التعليق على تفسير القرطبي - سورة القصص (07)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ.
قُلْتُ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَ جُلُّ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَقَدْ تقدم الكلام ذَلِكَ فِي" بَرَاءَةٌ"، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: قَوْلُهُ: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إِشَارَةٌ إِلَى الْعَبَّاسِ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ. وَقِيلَ: مَعْنَى " مَنْ أَحْبَبْتَ" أَيْ مَنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَهْتَدِيَ."
المراد بالهداية هنا هداية التوفيق والقبول، بخلاف هداية الدلالة والإرشاد، فإنه ليهدي إلى صراط مستقيم كما قال الله- جل وعلا-: { إنك لتهتدي إلى صراط مستقيم} هداية دلالة وإرشاد، أما هداية التوفيق والقبول فلا يملكها إلا الله -جل وعلا-، ولذا يأتي النبي وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، وأقرب الناس إلى الأنبياء كأولادهم وأزواجهم لم يستطيعوا هدايتهم ممن لم يرد الله هدايته، فالرسول لا يملك له من أمره شيئًا، خلافًا لبعض من كتب من المعاصرين مما يصف النبي الذي لم يستجب له أحد بالفشل؛ لأنه لم يستطع، فوصف نوحًا -عليه السلام- بأنه فاشل في دعوته؛ إذ لم يهتدِ ولده، ولم تهتدِ زوجته، حتى نالوا من جناب النبي –عليه الصلاة والسلام-، حتى نالوا من جناب النبي –عليه الصلاة والسلام- وقالوا بأنه فشل في دعوته بمكة والطائف، ونجح في المدينة.
فهذه النصوص، هذا النص الذي بأيدينا {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}، فالهداية بيد الله، وما على الرسول إلا البلاغ، تنتهي مهمته عند هذا الحد، وأما هداية التوفيق والقبول فبيد الله –جل وعلا-، ولا شك أن هذا القول ضلال ونيل من شأن الأنبياء. وقدح في الربوبية –نسأل الله السلامة والعافية-.
الله -جل وعلا- وكَل إلي الأنبياء البلاغ فقط، وبذل الأسباب، وهذه وظيفتهم، ووظيفة أتباعهم إلى يوم القيامة، عليهم أن يبذلوا الأسباب، والنتائج بيد الله –جل وعلا-، أمرنا بالدعوة، أمرنا بإنكار المنكر، لكن هل يلزم من أمرنا ودعوتنا أن يتغير الناس؟ لا، ما يلزم، والأجور رُتِّبت على بذل الأسباب، الأجور رُتِّبت على بذل الأسباب، وأما النتائج فبيد الله– جل وعلا-، والله المستعان.
"وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ الْوَحْيَ يُلْقَى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَإِنَّهُ سَمِعَ جِبْرِيلَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا} هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَارِثُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ".
الحارث تكتب بدون ألف عند المتقدمين، تكتب بدون ألف، بصورة الحرث، وهي الحارث، وقد يكتبون إسماعيل، إبراهيم، وغيرهما من الأسماء بدون ألف، وتنطق كما هي بالألف.
""قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَارِثُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ حَقٌّ، وَلَكِنْ يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْهُدَى مَعَكَ، وَنُؤْمِنَ بِكَ؛ مَخَافَةُ أَنْ يَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا- يَعْنِي مَكَّةَ-؛ لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وَكَانَ هَذَا مِنْ تَعَلُّلَاتِهِمْ".
وما أشبه الليلة بالبارحة، الآن في الوقت الحاضر لما تكالبت الأمم على هذه الأمة صار الناس يخافون من سمة الالتزام، ويتنكبون عنها؛ خشية من أن ينسبوا إلى التدين الذي هو في عرف الأعداء التطرف والإرهاب، وهذا في عرف الأعداء، وإلا فهو في أصله التدين، فهم يريدون القضاء على الإسلام بأي وسيلة، فلا يقضون عليه حتى يرموا أصحابه بأبشع الأوصاف، كما رُمي النبي-عليه الصلاة والسلام- بمثل هذه الأوصاف.
فتجد بعض الناس من عامة الناس من الجُهال إذا رأى على ولده آثار التدين نصحه بأن يخفف منها، رأى الثوب قصير قال: زده يا ولدي قليلًا، رأي اللحية طويلة قال: خذ منها شيئًا لا تتهم بسببه، والله- جل وعلا- قال في حق قريش: {أولم نمكن لهم حرم آمنًا} أنه إذا كانت خشيتكم من الأعداء فالله –جل وعلا – قد أمنكم، وهذا المسلم في أمن والآيات التي بعدها {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} هؤلاء من الذين أهلكهم الله -جل وعلا- وهم في أوج القوى والعز على حسب زعمهم، ومع ذلك أهلكهم الله -جل وعلا-. فالعبرة والمرد إلى الدين، فالأمن بالالتزام، والخوف بضده {وليبدلنهم من بعد خوفهن أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا} هذا هو سبب الأمن {الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن}، فالأمن مقترن بالدين بأصوله وفروعه.
"وَكَانَ هَذَا مِنْ تَعَلُّلَاتِهِمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اعْتَلَّ بِهِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أَيْ ذَا أَمْنٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ حَيْثُ كَانُوا بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُمْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَمَنَعَ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ، فَلَا يَخَافُونَ أَنْ تَسْتَحِلَّ الْعَرَبُ حُرْمَةً فِي قِتَالِهِمْ".
