التعليق على الموافقات (1426) - 05
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
قال المؤلف –رحمه الله-: "في تتمة المسألة السابعة فصل: ومن الفوائد في هذه الطريقة: الاحتياط في اجتناب الرخص في القسم المُتكلم فيه، والحذر من الدخول فيه، فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خُدع الشيطان، ومحاولات النفس، والذهاب في اتباع الهوى على غير مهيع؛ ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم، وهو أصلٌ صحيحٌ مليح، مما أظهروا من فوائدهم -رحمهم الله- وإنما يُرتكب من الرخص ما كان مقطوعًا به، أو صار شرعًا مطلوبًا كالتعبدات، أو كان ابتدائيًّا كالمساقاة والقرض؛ لأنه حاجي، وما سوى ذلك".
الكلام في الرخص الشرعية التي جاءت بها الأدلة الصحيحة والأخذ بها من حيث هي رخص أمرٌ شرعي، لكن باعتبار ما تؤدي إليه وتجر إليه من مزيد التساهل؛ لأن النفس لا نهاية لها، النفس لا تنتهي إلى حد، فإذا عُوِّدت وجُبلت على اتباع الأسهل وهو الترخص لا شك أنها تجر إلى ما وراء ذلك، وإذا عُوِّدت على العزائم يكون في وقت استرخائها ميلٌ إلى شيءٍ من الرخص، فهذا من باب الاحتياط في الدين يحملون على العزائم، وإلا فما دامت الرخص مشروعة بدليلٍ شرعيٍّ صحيح لا إشكال في جواز الأخذ بها، لكن باعتبار ما تؤدي إليه من هذه الحيثية يُرغِبون في ارتكاب العزائم، ومن هذا ترك كثير من السلف لكثيرٍ من المباحات، التي جاءت الأدلة بإباحتها؛ خشيةً من أن تجرهم إلى المكروهات والشبهات، ثم المحرمات، وقال قائلهم: تركنا تسعة أعشار الحلال؛ خشية الوقوع في الحرام.
ويُوجد ممن ينتسب إلى العبادة والزهد إلى يومنا هذا من يترك كثيرًا من المباحات لا على أنها أمور مُحرَّمة يُحرِّمها على الناس ويُضيق على الناس، هذا لا يجوز بحال؛ لأن تحريم الحلال ليس بأولى وأسهل من تحليل الحرام، فكلا طرفي القصد مذموم، لا منع الناس مما أباح الله لهم والتضييق عليهم، كما أن الطرف الثاني من التوسع في المُحرمات أيضًا أو في المكروهات أمرٌ ذميمٌ أيضًا؛ لأنها تجر إلى ما وراءها.
المقصود أن على المسلم أن يتوسط في أموره كلها، وإذا حمل نفسه على العزائم في وقت السعة؛ لئلا تنفلت منه في وقت الضيق هذا منهج معروف عند سلف هذه الأمة، لكن من غير تحريمٍ لِما أحل الله تعالى.
"وما سوى ذلك فاللجأ إلى العزيمة.
ومنها: أن يُفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» فالرخص التي هي محبوبةٌ ما ثبت الطلب فيها".
"ما ثبت الطلب فيه" عندكم فيها؟
طالب: ما ثبت الطلب بها يا شيخ؟
"ما ثبت الطلب فيه" عند الإخوان فيها، فيها باعتبارها رخصة، باعتبار الواحد وإذا قلنا: فيه فالعود على ما، نعم.
"فإنَّا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-«لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصيام في السفر» كان موافقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}[النساء:28].
بعدما قال في الأولى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:184].
وفي الثانية: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}[النساء:25]".
في هذا ما يدل على أن ارتكاب العزيمة خير، وهو مُفضَّل من هذه الحيثية باعتبار أنه أدخل في الخير؛ لأن خير أفعل تفضيل، فارتكاب العزيمة خير، فهو أفضل من الرخصة.
طالب:.........
هذا في وقت التشريع ما هو بعد حسم الأمر، في وقت التشريع يُخير بين أمرين فيختار الأيسر تخفيفًا على الأمة، أما الآن وقد استقرت الشريعة فليس هناك إلا راجح أو مرجوح، وليس هناك تخيير.
"فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق؛ ليكون على بينةٍ في المجاري الشرعيات، ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا المقام، تبين له ما ذُكِر أتم بيان، وبالله التوفيق، هذا تقرير وجه النظر في هذا الطرف.
فصل:
وقد يقال: إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه".
انتهى من أدلة من يرجح ارتكاب العزيمة، لو افترضنا أن شخصًا رأى منكرًا، وتغيير هذا المنكر باليد يترتب عليه ضرر في نفسه، أو المرتبة الثانية تغييره باللسان يترتب عليه ضرر، ويقول: أنا أتحمل الضرر في سبيل تغيير هذا المنكر، هذه عزيمة، لكن لجؤه إلى التغيير بالقلب رخصة، قُل: فيه سعة، الأمر فيه سعة، لكن كونه يرتكب العزيمة عند أهل العلم أفضل ما لم يكن الضرر متعديًا لغيره، أما إذا كان الضرر لازمًا بنفسه فله أن يختار ذلك.
"أحدها: أن أصل العزيمة وإن كان قطعيًّا فأصل الترخص قطعيٌ أيضًا، فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعيةً أو ظنية".
يعني الاستدلال لأصل المسألة وهو الترخص قطعي، لكن الاستدلال على مفرداتها هذا ظني، وآحاد هذه المفردات وتحقيق مناط هذه المفردات أيضًا يعتريه ما يعتريه من وجهات نظر المُطبقين.
فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الجمع، الجمع بسبب المطر له أصل في الجملة، لكن آحاد هذه المسائل تجد وجهات النظر تتباين فيها تباينًا كبيرًا، فمن الناس من يغرق الناس، ويتأذى الناس بكثرة الأمطار، ويكون عليهم خطر شديد ومشقة عظيمة، ومع ذلك يرتكب العزيمة، ومن الناس لأدنى سبب يجمع بين الصلاتين، وبينهما الوسط الذي هو وصف هذه الشريعة، فلا هذا ولا هذا، المسألة متوسطة وتأتي وجهات تباين النظر في هذا الباب كبير جدًّا، من هذه الحيثية يعتري الترخص في مثل هذه المسائل ما يعتريه ويجعل الأخذ بالعزيمة هو الأصل.
"فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتُّب الأحكام مجرى القطع، فمتى ظُن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار، فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية.
ولا يقال: إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن".
باعتبار أن القطع أرجح، باعتبار أن المقطوع به أرجح من المظنون، هذا عند التعارض لا شك أنه إذا تعارض دليلٌ ظني مع دليلٍ قطعي يُرجَّح القطعي سواءً كان في الثبوت أو في الدلالة، لكن إذا تعارض أصل الأصول، أصل المسائل التي مبناها على العزيمة قطعي، وأصل المسائل التي مبناها على الرخصة قطعي أيضًا هذا الأصول، ثم تعارض الدليل القطعي الدال على العزيمة مع دليلٍ ظني يخص مسألة من مسائل الترخص بعينها أو العكس هنا لا معارضة.
"لأنَّا نقول: إنما ذلك في باب تعارض الأدلة، بحيث يكون أحدهما رافعًا لحكم الآخر جملة، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص، أو المطلق مع المقيد، فلا".
"فلا" يعني لو كان العام قطعيًّا ثبت بالقرآن، ومُخصصه ظني أو العكس، وقُل مثل هذا في المطلق والمقيد، فإن مثل هذا لا يكون تعارضًا؛ لأن التعارض إنما يكون إذا ضاقت المسالك لم يتيسر الجمع بوجهٍ من الوجوه وحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص من أوجه الجمع، فلا تعارض أصلاً.
طالب:.........
لم يقل: أنه زيادة على النص.
"ومسألتنا من هذا الثاني لا من الأول؛ لأن العزائم واقعةٌ على المكلَّف بشرط أن لا حرج، فإذا كان الحرج صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة".
"فإن كان الحرج" ماذا عندكم؟
طالب: "صح اعتباره".
"فإن كان" فإن.
طالب: "فإن كان الحرج صح اعتباره".
صحيح.
