ضوابط في العزلة والخلطة

في الحديث الصحيح عند الإمام البخاري وغيره من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم أو خير مال المسلم غنم أو غنماً يتبع فيها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن، يفر بدينه من الفتن))، ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع فيها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)).

إذا وجدت الفتن تلاطمت وعجز الإنسان عن حماية نفسه ومن تحت يده، فضلاً عن أن يكون مؤثراً في غيره، وخشي على نفسه أن يتأثر ينطبق عليه هذا الحديث، يفر بدينه من الفتن ويعتزل الناس؛ لأن مثل هذا الحديث، لا شك أنه في وقت الفتن التي لا يدرى وجه الصواب فيها، ممن يخشى أن يتأثر ولا يطمع من نفسه ولا يؤنس من نفسه أو يغلب على ظنه أنه يؤثر، أما الشخص الذي يؤثر في غيره فلا شك أن الصبر على مخالطة الناس، و تحمل أذاهم، وبذل الجهد في نفعهم، هذا هو المتعين، أما من كان لا أثر له في الناس، ويخشى على نفسه أو على ولده من هذه الفتن، فإنه ينطبق عليه هذا الحديث ويفر بدينه من الفتن، فالعزلة والخلطة يبحثها أهل العلم، وقديماً ألف في العزلة، وأبو سليمان الخطابي في القرن الرابع له كتاب من أنفع الكتب في فضل العزلة.

هناك عزلة كلية، وهناك عزلة جزئية، عزلة جزئية في بعض الأوقات دون بعض، يعني يصلي مع الناس الجماعة، ويشهد الجمع والأعياد، ويحضر المناسبات الشرعية، لكنه لا يكثر الاختلاط بالناس؛ لأن كثرة الخلطة بالناس لا شك أن أثرها على القلب ظاهر، وإن كان هذا يتفاوت بتفاوت الناس، بعض الناس وجوده في المحافل والمجالس خير، يسعى جاهداً في نفع الناس، وبعض الناس سلبي لا خير ولا شر، وبعض الناس وجوده ضرر، لكن في الجملة الخلطة كثرتها مع الناس لا بد أن يكون لها أثر على القلب؛ لأن هذه الخطرات التي تخطر على القلوب في أوقات الضيق، يعني شخص يسمع في صلاة التهجد في ليالي العشر مثلاً وهو ساجد يضحك، لماذا ضحك؟، هل لأنه قام من فراشه واتبع الخطوات الشرعية إلى مجيئه إلى المسجد، وصلى مع المسلمين؟، أو لأنه جاء من مجلس فيه قيل وقال ونكت وكذا؟ لأن بعض الناس مبتلى بصحبة هؤلاء، أو يكون يساهم فيها، في النكت، ثم تأتيه في وقت لا يستطيع دفعها، وهو في أحوج الأوقات، وهو من أحوج، في أحوج الأوقات إلى قلبه، يحتاج لاستحضار قلبه ليدعو مع حضور القلب ويستجاب ليؤدي العبادة على الوجه المطلوب، تجد مثلاً الذي ابتلي بالنكت تجده يضحك، الذي ابتلي بالتقليد تجده يقلد في أوقات الضيق في عشية عرفة يقلد، الذي ابتلي بالغيبة والنميمة تجده في هذا الموطن العظيم يغتاب لا يستطيع أن يملك نفسه، فعلى الإنسان أن يقلل من الخلطة بقدر الإمكان على ألا يترك الواجبات، ولا يقصر في الحقوق؛ لأن من وسائل حفظ القلب الفضول كما يقول ابن القيم، فضول الطعام، فضول النوم، فضول الأكل، -اللي هو الطعام-، فضول الكلام، فضول النظر، فضول الخلطة كل هذه مؤثرة؛ لأنها كلها منافذ تصب في القلب، تجد الإنسان يفتح المصحف ويقرأ لمدة ساعة ما يدري ويش قرأ، قيل وقال، وذهب وراح، وجاء، وفي الصلاة ثم يخرج منها كما دخل.

