التعليق على الموافقات (1427) - 11
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
فقال المؤلف –رحمه الله- في المسألة الخامسة: "فصل: قد تبين تعارض الأدلة في المسألة، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين".
يعني: عدم اعتبار الدلالة الفرعية والاقتصار على الدلالة الأصلية.
أدلة المانعين من اعتبار الدلالة الفرعية التبعية، ويُقتصر على الدلالة الأصلية، لكن هذا الترجيح وهذا الحكم بأن الأقوى من الأدلة من الجهتين لا يُسلَّم من كل وجه إذا كان وجه الاستدلال بعيدًا فلا شك في منعه إذا عورضت الدلالة التبعية الفرعية بما هو أقوى منها لم تُعتبر، لكن إذا كان وجه الاستدلال بها قويًّا ولم تُعارض بما هو أقوى منها فما المانع من اعتبارها؟ وقد استدل أهل العلم بالخبر الواحد على مسائل كثيرة، منها ما يلوح الاستدلال به لكل أحد، ومنها ما يلوح للأكثر، ومنها ما يلوح للخاصة دون العامة، وهي كلها أدلة.
وبذلك يتفاوت أهل العلم في الاستنباط الذي هو الغاية من معرفة الأدلة، وبناء الأحكام عليها، فكون الدلالة التبعية لا تُعتبر هذا ليس بصحيح، وكونها تُعتبر في كل دليل أيضًا ليس بصحيح، فلابد من التفصيل إذا لم يُعارضها ما هو أقوى منها، ولم يُتكلَّف ويُتمحَّل في الاستنباط منها فلا مانع.
ونرى أهل العلم يستدلون بالحديث الواحد على مسائل كثيرة جدًّا قد يُؤخذ من الحديث الواحد، من الجملة الواحدة أما إذا كان الحديث طويلًا، وله جُمل فهذا ما فيه إشكال، كل جملة تدل على حكم، حكمين هذا ما فيه إشكال، يُؤخذ من حديث جابر في الحج مثلاً مائة مسألة أو مائتا مسألة لا إشكال، يُؤخذ من حديث الواهبة مائة فائدة، هذا لا إشكال، لكن دلالة النص الواحد، الجملة الواحدة على أكثر من حكم إذا كانت الدلالة ظاهرة ما المانع من ذلك؟ وأهل العلم يستنبطون من الجملة الواحدة فوائد كثيرة.
نعم إذا ظهر التكلُّف والتمحُّل مثل ما استدل الحنفية بحديث مدة هذه الأمة بالنسبة للأمم السابقة، وثواب هذه الأمة بالنسبة لثواب الأمم السابقة من حديث «إنما مثلكم ومثل ما قبلكم» هذا بعيد على أن وقت العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثليه، هذا بعيد جدًّا، الحديث ما سيق لهذا، ولا يخطر على بال أحد، ومع ذلك هو معارضٌ بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث إمامة جبريل، وغيرهما من الأحاديث الثابتة، فالاستدلال بعيد، ومتكلفٌ ظاهر، ومعارضٌ بما هو أقوى منه، مثل هذا لا يُلتفت إليه، فضلاً عن أنه اُستدل بهذا الحديث على أن عمر الأمة ألف وأربعمائة سنة، هذا مُعارض بالنصوص القطعية التي فيها أن الساعة تأتي بغتة، وأنه لا يعلمها إلا الله، والله –جلَّ وعلا- كاد يُخفيها حتى عن نفسه –جلَّ وعلا- فمثل هذا لا يُستدل به على مثل هذه الأمور وإن كانت دلالته على مسائل كثيرة أوضح منها مُعتبرة عند أهل العلم.
ومع ذلك يذكر أمثلة لها دلائل تبعية اعتُبرت في الشرع.
"فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكمٍ شرعيٍّ زائدٍ ألبتة.