"وأيضًا فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق، كما إذا كان الأصل التحريم في الشيء، ثم طرأ سببٌ محللٌ ظني، فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد، وإن أمكن أن يكون بغيره أو يُعين على موته غيره، فالعمل على مقتضى الظن صحيح، وإنما كان هذا؛ لأن الأصل وإن كان قطعيًّا فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن".
على القول المُحقق عند جمع من أهل العلم أن السُّنَّة تنسخ القرآن، وإلا فالذي يراه كثير، بل أكثر أهل العلم أن السُّنَّة لا تنسخ القرآن؛ لأن آحاد السُّنَّة عندهم ظنية، فلا تنسخ القطعي، ويُشترط التساوي في الناسخ والمنسوخ، لكن على القول المُحقق –وهو الصحيح- أن السُّنَّة وإن كانت آحادًا تنسخ القرآن، فالظني ينسخ القطعي ولا إشكال؛ لأن كله من عند الله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3-4] والمسألة مُفترضة فيما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
طالب:.........
لا، هم عندهم المتواتر السُّنَّة قطعي مثله مثل القرآن.
طالب:.........
ينسخ.
طالب:.........
ينسخ مساوٍ.
"إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا، بل مع الشك، فكذلك ما نحن فيه، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تُبقي للقطع المتقدم حكمًا، وغلبات الظنون معتبرة فلتكن معتبرةً في الترخص".
أهل العلم قاطبة يرون أن أكثر الأحكام ظنية، الأحكام أكثرها مبني على غلبة الظن؛ لأن ثبوتها بأدلةٍ ظنية.
طالب:.........
مما لم يتكلم فيه.
طالب:.........
قطعي.
طالب:.........
لأنه احتف بها ما احتف من كونها قطعية، من القرائن التي يرتقي بها الخبر إلى حيز القطع، من القرائن التي تجعل خبر الواحد يُفيد القطع واليقين: أن يكون مرويًا في الصحيحين، ومنها: أن يتسلسل بالأئمة المشهورين، ومنها: أن يكون له طرق كثيرة منتشرة واسعة بحيث يغلب على الظن عدم التواطؤ.
"والثاني: أن أصل الرخصة وإن كان جزئيًّا بالإضافة إلى عزيمتها، فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن تقدح فيما أُمر به بالترخص، بل الجزئي إذا كان مُستثنىً من كلي فهو معتبرٌ في نفسه؛ لأنه من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق، وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني، فهذا أولى، وأيضًا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني، دون أصل العموم وهو قطعي فكذلك هنا، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته -كما هو مقررٌ في موضعه من هذا الكتاب- فكذلك هنا، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها، وذلك فاسد، فكذلك ما أدى إليه".
التخصيص والتقييد يقع بالظني، ويقع بما هو دون ذلك عند أهل العلم؛ لأنه ليس برفعٍ كلي للحكم إنما هو رفعٌ جزئي بخلاف النسخ.
"والثالث: أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] .
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28].
{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}[الأحزاب:38].
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157].
وقد سُمي هذا الدين «الحنيفية السمحة» لِما فيها من التسهيل والتيسير، وأيضًا قد تقدَّم في المسائل قبل هذا أدلة إباحة الرخص، وكلها وأمثالها جاريةٌ هنا، والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكمٌ من غير دليل".
لا شك أن التخصيص ببعض الرخص التي يقوى فيها سبب الترخص دون البعض الآخر التي يضعف فيها السبب هذا ليس بتحكم، وليس بتشهٍّ، لكن إذا استوت في سبب الترخص قوةً وضعفًا، فأُخِذ ببعضها دون بعض قد يكون من هذا الباب سببه التحكم، ويبقى أن الإنسان قد يعن له رخصة ارتكب العزيمة؛ لعدم احتياجه إلى هذه الرخصة أو لأن العزيمة سهلةٌ ميسرةٌ إليه، فيُريد أن يعود إلى الأصل ولا يُلام على هذا.
"ولا يقال: إن المشقة إذا كانت قطعيةً فهي المعتبرة دون الظنية، فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم".
