شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (009)
وهذه طريقتهم وهذا ديدنهم، وقد يوجد بعض الحيل في بعض الصور لارتكاب أو للفرار مما حرمه الله -سبحانه وتعالى، وعلى كل حال للعلماء تفصيلات ولهم مسائل يطول ذكرها في هذا الباب، فلتراجع كتب شروح الحديث وكتب الفقه وغيرها، وقد ألف في الحيل مؤلفات، ومن أسوأ ما نُقِل في الحيل ما أفتى به بعضهم: امرأة ضاقت عليها المسالك مع زوجها فلم تترك وسيلة إلا ارتكبتها من أجل فراقه، فأفتاها بعضهم بأن ترتد عن الإسلام -نسأل الله العافية-، وبذلك تَبِيْن منه، ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان، وأفتى ابن المبارك بكفر من أفتاها بهذه الفتوى -نسأل الله السلامة والعافية-.
المقدم: أحسن الله إليك، قد يفعل بعض الناس بعض أعمال الخير التي أمر بها الشارع كمثلاً بر الوالدين أو الإحسان إلى الجار أو صلة الأرحام، ولكن لا يستشعر النية، وإنما هو بواقع الجِبِلَّة يفعل هذه الأفعال ولا يستشعر نية التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، فهل يؤجر على هذا؟
فعل العبادات المحضة إذا استحضرها في أول الأمر، وأن هذا عملٌ مقرِّبٌ إلى الله -سبحانه وتعالى- يؤجر عليه وعلى مفرداته ولو لم يستحضر في جميع المفردات، تكفيه النية العامة، لكن العبادات الخاصة كل عبادة منها تحتاج إلى نية «ولكلِّ امرئ ما نوى» مَن أحسنَ إلى والديه يريد بذلك وجه الله -سبحانه وتعالى- والدار الآخرة له ما نوى، لكن من أحسن إليهما مكافأة لهما ولم يستحضر أن الله -سبحانه وتعالى- أمره بذلك ولا كلَّفه بذلك، بل لمجرد المكافأة يحصل له ما نواه ولا يحصل له شيءٌ من الأجر، بعض الناس قد يفعل؛ لأن بر الوالدين والإحسان إلى الغير من الجيران وغيرهم على درجات، والناس معطى ومحروم، مَن يستحضر النية في كل صغيرة وكبيرة هذا ممن أراد الله -سبحانه وتعالى- به خيرًا، منهم من يرى أن ذلك مكافأة، أقل في الأجر، لا شك أن «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه» يدخل تحت هذا الخبر ما يؤجر عليه الإنسان، يلي ذلك مرتبة ثالثة وهي أن يفعل ذلك رياءً وسمعة، ليقال: هذا بار بوالديه، وهذا يحسن إلى جيرانه، وهذا يفعل، وهذا عنده من صنائع المعروف ما عنده، هذا يأثم -نسأل الله السلامة والعافية-، ففعل مثل هذه الأشياء على درجات، والأمور بمقاصدها.
المقدم: أحسن الله إليكم، في المقابل قد يطلب بعض الناس أو طلبة العلم بعض العلوم التي هي ليست من العلوم الشرعية كعلم النحو، وإنما يطلب ذلك من أجل فهم كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا يندرج، نعم يؤجر على ذلك يندرج تحته القاعدة العامة الأمور بمقاصدها، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولا يمكن فهم الكتاب والسنة إلا من خلال العربية، علمًا بأن المقاصد نفسها دخلت في العربية، والنيات أثرت حتى في علم العربية، هناك ما يختلف فيه الإعراب تبعًا للقصد والنية، فمثلاً قبل وبعد والجهات الست {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [سورة الروم 4] مبني على الضم لماذا؟ لأن المضاف إليه محذوف مع أنه منْوي، مع نية المضاف، وهنا يبنى على الضم، لكن لو حذف المضاف إليه مع عدم قصده ونيته فإنه يعرب مع التنوين، فأثر القصد في البناء والإعراب، أيضًا قول الأعمى مثلاً: يا رجلاً خذ بيدي، لا يقصد رجلا بعينه، يُعرَب ويُنصَب ويُنوَّن، لكن لو قصد رجلاً بعينه لقال: يا رجلُ خذ بيدي، فأثَّر القصد حتى في الإعراب، فهذا الحديث وهذه القاعدة الكلية الأمور بمقاصدها قاعدةٌ عامة مؤثِّرة في كثير من العلوم وفي كثيرٍ من الأشياء، ولذا عظم أهل العلم هذا الحديث، ورفعوا من شأنه وأشادوا به.
