شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (023)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: أود قبل أن نبتدئ هذه الحلقة أن أذكر الإخوة المستمعين الذين أرسلوا بأسئلتهم الأخ الزهراني الذي بعث برسالة تربو على خمسين سؤالاً، أسئلته وصلت، وسوف يكون لها وقت -بإذن الله- حسب ما ننتهي من شرح بعض الأبواب، وسيجيب فضيلة الشيخ الدكتور على بعض الأسئلة التي يراها مناسبة لما تحدثنا عنه.
كنا في الحلقة الماضية توقفنا عند بعض المقدمات حول كتاب الإيمان -فضيلة الدكتور- تحدثتم عن تعريفات هامة، وعن رأي الفِرَق حول الإيمان لعلنا نستكمل الحديث مع المستمعين الكرام حول هذه المقدمات.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في البداية أشكر الأخ الزهراني على عنايته واهتمامه ومتابعته للبرنامج، وأسئلته الدقيقة التي تُنم عن فهم وإدراك، وسوف نخصص لأسئلته وأسئلة غيره -إن شاء الله تعالى- حلقات لاحقة -بإذنه تعالى-، أما ما يتعلق بالإيمان وتعريفه فقد مضى تعريفه عند الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام، فذكرنا تعريف أهل السنة والجماعة وأنه قول وعمل واعتقاد، ويشاركهم في التعريف الخوارج والمعتزلة على اختلاف بينهم في حقيقة المراد من العمل، وهذا سبق أن بيَّنَّاه وفصَّلْناه، فعند الخوارج أنه كتلة واحدة وهيئة مجتمعة لا يمكن أن تختلّ بوجه من الوجوه، فترتفع حقيقة الإيمان بارتفاع جزء من أجزائه، فيحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه كافر يقاربهم المعتزلة يقولون إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لكنه يختلّ باختلال أي جزء من أجزاء العمل، وإن كانوا لا يوافقون الخوارج على تكفير مرتكب الكبيرة في الدنيا، ويقولون هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فيوافقونهم فيقولون هو مخلِّد في النار، هذا من أجل إزالة اللبس؛ لأن من يقرأ في تعريف الإيمان عند أهل السنة وعند الخوارج وعند المعتزلة يجد في التعريف النظري شبه تتطابق، وهذا أشرنا إليه سابقًا وعرفنا أن العمل المراد به عمل اللسان وهو نطقه، وكذلكم عمل الجوارح، وذكرنا أن النطق باللسان والتصديق به أمر لا بد منه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّق حقن الدم بالقول، فثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» فلا بد من النطق حينئذٍ.
أما العمل فالعمل نوعان: عمل القلب وعمل الجوارح، أما عمل القلب من الحُب والخوف والخشية والرغبة والرهبة وغيرها فأمر لا بد منه؛ لأن مجرد تصديق القلب مع عدم عمله لا يمكن أن يكون إيمانًا وإلا لصار إبليس وفرعون من المؤمنين لوجود المعرفة في قلوبهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: لا بد في الإيمان في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله ومعاداة الله ورسوله ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، وليس مجرَّد التصديق والعلم يستلزم الحب إلا إذا كان القلب سليمًا من المُعارِض كالحسد والكِبْر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السلمية من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم -عليه السلام-، الذي اتخذه الله خليلاً، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء 88-89] يقول: فليس مجرد العلم موجبًا لحب المعلوم إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس. هكذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، وأما دخول عمل الجوارح في الإيمان بيَّنه شيخ الإسلام أيضًا بما يلي حيث قال: أصل الإيمان هو ما في القلب والأعمال الظاهرة لذلك لا يُتصوَّر وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، يقول: لا يُتصوَّر وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم، وإن كان أصلهما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفى بإيمان القلب، بل لا بد معه من الأعمال الصالحة، هذا أمر مهم حيث عطفت الأعمال على الإيمان؛ لأنه قد يقول قائل: أن العطف يقتضي المغايرة، لماذا عُطِفَت؟ {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة الشعراء 227] حيث عُطِفَت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفى بإيمان القلب، بل لا بد معه من الأعمال الصالحة، يقول: ثم للناس في مثل هذا قولان يعني في العطف منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصًا له لئلا يُظَن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عُطِف فيه خاص على عام، كقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [سورة البقرة 98] وهما من الملائكة، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [سورة الأحزاب 7] وهم من النبيين، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [سورة محمد 2] فخَصَّ الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، هذا كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-. يقول أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى- في التمهيد: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بِنِيَّة، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذُكر عن أبي حنفية وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا، قالوا: إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد المعرفة كذا في التمهيد.