لوجوب العمل بكلٍّ منهما، الدليل القطعي بجب العمل بما فيه، والدليل الظني يجب العمل بما فيه، حتى على القول بأن أخبار الآحاد لا تُفيد إلا الظن يجب العمل بها عند جميع من يُعتد بقوله من أهل العلم، يجب العمل بخبر الواحد، وإن كان في أصله لا يُفيد إلا الظن عند جميع من يُعتد بقوله من أهل العلم، فمن هذه الحيثية في وجوب العمل يستوي في هذا القطعي والظني.
"وإنما يقع الفرق في التعارض".
حينما نحتاج إلى ترجيح إذا ضاقت بنا المسالك ولم نجد وجهًا للجمع، ثم أردنا الترجيح نُرجِّح القطعي على الظني.
"ولا تعارض في اعتبارهما معًا ههنا، وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى، بل قد يقال: الأولى الأخذ بالرخصة؛ لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معًا، فإن العبادة المأمور بها واقعةٌ لكن على مقتضى الرخصة، لا أنها ساقطةٌ رأسًا بخلاف العزيمة فإنها تضمنت حق الله مجردًا، والله تعالى غنيٌ عن العالمين".
حينما يُفطر المسافر في رمضان، وحينما يقصر الصلاة أو يجمع بين الصلاتين فإنه نظر إلى الحقين: حق الله –جلَّ وعلا- حيث تبع أمره، وحق العبد في إعطائه النفس ما أعطاها الشارع.
أما إذا أخذ بالعزيمة ولم يُفطر ولم يجمع بين الصلاتين، وصلى كل صلاة هذا أخذ بالعزيمة لا شك، لكن يبقى أنه راعى حق الله فقط دون حق العبد.
قد يقول قائل: إن العبد هو نفسه هو المختار لم يلزمه أحدٌ بذلك، والأمر لا يعدوه، فكونه يختار العزيمة، ويُقدم حق الله –جلَّ وعلا- على حقه لا شك أنه دليلٌ على متانةٍ في الدين، هذا الأصل، لكن إذا ترك الرخصة استنكافًا أو استغناءً عنها أو ظنًّا منه أن ما فعله أكمل مما فعله أشرف، وأكمل الخلق، وأعرف الخلق بربه –عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه يُذم من هذه الجهة.
"وإنما العبادة راجعةٌ إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة؛ فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها.
والرابع: أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلَّف عن تحمل المشاق، فالأخذ بها مطلقًا موافقةٌ لقصده، بخلاف الطرف الآخر، فإنه مظنة التشديد، والتكلف، والتعمق المنهي عنه في الآيات كقوله تعالى".
والأحاديث.
طالب: والأحاديث؟
"المنهي عنه في الآيات والأحاديث" عندكم؟
طالب: لا ما فيه.
"والأحاديث" نعم.
"كقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين}[ص:86]
وقوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}[البقرة:185] .
وفي التزام المشاق تكليفٌ وعسر".
تكلفٌ وعسر.
"وفيها رُوي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم".
أثر عن ابن عباس أخرجه الطبري وغيره بإسنادٍ لا بأس به.
"وفي الحديث: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن التبتل وقال: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي»؛ بسبب مَن عزم على صيام النهار، وقيام الليل، واعتزال النساء، إلى أنواع الشدة التي كانت في الأمم، فخففها الله عليهم بقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157].
وقد ترخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنواعٍ من الترخص خاليًا وبمرأى من الناس"
يعني منفردًا بنفسه بحيث لا يُقال: أنه ترخص من أجل التشريع، وإنما لقصد الترخص.
"وبمرأى من الناس" لكي يُقتدى به ويُشرع الأمر لأمته.
"كالقصر والفطر في السفر، والصلاة جالسًا حين جُحش شقه، وكان -حين بدَّن- يصلي بالليل في بيته قاعدًا، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ شيئًا ثم ركع".
"بدَّن" يعني: ثقل جسمه، وعظم بدنه -عليه الصلاة والسلام- احتاج إلى الجلوس.
"وجرى أصحابه -رضي الله عنهم- ذلك المجرى من غير عتبٍ ولا لوم، كما قال: ولا يعيب بعضنا على بعض، والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
والخامس: أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير، والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة، وكراهية العمل".
