورة البقرة:63]
" عَلِيم " بِمَا يُصْلِحكُمْ " حَكِيم " فِي تَدْبِيركُم".
طالب: في أول مقطع قال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أَيْ لَوْ تَسَارَعَ إِلَى مَا أَرَدْتُمْ قَبْل وُضُوح الْأَمْر لَنَالَكُمْ مَشَقَّة وَإِثْم".
قبل وضوح الأمر؟
طالب: نعم، لنا لكم.
لنالكم، نعم.
التصحيف في هذا يحيل المعنى إحالة كبيرة، في مناقشة رسالة المناقش يقرأ البيت، يقرأ اللفظة على أنها ناقة، قال: ما المعنى؟ قال: ما لها معنى، البيت كله ما له معنى. البيت تافه، والكلمة تافهة، فرق كبير بين اللفظتين، والتصحيف شأنه خطير.
طالب:...................................
قبل وبعد.
طالب: الدعاء اللهم حبِّب إلينا الإيمان....؟
نعم على المسلم أن يلهج به دائمًا ليزداد تمسُّكه به.
"{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الحجرات:9]".
طائفتان اقتتلوا، التثنية فيها باعتبار الفريقين والطائفتين، واقتتلوا باعتبار أفراد الطائفتان الطائفة جماعة والأخرى جماعة، فمجموع الجماعتين يرجع إليهم الضمير بالجمع.
"رَوَى الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قُلْت: يَا نَبِيّ اللَّه، لَوْ أَتَيْت عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ؟ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْض سَبِخَة، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِلَيْك عَنِّي! فوالله لَقَدْ آذَانِي نَتْن حِمَارك. فَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار: وَاَللَّه لَحِمَار رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَطْيَب رِيحًا مِنْك. فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّه رَجُل مِنْ قَوْمه، وَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَصْحَابه، فَكَانَ بَيْنهمْ حَرْب بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَال، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ مُجَاهِد: نَزَلَتْ فِي الْأَوْس وَالْخَزْرَج. قَالَ مُجَاهِد: تَقَاتَلَ حَيَّان مِنْ الْأَنْصَار بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَال فَنَزَلَتْ الْآيَة. وَمِثْله عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: أَنَّ الْأَوْس وَالْخَزْرَج كَانَ بَيْنهمْ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِتَال بِالسَّعَفِ وَالنِّعَال وَنَحْوه، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة فِيهِمْ. وَقَالَ قَتَادَة: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَار، كَانَتْ بيْنهمَا مُدَارَأَة فِي حَقّ بَيْنهمَا! فَقَالَ أَحَدهمَا: لَآخُذَنَّ حَقِّي عَنْوَة".
المدارأة: هي المدافعة والخصومة.
"لِكَثْرَةِ عَشِيرَته. وَدَعَاهُ الْآخَر إِلَى أَنْ يُحَاكِمهُ إِلَى رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَبَى أَنْ يَتْبَعهُ، فَلَمْ يَزَلْ الْأَمْر بَيْنهمَا حَتَّى تَوَاقَعَا وَتَنَاوَلَ بَعْضهم بَعْضًا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَال وَالسُّيُوف، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: نَزَلَتْ فِي حَرْب سُمَيْر وَحَاطِب، وَكَانَ سُمَيْر قَتَلَ حَاطِبًا، فَاقْتَتَلَ الْأَوْس وَالْخَزْرَج حَتَّى أَتَاهُمْ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَزَلَتْ. وَأَمَرَ اللَّه نَبِيّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنهمَا. وَقَالَ السُّدِّيّ: كَانَتْ اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهَا: أُمّ زَيْد تَحْت رَجُل مِنْ غَيْر الْأَنْصَار، فَتَخَاصَمَتْ مَعَ زَوْجهَا، أَرَادَتْ أَن ْتَزُور قَوْمهَا فَحَبَسَهَا زَوْجهَا وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّة لَا يَدْخُل عَلَيْهَا أَحَد مِنْ أَهْلهَا".
