شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (011)
الحديث كما في الصحيح، يقول –عليه الصلاة والسلام-: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» هذا من الأحاديث التي في ظاهرها الإشكال، لكنها ليست بمشكلة عند أهل العلم، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» قاله على جهة التواضع، والهضم من حقه، والرفع من شأن إبراهيم -عليه السلام-؛ لئلا يتطاول بعض السفهاء فيقول: إن إبراهيم شك، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يرفع هذا الاحتمال من قلوب الناس، «ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد» حينما قال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [سورة هود 80] ومراده بذلك من بني جنسه وقومه وعشيرته، وقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد، وهو الله -سبحانه وتعالى-. «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف» لبث بضع سنين يوسف، وما فيه شك أن النفس مجبولة على حب الحرية والخروج من السجن، وقاله النبي -عليه الصلاة والسلام- لرفع شأن يوسف ووصفه بالأناة لتبرأ ساحته وتظهر براءته للناس كلهم، لما جاءه الداعي قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [سورة يوسف 50] غير يوسف لو جاءه الداعي خرج مباشرةً، أقول: غير يوسف -عليه السلام- لو جاءه الداعي الذي يطلبه إلى الملِك أو العزيز خرج مباشرة، لكن يريد أن تبرأ ساحته من كل وجه، ويعرف ذلك الخاص والعام، أراد أن يقول له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [سورة يوسف 50] لتظهر براءته للناس كلهم.
المقدم: هل مثل هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تفضلوني على يونس بن متى»؟
هو مثله نعم، التفضيل بين الأنبياء جاء منعه، جاء النهي عن التفضيل بين الأنبياء، والمراد به التفضيل الذي يتضمن التنقص، فيونس بن مَتَّى حصل منه ما حصل، مما يجعل بعض السفهاء يتطاول عليه، ويقع فيه، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يقطع مثل هذه التصرفات من السفهاء، فقال: «لا تفضلوني على يونس» وفي رواية: «لا تفضلوا بين الأنبياء» والرسول -عليه الصلاة والسلام- أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، لكن يقول هذا -عليه الصلاة والسلام- للمحافظة على حقوق الأنبياء، وعدم التطاول عليهم.
المقدم: هل يفهم من هذا يا شيخ أن الإيمان في مسائل الغيب ربما يكون عند بعض الناس أقل من الإيمان في مسائل الشهادة؟
لا شك أنه ليس الخبر كالمعاينة، ولذا لما أخبر الله -سبحانه وتعالى- موسى -عليه السلام- أن قومه عبدوا العجل ما كان تصرفه مثل تصرفه لما رآهم عيانًا، ألقى الألواح لما رآهم معاينة، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، يختلف التصرف وإن كان الخبر خبر صدق لا يحتمل النقيض لكن المعاينة تختلف عن الخبر، وإن كان الخبر صادقًا لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه.
المقدم: لكن لا يمكن أن يقال بأن إيمان إبراهيم -عليه السلام- في هذه الجزئية كان ناقصًا بأي حال من الأحوال؟
أبدًا أبدًا بأي حال من الأحوال.
المقدم: نعم، عندنا أيضًا أسئلة تفضل:
يا شيخ ذكرتم الفرق بين قولنا متفقٌ عليه، وبين ما رواه البخاري ومسلم مثلاً، فهل هذا التفريق متفقٌ عليه بين المحدِّثين؟
الحديث يكون واحدًا إذا كان عن صحابي واحد، ولو اختلف اللفظ، فيُتَّفَق عليه بين الشيخين إذا خرَّجاه عن طريق صحابي واحد، وإذا كان عن صحابيين فإنه يقال: أخرجه البخاري عن فلان ومسلم عن فلان، المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام صاحب المنتقى لا يقول متفق عليه حتى ينضم إلى الشيخين الإمام أحمد في المسند، فإذا كان الحديث مخرَّج في المسند والصحيحين من طريقٍ صحابي واحد قال المجد متفق عليه، البغوي في شرح السنة أحيانًا يقول متفق عليه مع اختلاف الصحابي، وهذا اصطلاح خاص به، فيقول: متفق عليه أخرجه محمد عن ابن عمر يعني البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهذا يختلف عن الاصطلاح السائد المعروف.
