تعليق على البلبل في أصول الفقه (05)
نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -غفر الله له ورحمنا وإياه-: "الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّكْلِيفِ.
وَهُوَ لُغَةً: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، أَيْ مَشَقَّةٌ".
"إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، أَيْ مَشَقَّةٌ" منهم من يرى أن التعبير بالتكليف يخالف طبيعة الدين الإسلامي، فالدين خفيف، وليسب بثقيل من أجل أن يقال: أحكامه فيها مشقة، وفيها الآثار والأغلال التي كانت على من قبلنا، رُفعت عنا ولله الحمد، فكيف يقال: التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة؟ لا شك أن الكلفة والمشقة متفاوتة، نعم الكُلفة متفاوتة.
يعني: إذا قيل لك: احمل هذه المركات إلى المكان الفلاني. ففيه كلفة، الجلوس أفضل منه، نعم، لكن إذا قيل: احمل الرحى إلى المحل الفلاني؛ أشد كُلفة، وأما وجود مسمى الكلفة فلا شك أنه وجود، ووجود مسمى الكُلفة المرتب عليه من الأجر والثواب ما يجعلها في حكم العدم موجود؛ لأن «الجنة حُفَّت بالمكاره»، ما حُفت بالشهوات، نعم، قد يوجد من الأشخاص من تكون هذه العبادات وهذه الكُلف عنده وهذه التكليفات عنده ألذ وأحسن عنده من الحرية، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7] هذه كلفة، ومع ذلك فرض الحج إلى بلد {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} هذه كلفة، ومع ذلك جعل الحج من الأركان.
فكون الشرع ما فيه كلفة، بلى فيه كلفة، لكن هذه الكلفة كأنها غير موجودة، هي موجودة، لكنها غير موجودة، العامل الذي يشتغل عند مستأجره من طلوع الشمس إلى غروبها يحمل الأثقال، عليه كلفة أو ما عليه كلفة؟ عليه كلفة، لكن هل قيد بالسلاسل ليعمل؟ أُعطي من الأجر ما ينسيه هذه الكُلفة، فكيف بمن أُعطي على العمل اليسير الأجور التي لا يقدر قدرها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلى ألفي ألف ضعف كما جاء في المسند وغيره، على كلام في الحديث. لكن حينما يقال لك: اذهب فائت لنا بريال خبز، ما يقول الأب لولده خذ ريالًا وهات لنا خبزًا من البقالة؟ عشرة أمتار عن البيت، جاء له فالخبز أعطى له مائة، هذه كلفة هذه؟ ليس فيها كلفة.
فإذا رُتِّب الأجور العظيمة على هذه الأعمال وإن كان فيها كلفة فكأنها ما فيها كلفة.
طالب: ...
الأعمال فيها كلفة بلا شك.
طالب: ...
مطلقًا نعم، يعني كون الإنسان يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في أيام الصيف ما فيه كلفة على النفوس؟ ما فيه مشقة؟ فيه كلفة، وفيه مشقة، لكن في مقابل الأجور التي رُتبت على هذا الصيام يعني وجودها مثل عدمها.
"وَشَرْعًا: قِيلَ: الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ".
"الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ" هذا على القول بأن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية، فعلى هذا تكون الأحكام التكليفية أربعة: الوجوب والندب والكراهة والاستحباب؛ لأن فيها أمرًا ونهيًا.
أما الإباحة وهي مستوية الطرفين لا أمر ولا نهي، كيف تُذكر الإباحة من الأحكام الخمسة على هذا التعريف؟ يقال: من باب تتميم القسمة، وإلا في الأصل ليست بحكم، لكون الشخص يخير يفعل أو لا يفعل، هل فيه تكليف؟ ليس فيه تكليف، نعم.
"إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ عَلَى رَأْيٍ مَرْجُوحٍ".
إذا قلنا: الإباحة تكليف، الخطاب بأمرٍ أو نهي صحيح، إلا أن نقول: الإباحة تكليف، إذا قلنا الإباحة تكليف فالحد صحيح أو ليس بصحيح؟ ليس بصحيح؛ لأنه ليس فيها أمر ولا نهي، فيرد عليه يعني الإباحة ترد على الحد طردًا وعكسًا، الأصل في الحد أن يكون جامعًا، يعني ماذا؟ مطردًا، والأصل فيه أن يكون مانعًا يعني منعكسًا، فالحد الذي هو التعريف في الأصل من شرطه أن يكون جامعًا لجميع أنواع المحدود وأقسامه بحيث لا يخرج منها شيء، ومانعًا من دخول أفراد غير المحدود في الحد، ترد الإباحة على هذا التعريف طردًا.
هل التعريف جامع لجميع أقسام المحدود؟ لا، لماذا؟ باقٍ من أفراد المحدود ما ليس بأمر ولا نهي، إذًا ليس بجامع، كيف ترد الإباحة على الحد عكسًا؟
طالب: ... بالقسمة بين الأمر والنهي.
