أخذ الراتب على تدريس العلم

السؤال
هل يدخل في مسألة حكم المُحدِّث الذي يأخذ أَجرًا على تحديثه مَن يقبض راتبًا مقابل تدريسه العلم، سواء كان ذلك في المدارس والجامعات والمعاهد، أو كان خارج تلك الدراسات النظامية، وهل القائم على أمور بعض الصِّغَار من ناحية تحفيظ القرآن والسنة وعلومها، وتربيتهم على المنهج الصحيح، يدخل في تلك المسألة إن تقاضى راتبًا على هذا العمل؟ وهل يُعدُّ هذا من خوارم المروءة أو قادحًا في المرء؟
الجواب

أولًا: المسألة التي اعتبرها السائل أصلًا: وهي أخذ الأُجْرَة على التحديث مختلفٌ فيها بين أهل العلم، فالإمام أحمد، وأبو حاتم الرازي، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بـابن راهويه، منعوا أخذَ الأجرة، ولم يأخذوا عمَّن يأخذ الأجرة من الشيوخ، ومنعوا من الأخذ عمَّن يأخذ الأجرةَ على التحديث، ومعهم على ذلك جمع من أهل العلم، ولعل مستندهم في ذلك حديث عُبَادة بن الصامت –رضي الله عنه- عند أبي داود وابن ماجه قال: "علَّمْتُ ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلي رجلٌ منهم قوسًا، فقلتُ: ليستْ بمال وأَرمي عنها في سبيل الله -عز وجل-، لأتين رسول الله فلأسألنه، فأتيتُه، فقلتُ: يا رسول الله، رجل أهدى إلي قوسًا ممن كنتُ أعلمه الكتاب والقرآن، وليستْ بمال وأَرمي عنها في سبيل الله؟ قال: «إن كنتَ تحب أن تُطوَّق طوقًا من نار فاقبلها»" الحديث مخرج عند أبي داود [3416]، وابن ماجه [2157]، والحاكم وصححه [2277]، وتَعَقَّبَه الحافظ الذهبيّ بأن في إسناده المغيرة بن زياد وهو ضعيف جدًّا، تَرَكَهُ ابنُ حِبَّان وغيرُه، وفي (التقريب) قال: (مجهول).

ومن حيث النظر أن مَن أخذ الأجرة قد لا يُؤْمَن على الحديث، فقد وُجِد من يَتَزَيَّد ويروي ما ليس من روايته من أجل الأجرة، لكن الأكثر جوَّزوا أخذ الأجرة على التحديث، قالوا: هو شبيه أجرة مُعَلِّم القرآن، وجاء في القرآن قوله –عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي سعيد –رضي الله عنه-: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» [البخاري: 5737] وهو في الصحيح.

والمسألة مفترضة في الثقة ممن يُرْوى عنه، فلا يُتصور من مُحَدِّث ثقة يُحدِّث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه يَتَزَيّد من أجل الأجرة، فإذا افترضنا المسألة في مُحدِّث ثِقة، واستحضرنا حديث أبي سعيد –رضي الله عنه- في القرآن، والقرآن أعظم كما يقول أهل العلم، ساغ جواز أخذ الأجرة على التحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وأَخَذَ الأجرة كثيرٌ من المحدِّثين كأبي نُعيم الفضل بن دُكَيْن وجمع من أهل العلم.

وعلى كل حال المسألة خلافية، والمُتَّجه الجواز، وحديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- لا يقوى لمعارضة حديث أبي سعيد –رضي الله عنه-، ولكن مَن تَوَرَّع عن أخذ الأجرة وعَلَّم مجانًا لله –جل وعلا- لا شك أن هذا أكمل.

وقال بعضهم: إن أخذ الأجرة يقدح في مروءة الآخذ، ولا شك أن مَن تفرَّغ للتعليم، سواء كان لتعليم القرآن أو لتعليم السُّنة، أو لغيرها من العلوم الشرعية، وهو يحتاج إلى الإنفاق على نفسه ومَن تحت يده، فإنه لا مانع من أن يأخذ الأجرة، والدليل صريح وواضح في حديث أبي سعيد –رضي الله عنه-، وكونه يقدح في مروءة الآخذ لا شك أن الأكمل والأولى والأحوط ألَّا يأخذ، وهو أوفر له أجرًا عند الله –جل وعلا-.

وعلى هذا الذين يأخذون الأجرة من المعلمين سواء كان في الدراسات النظامية –كما يقول السائل- أو غيرها، أو حتى من يقوم على تعليم وتربية النشء كل هذا لا بأس به -إن شاء الله تعالى-، لا سيما إذا كان من بيت المال، فالمسألة في ذلك أوسع كما هو الحاصل، وكان بعض مَن يأخذ الأجرة يُشارط الأفراد، فإذا جاء شخص يروي عنه الحديث قال له: كلُّ حديث بكذا، أو كلُّ ورقة بكذا. وبعضهم يتورع عن أخذ الأجرة على تعليم العلم الشرعي كالقرآن والحديث وغيرهما، ولا يرى بأسًا أن يأخذ على النحو والعربية والأدب وغير ذلك، وهذا معروف في صفوف المعلمين.

والحافظ العراقي في (ألفيته) يقول:

وَمَـن رَوَى بأُجْـرَةٍ لَـمْ يَقْبَلِ (إسْحَاقُ) و(الرَّازِيُّ) و(ابْنُ حَنْبَلِ)

(إسْحَاقُ) ابن راهويه، و(الرَّازِيُّ) أبو حاتم، و(ابْنُ حَنْبَلِ) الإمام أحمد

وَهْـوَ شَـبيْهُ أُجْـرَةِ القُـرْآنِ يَخْـرِمُ مِـنْ مُـرُوْءَةِ الإنسَـانِ

لَكِـنْ (أبُوْ نُعَيْـمٍ الفَضْلُ) أَخَذْ وَغَيْـرُهُ تـَرَخُّصَـًا، فإنْ نَبَــذْ

شُغْلاً بِهِ – الكَسْبَ أجِزْ إرْفَاقَا أفْتَى بِهِ الشَّـيْخُ (أبُوْ إسْــحَاقا)

أبو نُعيم (الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) أخذ أجرةً ممن يروي لهم الحديث.

(فإنْ نَبَــذْ): أي: ترك أشغاله وأعماله وتفرَّغ.

(أفْتَى بِهِ الشَّـيْخُ (أبُوْ إسْــحَاقا)): أي: الإسفراييني.

وعلى كل حال المسألة مسألة وَرَعٍ، إن تورع الإنسان وتفرَّغ لتعليم العلم كان أجره عند الله –جل وعلا-، وإن أخذ الأجرة لانقطاعه للتعليم ليكون مصدرَ كسبٍ له ولأولاده ليتفرغ ويُعان بذلك على التفرغ فلا بأس -إن شاء الله تعالى-.