المقدم: ومثله متفق على صحته؟ سواء؟
متفق على صحته يعني لم يختلف أحد في صحته، ولو لم يكن في الصحيح، يعني العلماء ما اختلفوا في تصحيح هذا الحديث.
المقدم: بخلاف متفقٌ عليه؟
متفق عليه يعني بين الشيخين.
المقدم: لكن أيضًا بعض الألفاظ رواه البخاري ومسلم أخرجه الشيخان سواء؟
لا إشكال.
المقدم: هذا فقط اختلاف عند المحدثين؟
نعم.
طالب: يا شيخ: في متن الحديث لفظ: (وعيت) (وأعي) هل وردت في بعض الروايات بصيغ مختلفة أم أنها بنفس الصيغة التي وردت هنا؟
ظاهر توجيه الشراح بما ذكرناه سابقًا أنه لم يكن هناك اختلاف في ألفاظ الحديث بين رواة الصحيح.
المقدم: أحسن الله إليك في حديثكم قبل قليل بالنسبة للسند المؤنأن هل هناك فرق بين السند المؤنأن والمعنعن؟ خصوصًا أننا في المقدمة ذكرنا شيئًا من هذا عندما تفضلتم بشرح خطبة المختصِر -رحمه الله-.
هنا في حديث الباب تقول عائشة -رضي الله عنها-: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء عنها في المسند عن الحارث بن هشام أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-، الأصل أن السند المؤنأن أو المؤنن لا يختلف عن السند المعنعن، ولذا يقول الحافظ العراقي:
.............................................. سووا وللقطع نحا البرديجي
|
|
وحكم (أنَّ) حكم (عن) فالجلُ
|
وابن الصلاح نقل عن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة أن هناك فرقًا بين السند المؤنن والسند المعنعن، فالمعنعن على الاتصال والمؤنن عن الانقطاع، والسبب أنه وقف على حديث محمد بن الحنفية عن عمار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به، فقال الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة قالا متصل، والرواية الأخرى عن محمد بن الحنفية أن عمارًا مرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: منقطع، فأخذ من هذا أن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة يفرقان بين المؤنن والمعنعن، لكنه كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
.............................................
|
|
كذا له ولم يصوِّب صوْبه
|
يعني ما نظر إلى السبب الحقيقي في الاختلاف بين حكميهما على الحديث بطريقيه، فمحمد بن الحنفية لما قال عن عمار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به، محمد بن الحنفية يروي عن عمار قصةً حصلت له يرويها عن صاحبه عن صاحب الشأن فهي متصلة، وفي الطريق الآخر الذي قال فيه محمد بن الحنفية أن عمارًا به النبي -عليه الصلاة والسلام-، محمد بن الحنفية يتحدث عن قصةٍ لم يشهدها فحكما عليه بالانقطاع، يعني فرقٌ بين أن نقول: عن فلان من المشايخ عن الشيخ ابن باز مثلاً أن الشيخ محمد بن إبراهيم قال له.. نحن نروي عن الشيخ مباشرة والقصة حصلت له فمتصل، لكن لو قلنا: عن فلان الذي هو شخص متأخر في طبقتنا مثلاً أن الشيخ محمد بن إبراهيم قال للشيخ عبد العزيز مثلاً هذه قصة لم نشهدها فهي منقطعة، فهي تختلف من هذه الحيثية، الشخص إذا نقل القصة عن صاحبها تكون متصلة، لكن إذا تحدث عن قصة لم يشهدها ولو شهد أو أدرك أحد طرفيها ولم يَنقل عنه فهذه حكمها حكم الانقطاع، ولذا قال الحافظ العراقي:
.............................................
|
|
كذا له ولم يصوِّب صوْبه
|
يعني ابن الصلاح ما فهم المقصد من اختلاف الحكمين على الطريقين، وإلا فالأصل أن السند المؤنأن في حكم المعنعن، والحكم عند أهل العلم حكمه الاتصال بالشرطين المعروفين عند أهل العلم أن يكون الراوي بريئًا من وصمة التدليس، وأن يكون قد لقي أو عاصر من روى عنه على الخلاف بين أهل العلم في ذلك.