علية يعني مكان مرتفع لا يوصل إليه إلا عن طريقه.
" وَأَنَّ الْمَرْأَة بَعَثَتْ إِلَى قَوْمهَا، فَجَاءَ قَوْمهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، فَخَرَجَ الرَّجُل فَاسْتَغَاثَ أَهْله فَخَرَجَ بَنُو عَمّه؛ لِيَحُولُوا بَيْن الْمَرْأَة وَأَهْلهَا، فَتَدَافَعُوا وَتَجَالَدُوا بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ الْآيَة.
وَالطَّائِفَة تَتَنَاوَل الرَّجُل الْوَاحِد وَالْجَمْع وَالِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى دُون اللَّفْظ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْقَوْم وَالنَّاس. وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْر اللَّه فَإِن ْفَاءُوا فَخُذُوا بَيْنهمْ بِالْقِسْطِ ". وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " اِقْتَتَلَتَا " عَلَى لَفْظ الطَّائِفَتَيْنِ. وَقَدْ مَضَى فِي آخِر " التَّوْبَة " الْقَوْل فِيهِ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابهمَا طَائِفَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة الرُّوم: 2 ] قَالَ: الْوَاحِد فَمَا فَوْقه، وَالطَّائِفَة مِن ْالشَّيْء الْقِطْعَة مِنْهُ. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالدُّعَاءِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لَهُمَا أَوْ عَلَيْهِمَا. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} تَعَدَّتْ وَلَمْ تُجِبْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ. وَالْبَغْيُ: التَّطَاوُلُ وَالْفَسَادُ. {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ تَرْجِعَ إِلَى كِتَابِهِ. {فَإِنْ فَاءَتْ} أَيْ فَإِنْ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} أَيِ احْمِلُوهُمَا عَلَى الْإِنْصَافِ. {وَأَقْسِطُوا} أَيُّهَا النَّاسُ فَلَا تَقْتَتِلُوا. وَقِيلَ: أَقْسِطُوا أَيِ: اعْدِلُوا. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أَيِ الْعَادِلِينَ الْمُحِقِّينَ".
وجاء في الحديث: «المقسطون على منابر من نور، الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا»، المقسط: العادل، بخلاف القاسط: الجائر المائل عن الحق {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، لا بد من التدخل في مثل هذا الخصومات والاقتتال، ولا يُترك المجال لهذه الطوائف يقتل بعضها بعضًا، فيعم شرها، ويستطير أمرها، فلا بد من امتثال هذا الأمر {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، فالأصل الإصلاح، فإن لم يتيسر بغت إحداهما على الأخرى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}
لمَ؟ كي ترد إلى الحق، ويستتب الأمن، فلو تركت وقال كل أحد: أنا والله أعتزل الفتن، مع وضوح الحق وظهوره فلا يجوز اعتزاله؛ لأنه يفضي إلى شر مستطير.
نعم، إذا تساوت عنده الكفتان، أو لا يستطيع أن يُرجح، أو خشي أن يُقحم نفسه فيما لا يستطيع فله أن يعتزل كما فعل بعض الصحابة، لكن إذا بان الحق مع إحدى الطائفتين فلا بد من قتال الباغية.
"الثَّانِيَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا تَخْلُو الْفِئَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اقْتِتَالِهِمَا، إِمَّا أَنْ يَقْتَتِلَا عَلَى سَبِيلِ الْبَغْيِ مِنْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُمْشَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُثَمِّرُ الْمُكَافَّةَ".
المكافة: مفاعلة من الكف، حتى تكف كل طائفة عن الأخرى.
"وَالْمُوَادَعَةَ. فَإِنْ لَمْ يَتَحَاجَزَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَأَقَامَتَا عَلَى الْبَغْيِ صِيرَ إِلَى مُقَاتَلَتِهِمَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا بَاغِيَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقَاتَلَ فِئَةُ الْبَغْيِ إِلَى أَنْ تَكُفَّ وَتَتُوبَ، فَإِنْ فَعَلَتْ أُصْلِحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهَا بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. فَإِنِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا وَكِلْتَاهُمَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمَا مُحِقَّةٌ، فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَّةِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مَرَاشِدِ الْحَقِّ.
