لَا تَظَن أَنَّ تَعَبَكَ عَلَى العِلم سُدَى أَو هَدَر

كان أهل العلم وطلاب العلم يعانون أشد المعاناة من نسخ الكتب، يسهرون الليالي المقمرة على الأنوار الخافتة ينسخون الكتب، وبهذا حصَّلوا؛ لكن الآن من اليسير جداً أن تخرج إلى المكتبات وتشتري جميع ما تريد في ساعة، لكن إذا رجعت ماذا تصنع؟ ترص هذه الكتب في الدواليب، ويبقى بقية يومك للاستجمام، الآن أنت ضمنت الكتب عندك، ولا عليها فوات، بدل اليوم غداً -وهذا شيء مجرب يا إخوان، ما هو من فراغ- ولذا منع بعض العلماء طباعة كتب العلم الشرعي، ثم بعد ذلكم استسلم أهل العلم للأمر الواقع، فأجمعوا على جواز طباعة الكتب، استمر الأمر على ذلك عقود -بل قرون- ثم جاءت هذه الحواسيب، وهذه الآلات التي تيسر لك ما تريد وأنت جالس، بضغطة زر تحصل على جميع ما تريد، تبحث عن حديث تضغط زراً ويظهر لك جميع طرق الحديث، مائة طريق، خمسين طريق، سبعين طريق إلى آخره، لكن النتيجة؟ النتيجة هل يحفظ العلم بهذه الطريقة؟ لا يتخرج طالب علم بهذه الطريقة أبداً، العلم لا بد له من معاناة، تضغط زراً يخرج لك رواة هذا الخبر بجميع ما قيل فيه من جرح وتعديل، ثم ماذا؟ خلاص، يطفأ الكهرب ثم بعد ذلك ترجع عامي لا تحسن شيئاً.

وعمد كثير من أهل العلم إلى تعسير العلم، سواءً كان في وسيلة الحصول إلى المعلومة، فغير الترتيب عن الترتيب المألوف، ابن حبان في الأنواع والتقاسيم في صحيحه رتبه على طريقة غريبة مبتكرة لم يصنعها غيره، خشية أن يأتي الطالب الذي يبحث عن الحديث فيجده بسهولة، الحديث في الطهارة في أول الكتاب، في الصلاة، افتح لك زيادة خمسين ستين صفحة وتجده، في الزكاة، وهكذا، وهذا مقصود، ومنهم من عمد إلى تعسير العلم بطريقة أخرى، وهي صعوبة الأسلوب، بعضهم يعقد الأسلوب من أجل أن يعاني الطالب فهم هذا الكتاب، فإذا فهمه بعد معاناة ثبت عنده ورسخ، وهذه طريقة مألوفة عند أهل العلم سواءً كانت في الفقه أوفي أصول الفقه أو في العربية أو في غيرها من العلوم، وجاء في عصرنا من ذلل العلم لطلابه وسهله ويسره بنية صالحة، وهو مأجور على ذلك، لكن من يستفيد من مثل هذه الكتب؟ المبتدئون من الطلبة، وغير المتخصصين في العلم الشرعي، أما من يريد أن يتخرج على طريقة أهل العلم وعلى جادتهم لا بد أن يسلك المسالك التي سلكوها، ثقوا ثقة تامة أن العلم في الكتب، العلم متين ويحتاج إلى معاناة، ويحتاج أيضاً إلى تردد على الشيوخ، أهل الخبرة، أهل الدراية، أهل العلم والعمل، مع المراجعة بالانفراد والمذاكرة مع الغير، أما شخص يحضر الدروس، وإذا خرج من الدرس هذا آخر عهده بالكتاب، فمثل هذا لا يفلح غالباً، كما قرر ذلك أهل العلم، فعلينا أن نعتني بالعلم وأجره عظيم، لا تظن أن تعبك على العلم سدى أو هدر، لا، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، الأمر ليس باليسير.

قد يقول قائل: أنا الحافظة لا تسعف، الفهم ضعيف، أنا مجرد أتردد على أهل العلم ولا أحفظ ولا أفهم، نقول له: تردد يا أخي، الأجر والثواب مرتب على مجرد سلوك الطريق ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، فعليك أن تسلك الطريق، وتحضِّر الدرس قبل الحضور، قبل حضورك إلى الدرس، تقرأ قبل أن تحضر، وتحفظ ما يحتاج إلى حفظه، وتراجع الشروح، شرح ما تريد، شرح الدرس الذي تريد أن تحضره عند ذلك الشيخ، ثم بعد ذلك تحضر وتتأدب وتحتسب أجرك عند الله -عز وجل- مخلصاً لله -عز وجل- في جميع ذلك، فالمدار على الإخلاص، فتنصت للشيخ، وتناقش الشيخ بأدب، ثم بعد ذلك إذا رجعت تراجع ما سمعت وتدون الفوائد، وبعض أهل العلم يمنع من تدوين الفوائد أثناء الدرس، يقول: انتبه الدرس عليك أن تصغي للشيخ، ثم بعد ذلك إذا انصرفت بعد هذا الإصغاء والانتباه دوِّن ما تشاء، ومن جرب عرف صدق هذه المقالة؛ لأن بعض الناس ينشغل بالتدوين ويفوت عليه أمور كثيرة، وبعض الناس ينصت ويهتم، ويلح على الله -سبحانه وتعالى- بأن يثبت هذا العلم في ذهنه، وأن ينفعه به، ثم بعد ذلك إذا انصرف دون ما فهمه وما علق بذهنه، وذاكر إخوانه، لا بد من مذاكرة الإخوان للدروس.