المقدم: قال -رحمه الله-: باب: عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: أول ما بدئ -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العَدَد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملَك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [سورة العلق 1-4] فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: «زمِّلوني زمِّلوني» فزمَّلوه، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءًا قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني حيًا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أوَمخرجي هم؟» قال: نعم لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثالث: "عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: أول ما بدئ به -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلَق الصبح".
هذا الحديث ترويه عائشة -رضي الله عنها- في قصةٍ حصلت قبل أن تولد، فيحتمل أنه من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة لم تدرك هذه القصة، ومراسيل الصحابة حجة كما تقدم عند جماهير أهل العلم خلافًا لأبي إسحاق الإسفراييني، لكن الظاهر أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقولها فيه: قال: «فغطني» فيكون قولها: أول ما بُدِئ به حكاية ما تلفَّظ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحينئذٍ فيكون الحديث موصولاً ولا يكون من المراسيل، ومناسبة الحديث لبَدْء الوحي ظاهرة جدًا: أول ما بُدِئ به، والباب باب بدء الوحي. وقوله في إسناد الحديث -أعني البخاري- عن عائشة أم المؤمنين، هذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [سورة الأحزاب 6] أي في الاحترام، وتحريم النكاح، لا في غير ذلك مما اختُلف فيه، يعني من الخَلوة والسفر ونكاح البنات، وما أشبه ذلك، قال ابن حجر: وإنما قيل للواحدة: أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها: أم المؤمنات على الراجح يعني كما يقال: أمير المؤمنين أي والمؤمنات، وقال العيني: وهل يقال عنهن: أمهات المؤمنين؟ فيه خلاف، والأصح أنه لا يقال، بناءً على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال، وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم. وقال ابن كثير: هذا أصح الوجهين والخبر صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره، والعيني في عمدة القاري.
وهل يقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أبو المؤمنين؟ فيه قولان لأهل العلم، قال العيني: والأصح الجواز، نص عليه الشافعي وغيره يعني في الحرمة، ومعنى قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [سورة الأحزاب 40] يعني لصلبه، وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه لا يقال: أبونا، وإنما يقال: هو كأبينا، لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم» والحديث مخرَّج في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو حديث بطرقه حسن.
"أول ما بُدِئ" بضم الموحدة وكسر الدال "من الوحي" مِن هذه تبعيضية، أي مِن أقسام الوحي، وقال القزاز: ليست الرؤيا مِن الوحي، فعلى هذا تكون "مِن" لبيان الجنس، يعني كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [سورة الحـج 30] "الرؤيا" فُعْلَى كحُبْلَى مصدر رأى، وجمعها رُؤَى، والفعل رأى له مصادر تبعًا لمعانيه، تبعًا لمعاني الفعل، فتقول: رأى رؤيا يعني في النوم، ورأى رؤيةً يعني ببصره، ورأى رأيًا يعني بعقله.
