شرح المنظومة الحائية لابن أبي داود (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحائية لابن أبي داود (3)

الشيخ: عبد الكريم الخضير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا، واجزه عنا خير الجزاء يا رب العالمين، واغفر لنا أجمعين، أما بعد:

قال ابن أبي داود -رحمه الله تعالى-:

وقل: يتجلى الله للخلق جهرة ***كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ

وليس بمولود وليس بوالد ***وليس له شبه تعالى المسبّحُ

وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ***بمصداق ما قلنا حديث مصرح

رواه جرير عن مقال محمد ***فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح

وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه ***وكلتا يديه بالفواضل تنفح

وقل: ينزل الجبار في كل ليلة ***بلا كيف جل الواحد المتمدح

إلى طبق الدنيا يمن بفضله ***فتفرج أبواب السماء وتفتح

يقول: ألا مستغفر يلقَ غافراً ***ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح

روى ذاك قوم لا يرد حديثهم  ***ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا

وقل: إن خير الناس بعد محمد ***وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح

ورابعهم خير البرية بعدهم  ***علي حليف الخير بالخير منجح

وإنهم للرهط لا ريب فيهم ***على نجب الفردوس بالنور تسرح

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ***وعامر فهر والزبير الممدح

وقل خير قول في الصحابة كلهم ***ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرح

فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ***وفي الفتح أي للصحابة تمدح

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما بعد:

فقد مضى الكلام في الرؤية في درس الأمس إلا أنه لم يقرأ من قبل القارئ، فقرأه جزاه الله خيراً.

وقفنا على البيت العاشر، وفيه يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:

وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه *** وكلتا يديه بالفواضل تنفحُ

وفي بعض النسخ: تنضح.

طالب:........

رواه جرير؟

طالب:........

يقول: إن البيت التاسع الذي فيه الدليل على الرؤية يقول بعض الإخوان: إنه ما شرح، والدليل حديث جرير بن عبد الله البجلي هذا ورد أثناء الشرح، ولا يتضمن أكثر من الدليل.

يقول:

وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا *** بمصداق ما قلنا حديث مصرحُ

وفي بعض النسخ: "مصحح" وكلاهما جائز صحيح، فالحديث صحيح، وأيضاً صريح، صحيح من حيث الثبوت، صريح في الدلالة.

"رواه جرير" هو جرير بن عبد الله البجلي يوسف هذه الأمة.

"عن مقال محمد" -صلى الله عليه وسلم- "فقل مثل ما قد قال" يعني النبي -عليه الصلاة والسلام-.

ومن قال بقوله ممن يعتقد هذا المعتقد الصحيح "في ذاك تنجحُ" تنجح في الدنيا والآخرة.

ثم قال:

وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا *** بمصداق ما قلنا حديث مصرحُ

وفي نسخة: "تنضحُ" في النسخة الدمشقية: "تنضح".

"قد ينكر الجهمي" (قد) هذه معروف أنها إذا دخلت على الماضي فهي حرف تحقيق، وإذا دخلت على المضارع فهي للتقليل أحياناً، وقد تكون للتحقيق، وقد تكون للتكثير، وهنا للتحقيق فالجهمي ينكر تحقيقاً لا ظناً، وليس بقليل من قوله، بل هو المعتمد عنده، الجهمي المنسوب إلى الجهم بن صفوان رأس المعطلة الذي أخذ التعطيل عن الجعد بن درهم إمامهم ومقدمهم في هذا الشأن، إلا أن الجهم هو الذي نشر المذهب وشهره ونظره، واستدل له، ونافح عنه، فنسب المذهب إليه.

قد ينكر الجهمي أيضاً إضافة إلى ما تقدم من أن كلام الله -جل وعلا- صفة من صفاته، وأنه منزل غير مخلوق، قد ينكر أيضاً مثل ما أنكر الرؤية ينكر الصفات الذاتية والفعلية من باب أولى، فينكر الصفات الذاتية ومنها اليمين، ذكر مثالاً لها اليمين، واليمين المراد بها اليد التي هي في جهة اليمين ((وكلتا يديه يمين)) وجاء في بعض النصوص الأخرى، وفي بعضها بشماله، ولا تعارض بين هذه الروايات، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كلتا يديه يمين)) لئلا يتوهم النقص؛ لأن الشمال بالنسبة للمخلوق أنقص من اليمين؛ فلئلا يتصور أن هناك في يد الباري -جل وعلا- الأخرى نقصاً قال: كلتا يديه يمين من حيث الكمال، ويعبر عنها بالأخرى؛ لأن النسبة على الجهات أمر نسبي، فما يكون عن جهة اليمين يسمى يمين، وما يكون عن جهة الشمال يسمى شمال، فيقال لها: أخرى، ويقال لها أيضاً كما جاء في الحديث: شمال، ولا مانع من إطلاق الشمال باعتبار الموقع، فموقعها مقابل لجهة اليمين، ولا مانع من هذا، وتبقى أنها من حيث الكمال ((كلتا يديه يمين)) يعني كلتاهما كاملة، لا نقص في إحداهما كما في أيدي البشر، والبشر يدهما اليسرى والشمال هذه ناقصة بالنسبة لليمنى، هذا عند كثير من الناس، وعند جل الناس وغالبهم، ليست في القوة بمثابة اليمنى، وأيضاً اليمنى تصان عما لا تصان منه الشمال إلى غير ذلك، فهي محل للنقص؛ ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وكلتا يديه يمين)).

وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه *** ...................................

والمراد بذلك إثبات اليد لله -جل وعملا- على ما يليق بجلاله وعظمته.

الجهمية والمعتزلة الذين ينفون الصفات، والأشاعرة الذين ينفون أكثر الصفات توهموا التشبيه، أول ما وقر في قلوبهم التشبيه، فهم شبهوا أولاً، شبهوا الخالق بالمخلوق، ولا يعقلون من معنى اليد إلا يد المخلوق، وما دامت اليد يد المخلوق، وما يذكر في لفظها مثلها في اللفظ، ما يوافقها في اللفظ، يوافقها في الصفة والكيفية، هذا ما هجم على أذهانهم فجعلهم يزعمون تنزيه الله -جل وعلا- بنفيها، فينفون ما ثبت بالنصوص القطعية، فهم شبهوا أولاً، ثم عطلوا، وغاب عنهم أن المخلوقات وهي تشترك في كونها مخلوقات، والضعف والعجز مناسب لها، لها أيدي، فالإنسان له يد، والحيوان له يد، أنواع الحيوان لها أيدٍ، الجمل له يد، والثور له يد، والكلب له يد، والقرد له يد، والخنزير له يد، وجميع الحيوانات لها أيدٍ، لكن هذه الأيدي بالنسبة للحيوان المشتركة في الخلق والضعف هل هي واحدة؟ هل يشبه بعضها بعضاً؟ نعم؟ لا يشبه بعضها بعضاً، فإذا كان هذا التباين بين ما ينسب للمخلوق مع الاشتراك في الخلق والعجز والضعف هذا التباين الشديد يعني هل يد النملة مثل يد البعير؟ يمكن؟ وهل وجه القرد مثل وجه الإنسان؟ أو وجه الجراد مثلاً مثلاً مثل وجه الجمل؟

ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- وهو يقرر إثبات الوجه لله -جل وعلا-، ويرد على المعطلة بذريعة أو شبهة التنزيه لله -جل وعلا-؛ لأنهم إذا اثبتوا الوجه على حد زعمهم، فالله -جل وعلا- يشبه المخلوق من هذه الحيثية، ويرد عليهم بمثل هذا، يقول: المخلوق له وجه، وسائر المخلوقات لها وجه، الإنسان له وجه، والكلب له وجه، والحمار له وجه، فهل تتشابه هذه الوجوه؟ وهذا بين المخلوقات المتشابهة في الخلق والعجز والضعف، فكيف بالتباين الذي بين الخالق والمخلوق؟! فما وصلوا إلى رتبة التعطيل إلى أن مروا بقنطرة التشبيه، ويؤولون اليد أحياناً بالقدرة، وأحياناً بالنعمة، وإذا أمكنهم تأويل ما جاء من ذلك مفرد، فكيف يمكنهم تأويل المثنى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [(75) سورة ص] المثنى لا يمكن تأويله، هل يستطيعون أن يقولوا: بنعمتي؟ ونعم الله لا تعد ولا تحصى، هل يمكن أن يقولوا: بقدرتي، والله على كل شيء قدير؟ قادر على كل شيء؟ وقدرته واحدة، وله من الصفات القدرة، ومن الأسماء القدير.

يقول الناظم:

"وكلتا يديه بالفواضل" في حديث أبي ذر القدسي:

((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، وسألوني وأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)).

فإذا أعطى هؤلاء الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم جنهم وإنسهم أعطى كل واحد ما تبلغه أمانيه، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ومر بنا حديث آخر من يدخل الجنة، آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة أنه يقال له: تمن، فتعجز به الأماني، وده يتمنى لكن ما يحيط بأعظم شيء يتمناه، فيذكر، فيقال له: تمن ملك أعظم ملك في الدنيا، تمن ملك سليمان وإلا ملك ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب فيرضى بذلك، فيقال له: لك وعشرة أمثاله، فنِعم الله لا تنفذ ولا تعد ولا تحصى، ويداه مبسوطتان.

"وكلتا يديه بالفواضل" جمع فاضلة، وهي الأمور المحبوبة والمطلوبة للناس.

"تنفحُ" والنفح الإعطاء، وفي النسخة الأخرى: "تنضحُ" والنضح كذلك.