إبراهيم –عليه السلام- دعا لهذا البلد أن يجعله الله آمنًا، دعا له قبل أن يكون بلدًا، ثم دعا له بعد أن صار بلدًا، دعا له قبل أن يكون بلدًا { رب اجعل هذا بلدا آمنًا} أي اجعل هذا المكان الخالي بلدًا آمنًا، ثم بعد ذلك لما صار {اجعل هذا البلد آمنا}، فاستجاب الله دعاءه، وأمن الناس فيه.
"فَلَا يَخَافُونَ أَنْ تَسْتَحِلَّ الْعَرَبُ حُرْمَةً فِي قِتَالِهِمْ. وَالتَّخَطُّفُ الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ يَقُولُ: كُنْتُمْ آمِنِينَ فِي حَرَمِي، تَأْكُلُونَ رِزْقِي، وَتَعْبُدُونَ غَيْرِي، أَفَتَخَافُونَ إِذَا عَبَدْتُمُونِي وَآمَنْتُمْ بِي. {يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ يُجْمَعُ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ أَرْضٍ وَبَلَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. يُقَالُ: جَبَى الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعَهُ. وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ:" تُجْبَى" بِالتَّاءِ؛ لِأَجْلِ الثَّمَرَاتِ. والياقوت بِالْيَاءِ؛ لِقَوْلِهِ: " كُلِّ شَيْءٍ" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ"
حال حال؛ ليعني فصل بين الاسم.
"وَبَيْنَ فِعْلِهِ حَائِلٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ الثَّمَرَاتِ جَمْعٌ، وَلَيْسَ بتأنيث حقيقي."
نعم، متى يجب تأنيث الفعل للفاعل ومثله نائبه إذا كان الفعل حقيقيًّا لم يفصل بينه وبين فعله بفاصل يجب تأنيثه، أو كان الفعل ضميرًا يعود إلى مؤنث، ويستوي في ذلك الحقيقي وغير الحقيقي، أما إذا كان الفاعل غير حقيقي كما هنا، أو حصل الفصل بينه وبين فعله كما هنا أيضًا يجوز التذكير والتأنيث.
"{رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. {رِزْقًا} نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى؛ لأن معنى" تجبى" ترزق. وقرئ: " تجني" بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كَقَوْلِكَ يَجْنِي إِلَى فِيهِ، وَيُجْنَى إِلَى الْخَافَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها} بَيَّنَ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَوْ آمَنَ لَقَاتَلَتْهُ الْعَرَبُ أَنَّ الْخَوْفَ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ أَكْثَرُ، فَكَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا ثُمَّ حَلَّ بهم البوار، والبطر الطُّغْيَانُ بِالنِّعْمَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. " مَعِيشَتَها" أَيْ فِي مَعِيشَتِهَا، فَلَمَّا حُذِفَ "فِي" تَعَدَّى الْفِعْلُ، قَالَهُ الْمَازِنِيُّ. قال الزَّجَّاجُ: كَقَوْلِهِ:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا". الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. قَالَ كَمَا تَقُولُ: أَبَطَرْتَ مَالَكَ وَبَطِرْتَهُ."
تفسير التمييز، تفسير عند المتقدمين التمييز.
"وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُ {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، وَكَذَا عِنْدَهُ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} وَنَصْبُ الْمَعَارِفِ عَلَى التَّفْسِيرِ مُحَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا نَكِرَةً يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِـ"بَطِرَتْ"، وَمَعْنَى "بَطِرَتْ" جَهِلَتْ، فَالْمَعْنَى: جَهِلَتْ شُكْرَ مَعِيشَتَهَا. {فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا}".
لأن معيشتها، المعيش مضافة إلى الضمير، وهو معرفة لإضافته إلى المعرفة، والتمييز لا يأتي معرفة، كما أن الحال أيضًا لا يأتي معرفة، فلابد من تأويله بنكرة، فلابد من تأويله بنكرة ليصح أن يعرب تمييزًا أو حالًا.
" أَيْ لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ إِهْلَاكِ أَهْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ يرجع إلى الْمَسَاكِنِ أَيْ بَعْضُهَا يُسْكَنُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ:"
هنا فيه وجه شبه بين المفرد المضاف وإن كان معرفة بإضافته إلى الضمير، لكن بينه وبين النكرة وجه شبه، باعتبار أن النكرة شيء شائع في أفراده، لفظ شائع في أفراده، كالرجل رجلًا مثلًا، هذا شائع في أفراد الرجال، كما أن المفرد المضاف عام، يعم جميع الأفراد فهو من هذه الحيثية فيه مشابهة، مشابهة للنكرة، فالنكرة لغير العموم، كما أن المفرد إذا أضيف أفاد العموم.
"وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسَاكِنِ لَقَالَ: إِلَّا قَلِيلٌ؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ: الْقَوْمُ لَمْ تَضْرِبْ إِلَّا قَلِيلٌ، تَرْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ قَلِيلًا، وَإِذَا نَصَبْتَ كَانَ الْقَلِيلُ صِفَةً لِلضَّرْبِ، أَيْ لَمْ تَضْرِبْ إِلَّا ضَرْبًا قَلِيلًا، فَالْمَعْنَى إِذًا: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُونَ وَمَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَيْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا سُكُونًا قَلِيلًا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ أَوْ مَارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ} أَيْ لِمَا خلفوا بعد هلاكهم."