حمل النفس على العزيمة، وحمل أيضًا من تحت اليد أو من يقتدي به على العزيمة لا شك أنه لابد أن تفتر النفس، ويُخشى أن تفتر إلى ما دون السُّنَّة، لكن من فتر إلى سُنَّة على خير إن شاء الله تعالى «اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا»، «إن الدين يُسر ولا يُشاد الدين أحدٌ إلا غلبه» ليس معنى هذا أن تضيع تُميع الأحكام والدين، وتُذوب بين الناس، ويُقال: هذا الدين يُسر، لا، الدين دين تكليف ودين تحقيق عبودية.
"وكراهية العمل وترك الدوام، وذلك مدلولٌ عليه في الشريعة بأدلةٍ كثيرة، فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طُلب أو قيل له فيه، كره ذلك ومله، وربما عجز عنه في بعض الأوقات".
بعض المذاهب وصِفت بالتشديد، بل يُنبذ بعض الناس إذا رُؤي منه التحري والتثبت والاحتياط بأنه على المذهب الفلاني، وتُركت بعض المذاهب من أجل هذا النبذ، وإن لم يكن له حقيقة، لكن يتنابذون بأن فلان خلاص مادام حنبلي يعني مُتشدد، حنبلي متشدد، وعُرف شخص من الحنابلة ترك الحنبلية إلى الشافعية صار يُقال له: الناجي، الناجي هذا له حاشية (على الترهيب والترغيب) قيل له: الناجي؛ لأنه نجى من مذهب الإمام أحمد الذي فيه التشديد إلى مذهب الشافعي -والله المستعان-، فهم قد ينبذون بمثل هذا من باب التنفير.
"وربما عجز عنه في بعض الأوقات فإنه قد يصبر أحيانًا وفي بعض الأحوال، ولا يصبر في بعض، والتكليف دائم، فإذا لم ينفتح له باب الترخص".
من باب الترخص.
طالب: ينفتح له...
"فإذا لم ينفتح له من باب الترخص".
"فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يُطاق، وسُد عنه ما سوى ذلك؛ عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج، أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعًا، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ }[الحجرات:7].
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ}[المائدة:87].
قيل: إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدًا على النفس؛ فسُمي اعتداءً لذلك.
وفي الحديث: «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا» وما خُيِّر -عليه الصلاة والسلام- بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. الحديث، ونهى عن الوصال، فلما لم ينتهوا واصل بهم يومًا ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: «لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ» كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، وقال: «لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ» وقد قال عبد الله بن عمروٍ بن العاص حين كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وفي الحديث: هذه الخولاء بنت تويت".
عبد الله بن عمرو بن العاص جاء إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- وذكر له أنه يُطيق الصيام والقيام والتلاوة، فقال له: «اقرأ القرآن في شهر» فقال: إنه يُطيق أكثر من ذلك، فقال: «اقرأ في الشهر مرتين ثلاث» قال: أنه يُطيق أكثر من ذلك، قال: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» فذكر أنه يُطيق أكثر من ذلك، وزاد صار يقرأ القرآن في ثلاث، وتمنى بعد ذلك أن قبل رخصة النبي –صلى الله عليه وسلم- فدل على أن أمره بالقراءة لسبع لا على سبيل الإلزام، وإنما هو على سبيل الترخص له؛ لأنه قد يحتاج إلى أن يترك ما حمل نفسه عليه ولا شك أن الترك بعد الاستمرار يدل على عزوف النفس عن هذا العمل الصالح، وهذا بحد ذاته مفضول، فإذا كان الإنسان يُريد أن يلزم عملاً من الأعمال عليه بما يُطيق بحيث لا يتركه في يوم من الأيام «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَل» فالعمل المنقطع مفضول ولو كثر.
"وفي الحديث: هذه الخولاء بنت تويت".
الحولاء.
طالب: الحولاء؟
نعم.
"زعموا أنها لا تنام الليل، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «لا تنام الليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون» الحديث، فأنكر فعلها كما ترى.
وحديث إمامة معاذٍ حين قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: «أفتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟» وقال رجلٌ: والله يا رسول الله؛ إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يُطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موعظةً أشد غضبًا منه يومئذ".