وقل: ينزل الجبار في كل ليلة *** بلا كيف جل الواحد المتمدحُ

حديث النزول وأن الله -جل وعلا- ينزل في الثلث الأخير من الليل قريباً من ثلاثين صحابياً، وشيخ الإسلام -رحمه الله- أورد هذه النصوص والروايات وأوردها غيره، وشرح الحديث في جزء معروف مشهور متداول، ويجيب شيخ الإسلام على سائر الإشكالات.... أولاً: صحته مقطوع بها، صراحته لا خفاء ولا غبش فيها، لكن أورد عليه إشكالات من حيث معارضته لأحاديث لنصوص العلو، فاستدل به من يستدل من أهل العلم على العلو لله -جل وعلا-؛ لأن الذي ينزل هو إيش؟ العالي، الذي ينزل هو من في العلو، من في جهة العلو هو الذي ينزل، قالوا: إن حديث النزول ينافي صفة العلو لله -جل وعلا-، شيخ الإسلام عكس عليهم، والذهبي وغيره عكسوا عليهم مدعاهم، أوردوا أيضاً من الإشكال أن الثلث الأخير من الليل يتباين من بلد إلى بلد، لكن هناك قدر أثبته شيخ الإسلام من الليل يشترك فيه سائر الأقطار، وإذا ثبت لنا الخبر وصح، ودلالته على مراده صريحة فلا مندوحة من إثباته وإثبات ما يدل عليه لهذا الوقت وقت النزول الإلهي، الذي ينزل فيه الرب -جل وعلا- إلى سمائه الدنيا، ويقول: ((هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟)) تتعرض لهذه النفحات في هذا الوقت المحدد، لا تقول: فاتني الثلث الأخير بالنسبة لبلدي، ما استيقظت، نمت ما استيقظت إلا مع طلوع الصبح، أو مع طلوع الشمس، وأنا أدرك الآن الثلث......، ما لك إلا أن تتعبد بما أمرت به، وأنت مطالب بالنسبة للثلث الأخير بالنسبة لك، ألا يمكن أن يقال مثل هذا؟ يقول: هذا الثلث الأخير بالنسبة للمغرب، والله -جل وعلا- نازل، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أجاب عن هذه الإشكالات، والأولى ألا يوردها الإنسان على نفسه؛ لأن هذه تفتح له أبواب لا يمكن الإجابة عليها إلا بفهم دقيق جداً، يعني أوساط الناس لا يدركون مثل هذه الأمور، ولو قرؤوها في كتب شيخ الإسلام، يعني شيخ الإسلام يقول: إنه ينزل نزول يليق بجلاله وعظمته، ولا يخلو منه العرش.......، قطع الطريق على من قال: إنه لا يزال نازلاً؛ لأن الثلث الأخير من الليل يتفاوت من بلد إلى بلد، والخطاب ليس لبلد بعينه، المقصود أن مثل هذه الأمور على الإنسان هذه يغلقها على نفسه إغلاقاً محكماً بحيث لا تتفلت نفسه عليه، نعم؟

طالب:........

نعم هو سبب هذه الإيرادات أنهم رأوا أن نزول المخلوق يشبه نزول الخالق، نزول الخالق يشبه نزول المخلوق هو الذي يترتب عليه خلو المكان منه، وهم ما توصلوا إلى النفي والتعطيل إلا بعد أن مروا بقنطرة التشبيه في جميع الصفات.

وقل: ينزل الجبار في كل ليلة *** ...................................

نعم شرح حديث النزول، شرح حديث النزول مطبوع في مجلد.

"بلا كيف" نعم لأنك لو تعرضت للكيفية هلكت.

"بلا كيف" لكن هل المراد من نفي الكيف نفي أصل الكيف أو نفي معرفة الكيف؟ نفي معرفة الكيف، وإلا الكيف لا بد منه، الله -جل وعلا- ينزل على كيفية لا نعرفها،

ولذا قال الإمام مالك وقبله أم سلمة في الجواب: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ما قال: والكيف معدوم، لا هناك كيف، والذي لا كيف له لا وجود له، لكن يبقى أنه لا علم لنا به، ما عندنا إلا ما علمتنا، ما عندنا من العلم شيء إلا ما جاءنا عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، والعقول لا تبلغ مثل هذه الأشياء، لا تبلغ مثل هذه الأمور.

"بلا كيف جل الواحد المتمدحُ" جل الواحد جل الله -تعالى وعز-، المتمدح الذي مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه من المدح من الله -جل وعلا- والحمد.

ولذلك مدح على نفسه وأثنى على نفسه، وحمد نفسه، وطلب من عباده أن يحمدوه، ورغبهم في الحمد.

ينزل الجبار "إلى طبق الدنيا" يعني إلى السماء الدنيا التي هي مطبقة على الأرض، بمعنى أنها سقف لهذه الأرض، الدنيا من السبع.

"يَمُنّ بفضله" يجود بفضله، والمان هو الذي يعطي قبل السؤال، يَمُنّ بالنوال قبل السؤال هذا هو المان، يَمُنّ بفضله وجوده وكرمه فيعطي كل سائل مسألته، إلا إذا وجد مانع لأن هذه أسباب، التعرض للنفحات في أوقاتها من بذل الأسباب، لكن يبقى أنه إن كان هناك مانع تخلف المسبب.

........................يمن بفضله *** فتفرج أبواب السماء وتفتحُ

تفرج أبواب السماء وتفتح لتصعد الكلمات الطيبة من المخلوقين، وينزل الخير والبركات من الله -جل وعلا-.

"يقول: ألا مستغفر" ألا هذا عرض وتحضيض "ألا مستغفر يلق غافراً" ((ألا مستغفر فأغفر له، ألا من تائب فأتوب عليه)) يقول:

ألا مستغفر يلق غافراً *** ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنحُ

وفي نسخة الشام: فأمنحُ.