فَإِنْ رَكِبَتَا مَتْنَ اللَّجَاجِ، وَلَمْ تَعْمَلَا عَلَى شَاكِلَةِ مَا هُدِيَتَا إِلَيْهِ، وَنُصِحَتَا بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُمَا، فَقَدْ لَحِقَتَا بِالْفِئَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ»، وَلَوْ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِ الْبَاغِي كُفْرًا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْكُفْرِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ!"
لأن الله تعالى يقول: { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }.
وفي صدر الآية: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }، فما أخرجهم من الإيمان بالبغي وأثبت لهم الوصف، وأمر بقتالهم، فهل يعارض مثل هذا بقوله: «قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ»، «سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر»؟
هذه محمولة على حال، وهذا محمولة على حال، والذي يصادم النصوص بعضها ببعض هم أهل البدع، أهل الهوى، من يأخذون من النصوص ما يوافق أهواءهم، ويخدم مذاهبهم، أما أهل الحق الذين وفَّقهم الله- عزَّ وجلَّ- للعمل بجميع النصوص فيحملونها على محاملها، فيحملون هذا في موضعه، وهذا بموضعه.
"وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَ أَلَّا يُتْبَعَ مُوَلٍّ، وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَمْ تُحَلَّ أَمْوَالُهُمْ".
هذا قتال أهل البغي، من أدبر منهم لا يتبع، ولا يسبى ماله، ولا ولده، ولا يجهز على الجريح؛ لأنه مؤمن، والقصد من القتال كفهم عن هذا الشهر.
"بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فِي الْكُفَّارِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْهَرَبُ مِنْهُ وَلُزُومُ الْمَنَازِلِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ، وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبِيلًا إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ، وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ":- «خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ»".
ما تخريجه؟
طالب: ...........
نعم.
طالب: قال: أورده عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وهو ضعيف.
نعم........
طالب: ...........
لكن معناه صحيح، السفهاء يعبثون ويفسدون ويخربون، فلابد من الأخذ على أيديهم.
"قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقَوْلِهِ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ٌ». وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ « يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ أَوْ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ»".
على خير فرقة أي علي، وعلى حين فرقة أي الوقت.
"« يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ أَوْ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ»، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ «تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ ».. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ. فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِمَامًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ، حَتَّى يَفِيءَ إِلَى الْحَقِّ، وَيَنْقَادَ إِلَى الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ عُثْمَان- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُتِلَ وَالصَّحَابَةُ بُرَآءٌ مِنْ دَمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ، فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ. ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى، فَعُرِضَتْ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى، وَتَدَافَعُوهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَقِبَلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ، أَوْ يَتَخَرَّقَ أَمْرُهَا إِلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ. فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ. فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلُ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمَكُّنَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ادْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إِلَيْهِ. فَقَالُوا: لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَكَ، تَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً. فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ رَأْيًا وَأَصْوَبَ قِيلًا؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ، وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً، فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ، وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَيَجْرِيَ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إِذَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ. وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا مِنْ وِلَايَةٍ وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ عُثْمَانَ أَوْلَى.
قُلْتُ: فَهَذَا قَوْلٌ فِي سَبَبِ الْحَرْبِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ جِلَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْوَقْعَةَ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، بَلْ فَجْأَةً".
نعم، قد يحصل مثل هذه الأمور والظروف، وتجري الأمور على غير ما يراد، يعني إذا بدأت الفتن، وزادت قليلًا قليلًا، كلٌّ رأى من نفسه وعنده ما يتأول به، وعنده من الأتباع يستوشون مثل هذه الأمور، فتصعب السيطرة عليها، ويحصل مما يكره ما لا يريده عقلاء الناس.
الفتنة أول ما تبدأ صغيرة، ويمكن القضاء عليها، لكن ما يزال الأمر بها حتى تزداد وتصعب، وتستحيل السيطرة عليها، ويستحيل الإنسان بغير مرادها قهرًا منها، ويجد نفسه في هذا الموقع الذي لا يستطيع أن يتقدم أو يتأخر.
