شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (048)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بقسم السنة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لا زال الحديث عند حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه-، وقد أشرتم إلى شيء من ألفاظ الحديث، ووعدنا الإخوة المستمعين باستكمال ما تبقى، مع ربط أهم الأفكار التي وردت في الحلقة الماضية -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقفنا فيما تقدم على كلام ابن حجر في تعقُّبه الكرماني، وأن ابن حجر قال: محصَّل القصة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يوْسِع العطاء لمن أظهر الإسلام تألُّفًا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلَّفة، وترك جُعيلاً وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد في أمره؛ لأنه كان يرى أنه، يعني سعدًا، كان يرى أن جُعيلاً أحق منهم لما خبره منه دونهم؛ ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أمرين: أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطائه أولئك وحرمان جُعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلَّف لم يؤمَن ارتداده، فيكون من أهل النار.
ثانيهما: إرشاده على التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، يعني الإنسان يثني على الإنسان بما يعرف، فيثني عليه بما يظهر له، ويكل الباطن والسرائر إلى الله -سبحانه وتعالى-، فوضَح بهذا فائدة رد الرسول -عليه الصلاة والسلام- على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى، والآخر على طريق الاعتذار، أحد الجوابين في قوله: «أو مسلمًا؟» يعني لا تجزم بالأمور الباطنة، بل اجزم بالأمر الظاهر، الرد الثاني: وهو المحمول على طريقة الاعتذار: «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية...» هذا اعتذار من النبي -عليه الصلاة والسلام- في تركه جُعيلاً.
وفي شرح ابن رجب -رحمه الله تعالى- هذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقًا، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نفى عنه الإيمان، وأثبَتَ له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي، وهو أيضًا قول محمد بن نصر المروزي، يعني هو لازم قول من لا يفرِّق بين الإسلام والإيمان؛ لأن الرسول في الحديث -عليه الصلاة والسلام- نفى الجزم بالإيمان، وأثبت الإسلام، فإذا قلنا: أنه أثبت له الإسلام الحقيقي انتقض مذهب البخاري في أنهما شيء واحد الإسلام والإيمان، إذا نفي اللفظ نفي ما يرادفه، فإذا انتفى الجزم له بالإيمان انتفى الجزم له بالإسلام عند من يقول بالترادف، ويكون إثبات الإسلام الموجود في الحديث هو مجرد استسلام، وهو حقيقة لغوية، ولذا يقول ابن رجب: هذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقًا، يعني مستسلم في الظاهر، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نفى عنه الإيمان وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي، وهو أيضًا قول محمد بن نصر المروزي.
قال ابن رجب: وهذا في غاية البُعْد، وآخر الحديث يَرُدُّ على ذلك، وهو قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه» فإن هذا يدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وكَلَه إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويمنع المهاجرين والأنصار.
قد يقول قائل: كيف يَخْفى مثل هذا الكلام على الإمام البخاري مع دقَّته؟! نقول: البخاري ليس بمعصوم، البخاري رغم إمامته ودِقَّته وبُعْد نظره وشدة غوصه على المعاني ليس بمعصوم، وكثيرًا ما يحصل مثل هذا للأئمة الكبار الذين يوغلون في استعمال الذهن والفكر، أنهم إذا أخطؤوا يُنجِعون، يبعدون النَّجْعَة؛ لأن الإنسان مهما كان بشر، ومهما بلغ من العلم والفضل والدقة وشدة الفهم إلا أنه لن يجاوز ما قاله الله -سبحانه وتعالى- عن البشر قاطبة: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء 85].
يقول: والظاهر -والله أعلم- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- زجر سعدًا عن الشهادة بالإيمان؛ لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن، فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال: إن كنت مادحًا لا محالة...، كأنه قال: إن كنت مادحًا لا محالة فقل كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «أحسب فلانًا كذا ولا أزكي على الله أحدًا» ولهذا كَرِه أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفة مدح، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها، وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره، فأما حديث: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» هذا عمل ظاهر، خرَّجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعًا، فقد قال أحمد: هو حديث منكر، ودرَّاج له مناكير.