لأنهم لا وارث لهم، أهلكوا عن بكرة أبيهم، فلم يبق لهم وراث.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى} أَيِ القرى الكافرة. {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها} قُرِئَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا لِإِتْبَاعِ الْجَرِّ يَعْنِي مَكَّةَ، وَ {رَسُولًا} يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقِيلَ:" فِي أُمِّها" يَعْنِي فِي أعظمها {رَسُولًا} ينذرهم. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي أَوَائِلِهَا.
قُلْتُ: وَمَكَّةُ أَعْظَمُ الْقُرَى لِحُرْمَتِهَا وَأَوَّلُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، وَخُصَّتْ بِالْأَعْظَمِ؛ لِبَعْثَةِ الرَّسُولِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ تُبْعَثُ إِلَى الْأَشْرَافِ، وَهُمْ يَسْكُنُونَ الْمَدَائِنَ، وَهِيَ أُمُّ مَا حَوْلَهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آخِرِ سُورَةِ" يُوسُفَ.
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} "يَتْلُوا" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ تَالِيًا، أَيْ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. {وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى} سَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ مثل {ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، {إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ}".
{وما كنا مهلكي القرى} النون تحذف للإضافة.
نون تلي الإعراب أو تنوينا ............ مما تضيف احذف كطور سينا
لكن ألا يجوز: وما كنا مهلكين القرى بالقطع للإضافة؟ وما الفرق بين الإضافة والقطع عنها في مثل هذا السياق؟ هل هناك فرق بين أن يقال: منذرُ من يخشاها أو منذرٌ من يخشاها؟ هو من حيث الجواز يجوز الإعراب بالإضافة والقطع، والقطع عن الإضافة جائزة، والفرق بينهم إثبات النون، والفتح إذا أُثبت للنون المضاف إليه أو الجر إذا حذفت النون بالإضافة.
لكن يفرقون في مثل هذا السياق فيما إذا كان الفعل ماضيًا، يعني الحدث فيما مضى، فيُضيفون، وإذا كان الحدث فيما يستقبل يقطعون الإضافة، فإذا قال مثلاً: أنا قاتلٌ زيدًا، أو قال: أنا قاتلُ زيدٍ. والفرق بينهما أنه إذا قال: أنا قاتلٌ زيدًا ، يهدد ما قتل إلى الآن، وإذا قال: أنا قاتلُ زيد، يخبر عن نفسه، يعترف بأنه هو قاتل زيد. فإذا كان الحدث قد سبق وانقضى فالإضافة، وإذا كان الحدث لم يسبق فالقطع عن الإضافة.
وهنا {وما كنا مهلكي القرى} في الماضي أم بالمستقبل، أو ما هو أعم من ذلك؟ في الماضي والمستقبل غلب الماضي؛ للكثرة بالنسبة للمستقبل {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} هذا يشمل ما مضى وما يستقبل، لكنه في الماضي أكثر، باعتبار أن الأمم في السابق أكثر من الأمم اللاحقة.
"{إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ} أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك؛ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِعَدْلِهِ وَتَقَدُّسِهِ عَنِ الظُّلْمِ. أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ إِلَّا إِذَا اسْتَحَقُّوا الإهلاك بِظُلْمِهِمْ، وَلَا يُهْلِكُهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَلَا يَجْعَلُ عِلْمَهُ بِأَحْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ."
نعم، لا بد أن يكون السبب ظاهرًا بارزًا؛ لتتقطع الحجج، لتتقطع الحجج، فإذا فعلوا فعلاً يستحقون به العذاب، وشهدوا على أنفسهم، وشهد به عليهم غيرهم اعترفوا به يحق عليهم العذاب، أما ما في علم الله –جل وعلا– فإنه لا يؤاخذ به حتى يكون ظاهرًا للعيان، قل مثل هذا في كل ما أشكل علي كثير من المبتدعة حتى نفوه كالميزان مثلاً، المعتزلة يقولون: ما فيه ميزان؛ لأن الله-جل وعلا- يعلم أن هذا ترجح حسناته، وهذا ترجح سيئاته، وهذا يتكافأ الحسنات والسيئات، وهذا إلى آخره والله -جل وعلا- يعلم ليس بحاجة إلى ميزان، لكن الله–جل وعلا- لا يؤاخذ إلا بما يظهر، فيعترف به الخصم نفسه يعترف به الإنسان نفسه، ولا يبقي له حجة، لا يبقي له حجة، فتنقطع حججهم إذا رأوا بأنفسهم، وزنت حسناتهم، وزنت سيئاتهم فرجحت السيئة، فلا يخيل للإنسان أن يقول: ظلمني ربي، وقل مثل هذا في الأعمال التي لا تظهر للعيان، وإن كان في علم الله -جل وعلا- أنهم يعملونها مستقبلاً فلا يؤاخذهم حتى تظهر هذه الأعمال.