القصة اللي ذكرناها مراراً شخص تقدم إلى المسجد وصار بجوار المؤذن، قرأ من القرآن ما قرأ حتى جاءت الإقامة، لما كبر الإمام كبر معه، يقول: فنظرت إلى المسجد فإذا المسجد كبير ونظيف، لكن ما فيه منبر، قلت: أكيد أن هذا مسجد فروض ما هو بجامع، ويصلي، لكن لا بد يصير جامع هذا ما في أفضل منه، لكن المشكلة المنبر وين، فإذا بجوار المحراب غرفة قلت: سهل، هذه تصلح تسقف مع النصف وتصير منبر ويش المانع، وهو يصلي، فتح الغرفة فإذا فيها أثاث، يقول: ما انتهيت من نقل الأثاث إلا مع السلام، ما الذي جعل هذه الخطرات تخطر له في هذا الوقت؟ إلا لأن وقته معمور بالقيل والقال، وإلا لو حفظ نفسه لحفظ، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، فالخلطة هذا أثرها، والعزلة لا شك أن فيها نفع عظيم لا سيما في أوقات الفتن التي لا يستطاع رفعها ولا دفعها، ويخشى من تأثر الإنسان بها، فإذا كان الإنسان من النوع المؤثر هذا لا يجوز له أن يعتزل بل لا بد أن يخالط الناس ويؤثر فيهم، ويسعى في تخفيف هذه الفتن، إذا كان يتأثر ولا يؤثر مثل هذا مع وجود هذه المنكرات، مع وجود هذه الفتن عليه أن يعتزل، والشراح شراح البخاري وغيره، يقولون: المتعين في هذه الأزمان العزلة، الشراح بعضهم في الثامن، وبعضهم في التاسع، يعني من سبعمائة سنة، أو ستمائة سنة، وخمسمائة سنة، يقولون: المتعين العزلة؛ لعدم خلو المحافل من المنكرات، يقولون هذا قبل الانفتاح وقبل الدشوش، وقبل اختلاط المسلمين بغيرهم، وقبل العادات الوافدة من الكفار، يقولون: متعين عزلة، إحنا أدركنا الناس قبل ثلاثين سنة يختلف وضعهم اختلاف جذري، قبل انفتاح الدنيا، فكيف بقبل خمسمائة ستمائة سنة، على كل حال مثل هذه الأمور إنما تقدر بحسب اختلاف الناس والأحوال والظروف والحاجة إلى الإنسان وما يترتب على ذلك من فعل واجبات، أو ترك واجبات، وتضييع حقوق، لأنه يوجد في هذه الأوقات ولله الحمد من يؤدي الحقوق وزيادة، تجدوه في الدوام من الثامنة إلى الثانية، وتجده إذا خرج يذهب إلى المسجد الذي يصلى فيه على الجنائز، ثم بعد ذلك يتبع الجنازة إلى المقبرة، ثم يعود إلى بيته يجيب على أسئلة مثلاً، ويأنس بأولاده ويؤنسهم ثم إذا صلى المغرب تجد عنده درس مثلاً، يا طالب، يا معلم، أو متعلم، وبعد العشاء تجده يونس أهله وأصحابه أو درس ثاني، أو يزور أخ في الله ثم بعد ذلك ينام، ويتجهز لليوم الثاني وهكذا، خير عظيم مثل هذا البرنامج، لكن بعض الناس إن راح إلى الوظيفة ضيع، ضيع الوظيفة، وضيع غيره بسببه، وما سلم الناس منه، وإذا جاءه مراجع نهره وزجره، وإذا التقى بزميل وإلا كذا حمله من أعماله، وخرج إلى يمين ويسار، وضيع الدوام، وضيع نفسه وضيع غيره، وإذا خرج من دوامه ما وفق لأعمال صالحة، تجد أوقاته معمورة بما لا ينفع، بل بما يضر، فالناس أجناس، والوقت لا زالت البركة موجودة، لا زالت البركة موجودة، الذي يقول: إن البركة ذهبت هذا ليس بصحيح، وإذا أراد أن يجرب بركة الوقت يجلس بعد صلاة العشاء خمس ساعات في الشتاء، لا يخرج يمين ولا يسار، يشوف بركة الوقت، كيف ينجز إذا جلس، أو يجلس بعد صلاة الصبح في الصيف إلى العاشرة ينتج فيه ما ينتجه غيره في عشرة أيام من المضيعين، فالوقت إذا حفظ وسعى الإنسان في أسباب حفظ الوقت فإن الله -جل وعلا- يبارك له فيه.