ما يُؤخذ بسهولة يُفقد بسهولة

فصار طالب العلم إذا احتاج إلى أي معلومة في فن من الفنون بعد هذه الحواسب ما عليه إلا أن يضغط زر، يصل بواسطته إلى ما يريد بأسرع وقت، وهذا أيضاً على حساب التحصيل العلمي؛ لأن العلم متين لا يستطاع براحة الجسم كما قال يحي بن أبي كثير، يحي بن أبي كثير كما ذكر الإمام مسلم في صحيحه في أثناء أحاديث المواقيت قال يحي بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" لو كان العلم يستطاع براحة الجسم ما أدرك الفقراء شيء، صار الناس كلهم علماء، العلم لا يخفى ما ورد فيه من النصوص في الحث عليه، وبيان منزلة أهل العلم، ورفعهم درجات، كان كل الناس علماء لو كان العلم يستطاع براحة الجسم؛ لكن لا بد من معاناة، لا بد من سهر، لا بد من عكوف على الكتب، لا بد من مزاحمة الشيوخ والزملاء.

الآن يحتاج إلى بحث مسألة في كتاب فيقلب هذا الكتاب فيقف على عشرات المسائل كثير منها أهم من مسألته التي يبحث عنها؛ لكن يضغط زر يطلب مسألة تخرج المسألة من أولها إلى آخرها بمصادرها ثم ماذا؟ هل يحفظها طالب العلم بهذه الطريقة؟ لا يمكن؛ لأن الشيء الذي يأتي بسهولة لا يمكن أن يستوعب بسهولة أو يحفظ بسهولة، بل يفقد بسهولة؛ يحي بن أبي كثير لما قال: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" لا شك أنه من خلال معاصرة ومعايشة للعلم، ولما رأى عليه شيوخه وزملاءه وأقرانه من معاناة، تصور قبل وجود هذه النعم من الكهرباء وغيرها التي لا يختلف الليل على النهار بالنسبة للضوء -والله المستعان-، كانوا يكتبون على ضوء القمر، بهذا حصلوا العلم، ونحن نريد بحاسب واحد والشخص متلفلف بغطائه على فراشه يربط حاسبه ويتعلم! أو جالس في ملحق أو في استراحة مع زملاء يتبادلون الأحاديث وأطراف الأحاديث وعندهم أنهم يطلبون العلم! فالعلم لا بد له من معاناة.

يحي بن أبي كثير نعود إلى كلمته لأنها نفيسة، وجعلها الإمام مسلم بين أحاديث المواقيت -مواقيت الصلاة- علشان إيش؟ هذا مناسبته أعجز الشراح أن يوجدوا مناسبة لكلام يحي بن أبي كثير الذي أودعه مسلم هنا، الإمام مسلم أعجبه سياق هذه الأحاديث، المتون والأسانيد بهذه الطريقة، وأراد أن ينبه أنه لا يمكن أن يصل الإنسان إلى مثل هذه العلوم بهذه الطريقة بهذا السبك العجيب براحة الجسم، فأتى بهذا من شعور أو من لا شعور، نعم هذه الوسائل نعمة إن استفيد منها واستعين بها على الوجه المناسب، ولم يعتمد عليها وإلا فهي عائق عن التحصيل.

من وجوه الانتفاع بهذه الحواسب إذا ضاق الوقت على خطيب أو محاضر وأراد أن يتثبت من حديث أو أثر أو نقل أو غير ذلك بحيث لا يستطيع الرجوع إليه لضيق الوقت، نعم له ذلك، استفاد منه، كذلك من أراد اختبار العمل، من أراد اختبار عمله بحث هذه المسألة من جميع ما وقف عليه من كتب، وجميع ما قيل فيها، وإن كان حديث جمع جميع ما وقف عليه -ما أمكنه- من الطرق، ثم أراد أن يختبر نفسه هل هناك زيادة؟ فهذه الزيادة التي يأخذها من هذا الحاسب تقع في قلبه موقع بحيث تثبت، مثل ما لو بحثها في كتاب، أما أن تكون هذه الآلات وسائل للتحصيل ابتداء عوضاً عن القراءة والمطالعة والحفظ، وحضور الدروس، ومجالس العلم فلا.