حديث النزول يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبوتاً قطعياً، لا شك ولا مراء فيه، والنزول مما يجب إثباته لله -جل وعلا-، وهو من الصفات المتعلقة بالمشيئة، ومن الصفات الفعلية بخلاف اليد التي هي من الصفات الذاتية، والفرق بينهما أن ما يتعلق بالمشيئة، وما لا علاقة له بالمشيئة ذاتي، نعم؟

طالب:.......

ألا من تائب؟ بعضها كذا وبعضها كذا، المقصود أن هذه الصفة وهي النزول لله -جل وعلا- يثبتها أهل السنة قاطبة، لا يختلفون في إثباتها؛ لأن دليلها قطعي في الثبوت، وفي الدلالة أيضاً، فلا مفر ولا محيد، وأهل البدع يشوشون على الناس في مثل هذه الإشكالات إلى أن وصل الحد إلى الفرية.

فابن بطوطة في رحلته لما وصل دمشق وصلى في الجامع الأموي ذكر أنه رأى شخصاً كثير العلم قليل العقل، يخطب على المنبر وينزل ويقول: إن الله ينزل كنزولي هذا، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذه فرية؛ لأن الشيخ في وقت دخول ابن بطوطة دمشق مسجون، في السجن، وهم إذا أعياهم النقض بالحجة، ولا حجج لديهم إلا الشبهات إذا أعيتهم المسالك افتروا، ونقضوا أصولهم وقواعدهم، فتجدهم يمنعون الاحتجاج بخبر الواحد ولو صح في مسائل الاعتقاد، لكنهم إن احتاجوا إليه أثبتوه ولو ضعّف، ولو كان ضعيفاً، فيحتجون بالضعيف إذا كان يؤيد حججهم، دليل هذا على أنهم لا يتعبون النصوص، وإنما يتعبون الهوى -نسأل الله السلامة والعافية-.

الرحلة هذه رحلة ابن بطوطة هذه مملوءة بالمخالفات العقدية، وينبغي لمن يدرس كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يطلع على هذه الرحلة؛ ليجد الأمثلة في المخالفات لجميع الأبواب من هذه الرحلة، بدءاً من الشرك الأكبر إلى الشرك الأصغر، في أشياء لا تخطر على البال، كيف يتصورها مسلم فضلاً عن أن يعتقدها ويقولها على سبيل الإقرار؟ فهذه الرحلة مشحونة بالخرافات والبدع والشركيات، وهو مغرم أيضاً بتتبع الآثار والأماكن والقبور والمشاهد، وفيها أشياء كثيرة، ومغرم أيضاً بلقاء من يسميهم الأولياء، الذين يدعون ما يدعون من علم الغيب وغيره، ويزعمون أنهم يتصرفون في الكون، ويُزعم لهم ذلك، ورحلته مملوءة بهذا، نعم؟

طالب:........

إيه مجلد، متداولة، وقررت في بعض الجهات مقرر دراسي، مقرر يدرس في بعض الجهات هذه الرحلة، ومع ذلك فتنة الناس بكتب الرحلات ظاهرة، ولا أدل على ذلك من غلاء أثمانها، أسعارها غالية جداً، يعني لو قيل: إن أغلى ما يباع الرحلات والذكريات، أغلى ما يباع على مستوى سوق الكتب والوراقين، لا أعني الطبعات الجديدة والأشياء المبذولة، لا، لكن تجد أنفس نسخة من صحيح البخاري لا تعادل شيئًا بالنسبة لطبعة من طبعات ابن بطوطة التي تسمى طبعة يعني ليعتنى بها، وإلا الموجود المصور تجد الرحلة بعشرة ريال، بعشرين ريال، لكن بيعت الرحلة بخمسة آلاف، نسخة مطبوعة بيعت بخمسة آلاف، وزيد على ذلك بعد، يمكن وصلت إلى عشرة.

المقصود أن هذه الرحلات والذكريات والإنسان بغنية عنها حقيقة، الرحلات والذكريات التي هي أغلى ما يباع، وأغلى ما يقتنى في الأسواق، الآن شيء عجيب افتتن الناس بها؛ لأن فيها شيئًا من التسلية، وفيها شيء من المتعة، وفيها شيء من وصف الأقطار والبلدان، ووصف..، وغالباً أن الذي يكتبونها محترفين في الإبداع الإنشائي يجيدون مثل هذا، فهم يستهوون الناس بهذه الأساليب، وقد يذكر في أثنائها فوائد علمية بسبب لقاء هذا الرجل الذي صنف هذه الرحلة بغيره من أهل العلم، ومناقشته لهم، المقصود أن فيها ما ينفع، فيه رحلات نافعة، يعني رحلة ابن رشيد اسمها: (ملء العيبة بما جُمع بطول الغيبة) هذه رحلة نفيسة، فيها فوائد حديثية لا توجد في الكتب المصنفة في علوم الحديث، في خمسة مجلدات، وهناك رحلات فيها فوائد، لكنها ما تسلم من المخالفات، وفيها فوائد، وفيه رحلات هي ما فيها إلا اطلاع على آثار ومعالم ومشاهد، وما فيها فوائد علمية، ومنها رحلة ابن بطوطة هذه، ما فيها فائدة علمية ألبتة، اللهم إلا إن كانت جغرافية وإلا تاريخية، يصف لك معلم وإلا حضارة وإلا شيء ممكن، أما بالنسبة للفوائد العلمية فلا شيء فيها.