وقال ابن حجر: فإن قيل: كيف لم تُقبَل شهادة سعد لجُعَيل بالإيمان ولو شهد له بالعدالة لقُبِل منه وهي تستلزم الإيمان؟ يعني حينما يشهد أو يزكِّي أو يعدِّل إمام من أئمة الجرح والتعديل راويًا بأنه ثقة فإنه يثبت له جميع ما يستلزمه هذا اللفظ من أوصاف، من عدالة في الدين وضبط، فكيف لم يَقبِل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة سعد لجُعيل بالإيمان ولو شهد له بالعدالة لقَبِل منه وهي تستلزم الإيمان؟ فالجواب أن كلام سعد لم يَخرُج مَخرَج الشهادة، وإنما خَرَج مَخرَج المدح والتوسل في الطلب لأجله؛ فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لَمَا استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رَدَّ الشهادة، بل السياق يُرشِد إلى أنه قَبِل قوله فيه بدليل أنه اعتذر إليه.
يقول ابن حجر: روِّينا في مسند محمد بن هارون الرُّوْياني وغيره بإسناد صحيح إلى أبي سالم بن جيشان عن أبي ذر -يقول بإسناد صحيح- عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: «كيف ترى جُعيلاً؟» قال: قلت: كشَكْله من الناس، يعني المهاجرين، قال: «فكيف ترى فلانًا؟» قال: قلت: سيد من سادات الناس، قال: «فجُعيل خير من ملئ الأرض من فلان» قال: قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع؟! قال: «إنه رأس قومه، فأنا أتألُّفهم به» لا شك أن المصلحة مصلحة الدعوة تقتضي التأليف، ولذا كان من مَصرِف الزكاة، من مَصارِف الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام إعطاء المؤلَّفة قلوبهم، فهذه منزلة جُعَيل عند النبي -عليه الصلاة والسلام- كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة في حرمانه وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف.
"قال سعد: فسكتُّ" يعني سكوتًا قليلاً "ثم غلبني ما" أي الذي "أعلمه منه، فعدت" أي فرجعت "لمقالتي" مقالتي مصدر ميمي بمعنى القول، أي لقولي "فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟! فو الله إني لأراه" وفيه ما تقدم بفتح الهمزة والقول بضمها "مؤمنًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «أو مسلمًا؟» فسكتُّ سكوتًا قليلاً ثم غلبني ما" أي الذي "أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وليس في رواية الكشميهني يعني إعادة السؤال ثانيًا، ولا الجواب عنه.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- مبيِّنًا العِلَّة في ترْك إعطاء جُعيل: «إني لأعطي الرجل» الضعيف الإيمان «العطاء أتألَّف قلبه به» وحُذِف المفعول الثاني للتعميم، أيْ أيَّ عطاء «وغيره أحب إليَّ منه» جملة حالية، وفي رواية أبي ذر والمستملي: «أعجب إلي خشية أن يَكُبَّه الله» بفتح الياء المثنَّاة التحتية، وضم الكاف، ونصب الموحدة «أن يَكُبَّه» فعل مضارع منصوب بـ(أن) أي لأجل خشية كب الله تعالى إياه، أي إلقائه منكوسًا في النار لكفره، إما بارتداده إن لم يُعْطَ، أو لكونه يَنسِب النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى البخل.
قال ابن حجر: أكَبَّ الرجل إذا أَطرَق، وكَبَّه غيره إذا قلَبه، وهذا على خلاف القياس؛ لأن الفعل اللازم يتعدَّى بالهمزة، وهذا زِيدَت عليه الهمزة فقَصُر، لزم لَمَّا زيدت عليه الهمزة، وهذا على خلاف القياس؛ لأن التضعيف والهمزة يتعدَّى بها الفعل، وتقدم أن كذب وصدق في حديث هرقل من غرائب الألفاظ، ففعَّل بالتشديد يقتصر على مفعول واحد، وفعَل بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين وهذا تقدم، وقد ذكر المؤلف في كتاب الزكاة فقال، يعني بعد رواية الحديث: يقال: أكَبَّ الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحد، يعني رباعي لازم، الإمام البخاري يقال: أكَبَّ الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل قلتَ: كَبَّه وكببته، وحكى ابن الأعرابي في المتعدي: كَبَّه وأكَبَّه معًا.