" وَنَزَّهَ ذَاتَهُ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ ظَالِمِينَ، كَمَا قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: { وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} فَنَصَّ فِي قَوْلِهِ" بِظُلْمٍ" عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ مِنْهُ، وأنَّ حَالَهُ فِي غِنَاهُ وَحِكْمَتَهُ مُنَافِيَةٌ لِلظُّلْمِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَرْفِ النَّفْيِ مَعَ لَامِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يَا أَهْلَ مَكَّةَ {فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها} أَيْ تَتَمَتَّعُونَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، أَوْ مُدَّةً فِي حَيَاتِكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَزُولُوا عَنْهَا أَوْ تَزُولَ عَنْكُمْ. {وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى} أَيْ أَفْضَلُ وَأَدْوَمُ، يُرِيدُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَهِيَ الْجَنَّةُ. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أَنَّ الْبَاقِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَانِي.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو" يَعْقِلُونَ" بِالْيَاءِ، الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما أُوتِيتُمْ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ {كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} فأعطى منها بعض ما أراد. {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي في النار. ونظيره قوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ، وَفِي أَبِي جَهْلٍ وَعِمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ عَلَى التَّعْمِيمِ. وقال الثَّعْلَبِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ كَافِرٍ مُتِّعَ فِي الدُّنْيَا بِالْعَافِيَةِ وَالْغِنَى وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ النَّارُ، وَفِي كُلِّ مُؤْمِنٍ صَبَرَ عَلَى بَلَاءِ الدُّنْيَا ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ وَلَهُ في الآخرة الجنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ} أَيْ يُنَادِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ} بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَكُمْ وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ. {قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هم الشياطين. {رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا} أَيْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْغَيِّ. فَقِيلَ لَهُمْ: أَغْوَيْتُمُوهُمْ؟ قَالُوا: {أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا}. يَعْنُونَ أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا كنا ضالين."
لا شك أن كل أحد يريد تكثير السواد الذي يجانسه في الوصف إلا من أوتي نعمة فمثل هذا إذا كان ممن مَنَّ الله عليه بطيب القلب تمنى أن يكون الناس مثله وإلا من طُبع قلبه على الغل والحقد لا يتمنى أن يكون الناس مثله، بل يتمنى أن تزول النعم عنه، أما من تلبس بمعصية سواء كانت الكفر أو ما دونه فكل من هؤلاء يريد أن يكون الناس مثله؛ تكثيرًا لسواده وتخفيفًا لمصيبته، ولذلك أقسم إبليس بعزة الله-جل وعلا – أن يغوي الناس أجمعين. وفي الأمثال، في أمثال الناس العادية: الموت مع الناس رحمة، والظلم في السوية عدل في الرعية، هذه من أمثالهم؛ لأنه إذا ما اشترك الناس في أمر هانت المصيبة عليهم، فهؤلاء الغواة يريدون أن يتصف الناس كلهم بالغي؛ ليكونوا مثلهم، كما أن إبليس يريد من الناس كلهم أن يكفروا؛ ليكونوا معه في الجحيم –نسأل الله العافية-، {أغوينهم كما غوينا}.
ولذا تجد دعاة الباطل، وتعجب منهم على صبرهم ودأبهم، مع علمهم أنهم على الباطل، ومع ذلك يصبرون ويتجشمون الصعاب وتقول: كيف، هذا لا يرجو ثواب الله، فكيف يصبر على مثل هذه الأمور؟ هو يريد أن يكون الناس كلهم مثله ومع الأسف أن كثيرًا من أهل الحق ممن لديه القدرة على جعل الناس مثله على اتباع الحق يتقاصر ويتقاعس عن مثل هذا، والله المستعان.
"{تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ} أَيْ تَبَرَّأَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّيَاطِينُ يَتَبَرَّءؤونَ مِمَّنْ أَطَاعَهُمْ، وَالرُّؤَسَاءُ يَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ قَبِلَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ} أَيْ لِلْكُفَّارِ {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ} أَيِ اسْتَغِيثُوا بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِتَنْصُرَكُمْ وَتَدْفَعَ عَنْكُمْ. {فَدَعَوْهُمْ} أَيِ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أَيْ فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِمْ. {وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ} قَالَ الزَّجَّاجُ: جَوَابُ" لَوْ" مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لَأَنْجَاهُمُ الْهُدَى، وَلَمَا صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا دَعَوْهُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَدُّوا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ مَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ لَمَّا بَلَّغُوكُمْ رِسَالَاتِي؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ} أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَ"الْأَنْباءُ" الْأَخْبَارُ، سَمَّى حُجَجَهُمْ أَنْبَاءً؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ يُخْبِرُونَهَا. {فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ} أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الْحُجَجِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدْحَضَ حُجَجَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" لَا يَتَساءَلُونَ" أَيْ لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ:" لَا يَتَساءَلُونَ" فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا يُجِيبُونَ بِهِ مِنْ هَوْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ، ثُمَّ يُجِيبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ: {وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يَحْمِلَ مِنْ ذنوبه شيئا، حكاه بن عِيسَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ تابَ} أَيْ مِنَ الشِّرْكِ، {وَآمَنَ} أَيْ صَدَّقَ، {وَعَمِلَ صالِحًا} أَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ {فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أَيْ مِنَ الْفَائِزِينَ بِالسَّعَادَةِ. وعسى من الله واجبة".