روى ذاك قوم لا يرد حديثهم *** ...................................

"روى ذاك قوم" روى ذا يعني النزول، روى ذاك يعني النزول قوم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، جموع غفيرة "لا يرد حديثهم" بل حديثهم بلغ مبلغ التواتر الملزم للنفس بتصديقه؛ لأن المتواتر يفيد العلم عند كافة الطوائف؛ لأنه يلزم بتصديقه بمجرد سماعه.

.....................لا يرد حديثهم *** ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا

خاب وخسر من كذب هؤلاء الثقات الأثبات من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان، ثم ذكر الناظم -رحمه الله تعالى- عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة.

وقل: إن خير الناس بعد محمد *** ...................................

صلى الله عليه وسلم، بعده في الزمن وإلا في المرتبة؟ نعم؟ إن قلنا: في المرتبة قدمناهم على الأنبياء، وإن قلنا: إنهم بعد محمد بالنسبة لهذه الأمة فهم أفضل الأمة بعد نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وجاء ما يدل على أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، جاء ما يدل على أن الصحابة هؤلاء العشرة بل الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء.

وقل: إن خير الناس بعد محمد *** وزيراه.............................

أبو بكر وعمر "وزيراه" والوزير المؤازر الذي يعين الملك هذا الأصل فيه، يعينه ويتحمل بعض الأعباء الملقاة على عاتق الملك، هؤلاء على رأسهم وزيراه أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنه-، وورد في فضائلهم مجتمعين ومنفردين ما لا يمكن حصره، ففضائل أبي بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- لا يمكن حصرها، وألفت فيها المصنفات، وكذلك فضائل عمر الفارق.

"وزيراه قدماً" يعني مؤازرتهم له، ومعاونتهم له متقدمة في أول الأمر، في أول الإسلام، وإن كان أبو بكر قبل عمر.

................................... *** وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح

ثم عثمان ابن عفان الأرجح على غيره سوى أبي بكر وعمر، فهو أرجح وراجح على من بعده، من علي فمن دونه -رضي الله عن الجميع- "ثم عثمان الأرجح" رجح بما وقر في قلبه من إيمان، وبما صدقه من عمل، من عمل لازم ومتعدٍ، خدمة أبي بكر للدعوة في أول الأمر لا ينكرها من ينتسب إلى هذا الدين، وكذلك قوة عمر في الحق لا ينكرها أحد، وعثمان -رضي الله عنه وأرضاه- في بذله ونصره للدعوة بنفسه وماله هذا لا ينكر.

ورابعهم خير البرية بعدهم *** علي حليف الخير..................

هذا هو الرابع في قول جماهير أهل السنة، والإجماع قائم بين من يُعتد بقوله من أهل القبلة، بين من يُعتد بقوله من أهل القبلة أن المقدم أبو بكر ثم عمر، وأما ما بين عثمان وعلي فجماهير أهل السنة على تقديم عثمان، ومنهم من يرجح علي، ومنهم من يرى التساوي بينهم، لكن النصوص في حق عثمان -رضي الله عنه- وما جاء في مدحه أكثر، وإن جاء في مدح علي أيضاً الشيء الكثير، وجاء ما يدل على تفرده ببعض المناقب دون غيره، وعرفنا مراراً أن كون الإنسان يتصف بصفة وبفضيلة وبمزية لا يعني هذا التفضيل المطلق، يعني كون علي ابن عم الرسول -عليه الصلاة والسلام- وصهره على بنته، وعثمان عنده بنتان، يعني تزوج ابنتين، ولذا يقال له: ذو النورين، وقال في علي ((يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله)) وقال: "هو منه بمنزله هارون من موسى" وجاء في مدحه أحاديث كثيرة، لكن كونه يفضل على عثمان هذا قول موجود في أهل السنة، لكنه قول مرجوح، وقول جماهير أهل السنة على الترتيب في الخلافة، الترتيب في الفضل مثل الترتيب في الخلافة.

وقل: إن خير الناس بعد محمد *** وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجحُ

ورابعهم خير البرية بعدهم *** ....................................

خير الخلق، البرية الخلق.

..................خير البرية بعدهم *** علي حليف الخير..................