"الصالحة" وفي التعبير يعني في كتاب التعبير من صحيح البخاري: "الصادقة" وهي التي ليست فيها ضغث، "في النوم" ذُكِر هذا لمجرد زيادة الإيضاح والبيان؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في النوم، فهو تصريح بما هو مجرد توضيح، أو لدفع وهْم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين، فهي صفةٌ موضِّحة، أو لأن غيرها يسمى حُلْمًا، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي وغيره، وحينئذٍ فيكون ابتداء النبوَّة بالرؤيا حصل في شهر ربيع، وهو شهر مولده -عليه الصلاة والسلام-، وبهذا يعلم كونها جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، إذا كانت مدة الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثًا وعشرين سنة، الستة الأشهر نصف سنة، والثلاث والعشرون سنة ستة وأربعون نصف، فتكون الرؤيا جزءًا من ستة وأربعين جزءًا.
"فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلَق الصبح" كرؤياه دخول المسجد الحرام، ووجه الشبه بين الرؤيا وفلق الصبح الوضوح، والفلَق هو ضياء الصبح، و(مثل) نُصب بمصدر محذوف أي إلا جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، أو نُصبت على الحال والتقدير مشْبِهَةً ضياء الصبح.
"ثم حُبِّب إليه الخلاء" الخلاء بالمد مصدر بمعنى الخَلْوة، أي الاختلاء، وبُني حُبِّب بما لم يسم فاعله أي للمجهول لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كُلٌّ من عند الله -سبحانه وتعالى-، وحُبِّبَت إليه الخلوة -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معها يحصل فراغ القلب، والانقطاع عن الخلْق؛ ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل:
.............................................
|
|
فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنَا
|
لا شك أن القلب الخالي يقبل ما يجيئه لأول مرة، وفي ذلك تنبيهٌ على فضل العُزْلَة؛ لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرِّغه لله تعالى، والخَلوة أن يخلو عن غيره بربه، والعُزلة يأتي بيانُ حكمها، وتفصيل ذلك في شرح حديث: «يوشك خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَف الجبال» من كتاب الإيمان -إن شاء الله تعالى-، ولأهمية هذا الموضوع وما جاء فيه من النصوص التي ظاهرها التعارض نُقدِّم للتوفيق لمثل هذه النصوص بكلامٍ مختصَر، ونترك التفصيل في مكانه. العُزلة محمودة، جاءت النصوص بمدحها، وجاءت النصوص أيضًا بمدح الخُلْطة، مخالطة الناس، والصبر على أذاهم، وشهود الجُمَع والجماعات، وحضور محافل الناس، وتغيير ما يقع منهم، وتعليم الجاهل، وغير ذلك، فلا شك أن العُزْلة محمودة بالنسبة لبعض الناس، لا سيما من لا يستطيع أو ليست عنده القدرة على التغيير والتأثير، بل العكس إذا كان ممن يتأثر بغيره، فمثل هذا العزلة في حقه أفضل، بينما بعض الناس الذين لديهم القدرة على التأثير في غيرهم، وهم لا يتأثرون بغيرهم مثل هؤلاء يقال لهم: الخُلْطة في حقهم أفضل، الذي يستطيع أن يؤثر في الناس، ولا يتأثر هو، هذا يقال له: اختلط بالناس وانفعهم وعلمهم وأرشدهم وأمرهم وانههم، لكن الذي يتأثر ولا يستطيع التأثير مثل هذا يقال له: اعتزِل.
"وكان يخلو بغار حراء" الغار هو النَّقْب في الجبل، وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى "فيتحنَّث فيه" بالحاء وآخره مثلثة، يعني ثاء، وهو التعبُّد، الضمير هو عائدٌ إلى مصدر يتحنَّث، يعني التحنُّث التعبُّد، وهو من الأفعال التي معناها السلب، أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل (تأثَّم وتحوَّب) إذا اجتنب الإثم والحَوْب، أو هو بمعنى (يتحنَّف) بالفاء، أي يتبع الحنيفية ملة إبراهيم -عليه السلام-، والفاء تُبْدَل ثاءً، كما يقال في الأجداث: الأجداف، وقد وقع كذلك بالفاء في رواية ابن هشام في السيرة: (يتحنَّف) وتفسير (التحنُّث) مدرَجٌ من تفسير الزهري...