لكن يبقى فيها نظرٌ آخر ربما أخال أن لها دلالةً على معانٍ زائدةٍ على المعنى الأصلي، هي آدابٌ شرعية، وتخلقاتٌ حسنة، يُقر بها كل ذي عقلٍ سليم، فيكون لها اعتبارٌ في الشريعة، فلا تكون الجهة الثانية خاليةً عن الدلالة جملة، وعند ذلك يُشكِّل القول بالمنع مطلقًا".
يُشكِل..يُشكِل.
"وعند ذلك يُشكِل القول بالمنع مطلقًا".
نعم، وهذا ما أردنا تقريره.
"وبيان ذلك يحصل بأمثلةٍ سبعة:
أحدها: أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد، ومن العباد لله سبحانه، إما حكايةً، وإما تعليمًا، فحين أتى بالنداء من قِبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبُعد، ثابتًا غير محذوف، كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56]".
نعم النداء من الرب –جلَّ وعلا- لعباده {يَا عِبَادِيَ} [العنكبوت:56] بحرف النداء (ياء) التي تقتضي البُعد، وأيضًا لابد أن يُصرَّح بحرف النداء، بينما العكس إذا كان النداء من المخلوق للخالق، فإنه لا يُؤتى بالحرف إنما يُؤتى بالطلب مباشرةً {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:147] ما قال: يا ربنا...إلى آخره.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف:158].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104].
فإذا أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى، جاء من غير حرف نداءٍ ثابت بناءً على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله مُنزَّهٌ عن التنبيه.
وأيضًا فإن أكثر حروف النداء للبعيد، ومنها (يا) التي هي أم الباب، وقد أخبر الله تعالى أنه قريبٌ من الداعي خصوصًا؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] الآية.
ومن الخلق عمومًا؛ لقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7].
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]".
بهذا يُقرر المؤلف –رحمه الله- أن صفة القرب لله –جلَّ وعلا- كالمعية منها العامة، ومنها الخاصة.
فمن الخاصة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] يعني ممن يدعون.
والقرب العام: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] كالمعية سواءً.
ومع ذلكم شيخ الإسلام يرى أن القرب خاصٌّ بالخاصة ولا قرب عام كالمعية العامة، ويرى أن القرب في {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] إنما هو قرب الملائكة لا قرب الرب –جلَّ وعلا- {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} [الواقعة:85]، وفي هذه الآية أيضًا قرب عام وليس بقربٍ خاص للناس كلهم وهو قرب الملائكة.
أما قرب الله الخاص فهو للخاصة فقط لا لعموم الناس، والمسألة معروفة في هذا وشيخ الإسلام يرى هذا الرأي، وقربه يرون أن القرب مثل المعية، كما أن المعية تكون عامة وخاصة كذلك القرب يكون عامًّا وخاصًّا.
والقرب في قوله –جلَّ وعلا-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] هذا قرب عام أم خاص؟ عام، لكن {وَنَحْنُ} المتكلم أو ملائكة القبض قبض الروح؟ شيخ الإسلام يرى أن المتكلم الملائكة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون} [الواقعة:85] فدل على أن القريب هذا يُمكن أن يُبصَر، والله-جلَّ وعلا- لا يُمكن أن يُبصر في الدنيا، وشيخ الإسلام يرى أن مثل هذا للملائكة لا للرب –جلَّ وعلا- «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» هذا هو الله –جلَّ وعلا- قُرب إلهي ممن يدعوه، يعني لخاصة الناس لا لجميعهم والمسألة مُحتملة.
طالب: يعني ما يظهر العكس من سياق الآية؟
أي آيةٍ؟
طالب: {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون} [الواقعة:85]؟
نعم لا تبصرون الذي هو قريبٌ منكم؛ لأنه بالإمكان أن يُبصر، وهم الملائكة.
طالب: هم بالإمكان أن يُبصروا، لكن الله –جل ثناؤه- على قربه لا يُبصر.
لكن من الذي يأتي لقبض الروح؟ الملائكة، فالله –جلَّ وعلا- يُمكن أن يُسند إلى نفسه هذا القرب باعتبار أنه الآمر به، وأما القرب الحقيقي فهو للملائكة الذين يريدون قبض الروح، وهذا ما قرره شيخ الإسلام، والمسألة محتملة يعني الخلاف الذي يرى القول الثاني ما يُثرَّب عليه ولا يُعاب؛ لأنه قول لأهل السُّنَّة.