المقدم: أحسن الله إليكم، يعاني الكثير، يعاني من معالجة أمر النية معاناة شديدة، حتى أن بعضهم ربما أحجم عن بعض الأعمال الصالحة التي اعتاد عليها خوفًا من أن يقع في الرياء أمام الناس، وهذا ينتشر كثيرًا حتى بين النساء مع الأسف، هل من توجيه حيال هذا الأمر؟
هذا يوجد كثيرًا، وهو فيمن يطلب العلم أظهر، يطلب العلم النظامي، طلاب الأقسام الشرعية يرد منهم الأسئلة كثيرًا في دخول أو وجود الخلل في النية، يقول القائل منهم: نحن نطلب العلم الشرعي في قسم الشريعة في قسم السنة في قسم القرآن وغيرها من الأقسام الشرعية، ونصْب أعيننا التخرج والوظيفة وبناء الأسرة وما أشبه ذلك، ولا نستطيع أن نتخلص من هذه الأمور، عالجنا أنفسنا فلم نستطع، فهل العلاج في ترك طلب العلم الشرعي؟ لا، عليه أن يواصل طلب العلم الشرعي، كما أن عليه أن يعالج نيته، ويصدق اللجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- في طلبه تخليص نيته من جميع الشوائب؛ لأن العلم الشرعي عبادة محضة من علوم الآخرة لا يجوز التشريك فيها، والله -سبحانه وتعالى- إذا علم صدق النية أعان العبد على ما يريده بإذن الله -سبحانه وتعالى-، فليس الترك علاج، لا ترك النوافل ولا ترك طلب العلم ليس هو العلاج، وإنما العلاج الجهاد، مجاهدة النفس، وتحسس النية، وتعهد القلب؛ لأن النية شرود، والقلب سريع الالتفات إذا لم يُتعاهد، ويُتعاهد في كل لحظة فإنه يشرد بصاحبه إما بغفلة أو تشريك أو ما أشبه ذلك.
المقدم: قال رحمه الله: عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، فيُفصَم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيَفْصِم عنه، وإن جبينه ليتَفَصَّد عرَقًا.
في شرح الحديث الثاني من أحاديث المختصر، تروي الحديث عائشة -رضي الله عنها- أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق أبي بكر، أحب النساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بنت أحب الرجال إليه، وعن الحارث بن هشام المخزومي أحد فضلاء الصحابة ممن أسلم يوم الفتح، واستشهد في فتوح الشام سنة (15هـ)، والحديث ترويه عائشة -رضي الله عنها- عن الحارث أو عن قصة الحارث، ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا فرق بين السند المُؤَنَّن كما هنا أن الحارث بن هشام وبين السند المُعَنْعَن كما فيما لو قالت: عن الحارث بن هشام، فحكم "أنَّ" حكم "عن" عند جمهور العلماء، وإن كان سياق القصة يدل على أن عائشة تروي القصة مع احتمال أن تكون حضرة السؤال، واحتمال آخر أن تكون لم تحضر هذا السؤال، وإنما تنقله عن الحارث بن هشام إما مباشرة أو بواسطة، فالحديث يحتمل أن تكون عائشة حضرت السؤال والجواب فيكون من مسندها، وعلى هذا مشى أصحاب الأطراف كالمِزِّي حيث ذكره في مسندها في الجزء الثاني عشر صفحة (193) ويحتمل أن يكون الحارث بن هشام أخبرها بذلك فيكون الحديث من مراسيل الصحابة، وهو موصول عند جماهير العلماء، كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
أما الذي أرسله الصحابي
|
|
فحكمه الوصل على الصوابِ
|
ونقل عليه الاتفاق، وإن خالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني فزعم أن مراسيل الصحابة كمراسيل غيرهم، لكن لم يلتفت أهل العلم إلى هذا القول، فنقلوا عليه الاتفاق، فمرسل الصحابي في حكم الموصول، وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند الإمام أحمد -رحمه الله- من طريق عامر بن صالح الزُّبَيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قالت: سأل.. وعامر فيه ضعف؛ لكن له متابِعٌ عند ابن منده؛ قاله الحافظ -رحمه الله- ابن حجر.
على كل حال سواءٌ قلنا أنه متصل، وأن عائشة شهدت السؤال والجواب، أو لم تشهد السؤال والجواب فبلغها عن الحارث نفسه، فيكون من مرسل الصحابي، ومرسل الصحابي حكمه حكم الموصول، ولا فرق.
مناسبة الحديث للترجمة المناسبة ظاهرة، حيث كان السؤال عن صفة الوحي، وكيفية مجيئه بواسطة حامله، فالمناسبة ظاهرة.