"إني لأتأخر" يعني: يحمله تطويل الإمام على التأخر بحيث لا يحضر من أول الصلاة لطولها، وإلا فطول الصلاة مما يُيسر على المأموم إدراك الصلاة، لكنه يتأخر بالحضور إليها؛ لأنه يُطيل، فإذا ذهب شيءٌ منها خفَّ عليه باقيها، ومثل هذا لا شك أنه النبي –عليه الصلاة والسلام- غضب غضبًا شديدًا لهذا التصرف الذي يحمل الناس على التأخر أو يحمل بعض الناس على الترك.
"ثم قال: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ» الحديث.
وحديث الحبل المربوط بين ساريتين، سأل عنه -عليه الصلاة والسلام- قالوا: حبلٌ لزينب، تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإذا كسل أو فتر قعد»".
يعني وقت نشاطه يُصلي، لكن إذا كسل أو جاء غشاه النوم أو الفتور يترك، وقد جاء النهي عن مُغالبة النوم في الصلاة؛ لئلا يذهب ليدعو لنفسه فيدعو عليها.
"وأشباه هذا كثير، فترك الرخصة من هذا القبيل؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: «لَيْسَ مِنَ الْبرِّ الصيام في السفر» فإذا كان كذلك ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى، وإن سُلم أنه ليس بأولى، فالعزيمة ليست بأولى".
على أقل الأحوال أن يكونا متساويين.
"والسادس: أن مراسم الشريعة إذا كانت مخالفةً للهوى، كما تبين في موضعه من هذا الكتاب، فإنها أيضًا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذمومٍ إلا إذا كان مُخالفًا لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقًا فليس بمذموم، ومسألتنا من هذا، فإنه إذا نَصب لنا الشرع سببًا لرخصةٍ".
الهوى لذاته ليس بمذموم، لكن إنما يُذم إذا حمل صاحبه على مخالفة الشرع «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لِما جئت به»، يعني إذا وُجِد التعارض بين ما يهواه وبين ما جاء به النبي –عليه الصلاة والسلام-، فإن قدَّم هواه على ما يُريده النبي –عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه مُتبع لهواه، أما إذا قدَّم ما جاء من الأوامر ومن النواهي في الشرع على ما تهواه نفسه وتميل إليه لا شك أنه مُقدمٌ للشرع.
طالب:........
أين؟
طالب:........
«لا يؤمن أحدكم» ماذا تحفظ فيه؟ الكلام كثير ابن رجب طوَّل عليه.
طالب:........
هو فيه كلام لأهل العلم، لكن ابن رجب كأنه يعني...
طالب:........
يعني أقل الأحوال في مثل هذا الباب يُورد.
"فإنه إذا نَصَب لنا الشرع سببًا لرخصةٍ وغلب على الظن ذلك, فأعملنا مقتضاه وعمِلنا بالرخصة، فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي".
نعم بلا شك اتباع الرخص يحمل صاحبه على ترك الأوامر والنواهي إلى التفريط، والأخذ بالعزائم، وحمل النفس على العزائم باستمرار قد يحمل صاحبه على الخروج عن الشرع إلى الإفراط وكلاهما مذموم ولا شك أن الشيطان ينظر في الإنسان باعتباره فريسة له، فإن استطاع أن يجره لم يتأخر، حتى يُخرجه عن حظيرة الدين، وإن لم يستطع ووجد في نفسه رغبة في الخير زاد هذه الرغبة حتى يُخرجه من الطرف الآخر، ولا شك أن الدين وسطٌ بين هذا وهذا، ودين الله بين الغالي والجافي.
"وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمُتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء، فإذا كانت غلبة الظن في العزائم معتبرة، فكذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن فرَّق بينهما، فقد خالف الإجماع، هذا تقرير هذا الطرف.
فصل: وينبني عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه بغلبة ظنٍ أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع، وقد يستويان، وأما إذا لم يكن ثَم غلبة ظنٍ فلا إشكال في منع الترخص.
وأيضًا فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولةً على عمومها وإطلاقها، من غير تخصيصٍ ببعض الموارد دون بعض، ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة، من غير اعتبارٍ بالسبب الذي هو المظنة، وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التي هي السبب، كالسفر والمرض، فعلى هذا إذا كانت العلة غير منضبطة، ولم يوجد لها مظنةٌ منضبطةٌ، فالمحل محل اشتباه، وكثيرًا ما يُرجع هنا إلى أصل الاحتياط، فإنه ثابتٌ معتبر حسبما هو مبينٌ في موضعه".