نعم؛ لأنها في الأصل ترجي مثل لعل، والله –جل وعلا- لا يرجو من أحد شيئًا، ولا يلتمس منه شيئًا، فهي منه واجبة كما قال ابن عباس وغيره.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ} هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم وَاخْتَارُوهُمْ لِلشَّفَاعَةِ، أَيِ الِاخْتِيَارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الشُّفَعَاءِ لَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ هُوَ جواب الوليد بن المغيرة حين قال: { لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يَعْنِي نَفْسَهُ زَعَمَ، وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنَ الطَّائِفِ."
القريتان مكة والطائف، وهذان الرجلان اللذان اقتراحا أن يكونا هم أو أحدهما هو المرسل لا محمد-عليه الصلاة والسلام- {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الوليد بن المغيرة يقترح نفسه أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف، فهذا الاقتراح الذي لاحظ له من النظر فالله -جل وعلا- هو أعلم {الله أعلم حين يجعل رسالته}، فعروة بن مسعود أسلم فيما بعد، والوليد بن المغيرة مات على كفره، نسأل الله العافية.
" وَقِيلَ: هُوَ جَوَابُ الْيَهُودِ إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الرَّسُولُ إِلَى مُحَمَّدٍ غير جبريل لآمنا به."
لأنهم يزعمون أن جبريل عدو اليهود، هو عدوهم، نسأل الله العافية.
" قال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْمَعْنَى، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيَخْتَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ لِطَاعَتِهِ."
نعم، فاختار من بني آدم، واختار من الأماكن، واختار من الأزمان.
"وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَالْمَعْنَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيَخْتَارُ مَنْ يَشَاءُ لِنُبُوَّتِهِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيَخْتَارُ الْأَنْصَارَ لِدِينِهِ.
قُلْتُ: وَفِي كِتَابِ الْبَزَّارِ مَرْفُوعًا صَحِيحًا عَنْ جَابِرٍ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً» -يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا- «فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ وَاخْتَارَ أُمَّتِي عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَاخْتَارَ لِي مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَةَ قُرُونٍ»."
الحديث الصحيح: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» بعد الثالث شك هل قال ثم الذي يلونهم مرة ثالثة أو لا، واختيار الأربعة قرون للخيرية يدل على ترجيحه للرواية التي فيها ثم الذي يلونهم مرة ثالثة.
شاهد الحديث حديث البزار مخرج؟
طالب: قال: ضعيف جدًّا، أخرجه الخطيب والبزار كما في المجمع من حديث جابر قال الهيثمي: رجاله ثقات في بعضهم خلاف. انتهى كلامه، مع أن مداره على عبدالله بن صالح وهو وإن وثقه بعضهم فقد ضعفه جماعة، روى مناكير كثيرة، منها هذا.
كاتب الليث؟ عبدالله بن صالح؟
طالب: حتى قال الذهبي في ميزانه في ترجمته: قامت القيامة عليه بهذا الخبر عن جابر ثم ذكره، ونقل عن أبي زرعة قوله: بُلى أبو صالح بخالد بن نجيح في هذا الحديث، وليس له أصل.
ولا يكون في كتاب البزار مرفوعًا صحيحًا، أما من حيث المعنى أن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين هذا ما فيه إشكال، واختار لي منهم أربعة من حيث المعنى صحيح، فالخلفاء الأربعة أفضل الأمة بعد نبيها، والقرون الأربعة الذين هم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم على خلاف في الرابع على خلاف في المراد بالقرن أيضًا هل هو مائة سنة أو سبعون سنة أو أربعون سنة؟ ابن حجر جعل نهاية خير القرون سنة مائتين وعشرين، فكأن القرن عنده كم؟
طالب: سبعون سنة.
سبعون سنة، مائتان وعشرون، إذا حذفنا العشر التي فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- يبقى مائتان وعشر، وعلى رأسها بدأت الفتنة، فتنة القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيها، وأدخل على المسلمين ما ليس من دينهم وابتلوا، ولا شك أن هذا بداية شر، وفتح باب سوء على المسلمين، كلام له وجه.
"وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ} قَالَ: مِنَ النَّعَمِ الضَّأْنُ، وَمِنَ الطَّيْرِ الْحَمَامُ. وَالْوَقْفُ التَّامُّ " وَيَخْتارُ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هَذَا وَقْفُ التَّمَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ " يَخْتارُ"؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ في موضع نصب لم يعد عليها شيء. قَالَ: وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ".
القدرية نفاة القدر الذين يزعمون أن الإنسان يخلق فعله، وله إرادة ومشيئة مستقلة عن مشيئة الله وإرادته، هذا قول القدرية الغلاة في نفاة القدر، وهم المعتزلة وفي حكمهم الشيعة من الرافضة الإمامية والزيدية كذلك، كلهم نفاة القدر.
" قَالَ النَّحَّاسُ: التَّمَامُ " وَيَخْتارُ" أَيْ وَيَخْتَارُ الرُّسُلَ. {مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أَيْ لَيْسَ يُرْسِلُ مَنِ اخْتَارُوهُ هُمْ."