في متن الحديث يقول في سؤاله: "كيف يأتيك الوحي؟" يحتمل أن يكون السؤال عن صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون عن صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك، يكون السؤال عن الوحي وحامله أيضًا، يقول ابن حجر: وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز؛ لأنه قال: كيف يأتيك الوحي؟ والوحي معنىً من المعاني إسناد الإتيان إليه مجاز. أقول: لا حاجة إلى ادعاء المجاز هنا؛ لأن من جيء به فقد جاء، ومن حُجَّ به فقد حج، يعني لو شخص حج به أبوه ألا يمكن أن يقال: حج فلان وسقطت عنه الفريضة؟ فمن جيء به فقد جاء حقيقة، كمن حُج به فقد حج حقيقة، فلا حاجة إلى ادعاء المجاز هنا على النزاع المعروف عند أهل العلم في وقوع المجاز في لغة العرب عمومًا، أو في نفيه عن النصوص الشرعية على وجه الخصوص.
قوله -عليه الصلاة والسلام- في الجواب: "أحيانًا" جمع حين، والحين يُطلَق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، وانتصابه على الظرفية، وعامله يأتيني مؤخرٌ عنه، أي يأتيني الوحي أحيانًا، والتقدير في أحيانًا، فكأنه قال: أوقاتًا، "يأتيني مثل" مفعول مطلق، أي إتيانًا مثل، أو حال، أي إتيانًا مشبهًا حال كونه مشبهًا.
"صلصلة الجرس" الجرس الجُلْجُل الذي يُعلَّق في رؤوس الدواب لتسرع في السير، و(الصلصلة) صوت الملك بالوحي، وقيل: صوت حفيف أجنحة الملك، وهي في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوتٍ له طنين، وقيل: هو صوت متدارِك لا يدرَك في أول وهلة، والحكمة في تقدم الصوت أن يقرع سمعه -عليه الصلاة والسلام- الوحي، فلا يبقى فيه متسعٌ لغيره، فإن قيل -وهذا إشكال-: كيف شُبِّه الوحي وهو محمود بالجرس وهو مذموم؟ كيف شُبِّه الوحي وهو محمود بالجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه؟! ففي صحيح مسلم: «الجرس مزمار الشيطان» عن أبي هريرة، وفيه أيضًا: «لا تصحب الملائكة رفقةً فيها كلبٌ ولا جرس» وفي سنن أبي داود «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جرس» وجاء غير ذلك من الأحاديث مما يدل على ذم اتخاذ الجرس، فالوحي محمود والجرس مذموم فكيف يُشبَّه المحمود بالمذموم؟! أجيب عن ذلك بأنه لا يلزم من التشبيه تساوي المشبَّه بالمشبَّه به في جميع صفاته، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالصوت -يعني صوت الجرس- له جهتان: جهة قوة وجهة طنين وإطراب، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين والإطراب وقع التنفير عنه، كما جاء تشبيه رؤية الباري -سبحانه وتعالى- يوم القيامة برؤية القمر ليلة البدر، فالمراد به تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، ومثله النهي عن مشابهة البعير في بُرُوْكه مع أمره -عليه الصلاة والسلام- بوضع اليدين قبل الركبتين، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولْيضع يديه قبل ركبتيه» هل هناك تنافر بين الجملتين؟ لا تنافر بينهما، فالمنهي عنه النزول على الأرض بقوة مشابهة للبعير في بروكه حينما يثير الغبار ويفرق الحصا، لا من جهة تقديم اليدين على الركبتين ووضعهما فقط، وفرقٌ بين مجرد الوضع والبروك، فرق بين مجرد وضع اليدين قبل الركبتين وبين البروك.
المقدم: الحديث -أحسن الله إليكم- مرة أخرى، حديث البروك، أو النهي عن البروك.
جاء النهي في السنن -وهو حديث صحيح- عن مشابهة البعير في بروكه «إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع» اللام لام الأمر «وليضع يديه قبل ركبتيه».
المقدم: هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام-؟
من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وليضع يديه قبل ركبتيه».
المقدم: ليس من إدراج الراوي؟
ليس من إدراج الراوي، وليس فيه قلب كما يزعم بعضهم، بل الحديث متسق، بعض أهل العلم لما رأى أن البعير يبرك فيقدم يديه قبل ركبتيه قال: انقلب على الراوي؛ لأن وضع اليدين هو بروك البعير، نقول: لا، بروك البعير هو نزوله على الأرض بقوة، فلا يقال: برك البعير وحصحص البعير حتى ينزل على الأرض بقوة فيثير الغبار ويفرق الحصا، وإلا لو قدم ركبتيه قبل يديه أشبه غير البعير من الحيوانات، أشبه الحمار مثلاً، لا من هذه الحيثية النهي «لا يبرك كما يبرك البعير» يعني ينزل على الأرض بقوة، فصدر الحديث موافق لعجزه، والأمر بوضع اليدين «وليضع» مجرد وضع، فرقٌ بين أن تضع المصحف على الأرض وبين أن تلقيه على الأرض وترميه على الأرض، أو وضع الشيء على الأرض عمومًا وإلقاؤه على الأرض، هو مرده إلى الأرض لكن فرقٌ بينهما، وضع المصحف على الأرض جائز عند أهل العلم لكن إلقاءه على الأرض خطرٌ عظيم، فرقٌ بينهما، ولذا قال: «وليضع يديه قبل ركبتيه» فالنهي عن مشابهة البعير من وجه دون وجه، إذا علم هذا فما ورد في ذم الجرس صحيح لا مرية فيه.