يقول النووي -رحمه الله-: الحديث فيه الشفاعة إلى ولاة الأمر، وغيرهم مما ليس بحرام، هذا شفَع لجُعيل لدى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفيه مراجعة المشفوع إليه في الأمر الواحد مرارًا إذا لم يؤدِّ ذلك إلى مفسدة، والشفاعة أمرها لا يخفى، الشفاعة الحسَنة «اشفعوا تؤجروا» هذا إذا لم يكن مما يترتب عليه محظور أو ترك مأمور، ففي الحديث فضل الشفاعة إلى ولاة الأمر مما ليس بحرام، وفيه أيضًا مراجعة المشفوع إليه في الأمر، ما يقول: أنا شفعت وانتهى دوري، بل إذا راجع مرة ومرتين إذا كان على قناعة ممن يشفع له، وأنه يصلح له هذا الأمر، وأنه ليس في الشفاعة ضرر على أحد.
مرارًا إذا لم يؤدِّ ذلك إلى مفسدة، وفيه الأمر بالتثبُّت وترْك القطع بما لا يُعلَم القطع فيه، تثبُّت لَمَّا قال: مؤمنًا قال: «أو مسلمًا؟» تثبَّت الآن لا تحكم إلا على الظاهر، أما الباطن لا بد أن تتثبَّت فيه.
وفيه أن الإمام يصرِف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم، وفيه: أن المشفوع إليه لا عَيْب عليه إذا رد الشفاعة؛ لأنه قد تقتضي المصلحة من وجهة نظره عدم إجابة الشافع، وحينئذٍ لا ضَيْر على الشافع ولا المشفوع إليه، وفيه أن المشفوع إليه لا عَيْب عليه إذا رد الشفاعة إذا كانت خلاف المصلحة، فإن كان وليَّ أمر المسلمين أو ناظرهم لم يَجُز له قبول شفاعة تخالف مصلحة ما هو ولي أمره، وهذا مما ينبغي أن يُحفَظ، فإنه مما تَعُمُّ به البلوى، كذا يقول النووي، والنووي -رحمه الله تعالى- معروف بهذا الباب، كثير الشفاعات، وتأتيه الردود، وأحيانًا يكون في بعض الردود قسوة، بل وُجِّه إليه الأمر ألا يشفع لأحد، ومع ذلك شفع، فلما شفع بعد المنع قال المشفوع إليه: إن هذا الرجل أمره لله فاقبلوا شفاعاته.
وفيه: أن المشفوع إليه إذا رَدَّ الشفاعة ينبغي أن يعتذر إلى الشافع ويبيِّن عذره في ردِّها «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ» هذا اعتذار للشافع، يعني شفع سعد مرارًا لهذا الرجل كونه يُترَك بدون رد يعني في النفس شيء، ففيه أن المشفوع إليه إذا رد الشفاعة ينبغي أن يعتذر إلى الشافع ويبين عذره في ردها، نعم قد يتعذر الرد بالنسبة لبعض الناس كل من شفع إليه يرد عليه، هذا فيه.. أقول: هذا أمر لا سيما إذا كان في موقع يحتاجه الناس كلهم، وتكثر الشفاعات لديه، قد لا يتمكن من الرد على كل أحد، لكن يُنزِّل الناس منازلهم كما أُمرنا بذلك، وفيه أن المفضول ينبِّه الفاضل على ما يراه مصلحة لينظر فيه الفاضل، فيه أن المفضول ينبه الفاضل على ما يراه مصلحة لأن سعد لما نبَّه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى جُعيل ما أنكر عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، فبيَّن ونبَّه المفضول سعد الفاضل، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما يراه مصلحة هذا رأيه، وهذه وجهة نظره لينظر فيه الفاضل، ينظر الفاضل بالأمر الذي تبرأ به ذمته، ويدين الله به، وينفِّذ على مقتضى ما يدين الله به.
فيه أن المشار عليه يتأمل ما يشار به عليه، فإذا لم تظهر مصلحته لا يعمل به، وفيه أنه لا يُقطَع لأحد على التعيين بالجنة إلا من ثبت فيه كالعشرة من الصحابة، وأشباههم -هذا كلام النووي- فيه أنه لا يُقطَع لأحد على التعيين بالجنة إلا من ثبت فيه كالعشرة من الصحابة وأشباههم -رضي الله عنهم-، بل يُرجى للطائع ويخاف على العاصي، ويقطع من حيث الجملة أن من مات على التوحيد دخل الجنة، وهذا كله بإجماع أهل السنة كذا قال النووي.
