طرائق العلماء في نقل الإجماع، والفرق بينه بين الاتفاق

السؤال
أقرأُ في بعض الكتب الفقهية فيُشكل عليَّ كثيرًا نقل بعضهم للإجماع وطرائقهم المتعددة في التعبير عن الإجماع، فمثلاً يقولون: (بغير خلاف نعلمه) أو (أجمع العلماء فيما أعلم)، فهل يُعدُّ هذا إجماعًا؟ وهل هناك فرق بين الإجماع والاتفاق؛ لأنني قرأتُ في مقدمة (الإجماع) لابن حزم قوله: (وليعلم القارئ لكلامنا أن بين قولنا: لم يُجمعوا، وبين قولنا: لم يتفقوا، فرقًا عظيمًا)؟ وهل الإجماع درجات فيُفرَّق بين قولهم: (أجمعت الأمة) أو (أجمع المسلمون) أو (أجمع أهل القبلة)، وهكذا؟
الجواب

لا شك أن العلماء عندهم دقة متناهية في تعابيرهم، وبينهم اصطلاحات معروفة يعتمدونها، وأما بالنسبة للتفريق بين نفي الخلاف وحكاية الإجماع لا شك أن هناك فرقًا، فالإجماع المفترض فيه أنه قول جميع مجتهدي العصر، ورفعُ الخلاف لا شك أنه بمنزلة أقل من التصريح بنقل الإجماع، لاسيما إذا قال: (بغير خلاف نعلمه)، فقد يخفى عليه ويعلمه غيره، أما إذا قرر الإجماع وحكى الإجماع فلا بد أن يكون قد استقرأ واستقصى، أما نفي الخلاف فلا يلزم منه الاستقراء والاستقصاء لا سيما إذا أضاف ذلك إلى علمه، وبعضهم يُفرِّق بين الإجماع وبين الاتفاق كما هو اصطلاح الوزير ابن هبيرة في (الإفصاح)، ينقل الإجماع على أنه قول العلماء، والاتفاق على أنه اتفاق الأئمة الأربعة.

ولا شك أن الإجماع شأنه عظيم، ومخالفته مشاقة، فلا تجوز مخالفته، وهو أحد الأصول التي يعتمد عليها أهل العلم في تقرير المسائل العلمية، بل بعضهم يبالغ فيه ويجعله مقدمًا على النصوص؛ لأنه لا يحتمل النسخ ولا التأويل بخلاف النصوص، وهذه مبالغة، لكن يبقى أن الإجماع له هيبة لا تجوز مخالفته، على أن كثيرًا ممن ينقل الإجماع قد يتساهل في نقل الإجماع، فقد ينقل الإجماع في مسألة فيها خلاف، وقد يكون الخلاف معروفًا، وقد يكون معروفًا لديه ويَذكر المخالف، كالإمام النووي-رحمه الله- يذكر الإجماع وينقل -أحيانًا بعد صفحتين أو ثلاث- في موضع آخر الخلاف، وأحيانا يَنقل الإجماع ويَخفى عليه المخالف، فمثلًا ينقل الإجماع على أن صلاة الكسوف سُنة مع قول أبي عوانة في صحيحه (باب وجوب صلاة الكسوف)، إذا تُصوِّر منه أن يغفل عن (مستخرج أبي عوانة)، فإنه لا يُتصوَّر من مثل النووي أن يغفل عن (صحيح البخاري) حينما نقل الإجماع على أن عيادة المريض سُنة، والإمام البخاري يقول: (باب وجوب عيادة المريض)، ولاشك أن كثيرًا من الإجماعات التي يذكرها مثل النووي، وابن قدامة، وابن المنذر، وابن عبد البر، وابن حزم وغيرهم من الأئمة، يوجد فيها المخالف؛ لأن العلماء والمجتهدين تفرقوا في الأمصار بعد عصر الصحابة فَحصْر أقوالهم صعب، فيحتاج إلى استقراء تام، ولذا يُقرر بعض العلماء أنه لا إجماع بعد الصحابة، ولوجود مثل هذه الخروم في هذه الإجماعات، قال الشوكاني: (ودعاوى الإجماع التي يدَّعِيها بعض أهل العلم تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع)؛ لأنه وُجد خروم لكثير من الإجماعات التي ذكرها بعض من ينقل الإجماع، ولا شك أن نقل الإجماع يُوجِد هيبةً في نفس طالب العلم ويقف عنده حتى يقف على مخالف، فمثل هذه الإجماعات لا شك أنها على أقل الأحوال قول السواد الأعظم وقول عامة أهل العلم، وإن وجد المخالف فإنه حينئذٍ لايؤثَّم من يتبعه، لا سيما إذا كان من الأئمة الذين تبرأ الذمة بتقليدهم، وله دليل شرعي معتبر.

يبقى التنصيص على مسألة مهمة، وهي أنَّ الإجماع عند جماهير أهل العلم قول جميع المجتهدين، والإمام الطبري عُرف عنه أنه يرى أن الإجماع قول الأكثر، ولذا تجده في تفسيره يسوق قراءة مثلًا، أوشيئًا مما يختلف فيه أهل العلم، فيذكر قول الأكثر ثم يردفه بقول المخالف، ثم يقول بعد ذلك: (والصواب في ذلك عندنا القول الأول لإجماع القَرَأة على ذلك)، وقد ذَكَر الخلاف، مما يدل على أن الإجماع عنده قول الأكثر وهذا منصوص عليه، وتداوله أهل العلم عنه في كتب الأصول، فلا يُستدرك بمثل هذا.