لا شك أن الاحتياط من باب إبراء الذمة، ومن ترك الشبهات استبرأ واحتاط لدينه وعِرضه، لكن لا يحمله هذا الاحتياط على ارتكاب محظور، ولا على ترك مأمور؛ لأنه إذا أدى الاحتياط إلى ارتكاب المحظو؛ر لأنه قد يحتاط في مسألة، ويقع من جراء هذا الاحتياط في محظورٍ آخر، أو يترك مأمورًا؛ لأنه يحتاط، يعني بعض الناس يحتاط في أمور بيته، وفي شؤونه الخاصة يكون حازم في هذا الباب، لكن هذا الاحتياط يجره إلى ارتكاب بعض المحظورات.
نعم يحتاط لنسائه مثلاً، ثم من خلال هذا الاحتياط يقع في شيءٍ من المحظورات المُحرَّمة مثل الاتهام مثلاً، أو زيادة في الوسوسة، أو يحمله هذا الاحتياط والحذر الشديد على ترك واجب، قد يترك الصلاة في الجماعة.
فإذا أدى الاحتياط إلى مثل هذا من ارتكاب المحظور أو ترك المأمور، لا شك أن الاحتياط في ترك هذا الاحتياط، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-.
"فصل: فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلةٍ متعارضة، وذلك وضع إشكالٍ في المسألة؛ فهل له مَخلصٌ أم لا؟ قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما: أن يُوكل ذلك إلى نظر المجتهد، فإنما أُورد هنا استدلال كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفًا على المجتهد، حتى يترجَّح له أحدهما مطلقًا، أو يترجَّح له أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب الأحوال.
والثاني: أن يجمع بين هذا الكلام وما ذُكر في كتاب (المقاصد) في تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تُؤمل الموضعان ظهر فيما بينهما وجه الصواب -إن شاء الله-وبالله التوفيق".
وكتاب المقاصد -يأتي إن شاء الله تعالى- في الجزء الثاني.
اللهم صلِّ على محمد.
يعني أخذ بالعزيمة في الوتر وسُنَّة الفجر، وأخذ بالرخصة في قصر الصلاة في السفر، على كل حال النبي –عليه الصلاة والسلام- حاله أكمل حال، وهو أخشى الناس، وأتقاهم، وأعلمهم بربه –عليه الصلاة والسلام- فكل ما فعله هو الخير، اتباعه هو الأصل.
اللهم صلِّ على محمد.
يعني ما مر من وصف من يرتكب العزيمة بأنه متشدد هذا معروف على مر العصور عصور الأمة، والحنابلة قديمًا يُنبذون بأنهم متشددون، ويُوصفون بهذا، ويُنفَّر عنهم بهذا، ثم جاءت الدعوة دعوة الشيخ فصار اسم الوهابية مذمَّة في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية، والسبب في هذا التنفير من الحق، إذا أُريد التنفير من الحق لُبِّس بلباس غير مقبول عند الناس، عامة الناس يكرهون التشديد؛ لأن نفوسهم تميل إلى التخفيف، فإذا قيل: إن الحنابلة متشددون نُفِّر الناس عن هذا المذهب، وإذا قيل: إن الوهابية يكفِّرون الناس، ويُقاتلون على الصورة، ويفعلون ويتركون هذا من أجل التنفير عن هذا المذهب وكله زُور وبُهتان.
وأيضًا للآن يلوك بعض الناس بعض المشايخ بأنهم لا تسألوا فلانًا ولا فلانًا، كل شيء حرام، كل هذا من باب التنفير، وفتح باب التساهل لا شك أنه يُخرج الإنسان أحيانًا من دينه وهو لا يشعر، وكل كلمةٍ لها ضريبتها إن كانت حسنة جرَّت إلى أختها، وإن كانت سيئة جرَّت إلى أختها، وشواهد الأحوال ظاهرة، ما تحتاج إلى استشهاد، والله المستعان.