لكن على الإنسان أن يكون معتدلاً، لا إفراط ولا تفريط، ولا تحمله ردود الأفعال على إنكار ما ثبت، يعني كما يفعل أهل الأهواء إذا فتنوا بأحد حطوا من قدر غيره، فالنواصب يحطون من قدر علي، والروافض يحطون من قدر أبي بكر وعمر، وهذه كلها ردود أفعال، والأتباع عموماً إذا نقص عندهم الدين والعلم تجدهم يوجد عندهم مثل هذا، يعني شخص الآن من الشباب تجدونهم في المجالس خلافهم حول المشايخ فلان أفضل، وفلان أعلم، فلان..، ويش الداعي لهذا الكلام كله؟ إنما هي ردود أفعال، وتجدهم أحياناً ينالون من غيره، من غير المفضل عندهم، والأتباع عموماً هم أسباب البلية، وأما الكبار في الغالب ما بينهم خلاف، يعني علي -رضي الله عنه- يقر بفضل أبي بكر وعمر وعثمان، يفضلهم على نفسه، ثم يأتي من يقول: أبداً علي أفضل منهم، نعم قد يقول الإنسان يفضل الإنسان غيره عليه من باب التواضع، من باب هضم النفس، قد يوجد هذا، لكن هذا القول اتفق عليه الصحابة، كانوا يفضلون على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث ابن عمر، فأفضل الخلق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، والحسن سأل أباه فقال: من أفضل الناس؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: عمر، ثم سكتُ، يقول: ثم سكت خشيت أن يفضل عثمان على نفسه، سكت قلت: ثم أنت؟ قال: أنا واحد من المسلمين -رضي الله عن الجميع وأرضاهم-.

علي -رضي الله تعالى عنه- افترق الناس فيه إلى فرق، كما قال الناظم القحطاني:

................................... *** فعليه تصلى النار طائفتانِ

إحداهما لا ترتضيه خليفةً *** وتنصه الأخرى إلهاً ثاني

طرفي نقيض، وأما أهل السنة فهم وسط، يقرون بفضله وإمامته، وأنه مشهود له بالجنة، وفضائله لا تحصى ولا تحصر، وله مزايا قد لا توجد عند غيره من الشجاعة والكرم، ومع ذلك هو بالنسبة لأبي بكر وعمر وعثمان مفضول، فأهل السنة والجماعة أهل إنصاف.

"علي حليف الخير" يعني محالف له، مرافق له، موافق له، متصف به "بالخير منجحُ" في بعض النسخ: "للخير يمنحُ" عرف بكرمه -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وعرف بشجاعته.

"وإنهم للرهط" في بعض النسخ: "والرهط" في الطبعة الدمشقية "فإنهم والرهط" هذا في الدمشقية، وكذلك في طبعة المنار "وإنهم والرهط" وعندكم "وإنهم للرهط" وكأن الواو أرجح، فإنهم يعني الأربعة، والرهط الستة الآتية أسماؤهم "فإنهم والرهط" يعني الستة الآتية أسماؤهم، وإذا قلنا: "وإنهم والرهط لا ريب فيهم" خصصنا الكلام في الأربعة الذين تقدم ذكرهم، أما إذا قلنا: إنهم -يعني الأربعة- والرهط الآتية أسماؤهم؛ لأن الجميع مشهود له بالجنة، صار هذا أرجح ليشمل الجميع، وإنهم والرهط لا ريب فيهم لا شك؛ لأن الحديث صح فيهم أنهم من أهل الجنة، فثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أبو بكر في الجنة)) وقال: ((عمر في الجنة، عثمان في الجنة، علي في الجنة، سعيد في الجنة، سعد في الجنة...)) إلى آخره، إلى آخر العشرة.

وإنهم والرهط لا ريب فيهم *** على نجب الفردوس...............

"على نجب" جمع نجيبة، نجب من العقيان.

"على نجب الفردوس بالنور" وفي نسخة: "في الخلد تسرحُ" "على نجب الفردوس".

هذه النجب جمع نجيبة، وتطلق على الإبل، نجائب الإبل، لكنها من عقيان، ليست من لحم ودم وعظم، لا، على نجب الفردوس، الفردوس أعلى الجنة، وسقفها عرش الرحمن، في الخلد، في جنة الخلد تسرحُ، الخلد الذي لا ينتهي، خالدون مخلدون أبداً سرمداً لا انقضاء له، تسرحُ، يعني تذهب وتجيء في الخلد.

ثم ذكر الناظم -رحمه الله تعالى- بقية العشرة، وأجملهم في بيت واحد، فقال:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة *** وعامر فهر والزبير الممدحُ

سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وعامر أبو عبيدة عامر بن الجراح الفهري، والزبير بن العوام الممدح هو ومن معه كلهم ممدحون، ولو لم يكن من مجدهم وفضلهم إلا الشهادة لهم بالجنة، وهؤلاء شهد لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة، فيجزم لهم بما شهد به النبي -عليه الصلاة والسلام- بخلاف غيرهم، فلا يقطع ولا يجزم لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن كان من أهل العلم من يرى أن من اتفقت ألسنة الناس على مدحه أنه يشهد له بالجنة، كالأئمة كأحمد والسفيانين ومالك وغيرهم، هذا قول عند بعض أهل العلم، قالوا: هؤلاء اتفقت ألسنة الناس على مدحهم، وفي الحديث: مر بجنازة فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وجبت، وجبت وجبت)) ثم مر بأخرى فقال: ((وجبت، وجبت وجبت)) فقالوا له: ما معنى وجبت في الموضعين؟ فقال: ((أثنيتم عليها خيراً، فقلت: وجبت يعني الجنة، وأثنيتم على الأخرى شراً فقلت: وجبت يعني النار)) استدل بهذا من يقول: إن من اتفقت ألسنة الناس على مدحه والثناء عليه فإنه يشهد له، لكن هذا قول مرجوح، فلا يشهد لأحد إلا من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام-.