"فحصل من هذا التنبيه على أدبين:
أحدهما: ترك حرف النداء.
والآخر: استشعار القرب.
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين: إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة، وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادى وأنه مُنزَّهٌ عن مداناة العباد، إذ هو في دنوه عال، وفي علوه دان، سبحانه!".
وهذا ما يُقرره آيات النزول، وأحاديث النزول، والمعية، والقرب مع أدلة الاستواء والعلو.
والثاني: أن نداء العبد للرب نداء رغبةٍ وطلب لِما يُصلح شأنه، فأتى في النداء القرآني بلفظ: (الرب) في عامة الأمر، تنبيهًا وتعليمًا لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعو بها، وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يُصلح المربوب، فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلى آخرها، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8].
وإنما أتى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] من غير إتيان بلفظ الرب؛ لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به، بل هو مما ينافيه، بخلاف الحكاية عن عيسى -عليه السلام-".
وأيضًا في الآية {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} [الأنفال:32] هؤلاء ليسوا ممن يتدين لله -جلَّ وعلا- بالربوبية ليستحضر هذه الربوبية أثناء الدعاء.
"بخلاف الحكاية عن عيسى -عليه السلام- في قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} [المائدة: 114] الآية، فإن لفظ الرب فيها مناسبٌ جدًّا.
والثالث: أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يُستحيى من التصريح بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط".
قبل هذا في المسألة السابقة، العباد حينما يدعون ربهم لا يأتون بـ (الياء) فيأتون بالدعاء مجردًا بلفظ الرب استشعارًا للقرب والياء تُنافيه، وفي الحديث أن النبي –عليه الصلاة والسلام- ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمد إليه السماء يقول: يارب يارب، فهذا فيه الحرف، لكنه ليس من مناديه ولا من داعيه، إنما هو حكاية دعوة، حكاية حال داعٍ، يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما يقول: يارب يارب، فالرسول يحكي حال داعٍ، والدعاء الأصل فيه أنه نداء، والنداء يقترن بالياء، وليس المراد بذلك حقيقة الدعاء إنما هو حكاية حال داعٍ.
طالب:.......
النبي –عليه الصلاة والسلام- يحكي هذا الدعاء، لكن قد لا يحكيه بلفظه، إنما يشرح حال هذا الداعي، والأصل في الدعاء أن يكون مقترنًا بالياء، لكن هل الرسول أثناء حكايته هذا الدعاء يستشعر قرب الله –جلَّ وعلا- ويدعوه بربوبيته، هل الدعاء صدر منه ليستشعر هذا؟
طالب:.......
ما صدر منه.
طالب:.......
انظر -يا أخي- المسألة حينما تحذف (الياء)، وتأتي بالرب إنما وأنت منكسرٌ بين يدي الله– جلَّ وعلا- مُستحضر لهذه الأمور ترجو ما عند الله –جلَّ وعلا-، لكن حينما تذكر كلام غيرك، أنت لما تقرأ هذا الحديث هل نقول: إنك ما استحضرت قرب الرب -جلَّ وعلا- والإذعان له بالربوبية؟ أنت تحكي فالحاكي غير المتكلم.
طالب:.......
نعم هذا الذي يَرد يارب، مثل هذا يَرد، هذا هو الوارد.
طالب:.......
بدونها الذي قرره المؤلف أن دعاء المخلوق للخالق في النصوص كلها إلا ما ندر أنه (ربِّ، ربنا) {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [نوح:28]، {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:147] ما فيه لا (ياء) ولا فيه غير هذا اللفظ من أسماء الله -جلَّ وعلا-.
طالب:.......
نعم.
طالب:.......
هو الأصل في (الياء) أنها حرف نداء وتنبيه للمُنادى، والرب –جلَّ وعلا- لا يحتاج إلى تنبيه.
الأمر الثاني: أن (الياء) هذه من حروف النداء التي تكون للبعيد، وعلى المسلم أن يستحضر القرب الإلهي، لكن لو تلبَّث بالغفلة مثلاً ودعا، تلبَّث بغفلةٍ، يعني مثل هذه الغفلة قد لا يستحضرها كثيرٌ من الناس، ولا أثر لها في الدعوة كأثر كون الإنسان يدعو وهو غافل، غافل عن أصل الدعاء، والله –جلَّ وعلا- لا يُجيب دعوة قلبٍ لاهٍ أو غافل، يعني الغفلة عن أصل الدعاء غير الغفلة عما يحتف به من استشعار قرب الرب –جلَّ وعلا-؛ لأن هذه المسألة الثانية، لكن كون الإنسان يستحضر هذه الأمور كلها أثناء دعائه فلا شك أنه هذا أكمل.
طالب:.......
أما في الآية {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي} [الفرقان:30] فهذا ليس بدعاء، هل هذا دعاء؟ لا، هذا ليس بدعاء.
«وألظوا» لأن الأصل في الدعاء أن يكون مقترنًا بالياء، هذا الأصل فيه، لكن الداعي من قوة ثقتة بالله، والتصاقه به، وانكساره بين يديه يحذف الحرف.
طالب:.......
كيف؟
طالب:.......
في ماذا؟
طالب:.......
لا ما فيه تعدٍّ، لكن حذفها أكمل؛ لأن وجودها هو الأصل، لكن حذفها يدل على أمور زائدة على الدعاء، قدر زائد على الدعاء، استشعار القرب.
"وكما قال في نحوه: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} [المائدة:75] فاستقر ذلك أدبًا لنا استنبطناه من هذه المواضع، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل".
{كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} [المائدة:75] هذا كناية عن كونهما يحتاجان إلى قضاء الحاجة، فكنى عن الحاجة إلى قضاء الحاجة بأكل الطعام الذي من لازمه قضاء الحاجة.
"الرابع: أنه أتى فيه بالالتفات الذي يُنبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4]".
هذا غيبة، ثم الحضور.
"ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5].
وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضًا، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} [يونس:22]".
ما قال: وجرينا بكم، قال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] وهذا فيه التفات معروف.
"وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] حيث عوتب النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا المقدار من هذا العتاب، لكن على حالٍ، تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المُعاتب".
يعني ما وُوجِه الرسول –عليه الصلاة والسلام- بالعتاب، ما قيل له: عبست وتوليت أن جاءك الأعمى، إنما خوطِب خطاب الغائب؛ لأن هذا أخف، وهذا معروف أن كون الإنسان يتكلم في الإنسان في حال غيبته أسهل من كونه يُواجهه بما يسوؤه، والنبي –عليه الصلاة والسلام- ما حُفظ عنه أنه واجه أحدًا بما يسوؤه، بينما قد يحتاج إلى الكلام في بعض الأشخاص للتغبير منهم كما قال: «بئس أخو العشيرة» لكن لمَّا حضر ما قال: بئس أيها الشخص، إنما انبسط معه في الكلام.
"ثم رجع الكلام إلى الخطاب، إلا أنه بعتاب أخفُّ من الأول".
أخفَّ.
"أخفَّ من الأول؛ ولذلك خُتِمت الآية بقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة} [عبس:11]".
يعني هو مجرد تذكرة، يعني مجرد لفت نظر وليست عتاب أو مواجهة بما يسوء.
"والخامس: الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى، وإن كان هو الخالق لكل شيء، كما قال بعد قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] إلى قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] ولم يقل: بيدك الخير والشر، وإن كان قد ذكر القسمين معًا؛ لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شرٌّ ظاهر، نعم قال في أثره: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران:26] تنبيهًا في الجملة على أن الجميع خلقه، حتى جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ ليس إليك»".
نعم نسبة الخير إلى الرب –جلَّ وعلا- جاءت في النصوص ولا محظور في نسبته؛ لأنه خالق كل شيء، وأما نسبة الشر إليه فالشر المحض لا يُمكن أن يُنسب إليه، ولفظ الشر أيضًا وإن اشتمل على خير من الأدب ألا يُنسب إليه، {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:10] ما قيل: أراد الله بهم {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فالشر لم يُضف إلى الله –جلَّ وعلا- وإنما بُني للمجهول؛ لأنه ليس من الأدب، وإن كان الكل من الله –جلَّ وعلا- وأنه الخالق لكل شيء، وأنه خلق العبد وعمل العبد، لكن هذا من باب الأدب في العبارة.
"وقال -إبراهيم عليه السلام-: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78-80] إلى آخره".
نعم قال: { خَلَقَنِي} {يَهْدِينِ} {يُطْعِمُنِي} {يَسْقِينِ} {مَرِضْتُ} ما قال: يُمرضني {فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] فلم ينسب المرض إلى الله –جلَّ وعلا- لأنه في ظاهر الأمر وفي بادئه ليس بخير.
"فنسب إلى رب العالمين الخلق، والهداية، والإطعام، والسقي، والشفاء، والإماتة، والإحياء، وغفران الخطيئة، دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض، فإنه سكت عن نسبته إليه.
والسادس: الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحًا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]".
ما جاء بالواو إنما جاء بـ {أَوْ} التي فيها نوع تردد، يعني ما جزم أنهم في ضلالٍ مُبين، وإلا هذا الأصل إنَّا على هدى وأنتم في ضلالٍ مُبين، هذا الأصل، لكن جاء بحرف التردد الذي فيه نوع من ملاحظة المُخاطب.
"وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]".
نعم على سبيل التنزُّل، يعني: إن كان للرحمن ولد -وقد نفاه عن نفسه وليس له ولد- لكن إن كان له ولد فأنا أول العابدين، ومثل ما قيل لأبي بكر: إن محمدًا يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس بليلة، ونحن نحتاج إلى شهر لنذهب إلى بيت المقدس، قال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق. هذا غاية في التسليم.
"{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود:35].
وقوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43].
{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية".
يعني مثل قول الله –جلَّ وعلا- لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر:65] يعني حينما يُقال هذا بالنسبة لشخصٍ معصوم لا يُمكن أن يُشرك عصمه الله –جلَّ وعلا- من الذنوب فكيف بالشرك؟! هذا إذا خوطِب به النبي –عليه الصلاة والسلام- ألا يرضى سائر الناس أن يُخاطب به؟! لكن لو وُجِد شخص من الأشخاص يعني عند نفسه شيء، قالوا له: لئن أشركن ليفعلن بك، لئن سرقت لتقطعن، لئن كذا...نعم هذ يكون في النفس منه شيء، لكن إذا خوطب به الرأس قبله كل من دونه؛ ولذا يقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» بذا انتهت حُجَّة كل شخص لا يمكن أحد أن يحتج والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول هذا، وفي حجة الوداع يقول: «أول رِبًا أضع رِبانا ربا العباس» وعلى هذا يجب أن يكون الإمام قدوة للناس، أول ما يُطبق على نفسه وعلى أقرب الناس إليه؛ ليُطاع أمره.
أما كونه يُصدر الأوامر، ويُصدر الأنظمة، ثم بعد ذلك أول من يُخالفها هو وحواشيه، لا يقتدي به الناس، ولا ينظرون إليه، ولا يأتمرون بأمره.
"والسابع: الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات، وتلقي الأسباب منها، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذًا من مساقات الترجيات العادية، كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]".
ففي مثل هذه الأساليب تربية الناس على عدم الجزم بما يُستقبل، ولو كان مما يغلب على الظن حصوله، إذا كان الرب القادر على كل شيء الذي يعلم أنه يبعثه مقامًا محمودًا، يقول: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ} [الإسراء:79]، ولذا لا يجزم طالب العلم حتى في الأحكام الشرعية إذا لم يكن عنده بينة قوية، ودلالة ظاهرة على ما يقول، بل يقول: لعل المراد كذا، لعل الحكم كذا. هذه تربية لمن يتولى مثل هذه الأمور.
"{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:21] {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الأنعام:152]".
نعم؛ لأن لعل حرف ترجٍّ، والقائل هو الله –جلَّ وعلا- فمن يرجو؛ ولذا يقول ابن عباس: (عسى، ولعل) وما في معناهما من الله واجبة، يعني: لا تردد فيها، وإن كان الأصل في السياق لمثل هذا السياق التربية لمن أراد أن يتكلم أو يُقرر شيئًا لابد أن يقرنه بالترجي؛ لأن الصحابة –رضوان الله عليهم- لمَّا أخبر النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه يدخل من أمته سبعون ألفًا النار بغير حسابٍ ولا عذاب قال الصحابة: لعلهم كذا، لعلهم كذا، لعلهم... ما جزموا، قالوا: هم كذا وهم كذا، لا، قالوا: لعلهم؛ ولذلك ما ثرَّب النبي –عليه الصلاة والسلام- عليهم، فتفسير كلام الله –جلَّ وعلا- وكلام رسوله –عليه الصلاة والسلام- لا يجوز بالظنون أو بالخرص أو الحدس، لابد أن يكون شيئًا مأثورًا يستند إلى أمرٍ شرعي.
اما إذا كان مجرد إبداء رأي من غير جزم وقُرن بحرف الترجي فهذا لا يضر، كما في حديث السبعين.
"فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور، والله تعالى عليمٌ بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون".
نعم "ما كان" واضح أن الله –جلَّ وعلا- يعلمه، "وما يكون" كذلك؛ لأنه مُقدَّر عنده وسوف يكون.
لكن "وما لم يكن أن لو كان كيف يكون" وإن استدلوا له بمثل قول الله –جلَّ وعلا-: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الأنعام:28] هم لن يكون، ولم يكن، ولن يكون أيضًا أنهم يُردون، لكن الله –جلَّ وعلا- يعلم أن لو رُدوا لقالوا مثل هذا الكلام أنهم يعودون.
"ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا، فكذلك ينبغي لمن كان عالمًا بعاقبة أمر- بوجهٍ من وجوه العلم الذي هو خارجٌ عن معتاد الجمهور- أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم، دخولاً في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصيةٍ يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحُسن في محاسن العادات، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم بأخبار كثيرٍ من المنافقين، ويطلعه ربه على أسرار كثيرٍ منهم، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملةً يشترك معهم فيها المؤمنون؛ لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر، فما نحن فيه نوعٌ من هذا الجنس، والأمثلة كثيرة، فإذا كان كذلك، ظهر أن الجهة الثانية يُستفاد بها أحكامٌ شرعية، وفوائد علمية ليست داخلةً".
عملية.
طالب:.......
وفوائد عملية.
طالب: وفوائد عملية؟
نعم.
"وفوائد عملية ليست داخلةً تحت الدلالة بالجهة الأولى، وهو توهينٌ لِما تقدم اختياره.
والجواب: أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يَستفد الحكم فيها".
يُستفد.
طالب: يُستفد؟
نعم.
"لم يُستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استُفيد من جهةٍ أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال".
يكفي.
نقف على هذا إلى ما بعد الحج؛ لأن البدء بالنوع الثالث والوقوف في أثنائه ما هو بمناسب.
طالب: درس الأسبوع القادم؟
لعله ما يكون فيه شيء، الموقف هذا واضح وبيِّن كون الكلام مترابطًا أفضل.
طالب:........
ماذا؟
طالب:........
لا هو يرى المجاز ما عنده مشكلة.
طالب:........
الذي قرره أهل التحقيق مثل شيخ الإسلام، وابن القيم، والشريطي نفي المجاز؛ لأنه يترتب عليه أمور وأشياء ولو لم يكن فيه إلا أنه يجوز نفيه، وقال بالقول الآخر أيضًا أئمةٌ كُثر، بل هم الأكثر، فمن رآه لا يُثرَّب عليه.