البغوي في شرح السنة يقول: اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء، ويقول النووي في شرح البخاري في القطعة التي شرحها من صحيح البخاري: وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة 143] أجمعوا على أن المراد صلاتكم، ومثله الآيات التي ذكرها البخاري في الباب، وسيأتي ذكرها وتفصيلها عند الكلام على أبواب الصحيح -إن شاء الله تعالى-، وأما الأحاديث فخارجة عن الإحصاء وستمر بها في مواضعها -يعني من الصحيح-، وهذا المعنى أراد الإمام البخاري في صحيحه بالأبواب الآتية بعد هذا كقوله: باب أمور الإيمان، بابٌ الصلاة من الإيمان، بابٌ الزكاة من الإيمان، بابٌ الجهاد من الإيمان، وسائر أبوابه، وأراد الرد على المرجئة في قولهم الفاسد أن الإيمان قول بلا عمل، وبيَّن غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، قال الإمام أبو الحسن بن بطَّال: مذهب جميع أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل بلا اعتقاد، أو اعتقد وعمل وجحد بلسانه لا يكون مؤمنًا، فكذا إذا أقر واعتقد ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمنًا بالإطلاق؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [سورة الأنفال 2-4] فأخبر الله -سبحانه وتعالى- أن المؤمن لا يكون إلا من هذه صفته؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن...
المقدم: الكلام السابق كله للإمام النووي يا شيخ؟
هذا للنووي ونقل عن ابن بطال.
الإمام البخاري الذي أثنى عليه شيخ الإسلام بقوله، لا سيما في كتاب الإيمان الذي افتتح به الصحيح، يقول شيخ الإسلام: كتاب الإيمان الذي افتتح به البخاري صحيحه قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمَّنه الرد على المرجئة، يقول: فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة، مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الذي وصفه شيخ الإسلام ونعته بهذا يقول عن الإيمان: وهو قول وفعل، يزيد وينقص، ثم ذكر الآيات التي تدل على زيادة الإيمان، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [سورة الفتح 4] {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [سورة الكهف 13] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [سورة مريم 76] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [سورة محمد 17] {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [سورة المدثر 31] وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [سورة التوبة 124] قوله جل ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [سورة آل عمران 173] وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب 22]... إلى آخر ما ذكره -رحمه الله- مما يدل على زيادة الإيمان بالأعمال الصالحة، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان شرعًا، ابن القيم -رحمه الله تعالى- بيَّن أن حقيقة الإيمان مُرَكَّبة من قول وعمل، يقول: والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكامله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد التصديق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل يقرُّون به سرًّا وجهرًا، ويقولون: ليس بكاذب، يصدقونه! يقولون: ليس بكاذب، لكن هل نفعهم هذا التصديق؟ لم ينفعهم؛ لأنهم يقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتَّبعه ولا نؤمن به، وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مُستنكَر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان، فإن الإيمان ليس هو مجرد التصديق، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو المعرفة المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقًا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك مراجعة هذا الأصل ومراعاته، ذكره ابن القيم في كتاب الصلاة.