إذا قلنا: ترد الإباحة على الحد طردًا، بمعنى: أن الإباحة من أقسام المحدود وليست داخلة في التعريف؛ لأنها ليست بأمر ولا نهي. إذا قلنا: ترد عليه عكسًا، بمعنى: أن هذا التعريف، ليس بمانع من دخول غير أفراد المُعرَّف، ففي قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] إذا طعمتم فانتشروا، هذا أمر إباحة، فإذا قلنا: إن الإباحة ليست من التكليف، فيأتي من الأوامر ما لا يدخل في الحد.
على كلٍّ الحد هنا معترض، فإن قلنا: الإباحة من التكليف، الإباحة ليس فيها أمر ولا نهي، بل هي تقرير. إذا قلنا الإباحة ليست من التكليف يرد عليه أن من الأوامر ما ليس بتكليف، كما في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] إذا طعمتم فانتشروا، وهكذا.
"فَتَرِدُ عَلَيْهِ طَرْدًا وَعَكْسًا. فَهُوَ إِذَنْ إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ".
"إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ" لتدخل فيه الأحكام الخمسة، "إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ" إلزام بالأوامر سواء كان الأمر بقوة فيدخل فيه الواجب، أو مع التخيير من وجه فيدخل المندوب، أو كان النهي كذلك فيدخل المُحرَّم والمكروه، "إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ" الإباحة كيف تدخل في هذا الحد؟ قلنا: إن الإباحة لا تدخل في الحد الأول، في التعريف الأول، فكيف تدخل في التعريف الثاني؟
طالب: ...
لا، هو لمَّا أورد على التعريف السابق الانتقاض طردًا وعكسًا جاء بتعريفٍ مختار.
طالب: ...
من مقتضى خطاب الشرع، يعني ليس إلزامًا بالفعل.
طالب: ...
إلزام بالتخيير. يعني المباح هل يجوز لك أن تلزم نفسك بأحد الطرفين؟ أو تلزم غيرك؟ تلزمه بالتخيير، ليس لك أن تأتي إلى شخص فتقول له: يجب عليك أن تأكل كذا، أو يحرم عليك أن تأكل كذا، إنما هو مقتضى خطاب الشرع، إن كان طلبًا أو كفًّا أو تخييرًا، ظاهر؟
طالب: ...
المقتضى، مقتضى خطاب الشرع، ليس بإلزام الشخص، الإلزام بمقتضى خطاب الشرع، إما طلب أو كف أو تخيير، فمثلاً الإباحة مستوية الطرفين، تخيير، فلا يجوز لك أن تلزم بغير مقتضى خطاب الشرع، الأصل: أنه مخير، يأكل أو ما يأكل، يصطاد بعد الحل أو ما يصطاد، مخيَّر، تقول: لا، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يلزمك بأن تصطاد؟ لا.
"وَلَهُ شُرُوطٌ، يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ بِهِ".
يعني ما يتعلق بفعل المكلَّف.
"أَمَّا الْأَوَّلُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: مِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ: الْعَقْلُ، وَفَهْمُ الْخِطَابِ. فَلَا تَكْلِيفَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ؛ لِعَدَمِ الْمُصَحِّحِ لِلِامْتِثَالِ مِنْهُمَا".
نعم، من شرط صحة التكليف الامتثال والقصد إلى فعل ما كُلِّف به أو ترك ما نُهي عنه، والصبي والمجنون لا يتصور منهم الامتثال، فكيف يؤمر الصبي ببعض الأفعال، ويُكف عن المحظورات جملةً، كيف يقال لابن سبع: صلِّ، وابن عشر يضرب على الصلاة وينهى كل منهما عن ارتكاب المحظورات؟ هذا تكليف أو لا؟ تعويد، بمعنى أنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب؛ ولذا الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر به أو لا؟ مسألة خلافية يأتي ذكرها في موضعها إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، الصبي والمجنون ليس بمكلفين، فكيف تجب الزكاة في مالهما؟
طالب: ...
الآن لو لم يخرج الصبي زكاة ماله، أو المجنون ما أخذ من ماله، الإثم على من؟ على الولي، إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون ليست من الأحكام التكليفية، لماذا؟ لأنهما غير مكلفين، وإنما هي من باب الأحكام الوضعية، من باب ربط الأسباب بالمسببات.
بعض أفعال البهائم فيها مؤاخذة وهي بهائم، أرسل دابته في حانوت فأكلت من هذا الحانوت، ودمرت وخربت يضمن، له أن يقول: هذه دابة لا تعقل، وليست مكلفة ولا كذا؟ لا، وجد السبب فترتب عليه المسبَّب؛ ولذا على أصحاب الأموال ...