يعني كما فعل الوليد بن المغيرة، لا يجاب مثل هذا الاقتراح؛ لأن الله –جل وعلا- هو الذي يختار، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، يعني ليس الأمر مردودًا إليهم، يقترحون من شاءوا كما يفعله البشر بالنسبة إذا أرادوا أن يولى عليهم أحد يقترحونه، وقد يرشحونه، وهذا بالنسبة إلى البشر لائق باعتبار أن الذي يعينه عليهم ويرأسه عليهم قد تخفى عليه بعض الأمور المتعلقة ببعض الناس فيحتاج إلى مثل هذا التنبيه، أما الله -جل وعلا- فليس بحاجة إلى مثل هذا التنبيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:" وَيَخْتارُ" هَذَا الْوَقْفُ التَّامُّ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يَخْتارُ"، وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَيَخْتَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِيهِ الْخِيَرَةُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِإِطْبَاقِهِمْ [عَلَى] الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ" وَيَخْتارُ". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَ"مَا" مِنْ قَوْلِهِ: {مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نَفْيٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أن يكون للعبد فيها شيء سِوَى اكْتِسَابِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: " مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: "وَيَخْتارُ"؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَخْتَارُ مَا يَشَاءُ، وَلِهَذَا لَمْ يدخل العاطف، والمعنى: إن الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الْحِكْمَةِ فِيهَا، أَيْ لَيْسَ لِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ" مَا" مَنْصُوبَةٌ بِ" يَخْتارُ". وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ تَكُونَ" مَا" نَافِيةً، لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى أنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيمَا مَضَى، وَهِيَ لَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ كَلَامٌ بِنَفْيٍ.
قَالَ الْمَهْدِويُّ: وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ" مَا" تَنْفِي الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ كليس وَلِذَلِكَ عَمِلَتْ عَمَلَهَا، وَلِأَنَّ الْآيَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَعَلَى مَا هُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي النَّصِّ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: وَيَخْتَارُ لِوِلَايَتِهِ الْخِيَرَةَ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَخْتَارُونَ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ فَيَجْعَلُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ} لِلْهِدَايَةِ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فِي عِلْمِهِ، كَمَا اخْتَارَ الْمُشْرِكُونَ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، فَـ " مَا" عَلَى هَذَا لِمَنْ يَعْقِلُ وهي بمعنى الذي و" الْخِيَرَةُ" رفع بالابتداء، و" لَهُمُ" الخبر، والجملة خبر " كانَ"، وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف؛ إذ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَائِدٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَانَ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفٌ فَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ."
ما في قوله: {وربك يخلق ما يشاء} هذه أعم من أن تكون للعاقل وغير العاقل، بل غلب فيها غير العقلاء؛ لأنهم أكثر من العقلاء، فالله –جل وعلا- يخلق ما يشاء من العقلاء وغير العقلاء، ولما كان غير العقلاء أكثر من العقلاء غلبوا، فجاء السياق لغير العاقل بما، فالله يخلق من العقلاء وغيرهم ما يشاء ويختار منهم ما يشاء، كما قرر ذلك ابن القيم في مقدمة زاد المعاد، أطال في هذه المسألة وذكر أنواع ما اختاره الله -جل وعلا- من العقلاء وغيرهم.
"وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى مَا قَالَهُ الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي: و" مَا" نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ لَهُمُ الِاخْتِيَارُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا أَصْوَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}". قَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقِ:
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ ... أَرَدْتَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي وَيَقْدِرُ
إِذَا مَا يُرِدْ ذُو الْعَرْشِ أَمْرًا بِعَبْدِهِ ... يُصِبْهُ وَمَا لِلْعَبْدِ مَا يَتَخَيَّرُ
وَقَدْ يَهْلِكُ الإنسان ومن وَجْهِ حِذْرِهِ ... وَيَنْجُو بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ يَحْذَرُ "
نعم، قد يحتاط الإنسان لنفسه، ويحذر المكروه، ثم يؤتى من قبل هذا الاحتياط، من قبل هذا الاحتياط، ففي الأحداث التي حصلت بسبب غزو الكويت، احتاط الناس لأنفسهم، وأخذوا يلصقون على بيوتهم والنوافذ؛ خشية أن يأتيهم ويعتريهم ما يعتريهم من مواد سامة تقتلهم أو ما أشبه ذلك، فكم ذهب من ضحية لهذا الاحتياط، وقد وجد أسرة كاملة ميتة في غرفة، ألصقوا الملصقات على النوافذ وعلى الباب، وماتوا جميعهم، ناموا بالليل ثم وجدوا بعد العصر من الغد أموات كلهم.
فالمرء قد يهلك من وجه حذره، يعني بسبب احتياطه، وينجو بحمد الله من حيث يحذر، فقد لا يحتاط الإنسان، وقد يبرز الإنسان لمنيته، ومع ذلك يكون فيه سلامته، وقد خرج غير مبالٍ بما يلاقيه، مع إن الإنسان مأمور بالأسباب، لكن المبالغة الزائدة في الاعتماد على الأسباب هذا الإشكال، كون الإنسان يعتمد على الأسباب وإلا فالأسباب لاشك أنها نافعة، وما جعلت أسباب إلا لأنها تنفع، فالإنسان إذا مسه البرد ولبس الثياب واحتاط لذلك لا يلام، بل هذا المطلوب منه؛ لأنه لو لم يحتط بذلك لكان ملقيًا بنفسه إلى التهلكة، ومع ذلك المرد أولاً وآخرًا إلى الله -جل وعلا-، فالأسباب لا شك أن لها أثرًا بتقدير الله –جل وعلا- خلافًا للأشعرية، وأنها لا تؤثر بذاتها خلافًا للمعتزلة.