قال ابن حجر: منع القطع بالجنة لا يؤخذ من هذا، يعني الحديث، صريحًا، وإن تعرَّض له بعض الشارحين، يعني مثل النووي، نعم هو كذلك يعني الحكم كذلك، لكن هل يدل عليه الحديث؟ لا، ليس الحديث بصريح الدلالة على هذه المسألة، يقول: نعم هو كذلك، يعني لا يُقطَع لأحد بجنة ولا بنار، فيمن لم يثبت فيه النص، قال النووي: فيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: أن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب خلافًا للكرَّامية وغلاة المرجئة في قولهم يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهر يردُّه إجماع الأمة، والنصوص المتظاهرة في تكفير المنافقين، وهذه صفتهم، وفيه أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان؛ لقوله كما في كتاب الزكاة: "فقمت إليه فساررته" وقد يتعين الإسرار إذا جَرَّ الإعلان إلى مفسدة.
قال ابن حجر: وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإسلام والإيمان، يعني خلافًا لما ذهب إليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ومحمد بن نصر وجمع من أهل العلم، هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان باطن ومن عمل القلب، والإسلام ظاهر ومن عمل الجوارح، لكن لا يكون المؤمن إلا مسلمًا، وقد يكون المسلم غير مؤمن، ولفظ الحديث يدل عليه.
قال الخطابي: هذا الحديث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان، فيقال له: مسلم، أي: مستسلم، ولا يقال له: مؤمن، وهو معنى الحديث، قال الله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [سورة الحجرات 14] أي استسلمنا، وقد يتفقان في استواء الظاهر والباطن، فيقال للمسلم: مؤمن، وللمؤمن مسلم، كلام الخطابي يقول: هذا الحديث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان، فيقال له مسلم، أي مستسلم، كأن كلام الخطابي فيه تأييد لكلام أو لاستنباط البخاري، يقال له مسلم، أي مستسلم، ولا يقال له مؤمن، وهو معنى الحديث، يعني أن المراد بالإسلام في الحديث هو الاستسلام يعني الحقيقة اللغوية وليست الحقيقة الشرعية، وعرفنا ما في هذا.
قال الله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [سورة الحجرات 14] أي استسلمنا، وقد يتفقان، هذا جارٍ على قاعدة الجمهور، وأن الإسلام والإيمان قد يجتمعان فيما إذا افترقا، وقد يتفقان في استواء الظاهر والباطن، فيقال للمسلم: مؤمن، وللمؤمن مسلم، والممنوع عند أهل العلم المرادفة المطلقة، يعني الإسلام مرادف للإيمان مطلقًا في الاجتماع والافتراق.
هذا والحديث خرَّجه الإمام البخاري في موضعين:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، بابٌ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرنا عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... فذكره، وتقدم ذكر مناسبة الحديث للترجمة، ثم قال الإمام البخاري بعد رواية الحديث: ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخ الزهري عن الزهري، وهؤلاء كلهم متابِعون لمَن؟ لشعيب، شعيب بن أبي حمزة، الذي في أصل الرواية، عن الزهري.
يقول النووي: فائدة لطيفة تدعو الحاجة إلى معرفتها، ويكثر الانتفاع بخبرتها، وهي أن قول البخاري والترمذي وغيرهما: رواه فلان وفلان، يعني مثل ما قال الإمام البخاري هنا ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخ الزهري، رواه فلان وفلان، هذا يصنعه البخاري كثيرًا، وقول بعضهم يعني الترمذي: وفي الباب عن فلان وفلان وشبه هذا له ثلاث فوائد:
إحداها: بيان كثرة طرق الحديث ليزداد قوة.
الثانية: أن يُعلَم رواته، يُعلَم الرواة ليتتبع روايتهم ومسانيدهم من رغب في شيء من جمع الطرق أو غيره لمعرفة متابعة أو استشهاد أو غيرهما.
الثالثة: أن يعرف أن هؤلاء المذكورين رووه فقد يتوهم من لا خبرة له أنه لم يروه غير ذلك المذكور في الإسناد المذكور، فربما رآه في كتاب آخر عن غيره فتوهمه غلَطًا، وزعم أن الحديث إنما هو من جهة فلان، فإذا قيل: عن فلان وفلان ونحو ذلك زال ذلك الوهم، والله أعلم.