كانت المطالبة يسيرة، نريد قتلة عثمان، هذه حجتهم، وهي حجة في ظاهرها سليمة، لكن يطلبون القتلة ممن؟ ممن لا يملك أن يعطيهم إياه، بايعوه من أجل أن يملك أن يعطيكم القتلة، أنتم لا تطلبون القتلة الآن من ولى الأمر؛ لأنكم ما بايعتم، فلو بايعوه ثم طالبوه لتيسر الأمر، فهم ظنوا أنه تساهل في دم عثمان –رضي الله عنه وأرضاه ورضي عن الجميع- ومن شدة هول ما وقع بين الصحابة في قتل عثمان خليفة المسلمين المهاجرون والأنصار متوافرون في المدينة، ويقتل بينهم، ويفعل الأفاعيل، ولا يدفن إلا بعد ثلاثة أيام ليلًا، وينزل عليه في قبره، ويعتدى عليه، مما يدل أن شأن الفتن عظيم، هذا في خيار الأمة، فكيف بأصحاب المقاصد والأهداف واختلاف المشارب والاتجاهات، لو وجدوا أدنى نفس، يعني لو كان هذا في صدر الأمة، فكيف لو كان في آخر الأمة؟ ماذا سيكون؟
يعني أمر مهول الذي حصل لعثمان لا يتصوره عقل إلا أنه الفتن لا أكثر ولا أقل.
أولئك يقولون: أعطونا قتلة عثمان نقتص منهم، وعليٌّ يقول: بايعوا إذا سلمتموني الأمر سلمتكم إياه، الآن لا أملك، كلام شرعي، وكلٌّ واقف عند حد، ثم بعد ذلك حصل ما حصل.
مع أنه يوجد من يستوشي هذه الأمور ويثيرها من وراء لوراء، كما هو الشأن في كل مصر وفي كل عصر، والإشكال أنه يقع من الأتباع، لا يقع من الكبراء، تجد الكبير يدلي برأيه، والثاني يدلي برأيه، يحصل خلاف ثم يتفقون، لكن إذا تدخل الأتباع صار كل واحد يُملي على من عنده. يعني في قصة الإفك عبرة، زينب بنت جحش هي التي تسامي عائشة وتقاربها وتدانيها، ما دخلت في الإفك، مع أنها ضرة، من التي دخلت؟ أختها حمنة، الأتباع الذين دخلوا، هذا فيه دروس وعبر ومواعظ، لكن هل من مدكر؟
يحتاج إلى الدراسة الواعية لمثل هذه الظروف، وإن كان الإنسان قد يدب إليه اليأس من جهة يقول: هذا حصل من الصحابة، فكيف بنا؟ ومع ذلك نقول: عندنا نصوص من الكتاب ومن السنة نحتكم إليها، ونحاكم إليها كل مخالف.
طالب: الذين نبشوا قبر عثمان ماذا يريدون؟
هؤلاء مغرضون، ليس لهم في العير ولا النفير، هؤلاء استغلوا مثل ما يقال عندنا الآن استغلال التيار، وجدوا الخلل فيزيدون الخلل، هؤلاء مغرضون.
طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، تخصيص علي بقول: كرم الله وجهه؟
هذا لا أصل له، لا يزاد، ويقال مثل غيره: رضي الله عنه، وإن كانوا يقولون: إنه ما سجد لصنم قط، وكذا وكذا، لكن يبقى أنه مثل غيره رضي الله عنه وأرضاه.
"وَقَالَ جِلَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْوَقْعَةَ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْحَرْبِ بَلْ فَجْأَةً، وَعَلَى سَبِيلِ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ قَدْ غَدَرَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ قَدِ انْتَظَمَ بَيْنَهُمْ، وَتَمَّ الصُّلْحُ وَالتَّفَرُّقُ عَلَى الرِّضَا. فَخَافَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهُمْ وَالْإِحَاطَةِ بِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا وَتَشَاوَرُوا وَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ، وَيَبْدَءُوا بِالْحَرْبِ سُحْرَةً فِي الْعَسْكَرَيْنِ، وَتَخْتَلِفَ السِّهَامُ بَيْنَهُمْ، ويصيح".
اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، يعني فريق يكون مع فريق علي –رضي الله عنه-، وفريق مع أهل الشام، ثم يطلقوا سهامهم ورماحهم منهم من هؤلاء، ليس من أصل الطائفتين التي هي أتباع علي ومعاوية، لا، لكن من هؤلاء الذين افترقوا فريقين، فإذا ألقي السهم من هؤلاء بادر الفريق الثاني بإطلاق السهم الثاني، وهكذا.
طالب: سُحرة أم سَحرة؟
سُحرة أو سَحرة أي في وقت السحر.
"وَيَصِيحُ الْفَرِيقُ الَّذِي فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ: غَدَرَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَالْفَرِيقُ الَّذِي فِي عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: غَدَرَ عَلِيٌّ. فَتَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ".
وهذا الذي يُخشى من وجود أمثال هؤلاء في الصف؛ لأنهم يستغلون مثل هذه الفرص، تجدهم يندسون في هذه الاجتماعات التي يحصل فيها شيء من النزاع والشقاق، فتجدهم يلقون الكلام، ويثيرون ويتصرفون تصرفات؛ من أجل أن يُقضى على الطرف الثاني.
تجد حتى في الأمور السلمية الكلام المخالف من غير حرب، تجد يوجد -مثلًا- في محاضرة لشخص غير مرضي، تجد له أتباعًا ولهم خصوم، وتجد الكلام يزيد وينقص بعد ذلك وتكون فتنة، وهذا مجرب على مستويات قوية ومستويات ضعيفة.
طالب: هؤلاء ثاروا..........
ما فيه شك؛ لأنهم تسببوا، ولكل قوم وارث، يعني وُجد في بعض التصرفات التي أخذت على المتدينين وجد من بينهم أناس ليسوا منهم، وليسوا من أهل الدين أصلاً، فلما سئلوا قالوا: استغلال للتيار، وجدوا الفوضى فدخلوا؛ لأنهم يكيدون للبلد وأهله وولاته وعلمائه، فيستغلون مثل هذه الظروف.
"فَكَانَ كُلَّ فَرِيقٍ دَافِعًا لِمَكْرَتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَمَانِعًا مِنَ الْإِشَاطَةِ بِدَمِهِ. وَهَذَا صَوَابٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَطَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ وَقَعَ الْقِتَالُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُمَا عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أَمْرٌ بِالْقِتَالِ. وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ".
طالب:.....
في الأصل؟
طالب: نعم.
لما نشبت الحرب قام كل واحد يدافع عن نفسه.
طالب: ...........
لا لا.
"وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَفْضَى إِلَيْهِ الْأَمْرُ، عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: نَدِمْتُ عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْمَالًا بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ".
نعم؛ لأنهم كلهم مجتهدون، فالطائفة التي هي أولى الطائفتين بالحق هي التي اجتهادها وافق الحق والإصابة، فلهم أجران، والطائفة الثانية مع اجتهادها، وكونها الحق ليس بجانبها، فهي طائفة مرجوحة، ولها أجر واحد، لها أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور؛ ولذا في الحديث في حديث عمار: «تَقْتُلُه الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ». فكان قتله من قِبل أهل الشام"، معاوية –رضي الله عته- مع ما أوتي من حكمة ودبلوماسية وحسن أسلوب لما سئل قال: قتله من أخرجه، فألقى باللوم على المتسبِّب لا على المباشر، فكان مما قيل له ورد عليه به أن النبي-صلى الله عليه وسلم- هو الذي قتل عمه حمزة؛ لأنه أخرجه إلى أحد، رضي الله عن الجميع. ومذهب أهل السنة والجماعة في هذا الكف عما جرى للصحابة وهذه التفصيلات وما شجر بين الصحابة، ومعروف حمله على الاجتهاد، وكلهم مأجورون، وطهَّر الله –جلَّ وعلا- من دمائهم، فنطهر ألسنتنا، كما قال السلف.