بعد هذا البيت زيادة في النسخة الدمشقية:

وعائش أم المؤمنين وخالنا *** معاوية أكرم به ثم.................

ثم إيش؟

طالب:........

نعم؟

طالب:........

لا لا، نمشي على النسخة اللي معنا؛ لأن الذي معنا فيها زيادة ثلاثة أبيات.

هذه النسخة -النسخة الدمشقية- فيها زيادة أبيات، فيها يقول:

وعائش أم المؤمنين وخالنا *** ...................................

قبل هذا بعد قوله:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة *** وعامر فهر والزبير الممدحُ

"وعائش أم المؤمنين" ويمكن أن تقول: وعائشُ أو وعائشَ؛ لماذا؟ لأن هذا ترخيم، والترخيم يجوز فيه لغة من ينتظر، ولغة من لا ينتظر، لغة من ينتظر الحرف المحذوف فيفتح؛ لأن الشين مفتوح في الأصل عائشة، فهذه لغة من ينتظر الحرف المحذوف "وعائشُ" على لغة من لا ينتظر (أمَ) منصوبة بأعني "أم المؤمنين" ويجوز (أمُ) وصف لها -رضي الله عنها- "وخالنا معاوية" ما دامت أخته أم حبيبة أم المؤمنين فيكون هو؟ أخو الأم ماذا يكون؟ خال.

.............................وخالنا *** معاوية أكرم به ثم أمنحُ

وأنصاره والهاجرون ديارهم *** ...................................

عندكم إيش والمهاجرون؟

طالب:........

لا لا.

وأنصاره والهاجرون ديارهم *** بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا

الاختلاف بين النسخ لا بد منه، لكن هذه الطبعة سنة (1350هـ) نعم.

................................... *** بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا

ثم قال:

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرحُ

فقد نطق الوحي المبين بفضلهم *** وفي الفتح أي للصحابة تمدحُ

ومن بعدهم والتابعون بحسن ما *** حذوا فعلـ ........................

إيش؟

"حذوا فعلهم" يعني فعل من سبقهم "قولاً وفعلاً فأفلحوا" هذه ثلاثة أبيات مزيدة في النسخة، والذي يغلب على الظن أنها ليست من أصل القصيدة، ليست لابن أبي داود، هذه الأبيات مزيدة من بعض من روى هذه القصيدة، وزيد عليها أيضاً أبيات:

وسبطي رسول الله وابني خديجة *** وفاطمة ذات النقاء أمدحُ

ومن بعدهم فالشافعي وأحمد *** إماما هدىً من يتبع الحق يفصحُ

أولئك قوم قد عفا الله عنهم *** وأرضاهم فأحبهم فإنك تفلحُ

هذه أبيات مزيدة ليست من كلام ابن أبي داود، وأما كلامه فما سمعتم، وهي ثلاثة وثلاثون بيتاً، وفي طبعة الشام ستة وثلاثين بيتًا.

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة *** وعامر فهر والزبير الممدحُ

هؤلاء تتمة العشرة.

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ...................................

لا يعني أن هؤلاء شهد لهم بالجنة، فمن عداهم حكمه كحكم سائر الناس، لا، أولاً: ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- شهد لبعض الصحابة غير العشرة بالجنة، شهد لغير العشرة، شهد للحسن والحسين، وشهد أيضاً لثابت بن قيس بن شماس، نعم وبلال، وعكاشة بن محصن وفاطمة هاه؟ المقصود أنه ثبتت الشهادة لغير واحد من الصحابة غير العشرة، وإذا كان هذا حكم من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يشهد له فماذا عن حكم الباقي؟ الباقي وإن لم يشهد له إلا أنهم يقال فيهم خير قول.

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ...................................

ولا تطعن في واحد منهم، ولا تفضل عليهم غيرهم، ولا تعرضهم للسانك بسبب ما وقع من بعضهم، إنما تقول خير قول فيهم؛ لأنك إذا طعنت فيهم كما فعل المبتدعة، المبتدعة إنما طعنوا في الأشخاص لا لذواتهم، إنما طعنوا فيهم من أجل أن يطعنوا فيما وصلنا من طريقهم، إذا طعنا في الراوي طعنا في المروي، فمعنى هذا أن الدين كله مطعون فيه؛ لأنه وصلنا عن طريقهم، وهذه هي طريقة الشيطان، وأسلوب الشيطان، لا يواجه الناس بما ينكرونه، لو طعن شخص في الدين مباشرة أنكروا عليه؛ لأن الدين رأس المال بالنسبة للمسلمين، لكن يأتي الشيطان بحيلة بحيث يطعن في الدين وتقبل شبهته، يقبلها من يشعر ومن لا يشعر، فإذا طعن في أبي هريرة ارتاح الأشرار من نصف السنة، ولذا لو سبرتم الأمر ما تجد أحد يطعن في أبيض بن حمال أبداً، ما وجدتهم يطعنون فيه، ما تجده، ليش؟ لأن هذا يتعبهم، ما يروي إلا حديث أو حديثين، وإذا أرادوا أن يتتبعوا أمثال هؤلاء احتاجوا إلى أزمان متطاولة؛ لأنهم مع طعنهم ما يطعنون بكلام مجرد، يجدون شبه، ويتشبثون بأشياء، لكن مع ذلك تجدهم لا يعمدون إلى ما يتعبهم، واحد يكفيهم عن ألف شخص من الصحابة، أبو هريرة وحده يعادل ألف من المقلين، فالذي يطعن في الصحابة لا شك أنه يطعن في الدين، ولذا قال:

"وقل" أيها السني المتبع المقتفي "خير قول في الصحابة كلهم" دون استثناء حتى من حصل منه ما حصل، حتى من حصل منه السرقة، حتى من حصل منه الزنا، حتى من حصل منه الاقتتال.

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرحُ

يعني لا يكن همك الطعن في الناس، حتى في غير الصحابة لا تكن طعاناً ((ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء)) هذا وصف المسلم أنه عفيف متعفف، وهذه صفة خيار الأمة.

المزني قال بحضرة الشافعي: فلان كذاب، قال: يا أبا إبراهيم اكس ألفاظك أجملها، يعني لا تنطق بهذا الكلام الشنيع القبيح، بإمكانك أن تؤدي الغرض بأسلوب أسهل من هذا، والإمام أحمد لما قيل له عن يزيد بن معاوية وذمه ذماً شديداً، قيل: ألا تلعنه؟ قال: وهل عهدت أباك لعاناً، يتحاشون مثل هذه العبارات.

البخاري -رحمه الله- الراوي شديد الضعف يقول: سكتوا عنه، وفيه نظر، ما يرسلون ألسنتهم في الأشخاص، وفي أعراض الناس، لا بد أن يتأدب طالب العلم بمثل هذا الأدب في سائر الناس، ولا سيما من له فضل على الأمة من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تكُ طعاناً......................

صيغة مبالغة من الطعن تطعن في أعراض الناس، فأعراض الناس حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها العلماء والحكام، كما قال ابن دقيق العيد.

................................... *** ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرحُ

نعم لأن العلماء والحكام هم أكثر من يقع الناس في أعراضهم، فهم يقفون على شفير هذه الحفرة يرمون الناس فيها الذين يتكلمون في أعراضهم، هذا على أحد التأويلين، والتأويل الثاني: لحاجة العلماء والحكام للكلام في الناس، العلماء يحتاجون للكلام في الناس، الحكام يحتاجون إلى الكلام في الناس، فهؤلاء يقفون على شفيرها، فإن كان كلامهم فيهم بحق سلموا، وإن كان بباطل وقعوا، وهذا فيمن أسند إليه هذا الأمر، الجرح والتعديل، أما من لم يسند إليه هذا الأمر، ومعوله على مجرد التفكه في أعراض الناس فهذا أمره شديد، هذا هو المفلس في الحقيقة.

قد يقول قائل: هل يأتي بعد الصحابة من هو خير منهم؟ ((وأمتي كالغيث -كما جاء في الحديث- لا يدرى خيرها أولها أو آخرها)) وجاء في الحديث في السنن والمسند: ((أنه في آخر الزمان المتمسك بالدين في وقت الفتن له أجر خمسين)) قالوا: منهم؟ قال: ((لا، منكم)) وهل يعني هذا تفضيل من يجيء في آخر الزمان على الصحابة؟ لا، ليس فيه تفضيل، هو تفضيل من هذه الحيثية، العمل الذي يعمل في آخر الزمان يعادل نظيره مما يعمل في أوله خمسين مرة، لكن فضل الصحبة وشرف الصحبة مزية وخصيصة لا ينالها أحد، ولو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فالصحابة لهم فضلهم ولهم حقهم على الأمة؛ لأنهم نقلوا لنا الدين، ولو لم يكن إلا أن الدين بلغنا بواسطتهم لكفاهم بذلك حقاً عظيماً علينا.

................................... *** ......................تعيب وتجرحُ

فقد نطق الوحي المبين بفضلهم *** ...................................

القرآن الكريم فيه آيات كثيرة تدل على فضل الصحابة.

................................... *** وفي الفتح آي للصحابة تمدحُ

آيات في سورة الفتح تمدح الصحابة، ولو استعرضنا سورة الفتح لوجدنا فيها آيات كثيرة، ولو لم يكن فيها إلا {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [(18) سورة الفتح] وفيها {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [(29) سورة الفتح]... إلى آخر الآية، هذا مدح وأي مدح لهؤلاء الصحابة، وتعديل لجميعهم، تعديل لجميع الصحابة.

بعد قوله:

ومن بعدهم والتابعين بحسن ما *** حذوا فعلهم قولاً وفعلاً فأفلحوا

في النسخة الشامية، وعرفنا أن هذه الأبيات مزيدة وليست من نظم ابن أبي داود، ونقف على القدر.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

"