المقدم: يعني السنة الآن يقدم يديه؟
هذا هو الظاهر؛ لأن الحديث أرجح من حديث وائل، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه.
المقدم: ما يكون النهي عن صفة البروك كبروك البعير لا على ما يبرك عليه؟
النهي عن مشابهة البعير في النزول على الأرض بقوة؛ ولذا قال: «وليضع يديه قبل ركبتيه» وله شاهد من حديث ابن عمر وغيره. المقصود أن الخلاف الذي حصل، حصل في فهم الحديث، الذي ادعى أن الحديث انقلب على الراوي قال: هذا تناقض، كيف يقول: «لا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه»؟ هذا بروك البعير! نقول: لا، ليس هذا بروك البعير، بروك البعير إذا نزل على الأرض بقوة أثار الغبار وفرق الحصار، وتسمعون أنتم بعض الناس ينزل على الأرض بقوة، والناس إذا الإنسان وقع إما مريض أو كبير سن أو شيء ونزل على الأرض بقوة يقولون: برك، الرجل برك.
المقدم: لكن فرق بين قوله -عليه الصلاة والسلام-: «كما يبرك» لو قال: على ما يبرك يختلف المعنى تمامًا؟
نعم نعم، على كل حال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: كلاهما سنة، سواءٌ قدم يديه أو قدم ركبتيه لا فرق، والمسألة معروفة عند أهل العلم، وهي مسألة اجتهادية، فلا ينبغي التشديد في مثل هذا، إذا علم هذا فما ورد في ذم الجرس صحيح لا مرية فيه، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في مثل هذا، وإن عمت به البلوى وتساهل به الناس، ووجد بينهم من غير نكير، لكن إيثار مراد الله ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام- أولى على حظوظ النفس، وأولى من متابعة الناس وتقليدهم، فطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مقدمةٌ على كل اعتبار. فعلى المسلم أن يحتاط لدينه، وما نراه ونسمعه من كثيرٍ من الناس ممن ابتلي بسماع الأغاني والمزامير من اختيار بعض النغمات المثيرة في مثل الهاتف والجوال وأجراس البيوت عليهم التوبة والإقلاع والندم واستبدال ذلك مما يمكن استعماله من غير ارتكاب محظور، ومن المؤسف بل من الأسف الشديد أن نرى استعمال مثل هذه الأصوات، ومثل هذه النغمات الموسيقية في مواطن العبادة كالمساجد وحِلَق العلم، وأحيانًا في المطاف، كثيرًا ما نسمع في المساجد أثناء الصلاة مما يشوش على المصلين وفي المطاف وغيرها من الأماكن الفاضلة مثل هذه النغمات، على المسلم أن يحتاط لدينه، شخص يأتي لابتغاء ما عند الله من ثواب، ويرتكب في الوقت نفسه محظور، فعلى المسلم أن ينتبه لمثل هذا، ويهتم به.
روى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا» أو «خَضَعانًا» يجوز هذا وذاك «لقوله كأنه صلصلة على صفوان، فإذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير» الحديث. فقوله: «صلصلة على صفوان» هو مثل قوله: «صلصلة الجرس» هنا، وهو صوت الملك بالوحي، والمشبَّه القول المسموع.
قوله: «وهو أشده علي» يعني أشد أنواع الوحي، ويُفهَم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذا النوع أشد، وهو واضح؛ لأن الفهم من كلامٍ مثل الصلصلة أشد من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، لا شك أن الفهم من الكلام الذي يشبه صلصلة الجرس أشد من فهم الكلام الذي يتمثل فيه الملك رجلاً فيخاطبه بالكلام المعهود بين الرجال، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى له -عليه الصلاة والسلام-، ورفع الدرجات، والظاهر أن ذلك لا يختص بالقرآن، كما في حديث لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه رآه -صلى الله عليه وسلم- حال نزول الوحي عليه، وإنه ليغط، يعني من شدة ما يُلقَى إليه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا من السنة والسنة وحي؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى.