شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (12)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
قال الحافظ -رحمه الله تعالى-:
المنقطع والمعضل
وسم بالمنقطع الذي سقط وقيل: ما لم يتصل وقالا: والمعضل الساقط منه اثنان حذف النبي والصحابي معا |
| قبل الصحابي به راوٍ فقط بأنه الأقرب لا استعمالا فصاعدًا ومنه قسم ثان ووقف متنه على من تبعا |
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد:
فيقول الناظم -رحمه الله تعالى- بعد أن أنهى الكلام على المرسل، وهو ما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، أعقبه بالمنقطع والمعضل، ويشمل جميع الانقطاع بعمومه، وعدم الاتصال الذي هو قادح من القوادح في صحة الخبر، فقال -رحمه الله تعالى-: "وسم بالمنقطع" سم أيها الطالب "بالمنقطع الذي سقط" يعني من إسناده "قبل الصحابي به" يعني بالسند "راوٍ فقط" فالمنقطع هو ما سقط من أثناء إسناده راوٍ فقط، أو أكثر من راوٍ في أكثر من موضع، ما سقط من إسناده راوٍ من أثناء إسناده، راوٍ أو أكثر من راوٍ في أكثر من موضع، فما سقط من أثناء إسناده، يخرج ما سقط من منتهى إسناده من جهة الصحابي، فيخرج بذلك المرسل، وما سقط من مبادئ إسناده، فيخرج بذلك المعلق، وما سقط من أثناء إسناده أكثر من راوٍ على التوالي، يخرج بذلك المعضل، وهذا على المشهور عند أهل الحديث: أن لكل نوع من أنواع السقط اسم يخصه، فإذا رفع التابعي الخبر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بمعنى أنه فقدت الطبقة الأولى من سلسلة الإسناد، يكون مرسلًا، وإذا سقط من مبادئ إسناده من جهة المصنف فهو المعلق، فهو المعلق:
وإن أول الاسناد حذف |
| مع صيغة الجزم فتعليقًا عرف |
على ما تقدم، وإذا سقط من أثناء إسناده راويان، أو أكثر على التوالي، فإنه يسمى المعضل على ما سيأتي قريبا -إن شاء الله تعالى-.
وسم بالمنقطع الذي سقط |
| قبل الصحابي به راوٍ فقط |
وإلا فالأصل أن الانقطاع يشمل جميع أنواع السقط من السند، فالمرسل منقطع، والمعلق منقطع، والمعضل منقطع، والمدلس فيه انقطاع، وإن كان خفيًّا، والمرسل الخفي فيه انقطاع، وإن كان خفيًّا، هذا على القول المعروف عند أهل العلم، الذي يجعل لكل نوع من أنواع الانقطاع اسما يختص به، وإلا فالأصل أنه كله منقطع، كل أنواع السقط منقطع "وقيل ما لم يتصل" لهذا قال الخطيب، وابن عبد البر: المنقطع كل ما لم يتصل:
وقيل ما لم يتصل وقالا |
| ................................... |
الألف هذه للإطلاق، والقائل هو ابن الصلاح "بأنه الأقرب" من حيث المعنى اللغوي "وقالا" يعني ابن الصلاح "بأنه الأقرب" هذا من حيث المعنى اللغوي؛ لأن الاتصال ضده الانقطاع، وكل ما لم يتصل سواء كان السقط من أول إسناده، أو من أثنائه، أو من آخره بواحد، أو أكثر من واحد هذا منقطع، هذا من حيث الاستعمال اللغوي، الأقرب من حيث المعنى اللغوي:
................................... |
| بأنه الأقرب لا استعمالا |
"لا استعمالا" يعني عند أهل الحديث، من حيث اللغة، من حيث المعنى اللغوي؛ هذا أقرب؛ لأن الذي يقابل الاتصال الانقطاع، على أي وجه يكون هذا الانقطاع، هذا الذي يقابل:
وقيل: ما لم يتصل وقالا |
| بأنه الأقرب.................. |
هذا الأقرب من حيث المعنى اللغوي "لا استعمالا" اصطلاحيًّا عند أهل العلم، أما الاستعمال الاصطلاحي عند أهل العلم؛ فإنهم يخصون كل نوع من أنواع الانقطاع باسم يخصه، فإن كان من مبادئ السند فهو المعلق، وإن كان من آخره من جهة الصحابي فهو المرسل، وإن كان من أثنائه فلا يخلو إما أن يكون بواحد فهو منقطع، أو بأكثر على التوالي، فالمعضل، ولا يخلو –أيضًا- السقط إما أن يكون ظاهرًا جليًّا، كالأقسام الأربعة، أو خفيًّا لا يدركه إلا النبهاء من الناس، الذين لهم خبرة، ودربة في هذا النوع من السقط، والإسقاط الخفي يشمل المدلس، والإرسال الخفي على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.
انتهينا من أنواع الانقطاع الظاهر من المعلق هذا انتهى الكلام فيه، والمرسل، والمنقطع، بقي المعضل، النوع الرابع من أنواع السقط الظاهر:
والمعضل الساقط منه اثنان |
| فصاعدًا ................... |
"والمعضل الساقط منه اثنان، فصاعدًا" صاعدًا حال أي ذهب السقوط صاعدًا، يعني لو سقط منه ثلاثة؛ يكون معضلًا، وإلا ما يكون؟ معضلًا، سقط منه أربعة؛ يكون معضلًا على أنه يشترط أن يكون هذا الإسقاط على التوالي، لا يكون من أكثر من موضع؛ لأنه إذا كان في أكثر من موضع يكون منقطعًا؛ ولذا يقول بعض الآخذين عن الناظم:
والشرط في ساقطه التوالي |
| والإنفراد ليس بالإعضال |
يعني إذا سقط من أثنائه أكثر من واحد لا على التوالي؛ فلا يسمى حينئذ معضلًا، لا بد أن يكون السقوط على التوالي، والمعضل اسم مفعول من الإعضال، فالمعضل عندهم هو المستغلق الشديد من قولهم: أعضله المرض، وأعياه، وأعجزه، وضاقت به حيلته، فهو معضل، وعضيل، ومستغلق شديد، وذلكم لأن الراوي الذي اسقط من الإسناد أكثر من راوٍ يصعب الوقوف على من أسقط، بخلاف ما لو كان الساقط واحدًا، لو كان الساقط واحدًا نستطيع أن نعرف هذا الواحد، بمعنى أننا نبحث في طرق الحديث، ونبحث –أيضًا- في شيوخ من ذكر، وفي تلاميذ من وجد في الإسناد، فإذا اتفق أن من شيخ من روى فلان، ومن تلاميذ من روي عنه فلان نعم، فيغلب على الظن أن هذا هو الساقط، إضافة إلى الطرق الأخرى، فبهذه الطريقة نستطيع أن نحدد، ونصل إلى الساقط، أما إذا كان الساقط أكثر من واحد؛ فإنه يصعب الوقوف عليه؛ لأننا إذا بحثنا في الموجود نحتاج إلى أن نبحث في شيوخه، وشيوخ شيوخه، وإذا بحثنا في الطبقة الأولى ممن نسب إليه الخبر قبل الساقط؛ نحتاج إلى معرفة تلاميذه، وتلاميذ تلاميذه، وحينئذٍ يصعب علينا التحديد لمن سقط في الإسناد؛ ولذا سموه معضلًا، أعضله الراوي، وضيق أمره، وشدد فيه بحيث يصعب الوقوف على من أسقط:
والمعضل الساقط منه اثنان |
| فصاعدًا ................... |
وعرفنا أنه لا بد أن يكون على التوالي:
والشرط في ساقطه التوالي |
| والإنفراد ليس بالإعضال |
"ومنه قسم ثان" وهذا القسم ذكره الحاكم أبو عبد الله، هذا القسم الثاني ذكره الحاكم، وقال: منه نوع خاص، وهو أن يروى الخبر عن التابعي موقوفًا عليه، ويثبت من طرق أخرى متصلًا مضافا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيكون حينئذ الراوي أسقط الصحابي، والنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهم يقولون: هذا باستحقاق اسم الإعضال أولى؛ لأنه إذا أوقفه على التابعي، وحذف الصحابي، فكأنه حذف اثنين: النبي -عليه الصلاة والسلام-، والصحابي؛ ولذا يقول:
................................... حذف النبي والصحابي معا |
| ............ ومنه قسم ثان |
"ووقف متنه على من تبعا" لكن متى نعرف أن هذا معضل؟ وأنه سقط منه النبي -عليه الصلاة والسلام-، والصحابي؟ نعرف إذا جاء من طريق أخرى، مضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، مسند من طريق صحابي يرويه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ونعرف بهذا أنه سقط منه اثنان، فهو باستحقاق اسم الإعضال أولى، كما يقول أهل العلم، نعم؟
طالب:......
إذا وجدا من طريق آخر، يعني إذا ثبت الخبر من طريق آخر عرفنا أنه أسقط الصحابي، والنبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا لم يرد من طريق آخر، فلا يخلو: إما أن يكون مما للرأي والاجتهاد فيه مجال، فهذا يمكن إضافته إلى التابعي، فيكون مقطوعًا، وإذا لم يكن للرأي والاجتهاد فيه مجال؛ عرفنا أنه له حكم الرفع مما تقدم، إلا أنه مرسل، نعم.
العنعنة
وصححوا وصل معنعن سلم وبعضهم حكى بذا إجماعا لكن تعاصرًا وقيل: يشترط معرفة الراوي بالأخذ عنه منقطع حتى يبين الوصل سووا وللقطع نحا البرديجي قال: ومثله رأى ابن شيبه قلت: الصواب أن من أدرك ما يحكم له بالوصل كيفما روى وما حكي عن أحمد بن حنبل وكثر استعمال عن في ذا الزمن |
| من دلسة راويه واللقا علم ومسلم لم يشرِط اجتماعا طول صحابة وبعضهم شرط وقيل: كل ما أتانا منه وحكم "أنَّ" حكم "عن" فالجُلُّ حتى يبين الوصل في التخريج كذا له ولم يصوب صوبه رواه بالشرط الذي تقدما بـ"قال أو "عن" أو بـ"أنَّ" فسوا وقول يعقوب على ذا نزل إجازة وهو بوصل ما قمن |
لما أنهى الناظم -رحمه الله تعالى- الكلام على الانقطاع الظاهر؛ ذكر مما فيه الخلاف بين أهل العلم؛ هل هو متصل أو منقطع؟ فما يروى بالعنعنة، وهي مصدر عنعن الحديث إذا رواه بلفظ "عن"، إذا رواه بلفظ عن من غير بيان للتحديث، والإخبار، والسماع، العنعنة وما في حكمها من السند المؤنن، أو المؤنأن، والرواية بصيغة "قال"، الرواية بصيغة "قال" تقدم الحديث فيها:
............... أما الذي عنعنة كخبر المعازف |
| لشيخه عزا بـ"قال" فكذي لا تصغ لابن حزم المخالف |
الأصل أن يأتي بالسند المعنعن قبل هذا الكلام "أما الذي لشيخه بـ "قال" فكذي عنعنة" والعنعنة ما جاء الكلام فيها، الأصل أن يكون الكلام عن الرواية بصيغة "قال" متأخر عن هذا الفصل الذي فيه العنعنة؛ لأنه أحال على العنعنة، ولما تأتي بعد، والأصل أن تكون الإحالة إلى سابق لا إلى لاحق، يعني معرفة الأبيات الأولى:
............... أما الذي |
| لشيخه عزا بـ"قال" فكذي |
"عنعنة"، نعم الأصل أن تكون متأخرة؛ لتحيل على ما تقدم، وإلا فالطالب سوف ينتظر في معرفة "قال" حتى يسمع ما في العنعنة من أحكام؛ لكي يحال على أمر يمكن إدراكه.
يقول الناظم -رحمه الله تعالى-: "وصححوا" يعني أهل الحديث:
........... وصل معنعن سلم وبعضهم حكى بذا إجماعًا |
| من دلسة راويه واللقا علم ................................... |
يعني السند المعنعن يحكم له بالاتصال بشرطين: الشرط الأول: أن يسلم الراوي من وصمة التدليس، أن يسلم الراوي من وصمة التدليس، والمراد بالتدليس التدليس الذي لم يحتمله أهل العلم، وإلا من الرواة من وصف بالتدليس، لكن احتمل الأئمة تدليسه؛ إما لكون تدليسهم نادرًا جدًّا، فهذا لا يؤثر، أو لإمامتهم بجانب ما دلسوا، فمثل هذا يحتمل الأئمة تدليسه، كما نص على ذلك أهل العلم كابن حجر وغيره، فإذا سلم الراوي من وصمة التدليس، واللقاء بين الراوي، ومن روى عنه علم بهذين الشرطين:
وبعضهم حكى بذا إجماع |
| ................................... |
هذان الشرطان عرفا عن علي بن المديني والإمام البخاري، وكتب أهل العلم طافحة بنسبة هذا القول لهذين الإمامين، وبعضهم يحكي على هذا إجماعًا، وابن عبد البر كاد أن يسوق الإجماع على هذا:
................................... |
| ومسلم لم يشرط اجتماع |
فالقول المعروف المستفيض نسبته إلى الإمام البخاري، وعلى بن المديني: اشتراط اللقاء، ولو مرة واحدة، ومسلم يكتفي بمعاصرة مع إمكان اللقاء:
................................... لكن تعاصرًا ........... |
| ومسلم لم يشرط اجتماع |
في مذهب الإمامين، الإمام البخاري اشتراط اللقاء، ومذهب الإمام مسلم الاكتفاء بالمعاصرة، وإمكان اللقاء، في هذا المذهب معركة قديمة وحديثة، ولا شك أن الاحتياط في قول البخاري، وفيه احتياط للسنة، وقول مسلم مصحح –أيضًا- عند أهل العلم، وجرى عليه العمل عند جمهورهم، لا يعني أن الإمام البخاري يشترط لشدة تحريه، واحتياطه اللقاء في صحيحه، أو مطلقًا على ما يقول أهل العلم، أن المذهب الثاني ليس بصحيح، الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- شنع على من اشترط اللقاء، شنع تشنيعًا بالغًا، وقال: إنه قول مبتدع، مخترع، ساقط من القول، ويوجد من يكتب في هذه المسألة، وينفي اشتراط اللقاء عن الإمام البخاري، وعن علي بن المديني، الذي يسمع كلام الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة يقول: يستحيل أن يقول مثل هذا الكلام في حق شيخه الإمام البخاري الذي لولاه لما ذهب مسلم ولا جاء، يعني مثلًا كلام الإمام مسلم شديد، وأطال الكلام في الاحتجاج بالحديث بالسند المعنعن، يقول: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد، وتسقيمها بقولٍ لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحًا لكان رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا.
هل يمكن أن يقول مسلم في حق الإمام البخاري، أو في حق علي بن المديني مثل هذا الكلام؟ مستحيل، يقول: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث! هل الإمام البخاري، والإمام على بن المديني من منتحلي الحديث؟ أو هم أهل الحديث؟! وهم أهل الصنعة، يقول: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهالي عصرنا في تصحيح الأسانيد وتقسيمها، قد يقول قائل: هو لا يقصد لا علي بن المديني، ولا البخاري؛ لأنه لم يطلع على قولهما، وهذا –أيضًا- بعيد جدًّا أنه لا لم يطلع على قولهما، اطلع على قولهما، وذكر هذا الكلام: "بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحًا لكان رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا، إذا الإعراض عن القول المطَّرح أحرى؛ لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة -إن شاء الله تعالى-.
وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويته أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه أنه قد سمعه منه" يعني مع إمكان اللقاء "وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه، وشافهه به، غير أنه لا نعلم له منه سماعًا، ولم نجد في شيءٍ من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدًا، أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئًا؛ لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك، والأمر كما وصفنا حجة، وكان الخبر عنده موقوفًا حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قل أو كثر في رواية مثل ما ورد، وهذا القول يرحمك الله في الطعن في الأسانيد قول مخترع، مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار، والروايات قديمًا وحديثًا: أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه؛ لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا حتى تكون الدلالة التي بينا، فيقال لمخترعي هذا القول الذي وصفنا مقالته وللذاب عنه: قد أعطيت في جملة قولك: أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل، ثم أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت: حتى نعلم أنهما قد التقيا مرةً فصاعدًا، أو سمع منه شيئًا؛ فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطه عن أحد يلزم قوله؟ وإلا فهلم دليل على ما زعمت، فإن ادعى قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر، طولب به، ولن يجد هو، ولا غيره إلا إيجاده سبيلًا، وإن هو ادعى فيما زعم دليلًا يحتج به؛ قيل له: وما ذاك الدليل؟ فإن قال: قلته؛ لأن وجدت رواة الأخبار قديمًا وحديثًا يروي أحدهم عن الآخر، ولما يعاينه، ولا سمع منه شيئًا قط، فلما رأيتهم استجازوا رواية الحديث بينهم هكذا على الإرسال من غير سماع، والمرسل من الروايات في أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" هذا تقدم الحديث عنه:
ومسلم صدر الكتاب أصله |
| ................................... |
"والمرسل من الروايات في أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة، احتجت لما وصفت من العلة إلى البحث عن سماع راوي كل خبر عن راويه.
فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء؛ ثبت عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد، فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر، ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه، فيقال له: فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به؛ لإمكان الإرسال فيه، لزمك ألا تثبت إسنادًا معنعنًا حتى ترى به السماع من أوله إلى آخره" ثم أفاض في ذكر الحجج لقبول السند المعنعن.
هذا الكلام لا شك أنه قوي جدًّا في حق من اشترط هذا الشرط، ومن نفى أن الإمام البخاري يقول هذا الشرط، أو على بن المديني، وإنما هو شرط اشترطه من اخترعه ليرد به السنن، وليس من قول الإمام البخاري، ولا علي بن المديني، ويستحيل أن يقول الإمام مسلم هذه الألفاظ في حق شيخه، وشيخ شيخه، هذه حجة من نفى القول عن الإمام البخاري، وله حجج أخرى، وكتبت فيه بعض الرسائل، أما بالنسبة لهذه الحجة فليست حقيقةً بحجة، لماذا؟ لأن الإمام مسلم لا يرد بذلك على البخاري الذي علم منه صدق النية، والغيرة على السنة، وكون البخاري يشترط هذا؛ ليكون ما يصححه من الحديث يكون في أعلى درجات الصحيح، ولا يعني أن غير ما صححه البخاري ليس بصحيح، ونظير ذلك، نظير احتياط الإمام البخاري للسنن احتياط عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- للسنة، حينما رد خبر أبي موسى في الاستئذان، وقاله له حتى يشهد لك من سمع الخبر من النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ فهل معنى هذا أن عمر -رضي الله عنه- يرد خبر الواحد؟ أو يحتاط للسنة؟! يحتاط للسنة؛ ولذا الإجماع قائم على قبول خبر الراوي الواحد ممن تقوم به الحجة، تشبث بما ثبت عن عمر -رضي الله تعالى عنه- في خبر الاستئذان، تشبث به المعتزلة وجيروا هذا المأثور عن عمر -رضي الله تعالى عنه- لخدمة مذهبهم في رد السنن، التي تلزمهم بنقض ما ذهبوا إليه من البدع، وقرر ذلك أبو الحسين البصري في كتبه، كالمعتمد، والجبائي، وغيرهما من أئمة المعتزلة، قرروا هذا في كتبهم، واحتجوا بصنيع عمر، ونحن إذا رددنا على هؤلاء، وشددنا النكير عليهم؛ هل معنى هذا أننا نرد على عمر؟ أو نحمل صنيع عمر على الاحتياط للسنة والغيرة على السنة، ونرد على مبتدع يريد أن يستغل هذا الموقف من عمر -رضي الله تعالى عنه- لرد السنة؟ وإذا رددنا على من يستغل أقوال أهل العلم، وهفوات أهل العلم، وزلات أهل العلم في نصرة ما يذهب إليه من إشاعة للشبهات، أو للشهوات، فإننا نرد على هذا المغرض، ونغلظ القول عليه، وليس معنى هذا أننا نرد على الإمام المجتهد، الذي مأجور؛ سواء أصاب أو أخطأ، لا يعني هذا، فإذا رددنا على أبي الحسين البصري، أو على غيره من أئمة الاعتزال، فإننا لا نرد على عمر -رضي الله تعالى عنه- بحال من الأحوال؛ لأن عمر الباعث على ما ذهب إليه، وما قرره في هذه القضية: الغيرة على السنة، أما في سائر القضايا يقبل خبر الواحد، وما عرف أنه رد من أخبره بحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعرف من حاله كما في الصحيح أنه كان يتناوب النزول إلى المدينة مع جار له من الأنصار، فإذا سمع من النبي -عليه الصلاة والسلام- حديثًا بلغه الأنصاري، وإذا سمع الأنصاري من النبي -عليه الصلاة والسلام- بلغه عمر، وهذه الجادة متبعة، عمر أراد أن يحتاط لهذه السنة بخصوصها، فطلب مع أبي موسى شاهدًا سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ فاستغله المعتزلة، فإذا رددنا على المعتزلة الذين نعرف من هدفهم ومن قصدهم رد السنن، وإبطال السنن، فإننا لا نرد على عمر بن الخطاب، ونظير ذلك من استغل كلام الإمام البخاري لرد جملة من السنة، يعني استغل احتياط الإمام البخاري لنصر مذهبه في رد جمل من السنن؛ لأنه قول مخترع، وصاحبه مخترع ومبتدع، هل يمكن أن يقال: هذا في البخاري؟ لا يمكن، لكن يمكن أن يقال في شخص عرفنا من حاله أنه يريد أن يجير ما ذكر عن الإمام البخاري؛ لنصرة مذهبه في إبطال السنن، فنحن إذا رددنا على هذا المخترع، ورددنا على هذا المبتدع، ورد الإمام مسلم، وشدد على هذا الرجل؛ لا يعني أنه يرد على شيخه في مقالته التي الهدف منها والقصد منها الاحتياط للسنة، والشرط عند أهل العلم ليس معناه -لاسيما أهل الحديث- ليس معناه أنه ما يلزم من عدمه العدم، الشرط عند أهل الحديث ليس معناه ما يلزم من عدمه العدم، حينما نقول: إن شرط البخاري كذا، وشرط مسلم كذا؛ هل معناه أن شرط مسلم إذا وجد اللقاء أنه لا يخرج الحديث؟ هل معناه هذا؟ وهل معنى إذا قلنا: إن شرط الإمام الترمذي أنه يخرج للضعفاء، وقد خرج لمتهم، بل خرج لوضاع كذاب، أنه يلتزم هذا الشرط، بمعنى أنه لو فقد هذا الشرط؛ فقد المشروط؟ لا، شرط الإمام في كتابه ما يوجد في كتابه، ولا يلزم منه أنه ينتفي المشروط عند انتفاء هذا الشرط، يعني حينما يقسم الحازمي الرواة إلى طبقات، ويقول الرواة خمس طبقات، الطبقة الأولى: من عرف بالحفظ، والضبط، والإتقان، مع ملازمة الشيوخ، يقول: هذا شرط البخاري، الثانية: من عرفوا بالحفظ، والضبط، والإتقان مع خفة ملازمة الشيوخ، وهذه ينتقي منها البخاري، وهي شرط مسلم، الثالثة: من عرف بملازمة الشيوخ مع أنه مس بضرب من التجريح الخفيف، وهي شرط أبي داوود، والنسائي، وينتقي منها مسلم، والطبقة الرابعة: من مسوا بضرب من التجريح الخفيف مع عدم ملازمة الشيوخ، وهي شرط الترمذي، والخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين، هذه شروط الأئمة عنده، لكن هل يعني مثلًا أن النسائي ما يخرج للثقات؟ ما يخرج إلا لهذا النوع؟ لا، المقصود أنه يوجد في كتابه من هذا النوع، ويوجد ما هو أعلى منه، ويوجد في كتاب مسلم من اكتفي فيه بالمعاصرة، ويوجد من هم أعلى منه، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- اشترط في كتابه أقوى الشروط، وتحرى في الرواة أكثر من تحري غيره؛ ولذلك قدم على غيره، ولا يعني هذا أنه عند التطبيق..، الأئمة العلماء كلهم، أو جلهم عند التطبيق يطبقون على شرط مسلم، لا يبحثون عن "لقي" أو "ما لقي"، المقصود أن الشروط متوافرة إلا من شدد مثل الإمام البخاري، ورأى أنه لا ينقل إلا عن من ثبت لقاؤه عمن روى عنه، الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- احتج، وألزم القائل بأن هناك أحاديث لا تروى إلا معنعنة، ما توجد على وجه الأرض إلا معنعنة ذكر أحاديث أربعة، أو خمسة، لكنه في كتابه خرجها بصيغة التحديث، وأشار إليها ابن رشيد في كتاب له نفيس جدًّا، اسمه "السَّنَن الأبْيَن، والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن" هذا هو الكتاب، من أنفس ما كتب في المسألة، ويدل على خبرة ودقة، ويثبت أن البخاري يشترط اللقاء، وغيره من الأئمة كل أهل العلم الذين جاءوا من بعد البخاري ومسلم ينقلون هذا الرأي عنه، ثم يأتي من يأتي محتجًّا بأن مسلم ينسب هذا القول لمخترع، وقول مخترع، ويرد بقوة، وهذا قول باطل، ولا يمكن أن يقال مثل هذا، نقول: نعم، لا يمكن أن يواجه الإمام البخاري بمثل هذا، وحاشا مسلمًا أن يتهم البخاري بمثل هذا، فالذي يحتاط لا يلام، والذي يتورع عن بعض الأشياء، يعني في حياتنا العادية، يأكل من أوساط ما يؤكل، يسكن من أوساط المساكن، ويركب من أوساط المراكب، ويتورع عن كثير من المباحات؛ هل معنى هذا أننا نقول: إنه يحرم المباحات؟ لا يمكن أن نقول: إنه يحرم المباحات، ولا يمكن أن نرد عليه بأنه يحرم ما أحل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ} [(32) سورة الأعراف]، لا يمكن أن نقول هذا، وإنما احتاط لنفسه، والأمر لا يعدوه، ويمدح بهذا، فأهل التحري والاحتياط محل مدح، ومحل تقدير من الجميع، ومسلم يحترم البخاري ويقدر البخاري، ويرى له احتياطه، وتقديره، وتشديده في نقد الرجال، وانتقاء المتون والأسانيد، ولا يعني أنه إذا شدد في مقدمة صحيحه أنه يرد عليه بهذا الكلام؛ إنما يرد على من يجير مثل هذا الكلام، ويستغل مثل هذا الكلام في رد السنن، نظير ما نظرنا به في احتياط عمر للسنة، واستغلال المعتزلة لهذا الاحتياط، قد يحتاط إمام من أئمة المسلمين في عصرنا هذا، يحتاط، ويقرر شيئًا، لكن هذا الشيء له لازم، لكنه لا يلتزم بهذا اللازم، أو غاب عنه اللازم، فلم يلتزم به، والدافع له إلى اختيار هذا القول هو الغيرة على الدين، والاحتياط لأديان الناس، ثم يأتي من يستغل هذا القول بإثارة اللازم، ويريد أن يستغل هذا اللازم لما ينصر به ما يذهب إليه، فمثل هذا نرد عليه، ولا نرد على الإمام الذي عرفنا من هدفه وقصده نصر الحق، في كلام النووي -رحمه الله تعالى- يقول: "باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين، ولم يكن فيهم مدلس" حاصل هذا الباب أن مسلمًا ادعى إجماع العلماء قديمًا وحديثًا على أن المعنعن، وهو الذي فيه "فلان عن فلان" محمول على الاتصال، والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا، يعني مع براءتهم من التدليس، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال: لا تقوم الحجة بها، ولا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة، فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما، قال مسلم: وهذا قول ساقط مخترع مستحدث، لم يسبق قائله إليه، ولا مساعده من أهل العلم عليه، وإن القول به بدعة باطلة، وأطنب مسلم -رحمه الله- في الشناعة على قائله، واحتج مسلم -رحمه الله- بكلام مختصره: "أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، وكذا إذا أمكن التلاقي، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون، وقالوا: هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار الصحيح، الذي عليه أئمة الفن: علي بن المديني، والبخاري، وغيرهما، وزاد جماعة من المتأخرين" كما سيأتي في الأقوال التي أشار إليها الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-" وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا، فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكًا بينًا، وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي، فاشترط طول الصحبة بينهما، وزاد أبو عمر الداني المقرئ، فاشترط معرفته بالرواية عنه، ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني، والبخاري، وموافقوهما أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال؛ لأن الظاهر ممن ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع، ثم الاستقراء يدل عليه، ثم عادتهم أنهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه إلا المدلس؛ ولهذا رددنا رواية المدلس، فإذ ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال، والباب مبني على غلبة الظن، فاكتفينا به، وليس هذا المعنى موجودًا فيما إذا أمكن التلاقي، ولم يثبت، فإنه لا يغلب على الظن الاتصال، فلا يجوز الحمل على الاتصال، ويصير كالمجهول، فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه، بل للشك في حاله، والله أعلم.
ثم قال: "قال مسلم -رحمه الله-: (فيقال لمخترعي هذا القول: قد أعطيت في جملة قولك: أن الخبر الواحد الثقة حجة يلزم العمل به) هذا الذي قاله مسلم -رحمه الله- تنبيهًا على القاعدة العظيمة التي يبنى عليها معظم أحكام الشرع، وهي: وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها، والاعتناء بتحقيقها. وقد أطنب العلماء -رحمهم الله- في الاحتجاج لها وإيضاحها، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه، وأول من بلغنا تصنفيه فيها الإمام الشافعي -رحمه الله-، وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه، ونذكر هنا طرفًا منها.." ثم ذكر الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد، يقول: "..وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شرط التواتر.." إلى آخره، ثم قال: "..وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر إلى أنه لا يجب العمل به، ثم منهم من يقول: منع من العمل به دليل العقل، ومنهم من يقول: منع دليل الشرع، وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل، وقال الجبائي من المعتزلة: لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين، وقال غيره: لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وقال بعضهم: يوجب العلم، والظاهر من الباطن، وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري، أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد، وقد قدمنا.." إلى آخره، والمسألة حقيقة طويلة الذيول، لكن لا يعني أن الإمام البخاري لما يحتاط للسنة، واشترط اللقاء، كذلك شيخه على بن المديني أنه لا يُحكم بصحة الخبر إلا إذا ثبت ذلك، فقول مسلم لا شك أن له اعتباره، وأن له نصيب من التطبيق العملي عند أهل العلم، لكن مثل احتياط الإمام البخاري لا يوجد.
طالب:.....
نفسه ما يختلفون في هذا.
طالب: الإمام مسلم يرد على غير البخاري؟
نعم يرد على مبتدع يستغل قول الإمام البخاري، مثلما نرد على الجبائي، وابن حسين البصري الذين استغلوا احتياط عمر.
طالب: فكيف ينكر وجود سلف له أصلًا في هذا القول؟
أين؟ نعم، وجود سلف يستغل هذا في نصر البدعة، أما وجود من يحتاط، فعمر يحتاط، أنت لو جاءك شخص من الثقات بخبر، وأردت أن تحتاط للسنة؛ يلومك أحد؟! ما يلومك أحد؛ ما فيه أحد يلومك؛ لأن الاحتياط مطلوب، لا سميا إذا وجد في ظرف، أو في زمان، أو في مكان من يتلاعب بالسنة، فهنا يجب الاحتياط، في كلام ابن رشيد -رحمه الله- يقول: "الباب الأول: أعلم أن الإسناد المعنعن، وهو ما يقال فيه: فلان عن فلان، مثل قولنا: مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنقول فيه عن المتقدمين أربعة مذاهب، وحدث المتأخرين فيه مصطلح خامس، فالمذهب الأول: مذهب أهل التشديد، وهو أنه لا يعد متصلًا من الحديث إلا ما نص فيه على السماع، أو حصل العلم به من طريق آخر، وأن ما قيل فيه: فلان عن فلان، فهو من قبيل المرسل، أو المنقطع.." وسيأتي ذكره في النظم -إن شاء الله تعالى- "..حتى يتبين اتصاله بغيره، حكاه الإمام أبو عمرو النصري الشهرزوري، شهر بابن الصلاح أحد أئمة المتأخرين المعتمدين، ولم يسم قائله، ولفظ: "ماحكاه فلان عن فلان" عده بعض الناس من قبيل المرسل، والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره، وهذا المذهب، وإن قل القائل به بحيث لا يسمى ولا يعلم، فهو الأصل الذي كان يقتضيه الاحتياط.." هذا كلام ابن رشيد "..وحجته أن (عن) لا تقتضي اتصالًا، لا لغة، ولا عرفًا.." يعني غاية ما فيه أن هذا القول منسوب عن فلان "..وحجته أن (عن) لا تقتضي اتصالًا، لا لغة، ولا عرفًا، وإن توهم متوهم فيها اتصالًا لغة، فإنما ذلك بمحل المجاوزة المأخذ عنه، تقول: أخذ هذا عن فلان، فالأخذ حصل متصلًا بالمحل المأخوذ عنه، وليس فيها دليل على اتصال المروي بالمروي عنه.." وهذه مسألة تنفع في كتب تراجم المحدثين، يعني إذا قالوا روى عن فلان وفلان، وفلان وفلان، وعنه فلان، وفلان وفلان، فهم يحكون الواقع الذي وجد في الأسانيد، لكن هل هم يحكون في مثل هذا أنه ثبت سماعه عن فلان عن فلان! أو يحكون الواقع الذي وجدوه في الأسانيد! ويبقى مسألة الاتصال والانقطاع تأخذ من الكتب التي ينص فيها مثل المراسيل لابن أبي حاتم، وغيره "..وما علم منهم أنهم يأتون بـ(عن) في موضع الإرسال والانقطاع، يخدم ادعاء العرف، وإذا أشكل الأمر وجب أن يحكم بالإرسال؛ لأنه أدون الحالات، فكأنه أخذ بأقل ما يصح حمل اللفظ عليه، وكان ينبغي لصاحب هذا المذهب ألا يقول بالإرسال، بل بالتوقف حتى يتبين لمكان الاحتمال؛ لأنه يحتمل أنه متصلًا، ويحتمل أن يكون مرسلًا، يعني سقط منه راوٍ، ولعل ذلك مراده، وهو الذي نقله مسلم عن أهل هذا الذهب أنهم يقفون الخبر، ولا يكون عندهم موضع حجة لإمكان الإرسال فيه، وأن هذا القصد ليلوح من قول هذا القائل حتى يتبين اتصاله بغيره، ولكن صدر الكلام يأباه؛ لقوله: عده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع، وكأن في ربط العجز بالصدر تنافرًا ما، إلا أن هذا المذهب رفضه جمهور المحدثين، بل جميعهم، يعني أن كل ما جاء بصيغة العنعنة مردود، أو متوقف فيه، هذا المذهب رفضه جمهور المحدثين، بل جميعهم، وهذا الذي لا إشكال في أن أحد من أئمة السلف مما يستعمل الأخبار كما قال مسلم -رحمه الله تعالى-، ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ومن سمى معهم لا يشترطه ولا يبحث عنه، ولو اشتُرط ذلك لضاق الأمر جدًّا، ولم يتحصل من السنة إلا النزر اليسير، فكأن الله تعالى أتاح الإجماع عصمة لذلك، وتوسيع علينا والحمد لله، فهذا المذهب المجهول قائله لا يعرج عليه، ولا يتلفت الليت إليه، الليت ما هو؟ الليت: صفحة العنق، يعني أن العنق لا تلوى من أجل الاستماع إليه، وقد تولى الإمام أبو عمرو النصري يعني ابن الصلاح، رد هذا المذهب الذي حكاه، وقال: إن الصحيح والذي عليه العمل أنه من قبيل الإسناد المتصل، قال: وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم وقبلوه.
وقد نقل أيضًا هذا المذهب مبهمًا لقائله أبو محمد بن الخلاد في كتابه: الفاصل له، ابن خلاد الرامهرمزي في كتابه: المحدث الفاصل، ثم ذكره بإسناده إلى أن قال: وقال بعض المتأخرين من الفقهاء: كل من روى من أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا فلم يقل فيه: سمعت ولا حدثنا ولا أنبأنا ولا أخبرنا ولا لفظة توجب صحة الرواية إما بسماع أو بغيره مما يقوم مقامه، فغير واجب أن يحكم بخبره، وإذا قال: حدثنا فلان أو أخبرنا فلان عن فلان ولم يقل: حدثنا فلان أن فلان حدثه ولم يقم مقامه من هذه الألفاظ، احتمل أن يكون بين فلان الذي حدثه وبين فلان الثاني رجل آخر لم يسمه؛ لأنه ليس بمنكر أن يقول قائل: حدثنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكذا وكذا، وفلان حدثنا عن مالك والشافعي وسواء.. إلى آخره، انتهى كلام ابن خلاد. وقد رددنا هذا المذهب بما فيه الكفاية، وإذا بان أنه قول لبعض الفقهاء المتأخرين فهو مسبوق بإجماع علماء الشأن، والله الموفق.
وقد بين ذلك أبو عمر بن عبد البر بما حكاه من الإجماع بعد أن ذكر بإسناده عن وكيع قال: قال شعبة: فلان عن فلان ليس بحديث، قال وكيع: وقال سفيان: هو حديث، قال أبو عمر: ثم إن شعبة انصرف عن هذا القول إلى قول سفيان، قلت: وما نقله مسلم -رحمه الله- عن العلماء الذين سمى ومن جملتهم شعبة من أنهم لا يتفقدون ذلك يدل أيضًا على رجوع شعبة كما ذكر أبو عمر، فقد بان أنه لا يعلم لمتقدم فيه خلاف إذا جمع رواته العدالة واللقاء والبراءة من التدليس، وأن شعبة رجع عن قوله، وقال الحافظ أبو عمرو المقرئ، الداني: وما كان من الأحاديث المعنعنة التي يقول فيها ناقلوها عن وعن فهي أيضًا مسندة متصلة بإجماع أهل النقل، إذا عرف أن الناقل أدرك المنقول عنه إدراكًا بينًا، ولم يكن ممن عرف بالتدليس، وإن لم يذكر سماعًا إلا أن قوله: إدراكًا بينًا فيه إجمال، وسنستوفي الكلام عليه في ذكر المذهب الثالث.
المذهب الثاني: وهو أيضًا من مذاهب أهل التشديد إلا أنه أخف من الأول، وهو ما حكاه الإمام أبو عمرو النصري، ابن الصلاح، قال: وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة أنه يشترط طول الصحبة بينهم، قلت: وهذا بلا ريب يتضمن السماع غالبًا لجملة ما عند المحدث أو أكثره، ولا بد مع هذا أن يكون سالمًا من وصمة التدليس، وحجة هذا المذهب هي الأولى بعينها، ولكنه خفف في اشتراط السماع تنصيصًا في كل حديث حديث لتعذر ذلك؛ ولوجود القرائن المفهمة للاتصال من إيراد الإسناد وإرادة الرفع بعضهم عن بعض عند قولهم: فلان عن فلان مع طول الصحبة.
المذهب الثالث: وهو رأي كثير من المحدثين منهم الإمام أبو عبد الله البخاري، وشيخه أبو الحسن علي بن المديني وغيرهما نقل ذلك عنهم القاضي أبو الفضل عياض وغيره، وهو مذهب متوسط، اشتراط ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة لا في حديث حديث، يقول: وهذا هو الصحيح من مذاهب المحدثين، وهو الذي يعضده النظر، فلا يحمل منه على الاتصال إلا ما كان بين متعاصرين يعلم أنهما قد التقيا من دهرهما مرة فصاعدًا، وما لم يعرف ذلك فلا تقوم الحجة منه إلا بما شهد لفظ السماع أو التحديث، أو ما أشبه من الألفاظ الصريحة إذا أخبر بها العدل عن العدل، وحجة هذا المذهب أيضًا ما تقدم من إجماع جماهير النقلة على قبول الإسناد المعنعن وإيداعه كتبهم التي اشترطوا فيها إيراد الصحيح مع ما تقرر من مذهبهم أن المرسل لا تقوم به حجة، وأنهم لا يودعون فيها إلا ما اعتقدوه أنه مسند.
قال أبو عمر بن عبد البر الإمام الحافظ: وجدت أئمة الحديث أجمعوا على قبول المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة: عدالتهم، ولقاء بعضهم لبعض مجالسة ومشاهدة، وبراءتهم من التدليس، هكذا ينقل الإجماع ابن عبد البر، قال أبو عمرو بن الصلاح الإمام الناقد: والاعتماد في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على الإدراك واللقاء، قلت: وقد كان ينبغي من حيث الاحتياط أن يشترط تحقق السماع في الجملة لا مطلق اللقاء، فكم من تابعٍ لقي صحابيًّا ولم يسمع منه، وكذلك من بعدهم، وينبغي أن يحمل قول البخاري وابن المديني على أنهما يريدان باللقاء السماع، وهذا الحرف لن نجد عليه تنصيصًا يعتمد، وإنما وجدت ظواهر محتملة أن يحصل الاكتفاء عندهم باللقاء المحقق وإن لم يذكر سماع، وألا يحصل الاكتفاء إلا بالسماع، وأنه الأليق بتحريهما والأقرب إلى صوب الصواب، فيكون مرادهما باللقاء والسماع معنىً واحدًا، وفي قول مسلم حاكيًا القول الذي تولى رده ما يقتضي الاكتفاء بمجرد اللقاء، حيث قال في تضاعيف كلامه: ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث... الفصل، يعني إلى آخر الفصل، فظاهر هذا الكلام أن أحدهما بدل من الآخر، وأن (أو) للتقسيم لا بمعنى الواو، وقد أتى به أيضًا في أثناء كلامه بالواو فقال: وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، وكرره أيضًا بالواو، قال: ثم أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت: حتى نعلم أنهما قد كان التقيا مرة فصاعدًا، وسمع منه شيئًا، وهذا أبين ألفاظه، وقال الحافظ أبو عبد الله بن البيع الحاكم في كتابه: معرفة علوم الحديث، في النوع الحادي عشر منه المعنعن بغير تدليس متصل بإجماع أهل النقل على تورع رواته عن التدليس.
وقال الإمام الفقيه المحدث أبو الحسن القابسي: وكذلك ما قالوا فيه عن وعن فهو أيضًا من المتصل إذا عرف أن ناقله أدرك المنقول عنه إدراكًا بينًا ولم يكن ممن عرف بالتدليس، قلت: وقولهما معًا لا يخلو من إجمال؛ إذ لا بد أن يكون مراد الحاكم ثبوت المعاصرة أو السماع، إذ لا يقبل معنعن ممن لم تصح له معاصرة، فلا بد من قيد، وكأنه اكتفى عنه بقوله: على تورع رواته عن التدليس، وقد سبق له في كتابه هذا من النوع الرابع منه في معرفة المسانيد من الأحاديث تقييد ذلك بما نصه: والمسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه بسن محتملة، وفي كتابه معرفة علوم الحديث: ليس، ولسن أو بسن كأنها أظهر، وكذلك سماع شيخه من شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن هذا الموضع من كتاب الحاكم فيه اضطراب بين رواته، فروي ما ذكرناه بسن محتملة، وعند ابن سعدون: بسن يحتمله، والمعنى واحد، أي أنه يكتفى في ظهور السماع بكون السن تحتمل اللقاء، ومعنى هذا أنه يكتفي بالمعاصرة.
وإلى هذا المعنى ذهب مسلم -رحمه الله تعالى- حيث قال: وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكنهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأتِ في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة، إلا أن تكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا حتى تكون الدلالة التي بينا، انتهى كلامه.
وإلى هذا المعنى أيضًا ذهب الحافظ أبو عمرو المقرئ الداني في جزء له، وضعه في بيان المتصل والمرسل والمنقطع، فقال: المسند من الآثار التي لا إشكال في اتصاله هو ما يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه بسن يحتملها، وكذلك شيخه عن شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى الصحابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا نفس كلام الحاكم، فهذا موافق ظاهره لهذه الرواية، وقد يحتمل أن يكون مراده بقوله: يظهر سماعه بسن تحتمله أي أنه يعلم السماع بقوله، وتكون سنه تصدق ذلك، والله أعلم، إلى آخر كلامه حيث نقل نقولًا كثيرة عن أهل العلم في هذا الشأن، ويأتي -إن شاء الله- غدًا تحرير القول في هذه المسألة، ولا يعني كون الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- يشترط هذا الشرط، وأنه لا يقول باشتراط اللقاء، ولا ثبوت السماع لا يعني أنه طبق هذا في كتابه، أن كتابه مبني على هذا الشرط، لا يلزم من اكتفائه بالمعاصرة أن يكون كتابه مبنيًا على هذا، لماذا؟ لأنه يجمع الحديث الواحد في مكان واحد بجميع طرقه، فإذا ساق طريقًا اكتفي فيه بالمعاصرة لا بد أن يوجد من هذه الطرق طرق يروي بعضهم عن بعض ممن ثبت لقاء بعضهم لبعض، يعني كون الإمام مسلم يكتفي بهذا في التصحيح لا يعني أنه طبقه في كتابه، لا يلزم منه هذا، وكون الإمام البخاري يشترط ويتشدد في هذا الباب ويحتاط للسنة لا يعني أنه يرد تصحيح الآخرين، ومذهب مسلم جرى عليه المتأخرون، فينظرون في ترجمة الراوي، وترجمة من روى عنه، فإن وصف بالتدليس ردوها؛ لأنه مدلس حتى يثبت التصريح بالسماع، وإن كان لم يوصف بالتدليس اكتفوا بأن السن يحتمل، هذا مولود سنة مائة، وهذا توفي مثلًا سنة مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين، هذا يكتفون بمثله عند التطبيق، وإذا دلت القرائن على أن هذا لم يلتق بهذا ولم يره ولم يسمع عنه ردوه لهذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"أكثر أهل العلم على تضعيفه، والإمام أحمد يرى أنه لا باس به، يعني في درجة الحسن، وعلى كل حال إذا صح يحمل على ماذا؟ على أن ما يحمله الفساق لا يسمى علمًا، ليس بعلم في الحقيقة، أو يكون معناه حث العدول الثقات على حمل العلم، وعدم ترك الفرصة لغيرهم من الفساق أن يحملوا العلم الشرعي، وغاية ما هنالك أن يكون معناه: "ليحمل" كما جاء في بعض الطرق بلام الأمر.
في تعارض الجرح والتعديل ذكر الجمهور أن الجرح مقدم؛ لأن الجارح لا يكذب المعدلين، ولكن يوافقهم، ويقول: اطلعت على ما لم تتطلعوا عليه، وذكر الحافظ ابن حجر أن...، والحافظ ابن حجر له في ذلك مذهب كما تعلمون: أن الرجل إذا ثبتت له مرتبة سنية فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي.
يقول: وأنا ليس سؤالي في الجرح والتعديل، ولكن سؤالي فيما إذا تعارضت مرتبة كأن يقول في رجل: ثقة، وآخر يقول فيه: صالح الحديث وحسن الحديث أو شيخ، وأحد العلماء يجعله في مرتبة الاحتجاج وآخر يجعله في مرتبة الاستشهاد، واللذان تعارض كلامهما من أئمة الشأن ليس لأحدهما فضل على الآخر حتى أرجح كلامه على الآخر، فلا أدري هل أبقيه على مرتبة الثقة، وإلا أنزله إلى مرتبة الاستشهاد أما ماذا؟
تعارض الجرح والتعديل باب كبير في هذا الشأن وله قواعده وضوابطه عند أهل العلم، ويأتي هنا إذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح.
وقدموا الجرح لكن إن ظهر
من عدل الأكثر فهو المعتبر
على ما سيأتي، ويطلب تفسير الجرح، فإن فسره بما خفي على المعدل فإنه حينئذٍ هو المعتبر وهو المقدم.
ذكرنا بالأمس أن الصغار من الصحابة الذين ليس لهم إلا مجرد رؤية كمحمد بن أبي بكر على خلاف في رؤيته، وهل مثله يرى أو لا يرى؛ لأنه لم يدرك من حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا ثلاثة أشهر، مثل هذا في ثبوت الصحبة له نظر عند أهل العلم، والمسألة خلافية، لكن حديثه مرسل، ولا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة، وأما المخضرمون فحديثهم مرسل؛ لأنهم معدودين في طبقة كبار التابعين.
خوارم المروءة هي ما ينتقد على الشخص من قبل الأسوياء الذين سلمت فطرهم، وهي تختلف من بلد إلى بلد، وهي في الأصل لا تتناولها النصوص في المنع، لكن الناس يعيبون على فاعلها كالأكل في الأسواق مثلًا، أو سرعة المشي أو غير ذلك مما يعاب به الإنسان من الجري من غير حاجة، أو حاسر الرأس في بلد اعتاد الناس ستر رؤوسهم، أو يمشي على هيئة لا تناسب مثله كالشيخ يمشي مشية الصبيان، أو العكس، كله هذا مما يخرم المروءة عند أهل العلم، وليس لها ضابط إلا أنها مما يعاب على الإنسان في بلده، ولو كان سائغًا في بلد آخر، وهي تختلف باختلاف البلدان والأزمان والأشخاص.
يقول هذا من ألمانيا: أطلب الإفادة في قبول المحدثين رواية المرأة؟ والله -عز وجل- يقول في كتابه الكريم: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [(282) سورة البقرة]؟
رواية المرأة مقبولة اتفاقًا، وشذ من لم يقبل رواية المرأة، وأحاديث أمهات المؤمنين كتب السنة طافحة بها، حتى قبول رواية الأَمَة، وقبول رواية العبد، حديث بلال مقبولة، وحديث بريرة في الصحيح، فهذه مما تختلف في الرواية عن الشهادة.
أما زيارتهم عام الوفود فهذا أمر معروف، وأما إذنه لهم بالصلاة في المسجد فلا أعرفه، ودخول الكافر المسجد للمصلحة الراجحة يقرره أهل العلم أنه لا بأس به لا سيما إذا رجي إسلامه مثل ثمامة بن أثال حيث ربطه النبي -عليه الصلاة والسلام- في المسجد؛ ليرى ما عليه المسلمون من تسامح، وحسن خلق، و.... في التعامل، وهذا حقيقة مكنه من الاطلاع على ذلك من كثب ومن قرب بحيث في النهاية أسلم.
حال ابن لهيعة جماهير أهل العلم على تضعيفه، ومنهم من وثقه، ثلاثة عشر من أئمة هذا الشأن كلهم ضعفوه، ووثقه بعضهم، ومنهم من يفرق بين رواية العبادلة عنه فيقويها بخلاف رواية غيرهم، ومنهم من يفرق بين حاله قبل احتراق كتبه وبين حاله قبلها، وعلى كل حال المرجح تضعيفه.
على كل حال الصحابة بشر وليسوا بمعصومين، وتقع منهم الهفوات، لكنهم يوفقون للتوبة منها، والإقلاع عنها، على أن ذلك نادر جدًّا منهم، فجميع حوادث الشرب والزنا في عهده -عليه الصلاة والسلام- لا تتجاوز أصابع اليد، يعني وقائع الزنا كلها خمس في مجتمع متكامل، فالخمس حقيقة بالنسبة لأكثر من مائة ألف هذه يسيرة، لا شك أنها يسيرة، والمجتمع إذا كانت نسبة الرذيلة فيه نادرة جدًّا هذا مجتمع طيب، ولا يوجد مثل مجتمع الصحابة، وقع من بعضهم ما وقع، ووفق للتوبة بسبب شرف الصحبة، ولما جاء في مدحهم من نصوص الكتاب والسنة، فالنصوص قطعية في مدحهم والثناء عليهم، وكونه وقع منهم ما وقع هم في الجملة ليسوا بمعصومين، لكنهم يوفقون للتوبة لشرف الصحبة، من يقول: إن الخوارج كانوا من الصحابة أصلهم الذي قال: اعدل يا محمد، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا الرجل رجال تحقرون صلاتكم مع صلاتهم))... إلى آخره، فالذين يخرجون من ضئضئه، وهو لا يبعد أن يكون منافقًا هو، وليس من الصحابة، وكونهم يخرجون من ضئضه نعم الخوارج ظهروا في وقت الصحابة، لا في وقت النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالذي يتهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بعدم العدل منافق، وهذا حاله، نسأل الله السلامة والعافية، والخوارج يختلف أهل العلم في تكفيرهم، وشيخ الإسلام ينقل عن جمهور السلف أنهم لم يكفروهم، وعلى كل حال هم ليسوا من الصحابة، وإن خرجوا من ضئضئ رجل كان في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، والذي يغلب على الظن أنه من المنافقين؛ لأنه متهم للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وعلى قول شيخ الإسلام أنهم لا يكفرون فهم مبتدعة أي الخوارج.
وأيضًا من الصحابة من زنى وشرب الخمر، فإذا كان التوثيق يسقط بخوارم المروءة فكيف بالكبائر؟
ذكرنا أن مثل هذا لا يضر، يعني مثل الذنب إذا تيب منه فإنه لا أثر له، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، تعود إليه العدالة.
يعني هل المتابعة أقوى أم الشاهد؟ لا شك أن الذي يتضافر على روايته أكثر من صحابي أقوى من أن يتفرد به واحد منهم، وإن كانوا كلهم ثقات عدول، فحديثان أقوى من حديث، الحديث الذي يأتي من طريق صحابيين هما أكثر من حديث، بخلاف ما يأتي عن صاحبي واحد ولو تعددت الطرق إليه.
على كل حال مالك يقول: إنه مثلة، والرواية عند النسائي بسند لا بأس به.
كلهم ذكروا هذا، العدالة ملكة تحمل على ملازمة التقوى، يعني فعل المأمورات واجتناب المحظورات، ملكة يعني صفة هيئة ثابتة راسخة ليس أمره متذبذب ولا متردد على ملازمة التقوى النسبية، لا يعني أنه معصوم، لكنه إن حصلت منه هفوة بادر بالتوبة منها؛ لأن هذا لا تكون إلا للمعصومين؟ لا ليس الأمر كذلك، هذا قول معتبر ومعتمد عند أهل العلم؛ لأن من لا يلازم التقوى بل يخرج عنها إلى المعاصي هذا فاسق ورواية الفاسق يجب التثبت فيها.
يقول بعد سؤاله هو: إن أخي يريد مني أن أشتري له أسهم بالتقسيط باسمي ، وبيعها نقدي، ثم يقوم بأخذ المبلغ النقدي له، ويستفيد منه في بناء عمارته، ويقوم بسداد المبلغ والأقساط عني؛ لأنه لا يستطيع فعل ذلك حيث أنه قد أخذ أقساط سابقة، ولا يسمح له في البنك بأقساط جديدة، علمًا بأن هذه الأسهم من الأسهم المباحة اتحاد الاتصالات؟
يعني حكم بإباحتها هو، على كل حال العقود التي لها ظاهر وباطن لا شك أنها تفضي إلى الشقاق والنزاع، فمثلًا هذا الذي أخذ من البنك اشترى أسهمًا من بنك، والبنك يذكر في عقوده أنه إذا مات المدين يعفى عنه، فإذا أخذ باسم غيره، والتسديد عليه، وهذه مسائل واقعة، حصل فيها شقاق كبير، فمات الذي باسمه القرض وبقي المدين الحقيقي وعفي عنه باعتبار أنه هو المطالب لدى الجهة، وبقي المدين الحقيقي موجود، هل يسدد أو لا يسدد؟ نعم؟ والبنك سمح له، على كل حال عموم العقود التي لها ظاهر وباطن تفضي إلى النزاع والشقاق، وكثير ما يحصل الإنكار في مثل هذه العقود، فالأصل أنها لا تجوز، وأما فتواه باتحاد الاتصالات وأنها مباحة ففيها نظر.
يقول: لو أعدتم لنا شرح قول الناظم:
فأن يقل فالمسند المعتمدُ
فقل دليلان به يعتضدُ
بعضهم يقول: إذا اشترطنا لتقوية المرسل أن يروى من وجه آخر مسند، يقول: ما الفائدة من المرسل إذا وجدناه مسندًا؟ إذا وجدناه مسندًا بسند متصل ما الفائدة؟ وجود المرسل مثل عدمه، والحجة في المسند، "فالمسند المعتمد *** فقل دليلان به يعتضد" المسند حجة قائمة بذاته برأسه، لا يحتاج إلى مرسل، والمرسل عرفنا صحته لما وجدنا ما يدعمه من الحديث المسند، فيكون في المسألة دليلان لا دليل واحد.
لا شك أن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية، كما قال الإمام أحمد وغيره، فإن لم يكونوا أهل الحديث فمن هم؟ وهم أقرب الناس إلى السنة والعمل بالسنة، وأما قول شعبة ومسعر فهذا محمول على من اشتغل بالحديث بجمعه من طرقه، وشغله هذا عن العمل، كثير من الناس ظاهر الفعل عنده أنه خير وفضل ويمدح به، لكن تجد هذا العمل يشغله عن الواجبات، أو يشغله عن المندوبات التي هي أفضل منه، فماذا يقال في حق مثل هذا؟ ومن خلال الواقع نرى بعض طلاب العلم المغرمين بجمع الكتب تجده مثلًا مفتون بجمع الكتب، وجمع الكتب يحمله أحيانًا على أن ينشغل بهذا الجمع عما هو أهم منه من التحصيل، كما قال ابن خلدون: كثرة التصانيف مشغلة عن التحصيل، وإلا جمع الكتب في الأصل مذموم وإلا محمود؟ محمود بلا شك، لكن إذا شغلك عما هو أهم، أحيانًا يخشى أن تفوت البيعة أو الصفقة، أو تذهب الكتب التي جيء بها، كتب نفيسة ونادرة ولا توجد في الأسواق، وذكر أنها تركة عالم مثلًا، فلو صلى في مسجده أو عند بيته يمكن يسبق إليه وتفوته، فهو يسعى أن يصلي في أقرب مكان ثم تفوته الصلاة، هذا يحصل لمن انشغل بالجمع، فإذا صده هذا عن الصلاة، وعن ذكر الله، وعما هو أهم، لا شك أنه يذم من هذه الحيثية.
لا، هذا ليس من المجانسة اللفظية؛ لأنه لا بد له من تقدير: علفتها تبنًا، وسقيتها ماءً باردًا، وزججنا الحواجب، وكحلنا العيون، هذا ليس مثله.
لا شك أن المراتب مختلفة، فمن نص على توثيقه ابن حبان فهو ثقة، ومن ذكره مجرد ذكر فإن كان من شيوخه الذين خبرهم وعرفهم فله شأن عنده، وإن خرج له في صحيحه قوي أمره، وإلا فمجرد ذكره في الثقات على شرطه، ويدخل في شرطه الواسع، من لم يعرف بجرح، فالمستور يدخل في تعديله.
مراسيل الحسن مضعفة عند أهل العلم؛ لأنه يرسل عن الثقات ويرسل عن الضعفاء، فمراسيله مضعفة، وأما الفرق بين المدلس والمرسل فالمرسل إن كان المقصود به المرسل الجلي الذي تقدم شرحه فهو ظاهر، فالمرسل: ما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، والمدلس: ما يرويه الراوي عن شيخ سمع منه ما لم يسمعه منه، أو شيخ لقيه ولم يسمع منه، ويري عنه مباشرة دون واسطة ويسقط الواسطة، وهو إرسال وتدليس، وهذا سقط خفي، وسيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى-، والتفريق بين المدلس والمرسل الجلي، والمدلس والمرسل الخفي.
إذا كان يرويه غير رجال المرسل الأول، إذا كان المرسل الثاني يرويه غير رجال المرسل الأول فهو يتقوى به كما تقدم في كلام الإمام الشافعي.
يقول: قررتم في الدرس السابق أن قول الصحابي: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا حجة، وأنه مرفوع عند الجمهور، وأنه لم يخالف في ذلك إلا داود الظاهري وبعض المتكلمين، وفي هذه النسبة إلى داود نظر ظاهر لكل ناظر غير متعسفٍ ولا مكابر، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أن الحافظ العراقي لما ساق المسألة في شرحه على الألفية قال: إلا ما حكي عن داود الظاهري، فلم يجزم بهذه النسبة مما يدل على أنه لم يقف على كلام داود، علمًا بأن مصنفات الإمام داود فقدت في وقت مبكر، ولم يبق منها شيء كما في تاريخ الأدب العربي لبركلمان.
ثانيًا: أن الإمام داود حكي عنه التوقف في هذه المسألة كما في الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي.
ثالثًا: أنكر ابن البيان القصار هذا الرأي المنسوب إلى داود وهو من أهل الظاهر، وحكى عنه خلافه كما في المسودة، قلت: وهذا القول الأخير لعله الأصلح نسبة إلى داود؛ لأن ناقله ظاهري المذهب، وأهل مكة أدرى بشعابها، وصاحب الدار أدرى ما فيه، هذا ما ظهر لي في هذه النسبة، وأنا أعرض هذا الكلام من أجل معرفة خطأه من صوابه، ومنكم أتعلم وأستفيد، وبارك الله فيكم؟
أما كونه ينسب لداود هذا منسوب لداود في كتب مصطلح الحديث وكتب أصول الفقه، أما كونه يصدر بصيغة التمريض لا يعني أنه ثابت أو غير ثابت، فهم لا يعتمدون في هذا على الثبوت وعدمه، لكن كونه ينقل في كتب المصطلح وكتب الأصول لا يعني أننا نجزم بثبوته عنه، لكن ماذا يضيره أن ينسب إليه هذا القول إذا لم يقل به؟ وعلى كل حال كون كتبه ضاعت لا يعني أن أقواله ضاعت، يعني كون كتبه فقدت لا يعني أن الأقوال فقدت، وكون واحد من الظاهرية ينفي عنه هذا القول لا شك أنه أدرى بمذهبه، لكن يبقى أن القول إذا كان شديد الضعف وضعفه ظاهر فنفي التابعي له عن متبوعة دفاعًا عن نفسه قبل إمامه، لا يعني أن كلامه هو الراجح، فالمثبت مقدم على النافي.
مسألة مهمة ومرتبطة بالدرس الماضي، ولعلنا ننتبه لها، وهي مسألة تقوية المرسل بالمتصل، وفيه البيت الذي شرحناه آنفًا.
فإن يقل فالمسند المعتمدُ
فقل: دليلان به يعتضدُ
يعتضد المرسل بالمسند، وهذا فيه تقوية للمرسل بالمسند والعكس، هذا ظاهر كلام الإمام الحافظ -رحمه الله-الناظم، ظاهره أن المسند يتقوى بالمرسل، وكما أن المرسل يعتضد بالمسند، وكثيرًا ما نجد أهل العلم يعلون المسند بالمرسل، يعني يروى الحديث مسندًا، ويروى مرسلًا فتجدهم يقولون: المرسل أصح، فهم يعلون المسند بالمرسل، ولا يقولون: دليلان، فدل على أنهم قد يعلون المسند بالمرسل، وفي هذا ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في تعارض الوصل والإرسال، ما الذي يقدم منهما؟ وأما كونهم يعلون فهم يعلون، كون المسند يعتضد بالمرسل والعكس هذا أيضًا موجود في كلامهم، وليست هناك قاعدة مضطردة لهم في ذلك، فإذا دلت القرائن على أن المرسل محفوظ، وعلى أن المسند محفوظ، وأنه جاء من وجه مرسل، وجاء من وجه مسند، وأنه –أحيانًا- يرويه بواسطة، وأحيانًا بغير واسطة، وأحيانًا يذكر من حدثه، وأحيانًا لا يذكر من حدثه، وكلاهما محفوظ يعتضد أحدهما بالآخر، أما إذا دلت القرائن بأن الخبر المسند غير محفوظ، وأن المرسل أصح منه؛ فيعل به حينئذ، ويأتي -إن شاء الله تعالى- بحث هذه المسألة في تعارض الوصل والإرسال مع الوقف والرفع -إن شاء الله تعالى-.