لكن يبقى الفرق بين صنيع الإمام البخاري وصنيع الترمذي، أن صنيع البخاري حينما يقول: رواه فلان وفلان هذه كلها في الغالب متابعات، وحينما يقول الترمذي: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان وهم من الصحابة كلها شواهد، على ما هو معروف في الفرق بين الشاهد والمتابعة.
الموضع الثاني: في كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [سورة البقرة 273] قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا محمد بن غرير الزهري، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عامر بن سعد عن أبيه قال: "أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهطًا، وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم رجلاً لم يعطه وهو أعجبهم إليَّ، فقمت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساررته، فقلت: ما لك عن فلان" فذكره.
وجه المناسبة بين الحديث والترجمة ما يُشعِر به السياق أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كره من سعد إلحاحه عليه في المسألة، ويحتمل من وجه آخر أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- من جهة ترْك المشفوع له المسألة، الإمام البخاري أدخل هذا الحديث؛ لأن المشفوع له وهو جُعيل ترَك المسألة، ما سأل، مع أنه أشير إليه بأنه يستحق العطاء، فمُدح بهذا.
أقول: الحديث له وجهان: من جهة إلحاح سعد في سؤاله النبي -عليه الصلاة والسلام- لجعيل أن يعطيه النبي -عليه الصلاة والسلام- من المال هذا فيه ذم للإلحاح، ومن جهة أخرى جُعيل وقد عُرِّض به وسأل له العطاء ما سأل يمدح من هذه الحيثية، على أن الإنسان قد لا يذم بالإلحاح، متى؟ إذا لم يسأل لنفسه، إذا سأل لغيره ولو ألح مرة ومرتين وثلاث ما فيه إشكال؛ لأنه لا يُتَّهَم حينئذٍ؛ لأن المذموم في الإلحاح أن يسأل لنفسه {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [سورة البقرة 273] يعني لهم، أما إذا سأل وهو محسن يسأل لغيره هذا ما يُعتبَر إلحاحًا ولا إلحافًا.
والحديث أيضًا أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- فهو من المتفق عليه.
المقدم: أحسن الله إليكم البخاري ما ذكر اسم هذا الصحابي أبدًا في أي موضع.
أبدًا، ما صُرِّح به.
المقدم: ما صُرِّح به.
ولم يذكره أيضًا في تاريخه على سعته، وإنما ذكر جُعيل مهمل، قال: قال رافع بن زياد بن الجعد بن أبي الجعد الأشجعي البصري: حدثني أبي عن عبد الله بن أبي الجعد أخ سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني جُعيل قال: "غزوت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في أخريات الناس" وجُعيل هذا الذي ذكره الإمام -رحمه الله تعالى- غير جُعيل الذي معنا، إنما هو جُعيل آخر هو جُعيل الأشجعي، ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب فقال: كوفي، روى عنه عبد الله بن أبي الجعد حديثًا حسنًا في أعلام النبوة، قال: "كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواته على فرس لي ضعيفة عجفاء في أخريات الناس، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سِر» فقلت: إنها عجفاء ضعيفة، فضربها بجَحَفَة كانت معه، وقال: «بارك الله لك فيها» فلقد رأيتني أول الناس ما أملك رأسها، وبِعْتُ من بطنها باثني عشر ألفًا".
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
السائل: أحسن الله إليك يا شيخ هل سمي أحد من الرهط الذين أعطاهم -صلى الله عليه وسلم-؟
نعم، في الاستيعاب لابن عبد البر -رحمه الله- جُعيل بن سراقة الغفاري، ويقال: الضمري، أثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووكَلَه إلى إيمانه، وذلك أنه أعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى سهيل بن عمرو مائة، فقالوا: يا رسول الله أتعطي هؤلاء وتدع جُعيلاً؟ وكان جعيل من بني غفار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «جُعيل خير من طلاع الأرض من مثل هؤلاء، ولكني أعطي هؤلاء وأتألَّفهم، وأَكِلُ جُعيلاً إلى ما جعل الله عنده من الإيمان» هذا ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، وهذا فيه تسمية هؤلاء أبو سفيان وعيينة بن حصن وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس هؤلاء أعطاهم على مائة مائة من الإبل، ووَكَلَ جُعيلاً -رضي الله عنه وأرضاه- إلى إيمانه، فيكون من هؤلاء الرهط هؤلاء الأربعة.
المقدم: أحسن الله إليكم أيها الإخوة والأخوات انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.