"وَقَالَ آخَرُ:
الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ
والخير أجمع فيها اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِي اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ والشؤم
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يقدر عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ الْخِيَرَةَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الفاتحة {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}.
فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الْآيَةَ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَكُلٌّ حَسَنٌ. ثُمَّ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ".
نعم الدعاء بعد السلام؛ لأن في الحديث ثم ليقل، يصلي ركعتين ثم ليقل، منهم من يقول قبل السلام باعتبار أن الدعاء يكون في العبادة نفسها كما أقر ذلك شيخ الإسلام –رحمه الله-، كل دعاء يكون قبل السلام، وكل ذكر يكون بعده، لكن هذا لا يطرد ولا ينعكس كلام شيخ الإسلام- رحمه الله- بل وجد من الأدعية ما هو بعد السلام، ووجد من الأذكار ما هو قبل السلام، فتنزل الأمور منازلها، ولذلك شيخ الإسلام يرى أن قول النبي-عليه الصلاة والسلام- لمعاذ: «إني أحبك فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك» يقول: قبل السلام؛ لأنه دعاء، والدعاء المقترن بالعبادة يكون في أثنائها، ولا مانع من أن يكون بعده؛ لأن الدبر في اللغة يطلق على الملاصق والمنفصل، يعني المتصل بالشيء والمنفصل عنه.
طالب: لو أن شخصًا دعا استخارة في السجود هل يجزئ ذلك؟
لا لا، ما يصح، يصلي ركعتين ثم ليقل، يعني بعد الركعتين.
"وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:"
طالب: الآيات التي حددها يا شيخ...
هذه المناسبة ظاهرة له، لكن مثل هذا التحديد لا يصلح إلا بنص.
"كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ من الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ. اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كَانَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا قَالَ: «اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي» وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- قال: «يَا أَنَسُ إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى مَا يَسْبِقُ قَلْبُكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ»".
نعم؛ لأنه قد يستخير الإنسان مرة، ولا يتضح له الأمر، ولا يؤمر بشيء، ثم يستخير ثانية وثالثة ورابعة إلى السابعة، أما إذا بان له الأمر من أول مرة تكفي، الحديث، حديث عائشة ماذا قال؟
طالب: قال: ضعيف أخرجه الترمذي من حديث أبي بكر وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث زنفل بن عبدالله وهو ضعيف، ولا يتابع عليه، انتهى كلامه، ووافقه النووي في الأذكار ...
والسابع الذي بعده؟
طالب: قال: ضعيف جدًّا أخرجه ابن السني من حديث أنس، وقال النووي: إسناده غريب فيه من لم أعرفه، انتهى كلامه، وفيه إبراهيم بن البراء كان يحدث بأباطيل.
يبقي حديث الصحيح والثابت.
طالب: يجوز أن نقول الدعاء بدون الصلاة يعني لضيق الوقت ....
يكون دعاءً مطلقًا، ما يكون صلاة استخارة، ما يكون استخارة، إنما يكون دعاءً مطلقًا، مثل الاستسقاء يجوز بالصلاة أو بدونها، لكنه بالصلاة أكمل.
طالب: أكثر من السبع يا شيخ.
ماذا؟
طالب: الزيادة على السبع.
لا ما يصح الزيادة على السبع، أكثر من السبع ما ورد.
طالب:............
مثل قراءة الفاتحة على مريض ما ورد فيها أكثر من سبع، السبع عند الترمذي ما ورد أكثر منها.
طالب: إذا ترجح لديه شيء يدعو أو إذا...
إذا أراد شيء يدعو، إذا أراد نعم علق بالإرادة.
طالب: من يقول: إنها تقدم على الاستشارة، استخارة؛ لأن النبي –صلي الله عليه وسلم- قال: فليركع ركعتين مباشرة مجرد ما يحدث له وجه، إن شاء الله.
هو الإشكال أنه قد يستخير ثم يؤمر ثم يستشير، إذا كان لا يريد أن يستشير أحدًا يكتفي بالاستخارة، وإن أراد الاستشارة فليستشر قبل ثم يستخير؛ ليكون الرد أولاً وآخرًا الاستخارة لا الاستشارة.
طالب: بالنسبة للشك في الحديث قوله: أو عاجل أمري وآجله.
روايات، روايات، يعني مرة يقول هذا أو مرة يقول هذا.
طالب: ما يجمع بينها؟
لا، لا ما يجمع بينها؛ لأن الراوي هذا أو هذا.
"قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ مِنْ جَمِيعِ الْخَوَاطِرِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ مَائِلًا إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَا يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِهِ يَعْمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ فَيَتَوَخَّى بِسَفَرِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ نزّه نفسه سبحانه بقوله الحق، فَقَالَ: {سُبْحانَ اللَّهِ} أَيْ تَنْزِيهًا. {وَتَعالى} أَيْ تَقَدَّسَ وَتَمَجَّدَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تكن صدور هم وَمَا يُعْلِنُونَ} يُظْهِرُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ: " تَكُنُّ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي" النَّمْلِ". تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عَالِمُ الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء {هُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقدم معناه، وأنه المنفرد بالوحدانية، وأن جَمِيعَ الْمَحَامِدِ إِنَّمَا تَجِبُ لَهُ، وَأَنْ لَا حكم إلا له، وإليه المصير."
طالب: يا شيخ أحسن الله إليك.
نعم.
طالب: النهي عن السفر الخميس والإثنين والجمعة.
توخي السفر، ما هو بالنهي.
طالب: توخي: ترك السفر، أم لا يا شيخ؟
لا لا، قصد السفر النبي-عليه الصلاة والسلام- كان إذا أراد السفر سافر يوم الخميس، وفي حكمه الإثنين، أما السفر يوم الجمعة ممن تلزمه الجمعة إذا خاف على فواتها وقرب وقتها لا يسافر، ممنوع من السفر.
طالب: فيه حكمة يا شيخ؟
في ماذا؟
طالب: بخصوص الخميس والإثنين.
الخميس والاثنين يوم ترفع فيه الأعمال والسفر مظنة لإجابة الدعوة، وأيضًا أقرب للانكسار، فالمسافر لا شك أن حاله أقل من حال المقيم فهو منكسر بين يدي الله، ولذا ذكر له دعوة مستجابة، والنبي- عليه الصلاة والسلام – كان يتوخى السفر يوم الخميس.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} أَيْ دَائِمًا، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي ولا ليلي بِسَرْمَدِ
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَهَّدَ أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ لِيَقُومُوا بِشُكْرِ نِعَمِهِ. {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ} أَيْ بِنُورٍ تَطْلُبُونَ فِيهِ الْمَعِيشَةَ. وَقِيلَ: بِنَهَارٍ تُبْصِرُونَ فِيهِ مَعَايِشَكُمْ وَتَصْلُحُ فِيهِ الثِّمَارُ وَالنَّبَاتُ. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أَيْ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ مِنَ النَّصَبِ. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْخَطَإِ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيتَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ غَيْرُهُ، فَلِمَ تُشْرِكُونَ بِهِ؟ {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أَيْ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلزَّمَانِ وَهُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ لِتَطْلُبُوا مِنْ رِزْقِهِ فِيهِ أَيْ فِي النَّهَارِ فَحُذِفَ. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ذلك."
في قوله: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه} يعني في الليل، {ولتبتغوا من فضله} يعني في النهار، فيكون هذا من اللف والنشر المرتب، من اللف والنشر المرتب، من رحمته جعل لكم الليل والنهار، ماذا عن الليل؟ لتسكنوا فيه، وماذا عن النهار؟ لتبتغوا من فضله، فلف يعني أتى بالإجمال الليل والنهار، ثم نشر بعد ذلك ما يتعلق بهما ووضحه، فجعل الأول للأول، والثاني للثاني، وبهذا يكون اللف والنشر مرتبًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَعَادَ هَذَا الضَّمِيرَ؛ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، يُنَادَوْنَ مَرَّةً فَيُقَالُ لَهُمْ:" أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ"، فَيَدْعُونَ الْأَصْنَامَ فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، فَتَظْهَرُ حَيْرَتُهُمْ، ثُمَّ يُنَادَوْنَ مَرَّةً أُخْرَى فَيَسْكُتُونَ. وَهُوَ تَوْبِيخُ وَزِيَادَةُ خِزْيِ. وَالْمُنَادَاةُ هُنَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُ الْكُفَّارَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ}، لَكِنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ مَنْ يُوَبِّخُهُمْ وَيُبَكِّتُهُمْ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي مَقَامِ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} حين يقال لهم: { اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} وَقَالَ:" شُرَكائِيَ"؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ."
ويوم يناديهم الأصل في النداء أنه من الله –جل وعلا- فيقول أين شركائي، ما يمكن لأحد أن يقول: أين شركائي، فالكلام من الله -جل وعلا –، والنداء منه، وأما ما جاء في قوله تعالى-جل وعلا-: {ولا يكلمهم الله} المراد بالكلام كلام الرضا، لا كلام التبكيت والسخط، كلام الرضا لا يصدره منه –جل وعلا-، كلام يرضى عنه، وإنما هو كلام تبكيت، كلام سخط يوبخهم به ويبكتهم به، هذا لا مانع منه، السياق يعينه {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} وإن كان يجوز على بعد أن يُنسب النداء للأمر به، النداء للأمر به، لكن قوله: فيقول أين شركائي، هذا من الله –جل وعلا-.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أَيْ نَبِيًّا، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: هُمْ عُدُولُ الْآخِرَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا} وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولُهَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهَا. وَالشَّهِيدُ الْحَاضِرُ. أَيْ أَحْضَرْنَا رَسُولَهُمُ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ".
نعم الشهيد من معانيه الحاضر، {فمن شهد منكم الشهر} يعني حضره.
"{فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أَيْ حُجَّتُكُمْ. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أَيْ عَلِمُوا صِدْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ وَبَطَلَ {مَا كانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةً تعبد".
اللهم صل وسلم على عبدك محمد.
"