طالب: ثابت عن معاوية قوله: "قتله علي".
لا بد أن يجيب بهذا، بمَ يجيب أصحابه؟ انكشف الأمر «تَقْتُلُه الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ». إذا أنتم الفئة الباغية، فما بقي إلا تأويل القاتل والقتل من هو.
طالب:.................
أين؟
طالب: ...........
عبدالله بن عمر معروف اعتزاله، واضح.
طالب: إذًا خطأ؟ وهو عبد الله بن عمر؟
نعم، أما ابن عمرو فأبوه الذي شارك، أما عبد الله بن عمر معروف اعتزاله.
طالب: ...........
نعم.
"السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَمِنَ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالَبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ، فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ. وَفِي طَلَبِهِمْ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنِ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ: إِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرْبِ الصَّحَابَةِ التَّعْرِيفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ".
من لسان الأمة؟
طالب: ابن عباس.
لا.
طالب: ...........
من الذي عُرف بمحاجته لليهود والنصارى؟
طالب: الباقلاني.
نعم، أبو بكر الباقلاني.
"قتال أهل التأويل إِذْ كَانَ أَحْكَامُ قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَفِعْلِهِ.
السَّابِعَةُ: إِذَا خَرَجَتْ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجَةٌ بَاغِيَةٌ وَلَا حُجَّةَ لَهَا، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ بِالْمُسْلِمِينَ كَافَّةً أَوْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ، وَيَدْعُوهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ أَبَوْا مِنَ الرُّجُوعِ وَالصُّلْحِ قُوتِلُوا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيهِمْ وَلَا أَمْوَالُهُمُ".
لأنهم مسلمون.
"وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ، أَوِ الْبَاغِي الْعَادِلَ، وَهُوَ وَلِيُّهُ، لَمْ يَتَوَارَثَا، وَلَا يَرِثُ قَاتِلٌ عَمْدًا عَلَى حَالٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَادِلَ يَرِثُ الْبَاغِي، قِيَاسًا عَلَى الْقِصَاصِ".
طالب: ...........
معروف أنه من موانع الإرث القتل؛ رق وقتل واختلاف دين. وهذا حصل منه قتل، فلا يرث ولا يورث.
طالب:.....
الأسير ما يقتل؛ لأنه مسلم.
طالب:...............
لا، هو يقتل الباغي في حال القتال، أما إذا قدر عليه، وأمكن معالجته بدون قتال فلا يقتل، نعم.
طالب:.........................
مسلمون متأولون.
طالب: والخوارج؟
الخوارج مسلمون، ولكنهم لم يكفوا، ما قاتلهم علي –رضي الله عنه - إلا لبدئهم في القتال.
والخلاف في كفرهم معروف، لكن كما قال شيخ الإسلام على عدم تكفيرهم يمرقون من الدين يعني من التدين لا من الإسلام.
طالب:............
لا، هو إذا صحت إمامته فهو عدل، فالعدالة أعم من أن تكون الاستقامة التامة.
الثَّامِنَةُ: وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤَاخَذُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُونَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِعُدْوَانٍ فَيَلْزَمُ الضَّمَانُ. وَالْمُعَوِّلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي حُرُوبِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ".
ما أجهزوا على جريح.
"وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا ، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا، وَهُمُ الْقُدْوَةُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتَدْرِي كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: «لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْئُهَا».
مخرج؟
أحسن الله إليك.
قال: ضعيف جدًّا أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن مسعود الحديث، وسكت عليه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: كوثر بن حكيم متروك، وقال الحافظ في تخريج الكشاف: كوثر متروك، قال أحمد: أحاديثه أباطيل.
"فَأَمَّا مَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ بِعَيْنِهِ".
يعني لو وجد عين قائمة بيد شخص من البغاة لفلان من الناس أو العكس فإنه يرد بعد أن تهدأ الأمور فإنه يرد إلى صاحبها.
"هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ خَرَجَ بِتَأْوِيلٍ يُسَوِّغُ لَهُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنْ كَانَتِ الْبَاغِيَةُ مِنْ قِلَّةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا مَنَعَةَ لَهَا ضَمِنَتْ بَعْدَ الْفَيْئَةِ مَا جَنَتْ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ذَاتَ مَنَعَةٍ وَشَوْكَةٍ لَمْ تَضْمَنْ".
اتقاءً لشرها.
"إِلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَإِنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهَا إِذَا فَاءَتْ. وَأَمَّا قَبْلَ التَّجَمُّعِ وَالتَّجَنُّدِ، أَوْ حِينَ تَتَفَرَّقُ عِنْدَ وَضْعِ الْحَرْبِ أَوْزَارِهَا، فَمَا جَنَتْهُ ضَمِنَتْهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ. فَحَمْلُ الْإِصْلَاحِ بِالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَاضِحٌ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ قَلِيلَةَ الْعَدَدِ. وَالَّذِي ذَكَرُوا أَنَّ الْغَرَضَ إِمَاتَةُ الضَّغَائِنِ، وَسَلُّ الْأَحْقَادِ دُونَ ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ لَيْسَ بِحُسْنِ الطِّبَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَدْلِ وَمُرَاعَاةِ الْقِسْطِ.
قَالَ الزمخشري : فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَرَنَ بِالْإِصْلَاحِ الثَّانِي الْعَدْلَ دُونَ الْأَوَّلِ؟
قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِتَالِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنْ يَقْتَتِلَا بَاغِيَتَيْنِ أَوْ رَاكِبَتَيْ شُبْهَةٍ، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ فَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ فِي شَأْنِهِمَا إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَتَسْكِينُ الدَّهْمَاءِ بِإِرَاءَةِ الْحَقِّ، وَالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ، وَنَفْيِ الشُّبْهَةِ، إِلَّا إِذَا أَصَرَّتَا، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ، وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلَا يَتَّجِهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَغَتْ إِحْدَاهُمَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ مُتَّجِهٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ".
وهذه وظيفة العلماء والدعاة والمصلحين أن ينصحوا الناس، ويردوهم إلى الحق، ويبينوا لهم، ويكشفوا ما عندهم من شبه، هذه وظيفتهم، قبل أن يصل إلى الأمر إلى الاقتتال، فإن وصل الأمر إلى قتال فالمسألة يصعب احتوائها، إلا بقوة يترتب عليها إراقة الدماء، ولا يعلم أحد قدر المفاسد المترتبة على ذلك إلا الله -جلَّ وعلا-.
طالب:.......................
هذا رأيه.
طالب: ...........
هذا رأي الزمخشري، تقسيم الزمخشري تضمن إذا كانت كثيرة العدد؛ لأنه بالإمكان السيطرة عليها، لكن إذا كانت كثيرة العدد، بحيث لو ضمنت ما خضعت، ولا أذعنت، وبدأت الحرب من جديد.
طالب:..................................
متجه إذا استتبت الأمور، ووجد شيء بعينه الأولى والأصل أنه تنتهي الحرب، .... ما فيه ضمان إلا إذا وجدت أشياء فلأصحابها بعينها.
"التَّاسِعَةُ: وَلَوْ تَغَلَّبُوا عَلَى بَلَدٍ فَأَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَأَقَامُوا الْحُدُودَ وَحَكَمُوا فِيهِمْ بِالْأَحْكَامِ، لَمْ تُثَنَّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ وَلَا الْحُدُودُ، وَلَا يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ خِلَافًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ".
يعني ما يؤتي إلى الغني فيقال له: ادفع الصدقة وقد أخذت منه، ولو أخذها البغاة، يعني ما تؤخذ منه مرة ثانية؛ لأنه ظلم له.
"كَمَا تُنْقَضُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالسُّنَّةِ، قَالَهُ مُطَّرِفٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ".
يعني تؤخذ الزكاة مرة ثانية، وتقام الحدود مرة ثانية وإن أقاموها هم، وهذا لا شك أن فيه ضررًا على المسلمين.
"فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُونُوا بُغَاةً. وَالْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا انْجَلَتِ الْفِتْنَةُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ، لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ. قَالَ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَعْتَرِضُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خَطَأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ".
لأن الله –جلَّ وعلا- تولى تعديلهم في كتابه وعلى لسان نبيه –عليه الصلاة والسلام- فلا يجوز أن ينسب مثل هذا الأمر لمن عدله الله –عزَّ وجلَّ- غاية ما يقال: إنهم مجتهدون، أولى الطائفتين بالحق هذه هي المصيبة والثانية مجتهدة، وإن كانت مخطئة.
طالب: معني قوله يا شيخ: لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي.
لأن هو الإمام في وقته هو الإمام، الباغي هذا هو الإمام والإمام الحق العدل معزول عن الإمامة في وقتها، كما لو لم يرجع كما لو استمر هذا الباغي وقهر الناس بسيفه واستمر.
"إِذْ كَانُوا كُلَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا فَعَلُوهُ وَأَرَادُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُمْ كُلُّهُمْ لَنَا أَئِمَّةٌ، وَقَدْ تَعَبَّدْنَا بِالْكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَلَّا نَذْكُرَهُمْ إِلَّا بِأَحْسَنَ الذِّكْرِ، لِحُرْمَةِ الصُّحْبَةِ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِالرِّضَا عَنْهُمْ. هَذَا مَعَ مَا قَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَلْحَةَ شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِ عِصْيَانًا لَمْ يَكُنْ بِالْقَتْلِ فِيهِ شَهِيدًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَطَأً فِي التَّأْوِيلِ وَتَقْصِيرًا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقَتْلٍ فِي طَاعَةٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ صَحَّ وَانْتَشَرَ مِنْ أَخْبَارِ عَلِيٍّ بِأَنَّ قَاتِلَ الزُّبَيْرِ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّار»".
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ غَيْرُ عَاصِيَيْنِ وَلَا آثِمَيْنِ بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلْحَةَ- (شَهِيدٌ ). وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ قَاتِلَ الزُّبَيْرِ فِي النَّارِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَعَدَ غَيْرَ مُخْطِئٍ فِي التَّأْوِيلِ. بَلْ صَوَابٌ أَرَاهُ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَهُمْ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ، وَإِبْطَالَ فَضَائِلِهِمْ وَجِهَادَهُمْ، وَعَظِيمَ غِنَائِهِمْ فِي الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمِ عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي أُرِيقَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا أَيْضًا فَقَالَ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا يَدِي، فَلَا أُخَضِّبُ بِهَا لِسَانِي. يَعْنِي فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي خَطَأٍ، وَالْحُكْمِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِمَا لَا يَكُونُ مُصِيبًا فِيهِ. قَالَ ابْنُ فَوْرِكٍ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبِيلَ مَا جَرَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ كَسَبِيلِ مَا جَرَى بَيْنَ إِخْوَةِ يُوسُفَ مَعَ يُوسُفَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ الْوَلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِيمَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ".
يعني إثبات النبوة لإخوة يوسف هو الذي مشى عليه المؤلف فيما تقدم، وهو أيضًا رأي شيخ الإسلام، وأما ابن كثير فيقول: لا أعلم ما يدل على نبوتهم.
"وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: فَأَمَّا الدِّمَاءُ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْنَا الْقَوْلُ فِيهَا بِاخْتِلَافِهِمْ. وَقَدْ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ قِتَالِهِمْ فَقَالَ: قِتَالٌ شَهِدَهُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغِبْنَا، وَعَلِمُوا وَجَهِلْنَا، وَاجْتَمَعُوا فَاتَّبَعْنَا، وَاخْتَلَفُوا فَوَقَفْنَا.
قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَّا، وَنَتَّبِعُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَنَقِفُ عِنْدَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا نَبْتَدِعُ رَأْيًا مِنَّا، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا وَأَرَادُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلّ-، إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.