كتاب الرجعة من سبل السلام (3)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
قال شارح بلوغ المرام- رحمه الله تعالى- في باب الإيلاء والظهار والكفارة:
"الحديث الخامس: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَتَى النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إنِّي وَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ». رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ إرْسَالَهُ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فِيهِ: «كَفِّرْ، وَلَا تَعُدْ»."
أنت تعيده بحروفه.
طالب: هذا الموجود عندي يا شيخ.
غلط، الأصل ما فيه متن، لكن لو كان المتن الشرح مشروحًا بالفعل، شرحًا تحليليًّا، وأوجد المتن من أجل أن يحفظ طالب العلم، الآن المتن بحروفه مذكور في الشرح، ثم يُقحم مرة ثانية، طريقة مملة حقيقة. يعني عندك مثل الحديث الذي يلي الحديث الثاني الحديث السادس عن سلمة بن صخر، بدأ الشرح مباشرة: هُوَ الْبَيَاضِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، يعني يُدخل المتن من أجل أن يُميز عن الشرح، لكن هو متميز بنفسه الحديث الخامس، لذلك..
طالب: نتجاوزه يا شيخ.
نعم، قل: هذا من باب الظهار مباشرة.
"هَذَا مِنْ بَابِ الظِّهَارِ، وَالْحَدِيثُ لَا يَضُرُّ إرْسَالُهُ كَمَا كَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ إتْيَانَهُ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ وَطَرِيقٍ مَوْصُولَةٍ لَا يَكُونُ عِلَّةً، بَلْ يَزِيدُهُ قُوَّةً."
هذا ما جرى عليه المتأخرون في مسألة تعارض الوصل والإرسال، أنَّ الحكم لمن وصل، وأنَّ من وصل معه زيادة علم خفيت على من أرسل، فالحكم له، والمرسل يدعمه ويقويه، يتقوى به، لكن ليست هذه طريقة المتقدمين من الحكم المطَّرِد في مثل هذه المسائل، بل قد تحكم قرائن بخلاف ما قال، تُرجِّح القرآن خلاف ما قال، والحكم حينئذٍ للإرسال، ويكون الموصول معلًّا بالطريق المرسل، يكون علة الإرسال فيها، وقد يكون الحكم لمن وصل، كما قرر الشارح هنا؛ وعلى كل حال هو يراها طريقة مُطَّرِدة، الحكم مُطِّرِد يُحكم لمن وصل باستمرار، والمرسل يزيده قوة.
"وَالظِّهَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَأُخِذَ اسْمُهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَكَنَّوْا بِالظَّهْرِ عَمَّا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ وَأَضَافُوهُ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُحَرَّمَاتِ".
نعم؛ لأنَّ أعظم النساء تحريمًا على ولدها، وهذا الظهار إذا قال الزوج لزوجته عليِّه كظهر أمه، لزمه ما ذكره الله- جلَّ وعلا- في سورة المجادلة، لكن إذا قالت المرأة: هي عليه كظهر أمها، أو كظهر أبيها، يعني الظهار من المرأة، الظهار من الرجل منصوص عليه من القرآن ولا إشكال فيه، لكن المرأة إذا ظاهرت من زوجها يقول أهل العلم: أنَّ حكمه حكم اليمين؛ لأنَّها حرَّمت ما أحلَّ الله عليها، فينطبق عليها ما جاء في سورة التحريم، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة التحريم:2].
"وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الظِّهَارِ وَإِثْمِ فَاعِلِهِ".
لأنَّه زور، منكر.
"كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [سورة المجادلة:2].
وَأَمَّا حُكْمُهُ بَعْدَ إيقَاعِهِ فَيَأْتِي، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي مَسَائِلَ:
الْأُولَى: إذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْهَا غَيْرِهِ؛ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا أَيْضًا، وَقِيلَ: يَكُونُ ظِهَارًا إذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الظَّهْرِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إذَا شَبَّهَهَا بِغَيْرِ الْأُمِّ مِنْ الْمَحَارِمِ، فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأُمِّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَوْ شَبَّهَهَا.."