إذا عرفنا هذا وأن أهل السنة والجماعة كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وسائر أهل الحديث يُدخِلون الأعمال في مسمى الإيمان، وأنه يزيد بزيادة الأعمال الصالحة، وينقص بنقصها كما قرره الأئمة، وتقدم ذكر الأدلة على زيادته، وما قَبِل الزيادة فإنه يقبل النقص، وأما المرجئة لا سيما مرجئة الفقهاء لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، كما قرَّره الطحاوي في عقيدته الشهيرة، وهم مع ذلك -يعني المرجئة- لا يتساهلون في الأعمال، ولا في جزائها، ولذا قرر ابن أبي العز في شرح الطحاوية أن الخلاف بين أبي حنفية والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، ولبيان حقيقة الأمر لا بد من التفصيل، فمن جهة الاهتمام بالأعمال وتأثيم المخالف فيها لا يظهر بينهم في الحقيقة فرق، وحينئذٍ يكون الخلاف صوريًّا، ومن جهة كون مرتكب الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان، وإن كانت كفرًا عمليًّا -كما يقرره المرجئة- وإنما يخرج عن مسمى الإيمان بالكفر الاعتقادي فقط، بينما أهل السنة يفصِّلون في هذا، فإن كانت الكبيرة مكفرة أو شركًا فهي مخرجة عن الإيمان، وإن كانت عملية فعلى هذا يكون الخلاف حقيقيًّا لما ورد من النصوص الدالة على زيادة الإيمان، وما ورد من نفي الإيمان عن بعض مرتكبي الكبائر كالزاني والسارق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفِّر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال. الأئمة كأبي حنيفة يعظِّمون الأمر والنهي مع قولهم بأن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، ويعظمون الأمر والنهي، لكن الذي يسمع كلامهم، وأن المسلم قد يكون كامل الإيمان -لأن الإيمان في أصله واحد- بمجرد التصديق ولو عمل ما عمل من الكبائر، وترك ما ترك من الأوامر، الذي يسمع هذا الكلام من عامة الناس، أو من آحاد المتعلمين يظن أن الإمام أبا حنيفة لا يقيم للأعمال وزنًا، فيتهاون بها، ولذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم؛ لأنهم لما وافقوا الجهمية في عدم دخول العمل في مسمى الإيمان، وإن اختلفوا معهم في أصل الاعتقاد؛ لأن أولئك يقتصرون على المعرفة دون النطق.
المقدم: يعني كأن شيخ الإسلام يرى أن مرجئة الفقهاء أو أن قولهم صار من آثاره مثل هذه البدع التي ازدادت شيئًا فشيئًا مثل بدعة الإرجاء المحض كأنها من آثار مرجئة الفقهاء.
كأنهم سهَّلوا السبيل ويسَّروه لمن زاد في بدعته، ولمن أخَلَّ بالأعمال الصالحة وارتكب بعض المحرمات؛ لأن هذا يفتح بابًا لعامة الناس الذين يسمعون مثل هذا الكلام فلا يعظمون الأمر والنهي، وبهذا يخرجون عن ربقة الإسلام وهم لا يشعرون، إذا تركوا جميع الأوامر، وارتكبوا جميع الفواحش والمنكرات ماذا يبقى لهم من أصل الإيمان؟!
المقدم: هم يرون أن أصل الإيمان واحد وهو مجرد التصديق كيف يقول مرجئة الفقهاء؟ كيف يبررون تفاضل إيمان أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وبقية الأمة مثلاً؟
يقولون: هم في أصل الإيمان واحد، لا فرق، ولذا يقول بعض غلاتهم: إن إيمانه كإيمان جبريل، بل يقول: إن إيمان أفسق الناس وأفجر الناس وإيمان جبريل واحد.
المقدم: إذًا الذي وقَرَ في قلب أبي بكر ما هو؟ الذي جعله يفضل على الأمة؟
أقول: بمثل هذا يرد عليهم، وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مع قوله إن بدعة هؤلاء كأبي حنفية من مرجئة الفقهاء يقول: من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد، لكن مع ذلك ترتب عليها آثار، ترتبت على هذا القول، يقول: لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم -يعني المرجئة- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة، الذين هم الخوارج، من أي جهة؟ فتنة المرجئة تجعل الإنسان ينسلخ من دينه، فلا يفعل مأمور، ولا يترك محظور.
المقدم: بمجرد التصديق يكفي.
بمجرد التصديق يقول: كَمُل إيمانه، وفتنة الأزارقة يعظمون الأمر والنهي، بل إنما خرجوا عن الوسطية لغلوهم في هذا الباب، ويقول الزهري: ما ابتُدِعَت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وعرفنا سبب هذا، وقال شَرِيك القاضي: هم أخبث قوم يكذبون على الله، وقال سفيان الثوري: تركَت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري، ثوب رقيق، بمجرد التصديق يكفي وإقرار به. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم في صحيحه، باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الزخرف 72] باب من قال: إن الإيمان هو العمل، واستدل بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الزخرف 72] وقال عدة من أهل العلم في قوله -عز وجل-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر 92-93] عن قول لا إله إلا الله، قال ابن رجب في شرح البخاري: مقصود البخاري بهذا الباب أن الإيمان كله عمل مناقضةً لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية، فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان، ومقصود البخاري هنا أن يسمى عملاً أيضًا، وأما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل -يقوله ابن رجب- وأما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير ذلك، فإنه لا يخالف فيه أحد، فصار الإيمان كله على ما قرره عملاً.
بقي عندنا مسألة، وهي: ما معنى كون الأعمال شرط؟ هل نقول إنه شرط صحة، فيُخشى من هذا ما يُخشى من موافقة الخوارج؟ أو نقول هو شرط كمال كما قال ابن حجر؟ يقول ابن حجر: الفرق بين المعتزلة والسلف أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحة الإيمان، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحة الإيمان، ولذا يرتفع بارتفاعها أو شيء منها.
المقدم: المعتزلة وافقهم الخوارج.
الخوارج من باب أولى، السلف جعلوها شرطًا في كماله، لكن يرِد على هذا كيف نقول بأنه شرط وهو أيضًا كمال، الكمال قدر زائد على الماهيَّة، والشرط لا تحصل الماهيَّة إلا بحصوله، فهذا تناقض، كأنك تقول: هذا شرط لكنه سنة؛ لأن الكمال القدر الزائد على الواجب، الصواب أنه عند السلف شرط صحة، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن هل يشترط كل عمل من الأعمال شرط لصحة الإيمان؟ كل عمل بمفرده شرط لصحة الإيمان؟ يرتفع بارتفاعه -كما يقول الخوارج والمعتزلة-؟
المقدم: يعني أفراد الأعمال.
أفراد الأعمال.
أو المقصود المشترط جنس العمل لا جميعه؟ خلاف المقصود -كما قرره شيخ الإسلام- المشترط جنس العمل، خلافًا للخوارج والمعتزلة، فإذا تُرك جنس العمل بمعنى أن الشخص إذا لم يعمل شيئًا مما أمره الله به فإن اسم الإيمان يرتفع عنه، إذا لم يعمل شيئًا ألبتة، أما إذا عمل شيئًا وترك شيئًا مما لا يكفر بتركه فإن اسم الإيمان لا يرتفع بالكلية، بل هو عند أهل السنة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، كما قرر ذلك أهل العلم المحققون من أهل السنة والجماعة، وبسْط هذا الموضوع وهو الإيمان سيأتي -إن شاء الله تعالى- في ثنايا الكلام على أبواب الصحيح -إن شاء الله تعالى-.
هذا وقد ألَّف بعض المعاصرين كتبًا ينصر فيها مذهب المرجئة، ويزعم أنه قول أهل السنة والجماعة والسلف لكن اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ردُّوا عليه، وبيَّنوا المذهب الصحيح في المسألة، وأن مذهب أهل السنة والجماعة يُدخِلون العمل في مسمَّى الإيمان، ونصحوا هذا الكاتب بأن يراجع ما كتب، وأن يقرر الصواب بدليله، فعلَّه أن ينصاع لما نصحه به هؤلاء الأئمة من أئمة العصر، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: جزاكم الله خير، وأحسن إليكم، ونسأل الله تعالى أن يمن علينا وعلى الجميع بالهداية والتوفيق، وأن يردنا وإياهم إلى الحق ردًّا جميلاً.
مستمعي الكرام انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح لي بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.