قلنا: إنَّ التشبيه بالبعض لا بالكل، فإن كان هذا البعض من المتصل، مما له حكم الاتصال فحكمه حكم الكل، لو شبهها بيد أمها، أو برأس أمها، أو برجل أمها، قالوا: هذا حكمه حكم المتصل، والبعض له حكم الكل. أمَّا إذا شبهها بشيء حكمه حكم المنفصل كالشعر والظفر والسن وما أشبه ذلك فلا، إذا شبهها بغير أمه من المحرمات، أمَّا المحرمات المؤبد تحريمها كالأخت والعمة والخالة وما أشبه ذلك فهذا أيضًا القول به أنَّه ظهار قوي، وإذا شبهها بمن تحريمها غير مؤبد فالخلاف أيضًا قوي.
شخص قال لزوجته: هي حرام عليه كحرمة مكة على الكلاب، ما الحكم؟
لو قال شخص لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر فلانة، يعني إحدى زوجاته، يؤثر أم ما يؤثر؟
طالب: ما يؤثر.
ما يؤثر، الآن هي عليه حرام عليه كحرمة مكة على الكلاب، مكة حرِّمت على الكلاب أم ما حرِّمت؟ ما حرِّمت على الكلاب، فلا أثر له، لكن يظهر من خلال السياق، أو من خلال المشكلة أنَّه يريد التحريم، تحريم ما أحلَّ الله له، مع التشبيه بما لا يقتضي الشبه، فلو كفَّر بكفارة يمين خرج من العهدة.
"وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمٍ مِنْ الرَّضَاعِ، وَدَلِيلُهُمْ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ الثابت، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَارِمِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأُمِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: إنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشَبَّهُ بِهِ مُؤَبَّدَ التَّحْرِيمِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ: حَتَّى من الْبَهِيمَةِ".
حتى البهيمة محرمة تحريم مؤبد.
"وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْأُمِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ إلْحَاقِ غَيْرِهَا فَبِالْقِيَاسِ وَمُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَنْتَهِضُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ."
القياس معتبر عند جماهير أهل العلم، فيثبت به الحكم.
"الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَنْعَقِدُ الظِّهَارُ مِنْ الْكَافِرِ، فَقِيلَ: نَعَمْ؛ لِعُمُومِ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِهِ الْكَفَّارَةَ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ. وَمَنْ قَالَ يَنْعَقِدُ مِنْهُ قَالَ: يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ لَا بِالصَّوْمِ؛ لِتَعَذُّرِهِ فِي حَقِّهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِطْعَامَ إذَا فُعِلَا لِأَجْلِ الْكَفَّارَةِ كَانَا قُرْبَةً، وَلَا قُرْبَةَ لِلكَافِرٍ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ، فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [سورة المجادلة:3] لَا يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَةَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، ولِلِاتِّفَاقِ فِي الْإِيلَاءِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ النِّسَاءِ، وَقِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأَمَةِ لِعُمُومِ لَفْظِ النِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقِيلَ: لَا تَجِبُ إلَّا نِصْفُ الْكَفَّارَةِ، فَكَأَنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى الطَّلَاقِ عِنْدَهُ."
لكن إن كان التكفير بالعتق، فالعتق لا يتجزّأ، يلزم رقبة كاملة، وإن كان التكفير بغيره فعلى النصف.
"الْخَامِسَةُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [سورة المجادلة:3]، فَلَوْ وَطِئَ لَمْ يَسْقُطْ التَّكْفِيرُ، وَلَا يَتَضَاعَفْ؛ لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ».
قَالَ الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْت عَشَرَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَقَالُوا: "كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ"، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِلظِّهَارِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ، وَالثَّانِيَةُ لِلْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ.."
لكن إذا ظاهر أكثر من مرة، كرر الظهار أكثر من مرة، فإن كان قبل التكفير عن الظهار الأول فكفارة واحدة تتداخل، وإن كان بعده فتتعدد الكفارات.
"وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ وَقْتُهَا، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَدْ فَاتَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يُسْقِطُ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْمُقَدِّمَاتِ".
يعني ما قبل الجماع من تقبيل ولمس، وما أشبه ذلك.
"فَقِيلَ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسِيسِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَنْ يَحْرُمُ عليه فِي حَقِّهَا الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَعَنْ الْأَقَلِّ: لَا تَحْرُمُ الْمُقَدِّمَاتُ؛ لِأَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ الْوَطْءُ وَحْدَهُ، فَلَا يَشْمَلُ الْمُقَدِّمَاتِ إلَّا مَجَازًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ."
إذا منع الجماع فهل يُمنع وسائله، أو لا؟
فنجد الشارح في بعض الصور يمنع الوسائل، المقدمات، وفي بعضها لا يمنع، فمنع المحرمة والمحرم من الجماع مع مقدماته، ومنع وطء الحائض وقت الحيض لا يقتضي منع المقدمات؛ «كان يأمرني أن أئتزر فيباشرني وأنا حائض»، فهل يُلحق المُظَاهِر بالمحرم، أو تلحق المظاهر منها بالحائض؟
طالب: بالمحرم يا شيخ، أحسن الله إليك.
وهل المنع من المقدمات لذاته، أو لأنَّه يجر إلى المسيس المنصوص عليه؟
طالب: للأمرين يا شيخ.
المسُّ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [سورة المجادلة:3]، إذا قلنا: المس يُراد به مطلقه فيشمل اللمس باليد مثلًا، أو نقول: المس المسيس هو الجماع فقط؟
وعلى كل حال المسألة محتملة، لكن لا شك أنَّ الوسائل إذا كانت تؤدي إلى غايات فلا بد من منعها، لا بد من منعها.
قد يقول قائل: إنَّ مباشرة الحائض قد تجر الزوج إلى أن يقع في المحظور، ومع ذلك أجيزت هذه المقدمات، وإباحة مثل هذه المقدمات بالنسبة للحائض؛ لأنَّ أمرها ليس بيدها، وليس بيده هو، وقد يطول أمدها، فيضطر إلى أشياء محرمة، فأُبيح له مثل هذا مع اجتناب موضع الأذى، بخلاف مثل هذه الأمور التي يُمكن أن يتخلص منها بعتق مثلًا في أسرع وقت، وإن كان لا يستطيع العتق فينتقل إلى الصيام، إن كان في قدرته الصبر لمدة شهرين متتابعين، وإن لم يكن بوسعه وقدرته الصبر هذه المدة فيعدل إلى الإطعام. وأمَّا بالنسبة للحائض فلا مفر من أن ينتظر المدة كاملة.
"الحديث السادس: وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَخِفْت أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي، فَظَاهَرْت مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لِي شَيْءٌ مِنْهَا لَيْلَةً فَوَقَعْت عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «حَرِّرْ رَقَبَةً»، فَقُلْت: مَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي. قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ». قُلْت: وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: «أَطْعِمْ عَرَقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: هُوَ الْبَيَاضِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، كَانَ أَحَدَ الْبَكَّائِينَ، رَوَى عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ يَعْنِي هَذَا الَّذِي فِي الظِّهَارِ.
قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَخِفْت أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي. وَفِي الْإِرْشَادِ قَالَ: إنِّي كُنْت امْرَأً أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي فَظَاهَرْت مِنْهَا فَانْكَشَفَ لِي شَيْءٌ مِنْهَا لَيْلَةً فَوَقَعْت عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «حَرِّرْ رَقَبَةً» فَقُلْت: مَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي، قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قُلْت: وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ، قَالَ: «أَطْعِمْ عَرَقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِالِانْقِطَاعِ بَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَلَمَةَ؛ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ سَلَمَة، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ تَرْتِيبِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَالتَّرْتِيبُ إجْمَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا أُطْلِقَتْ الرَّقَبَةُ فِي الْآيَةِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَلَمْ تُقَيَّدْ بِالْإِيمَانِ كَمَا قُيِّدَتْ بِهِ فِي آيَةِ الْقَتْلِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا إلَى عَدَمِ التَّقْيِيدِ، وَأَنَّهَا تُجْزِئُ رَقَبَةٌ ذِمِّيَّةٌ، وَقَالُوا: لَا تُقَيَّدُ بِمَا فِي آيَةِ الْقَتْلِ؛ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ".
لكن الجمهور يرون التقييد في مثل هذه السورة للاتحاد في الحكم، وإن اختلف السبب.
"وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ".
لأنَّه حنفي، يؤيد مذهب الحنفية.
"فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ إلَى الْمَوْتِ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ إدْخَالَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي حَيَاةِ الْحُرِّيَّةِ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ مَوْتِ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّ الرِّقَّ يَقْتَضِي سَلْبَ التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَمْلُوكِ، فَأَشْبَهَ الْمَوْتَ الَّذِي يَقْتَضِي سَلْبَ التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَيِّتِ، فَكَانَ فِي إعْتَاقِهِ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ فَأَشْبَهَ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يَقْتَضِي إثْبَاتَ التَّصَرُّفِ لِلْحَيِّ.
وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ، فَقَالُوا: تُقَيَّدُ آيَةُ الظِّهَارِ كَمَا قُيِّدَتْ آيَةُ الْقَتْلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ، قَالُوا: وَقَدْ أَيَّدَتْ ذَلِكَ السُّنَّةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّائِلُ يَسْتَفْتِيهِ فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، سَأَلَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَارِيَةَ: «أَيْنَ اللَّهُ،» فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: فَسُؤَالُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا عَنْ الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ سُؤَالِهِ عَنْ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ وَسَبَبِهَا دَالٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِيمَانِ فِي كُلِّ رَقَبَةٍ تُعْتَقُ عَنْ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، كَمَا قَدْ تَكَرَّرَ."
وهنا لا يُدرى هل هذه الكفارة عن قتل، أو عن وطء في رمضان، أو عن ظهار، لا يُدرى عنها، أو عن يمين، فلمَّا لم يستفصل دلَّ على أنَّ جميع الكفارات بهذه المنزلة.
طالب: ..........
نعم، لكن مثل هذا التكفير عن هذا الذنب.
طالب: .........
نعم.
طالب: .........
لا لا، أنا أقول: لكن المقصود به؛ لأنَّه صفعها، فيه فرق بين كونها مؤمنة وغير مؤمنة، إنَّ هذا قصاص، أو عقوبة له لهذه الصفعة، يعني هل يتصور أنَّه صفع هذه ولا يعتقها؛ لأنَّها غير مؤمنة، ويبحث عن رقبة مؤمنة يعتقها غير هذه التي صُفِعَت؟
لا، هنا لا يتم الاستدلال.
"قُلْت: الشَّافِعِيُّ قَائِلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنْ قَالَ بِهَا مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّقْيِيدِ هُوَ السُّنَّةُ لَا الْكِتَابُ؛ لِأَنَّهُمْ قَرَّرُوا فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ".
لا يلزم، لا يلزم، الذي قرروه أنَّه لا يُحمل المطلق على المقيد إلا مع اتحاد الحكم. وأمَّا اختلاف السبب فلا يُنظر إليه.
"وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد مَا لَفْظُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً.. الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ."
يعني هو نذر أن يعتق رقبة مؤمنة، إن نذر ذلك فيتعين أن تكون رقبة مؤمنة، لكن إن نذر أن يعتق رقبة، وأطلق، فهل يلزمه أن تكون مؤمنة أو أي رقبة؟
نذر أن يعتق رقبة.
طالب: ..........
وهل يُسمَّى تحرير الرقاب عتقًا؟
طالب: .......
عتق شرعي أم ليس بعتق؟
طالب: .......
ما المقصود من العتق؟
طالب: .........
تحرير الرقبة؛ ليتمكن من العبودية التي خُلِقَ من أجلها، هذا هو العتق، والكافر ليس بهذه المنزلة.
"قَالَ عِزُّ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْإِيمَانِ إلَّا لِأَنَّ السَّائِلَ قَالَ: عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ.
الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ بِأَيِّ عَيْبٍ، فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَدَاوُد: تُجْزِئُ الْمَعِيبَةُ؛ لِتَنَاوُلِ اسْمِ الرَّقَبَةِ لَهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْمَعِيبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا بِجَامِعِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تعالى."
أمَّا المعيبة عيبًا يمنعها من التصرف فيما ينفعها فلا شك أنَّه مؤثر، يعني يُعتق رقبة مُقْعَدة لا تستطيع الكسب لها ولمن تحت يدها فيما لو رزقت فيما بعد سواء كانت ذكرًا، تزوج وأنجب وما أشبه ذلك، لا يستطيع الإنفاق على نفسه فضلًا عن غيره، فمثل هذه لا تُجزئ، بل تبقى عنده في الرق؛ لينفق عليها، للإحسان إليها. وأمَّا إذا كانت بحيث تستطيع التصرف وإصلاح أمرها، وإصلاح ما تلي فالعيب لا يضرها.
"وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ كَالْأَعْوَرِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ نَقَصَتْ مَنَافِعُهُ لَمْ تَجُزْ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُنْقِصُهَا نُقْصَانًا ظَاهِرًا كَالْأَقْطَعِ وَالْأَعْمَى، إذْ الْعِتْقُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ نَقَصَتْ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفَاصِيلُ فِي الْعَيْبِ يَطُولُ تَعْدَادُهَا وَيَعِزُّ قِيَامُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا."
قف عليها. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.